الكتاب لسيبويه باب ما يَنتصب من المصادر
لأنَّه عُذْرٌ لوقوع الأمر
فانتَصبَ لأنَّه موقوع له، ولأنَّه تفسيرٌ لما قبلَهِ لِمَ كان؟ وليس
بصفةٍ لمَا قبله ولا منه، فانتَصب كما انتَصب درهم فى قولك: عِشْرونَ
دِرْهَماً.
وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر، وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان. قال
الشاعر، هو " حاتِم " بن عبد الله " الطائىّ:
(1/367)
وأَغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادَّخارَه ...
وأُعرضُ عن شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
وقال الآخَر، وهو النابغة الذُّبْيانىّ:
وحَلَّتْ بُيوتِى فى يَفاعٍ ممنّعٍ ... يُخالُ به راعِى الحَمولِة
طائِرَا
حِذاراً على أَنْ لا تُنالَ مَقادَتِى ... ولا نِسْوتى حتّى يَمُتْنَ
حَرائرَا
(1/368)
وقال آخر، وهو الحارث بن هشامٍ:
فصَفَحْتُ عنهُمْ والأَحبَّةُ فيهِمِ ... طَمَعاً لَهُمْ بعِقابِ
يَوْمٍ مُفْسِدِ
وقال الراجز، وهو العَجّاج:
يَرْكَبُ كُلَّ عاقِرٍ جُمْهُورِ ... مَخافةً وزَعَلَ المَحْبورِ
والهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ القبورِ
وفعلتُ ذاك أَجْلَ كذا " وكذا ". فهذا كلُّه يَنتصب لأنَّه مفعول له،
كأَنه قيل له: لِمَ فَعَلتَ كذا " وكذا " فقال: لكذا " وكذا "، ولكنَّه
لمّا طَرَحَ اللامَ عَمِلَ فيه ما قبله كما عمل فى " دأبَ بِكارٍ " ما
قبله، حين طَرح
(1/369)
مثل وكان حالاً. وحسُن فيه الألفُ واللام
لأنَّه ليس بحال، فيكونَ فى موضع فاعلٍ حالاً. ولا يشبَّه بما مضى من
المصادر فى الأمر والنهى ونحوِهما؛ لأنَّه ليس فى موضع ابتداء ولا
موضِعاً يُبْنَى على مبتدأ. فمن خالَفَ بابَ رحمةُ الله عليه، وسَقْياً
لك، وحمدا لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
وقع فيه الأمرُ فانتَصب لأنه موقوعٌ فيه الأمرُ
وذلك قولك: قَتلتُهَ صَبْراً، ولقَيتُه فُجاءةً ومفاجأةً، وكفاحاً
ومكافحةً، ولقيته عِيانًا، وكلّمتُه مُشافَهةً، وأتيتُه رَكْضاً
وعَدْواً ومَشْياً، وأخذتُ ذلك عنه سَمْعاً وسَماعاً. وليس كلُّ مصدرٍ
وإنْ كان فى القياس مثلَ ما مضى من هذا الباب يوُضَعُ هذا الموضعَ؛
لأنّ المصدر ههنا فى موضع فاعِلٍ إذا كان حالاً.
(1/370)
ألا ترى أنه لا يَحسن أَتانا سُرْعَةً ولا
أَتانْا رُجْلةً، كما أنّه ليس كلُّ مصدر يُستعمل فى بابِ سَقْيًا
وحَمْداً.
واطَّرد فى هذا البابُ الذى قبله لأنَّ المصدر هناك ليس فى موضع
فاعِلٍ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو زُهير بن أبى سُلْمَى:
فَلأْياً بَلأْىٍ مَا حَمَلْنا وَليدَنا ... على ظَهْرِ مَحْبوكٍ
ظِماءٍ مَفاصِلُه
كأنّه يقول: حَمَلْنا " وليدنَا " لأياً بلأى، كأَنّه يقول: " حملناه "
جَهْداً بعد جهد. هذا لا يتكلم به ولكنه تمثيل.
ومثلُه قول الراجز:
ومَنْهَلٍ وَردتُه التقاطَا
" أى فجاءةً ".
(1/371)
واعلمْ أنَّ هذا البابَ أتاه النصبُ كما
أتَى البابَ الأوّلَ، ولكنَّ هذا جوابٌ لقوله: كيف لقيتَه؟ كما كان
الأوّلُ جوابا لقوله: لمه؟
وهذا ما جاء منه في الألف واللام
وذلك قولك: أَرْسَلَها العِراكَ. قال لبيدُ بن رَبيعةَ:
فأَرْسَلَها العِراكَ ولم يَذُدْها ... ولم يُشْفِقْ على نَغَصِ
الدَّخالِ
كأَنّه قال: اعتراكاً.
وليس كلُّ المصادر فى هذا الباب يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل
مصدر فى باب الحمدَ لله، والعَجَبَ لك، تَدخله الألفُ واللام، وإنَّما
شُبّه بهذا حيث كان مصدراً وكان غَير الاسم الأوّل.
(1/372)
وهذا ما جاء منه
مضافا معرفةً
وذلك قولك: طلبتَه جَهْدَك، كأَنّه قال: اجتهادا. وكذلك طلبَته
طاقَتَك.
وليس كلُّ مصدرٍ يضاف، كما أنَّه ليس كلُّ مصدر تَدخله الألفُ واللام
فى هذا الباب. وأمَّا فعلتُه طاقتى فلا تُجْعَلُ نكرة، كما أَنّ مَعاذَ
اللهِ لا تُجْعَلُ نكرةً. ومثل ذلك: فَعَلَه رَأْىَ عَيْنِى، وسَمْعَ
أُذُنِى قال ذاك.
وإن قلت: سَمْعاً جاز، إذا لم تَخْتَصَّ نفسَك، ولكنَّه كقولك: أخذتُه
عنه سَماعاً.
هذا باب ما جُعل من الأسماء مصدراً
كالمضاف فى الباب الذى يَليه وذلك قولك: مررتُ به وَحْدَه، ومررتُ بهم
وَحْدَهم، ومررتُ برجل وَحْدَه.
ومثل ذلك فى لغة أهل الحجاز: مررتُ بهم ثلاثَتهم وأربعتَهم، وكذلك إلى
العَشَرَة.
(1/373)
وزعم الخليل رحمه الله أنه إذا نَصَبَ
ثلاثَتهم فكأنَّه يقول: مررتُ بهؤلاءِ فقط، لم أُجاوِزْ هؤلاءِ. كما
أنّه إذا قال: وَحْدَه فإِنَّما يريد: مررتُ به فقط لم أُجاوِزْهُ.
وأمّا بنو تميم فُيجْرونه على الاسم الأوّل: إنْ كان جرًّا فجرًّا، وإن
كان نصبا فنصباً، وإن كان رفعا فرفعا.
وزعم الخليل أنّ الّذين يُجرونه فكأَنّهم يريدون أن يَعُمُّوا، كقولك:
مررتُ بهم كلَّهم، أى لم أَدَعْ منهم أحداً.
وزعم الخليل رحمه الله، حيث مثّلَ نَصْبَ وحدَه وخمستَهم، أنّه كقولك:
أَفردتهم إفراداً. فهذا تمثيل، ولكنه لم يُستعمل فى الكلام.
ومثل خمستَهم قول الشماخ:
أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها
كأَنّه قال: انقضاضَهم، " أى " انقضاضاً. ومررتُ بهم قضهم بقضيضهم،
(1/374)
كأَنّه يقول: مررتُ بهم انقضاضاً. فهذا
تمثيل وإن لم يُتكلَّم به كما كان إفراداً تمثيلا.
وإنّما ذَكرنا الإِفرادَ فى وَحْدَه، والانقضاضَ فى قَضَّهم، لأنَّه
إذا قال: قضَّهم فهو مشتق من في معنى الانقضاض، لأنّه كأَنه يقول:
انقَضَّ آخرهم على أوّلِهم. وكذلك وَحْدَه إنَّما هو من معنى
التفرُّدِ، فكذلك أيضاً يكونُ خمستَهم نصباً إذا أردتَ معنى الانفراد،
فإِنْ أردتَ أنَّك لم تَدَعْ منهم أحداً جررتَ، كما كان ذلك فى
قَضَّهم.
وبعضُ العرب يَجعل قَضَّهم بمنزلة كلَّهم، يُجريه على الوجوه.
هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدراً
كالمصدر الذى فيه الألفُ واللامُ نحو العِراك
وهو قولك: مررتُ بهم الجَمَّاءَ الغَفيَر، والناسُ فيها الجَمَّاءَ
الغفيَر. فهذا يَنتصب كانتصاب العِراك.
وزعم الخليل رحمه الله أنّهم أدخلوا الألفَ واللام فى هذا الحرف
وتَكلّموا به على نيَّةِ مالا تدخله الألفُ واللام، وهذا جُعل كقولك:
مررتُ بهم قاطِبةّ
(1/375)
ومررتُ بهم طُراً، " أى جميعاً؛ إلاّ أنَّ
هذا نكرةٌ لا يَدخله الألفُ واللام، كما أنَّه ليس كلُّ المصادرِ
بمنزلة العِراك، كأَنّه قال: مررتُ بهم جميعاً. فهذا تمثيلٌ وإن لم
يُتكلّم به. فصار طُراً " وقاطبة بمنزلة سُبْحانَ " اللهِ " فى بابه،
لأنَّه لا يَتصرّف كما أنّ طُراً وقاطِبةً لا يَتصرّفان، وهما فى موضع
المصدر، ولا يكونان معرفةً، ولو كانا صفةً لَجَرَيَا على الاسم أو
بُنِيَا على الابتداءِ فلم يوجَدْ ذا فى الصفة. وقد رأينا المصادرَ قد
صُنع ذا بها لأنها لا تصرف، فشبه هذا بها.
باب ما يَنتصب أنه حالٌ
يقع فيه الأمرُ وهو اسمٌ
وذلك قولك: مررتُ بهم جميعاً، وعمةً وجماعةً، كأَنّك قلت: مررتُ بهم
قِياماً.
وإنَّما فرقنا بين هذا الباب والباب الأوّل لأنّ الجميعَ وعامّةً اسمان
متصرَّفان، تقول: كيف عامّتُكم؟ وهؤلاءِ قومٌ جميعٌ.
(1/376)
فإِذا كان الاسمُ حالا يكون فيه الأمرُ لم
تَدخله الألفُ واللام ولم يُضَف. لو قلتَ: ضربتُه القائمَ تريد: قائماً
كان قبيحا، ولو قلت: ضربتُهم قائميهم تريد: قائمينَ كان قبيحا. فلما
كان كذلك جعلوا ما أضيف ونُصب نحوَ خَمْستَهم بمنزلة طاقتَه وجَهْدَه "
ووَحْدَه "، وجعلوا الجَمّاءَ الغَفيرَ بمنزلة العِراك، وجعلوا قاطِبة
وطُرًّا إذا لم يكونا اسمينِ بمنزلة الجميع وعامّة، كقولك: كِفاحاً
ومكافَحةً وفجاءَةً. فجعلت هذه كالمصادر المعروفةِ البيّنة، كما جعلوا
عَلَيْكَ وروُيْدَكَ كالفعل المتمكَنّ، وكما جعلوا سُبْحانَ اللهِ
ولبَّيْك، بمنزلةِ حَمْداً وسَقْياً. فهذا تفسيرُ الخليل رحمه الله
وقولُه.
وزعم يونس أنّ وَحدَه بمنزلة عِنْدَه، وأنّ خَمْستَهم والجمّاءَ
الغفيرَ وقَضَّهم كقولك: جميعاً " وعامَّة "، وكذلك: طُرًّا وقاطبُة
بمنزلة وحدَه، وجَعل المضاف بمنزلة كلّمتُه فاَهُ إلى فِىَّ.
وليس مثلَه، لأنّ الآخِرَ هو الأوّل عند يونس فى المسألة الأولى، وفاه
إلى فِىًّ ههنا غيرُ الأوّلِ، وأمّا طُرّا وقاطبةً فَأَشْبَهُ بذلك،
لأنه جيَّدٌ أن يكون حالاً غيرُ المصدرِ نكرةً، والذى نأْخُذُ به
الأوَلُ.
وأمَّا كلُّهم وجميعُهم وأَجمعون وعامَّتُهم وأنفسُهم فلا يكنَّ أبدا
إلاّ صفةً. وتقول: هو نَسِيجُ وَحْدِه، لأنّه اسمٌ مضافٌ إليه بمنزلة
نفسِه إذا قلت: هذا جُحَيْش وَحْدِه
(1/377)
وجعل يونسُ نَصْبَ وَحْدَه كأَنّك قلت:
مررتُ برجل على حِيالِه، فطرحتَ " علَى "، فمن ثَمّ قال: هو مثلُ
عندَه. وهو عند الخليل كقولك: مررتُ به خُصوصاً.
ومررتُ بهم خمستَهم مثلُه، ومثلُ قولك: مررتُ بهم عَمًّا. ولا يكون
مثلَ جميعاً لِما ذكرتُ لك، وصار وَحْدَه بمنزلة خمستَهم لأنه مكانَ
قولك: مررتُ به واحِدَه، " فقام وَحْدَه مقامَ واحِدَه ". فإِذا قلت:
وَحْدَه فكأَنَّك قلت هذا.
هذا باب
ما يَنتصب من المصادر توكيداً لما قبله
وذلك قولك: هذا عبدُ الله حَقًّا، وهذا زيد الحق لا الباطل، وهذا زيد
غير ما تقول.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ قوله: هذا القولُ لا قولَك، إنما نصبهُ
كنصبِ غيرَ ما تقول لأنَّ " لا قولَك " فى ذلك المعنى. ألا ترى أنَّك
تقول: هذا القولُ لا ما تقول، فهذا فى موضعِ نصبٍ. فإِذا قلتَ: لا
قولَك، فهو فى موضع لا ما تقول.
(1/378)
ومثل ذلك فى الاستفهام: أَجِدَّك لا تَفعلُ
كذا وكذا؟ كأَنّه قال: أَحَقًّا لا تَفعل كذا وكذا؟ وأصلهُ من الجِدّ
كأَنّه قال: أجدا، ولكنه لا يتصلاف ولا يفارقه الإِضافةُ كما كان ذلك
في لَبَّيْك ومَعاذَ اللهِ.
وأمّا " غيرَ ما تقول " فلا تَعْرَى من أن تكون فى هذا الموضع مضافة
إلى اسم معروفٍ، نحو قولَك؛ لأنه لو قال غير قول، أولا قولاً، لم يكن
فى هذا بيانٌ، لأنه ليس كلُّ قول باطلا، وإنَّما يريد أن يحقَّق
الأوّلَ بأمر معروف.
ولو قال: هذا الأمرُ غيرَ قِيلٍ باطلٍ كان حسنا، لأنَّه قد وكدَّ أوّلَ
كلامه بأمر معروفْ وقد اختصَّه، فصار بمنزلة قولك: لا قولَك حين جعله
مضافا، لأنك قد اختصصتَه من جميع القول بإضافتك، وأنَّه يسوغ أن يكون
قولُه باطلا ولا يسوغ أن يكون جميعُ الأقوال باطلا.
ومن ذلك قولك: قد قعد البتّةَ، ولا يُستعمل إلاّ معرفةً بالألف واللام،
كما أن جهدك وأجدك لا يُستعملان إلاَّ معرفةً بالإِضافة.
وأمّا الحقُّ والباطل فيكونان معرفةً بالألف واللام ونكرةً؛ لأنهما لم
(1/379)
يُنزَلا منزلةَ ما لم يَتمكّن من المصادر
كسُبْحانَ وسَعْدَيْك، ولكنَّهم أَنزلوهما منزلةَ الظنَّ، وكذلك
اليَقين لأنَّك تحقَّقُ به كما تَفعل ذلك بالحقّ. فأَنْزِلْ ما ذكْرنا
غيرَ هذا بمنزلة عَمْرَك الله وقِعْدَك الله.
هذا باب
ما يكون المصدرُ فيه توكيداً لنفسه نصباً
وذلك قولك: له علَّى أَلْفُ درهمٍ عُرْفاً. ومثلُ ذلك قولُ الأَحْوَص:
إنّى لأمْنَحُكَ الصُّدودَ وإنّنى ... قَسَماً إليك مع الصُّدودِ
لأَمْيَلُ
وإنَّما صار توكيداً لنفسه لأنه حين قال: له علىّ، فقد أقرَّ واعتَرف؛
وحين قال: لأَمْيَلُ، عُلم أنَّه بعد حَلِفٍ؛ ولكنه قال: عُرْفاً
وقَسَماً وتوكيداً كما " أنه إذا " قال: سِيرَ عليه فقد عُلم أنَّه كان
سَيْرٌ، ثم قال: سَيْراً توكيداً.
(1/380)
واعلم أنه قد تَدخل الألفُ واللام فى
التوكيد فى هذه المصادر المتمكَّنة التى تكون بدلاً من اللفظ بالفعل:
كدخولها فى الأمر والنهى والخبر والاستفهام، فأَجْرها فى هذا الباب
مُجراها هناك.
وكذلك الإِضافةُ بمنزلة الألف واللام.
فأمّا المضاف فقول الله تبارك وتعالى: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي
تمر مر السحاب صنع الله " وقال الله تبارك وتعالى: " ويومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف
الله وعده ". وقال جلّ وعزّ: " الَّذِى أَحْسَنَ كل شيء خَلْقَه ".
وقال جل ثناؤه: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله
عليكم ". ومن ذلك: اللهُ أَكبرُ دَعْوةَ الحَقَّ. لأنَّه لمّا قال جلّ
وعزّ: " مر السحاب "، وقال: " أحسن كل شيء "، عُلم أنَّه خَلْقٌ
وصُنعٌ، ولكنَّه وكَّد وثَّبت للعباد. ولما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم
" حتّى انقضى الكلام، علم الخاطبون أنّ هذا مكتوبٌ عليهم، مثَّبت
عليهم، وقال: كِتَابَ اللهِ، توكيداً كما قال: صُنْعَ اللهِ، وكذلك:
وَعْدَ اللهِ، لأنَّ الكلام الذى قبله وعد
(1/381)
وصُنعٌ، فكأَنّه قال جلّ وعزّ: وَعْداً
وصُنعا وخَلْقا وكِتابا. وكذلك: دَعْوةَ الحَقَّ؛ لأنَّه قد عُلم أنَّ
قولك: اللهُ أكبرُ، دُعاءُ الحقَّ ولكنَّه توكيدٌ، كأَنَّه قال: دعاءً
حقًّا. قال رؤبةُ:
إنّ نِزاراً أَصبحتْ نِزارَا ... دَعْوةَ أَبْرارٍ دَعَوْا أَبْرارَا
لأنّ قولك: أصبحتْ نزاراً، بمنزلة: هم على دَعوةٍ بارّةٍ.
وقد زعم بعضُهم أنّ كِتَابَ اللهِ " نصب " على قوله: عليكم كتابَ الله.
وقال: قومٌ صبغة الله منصوبةٌ على الأمر. وقال بعضُهم: لا بل توكيداً.
والصَّبغةُ: الدينُ.
وقد يجوز الرفعُ فيما ذكرنا أجمعَ على أن يضمِرَ شيئاً هو المظهَرُ،
كأنَّك قلت: ذاك وعدُ اللهِ، وصبغةُ الله، أو هو دَعْوةُ الحقّ. على
هذا ونحوِه رفعُه. ومن ذلك قوله جلّ وعزّ: " كَأَن لَمْ يَلْبَثُوا
إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَار بَلاَغٌ "، كأَنه قال: ذاك بَلاغٌ.
(1/382)
واعلمْ أنّ، هذا البابَ أتاه النصبُ
كمنصوبٍ بما قبله من المصادر فى أنّه ليس بصفة ولا من اسمٍ قبله،
وإنَّما ذكرتَه لتؤَكَّدَ به، ولم تَحمله على مضمَرٍ يكون ما بعده رفعا
وهو مفعولٌ به.
ومثلُ نصبِ هذا الباب قول الشاعر، وهو الراعى:
دَأَبْتُ إلى أن يَنْبُتَ الظَّلُّ بعد ما ... تَقَاصَرَ حتّى كاد فى
الآلِ يَمْصَحُ
وَجِيفَ المطَايَا ثمّ قلتُ لصُحْبتى ... ولم يَنْزِلوا أَبرَدتُمُ
فتَرَوَّحُوا
لأنّه قد عُرف أنّ قوله " دأَبتُ ": سرت، لمّا ذُكر فى صدر قصيدتِه،
فصار دأبتُ بمنزلة أوجفتُ عنده، فَجَعلَ وَجيفَ المطَايا توكيداً
لأَوجفتُ الذى هو فى ضميرِه.
واعلم أنَّ نصب هذا " الباب " المؤكَّدِ به العامُّ منه وما وُكّد به
نفسُه، ينصب على إضمار فعل غيرِ كلامِك الأوّلِ، لأنه ليس فى معنى
كَيْفَ ولا لِمَ، كأَنّه قال: أَحُقُّ حَقًّا، فجَعله بدلاً كظَنًّا من
أَظُنُّ، ولا أَقولُ قولَك
(1/383)
وأقولُ غيرَ ما تقول، وأَتَجِدُّ جِدَّك،
وكَتب اللهُ تبارك وتعالى كتابَه، وادْعُوا دعاءً حقًّا، وصَبغ اللهُ
صِبغَة، ولكن لا يَظهر الفعلُ لأنَّه صار بدلاً منه بمنزلة سَقيا.
وكذلك توجَّهُ سائرَ الحروفِ من هذا البابِ، كما فعلت ذلك في باب سقياً
وحمداً لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
صار فيه المذكور وذلك قولك: أَمّا سِمَناً فسَمينٌ، وأَمّا عِلْماً
فعالم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه بمنزلة قولك: أنت الرجل علماً ودِيناً، وأنت
الرجلُ فَهماً وأَدَباً، أي أنت الرجلُ فى هذه الحال. وعَمِلَ فيه ما
قبله وما بعده، ولم يَحسن فى هذا الوجه الألفُ واللام كما لم يَحسن
فيما كان حالاً وكان فى موضع فاعلٍ حالا. وكذلك هذا، فانتَصب المصدرُ
لأنَّه حالٌ مَصِيرٌ فيه.
ومن ذلك قولك: أَمّا عِلْماً فلا عِلْمَ له، وأَمّا عِلْماً فلا عِلْمِ
عنده، وأَمّا عِلْماً فلا عِلْمَ وتضمِرُ له، لأنَّك إنّما تَعنى رجلا.
وقد يُرْفَعُ هذا فى لغة بنى تميم، والنصبُ فى لغتها أحسن؛ " لأنهم
(1/384)
يَتوهَّمون الحالَ ". فإِن أُدخلت الألفُ
واللام رَفعوا، لأنه يَمتنع من أن يكون حالا.
وتقولُ: أَمّا العلْمُ فعالمٌ بالعلم، وأَمّا العلمَ فعالمٌ بالعلم.
فالنصبُ على أنَّك لم تَجعل العلم الثانىَ العلمَ الأوّلَ الذى لفظتَ
به قبله، كأنك قلت: أَمَّا العلمَ فعالمٌ بالأشياء. وأما الرفعُ فعلى
أنه جعل العلمَ الآخِرَ هو العلمَ الأوّلَ، فصار كقولك: أَمّا العلمُ
فأَنا عالمٌ به، وأما العلمُ فما أَعلمنى به. فهذا رفعٌ لأنَّ المضمر
هو العِلمُ، فصار كقولك: أَما العلمُ فحسنٌ.
فإِنْ جعلتَ الهاءَ غيرَ العلم الأوّل نصبتَ، كأَنَّك قلت: أَمّا علماً
فما أَعلمنى بعبد الله.
وإذا قلت: أَما الضَّرْبَ فضاربٌ، فهذا يَنتصب على وجهينِ: على أن يكون
الضربُ مفعولا كقولك: أَمّا عبدَ الله فأَنا ضاربٌ، ويكونُ نصباً على
قولك: أَمّا عِلْماً فعالمٌ، كأَنّك قلت: أَمّا ضَرْباً فضاربٌ، فيصير
كقولك: أَمّا ضربا فذو ضربٍ.
وقد يَنصب أهلُ الحجاز فى هذا الباب بالألف واللام، لأنهم قد يتوهمون
في هذا الباب غيرَ الحال، وبنو تميم كأَنهم لا يَتوهّمون غيرَه، فمن
ثَمّ لم يَنصبوا فى الألف واللام، وتركوا القُبْحَ. فكأَنَّ الذى
تَوهّم أهلُ الحجاز البابُ الذى يَنتصب لأنه موقوعٌ له، نحوَ قولك
فعلتُه مَخافةَ ذلك. وذلك قولهم:
(1/385)
أَمّا النُّبْلَ فنبيلٌ، وأمّا العقلَ فهو
الرجلُ الكاملُ، كأَنّه قال: هو الرجلُ الكاملُ العقلَ والرأي، أي
للعَقل والرأىِ، وكأَنّه أَجاب مَنْ قال: لِمَه؟ وعلى هذا الباب
فأَجْرِ جميعَ ما أَجريتَه نكرةً حالا إذا أَدخلتَ فيه الألف واللام.
قال الشاعر:
أَلا ليت شِعْرِى هل إلى أُمَّ مَعْمَرٍ ... سَبيلٌ فأَمّا الصَّبْرَ
عنها فلا صَبْرَا
وأَمَّا بنو تميم فيرَفعون لِما ذكرتُ لك، فيقولون: أَمّا العلمُ
فعالمٌ، كأَنه قال: فأنَا أو فهو عالمٌ به. وكان إضمارُ هذا أحسنَ
عندهم من أن يُدخِلوا فيه مالا يجوز، كما قال سبحانه: " يوما لا تجزي
نفس "، أَضمر " فِيهِ " وقال الشاعر، " عبد الرحمن بن حسّان ":
أَلا يا لَيْلَ وَيْحَك نَبِّئينا ... فأَمّا الجُودُ منكِ فليس جودُ
أى فليس لنا منك جودٌ.
(1/386)
ومما ينتصب من الصِفات حالاً كما انتَصب
المصدرٌ الذى يوضع موضعه ولا يكون إلاّ حالاً، قوله: أما صديقاً
مصافياً فليس بصديق مُصافٍ، وأَمّا طاهراً فليس بطاهرٍ، وأَمّا عالما
فعالمٌ. فهذا نصبٌ لأنَّه جعله كائنا فى حال علمٍ وخارجا من حال طهورٍ
ومصادقةٍ.
والرفعُ لا يجوز هنا، لأنَّك قد أَضمرت صاحبَ الصفةِ، وحيث قلتَ أمّا
العلمُ فعالمٌ فلم تضمِرْ مذكورا قبل كلامك وهو العلمُ، فمن ثمّ حَسُنَ
فى هذا الرفعُ ولم يَجز الرفع في الصَّفة. ولا يكون فى الصفة الألفُ
واللام؛ لأنَّه ليس بمصدَر فيكونَ جوابا لقوله لمَهْ، وإنَّما المصدرُ
تابعٌ له ووُضع فى موضعه حالا.
واعلم أَنَّ ما ينتصب فى هذا الباب فالذى بعده أو قبله من الكلام قد
عَمِلَ فيه، كما عَمل فى الحَذَرِ ما قبله، إذا قلت: أَكرمتُه حَذَرَ
أن أُعابَ، وكما عَمل فى قوله: أتاه مشياً وماشياً.
باب ما يختار فيه الرفعُ ويكون فيه
الوجهَ فى جميع اللغات
وزعم يونسُ أنه قول أبِى عَمرو. وذلك قولكَ: أَمّا العَبِيدُ فذو
عَبيدٍ، وأمّا العبدُ فذو عبدٍ، وأَمّا عبدانِ فذو عبدينِ.
(1/387)
وإنَّما اختير الرفعُ لأنّ ما ذكرت فى هذا
الباب أسماءٌ والأسماءُ لا تجرى مجرى المصادر. ألا تَرى أنَّك تقولُ:
هو الرجلُ عِلْماً وفِقْهاً، ولا تقول: هو الرجلُ خَيْلاً وإبلاً.
فلمّا قبح ذلك جعلوا ما بعده خبراً له، كأَنّهم قالوا: أَمّا العبيدُ
فأنت فيهم أو أنت منهم ذو عَبيدٍ، أى لك من العبيد نَصيبٌ، كأَنَّك
أردتَ أن تقول: أَمّا مِن العبيد أو أَمّا فى العبيد فأنت ذو عَبيدٍ.
إلاَّ أنك أَخَّرتَ فى ومن وأضمرتَ فيهما أَسماءَهم.
وأَمَّا قولُه: أَمّا العبدُ فأنت ذو عبدٍ، فكأنه قال: أمّا فى العبدِ
فأنت ذو عبدٍ، ولكنه أخَّرَ فِى وأَضمرِ فيهِ اسمَه كما فَعل ذلك فى
العبيد، فلما قبح عندهم أ، يكون بمنزلة المصدر ولم يكن ممّا يجوز فيه
عندهم ذلك حملوه على هذا، فِراراً من أن يُدْخِلوا فى المصدر ما ليس
منه، كما فعلتْ تميمٌ ذلك فى العِلْم حين رفعوه. وكأنك قلت: أَمّا
العبيدُ فهم لك، وأَمّا العبدُ فهو لك، لأنّك ذلك المعنى تُريدُ.
وسَمِعْنا من العرب من يقول: أَمّا ابنُ مُزَنيَّةٍ فأنا ابن
مُزنيَّةٍ؛ كأَنه قال: أما ابنُ مُزنيّةٍ فأنا ذاك، جعل الآخر هو الأول
كماكان قائلاً ذلك فى الألف واللام: أمّا ابنُ المُزنيَّةِ فأنا ابن
المُزنيَّةِ. وإن شئت نصبتَه على الحال كما قلت: أَمَّا صَديقا فأنت
صديقٌ وأمَّا صاحبا فأنت صاحبٌ.
(1/388)
وزعم يونس أن قوماً من العرب يقولون: أما
العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبدٍ، يُجرونه مُجرى المصدر سَواءً.
وهو قليل خبيث. وذلك أنَّهم شبّهوه بالمصدر كما شبَّهوا الجمَّاءَ
الغفيرَ بالمصدر، وشبَّهوا خمستَهم بالمصدر. كأنَّ هؤلاء أجازوا: هو
الرجل العبيد والدراهم، أى للعبيد وللدراهم، وهذا لا يُتكلَّم به،
وإنما وجهه وصوابه الرفع، وهو قول العرب وأبى عمرو ويونسَ، ولا أعلم
الخليلَ خالَفَهُما. وقد حملوه على المصدر، فقال النحويّون: أمّا
العِلْمَ والعَبيدَ فذو علم وذو عبيد. وهذا قبيح، لأنَّك لو أفردتَه
كان الرفعُ الصوابَ، فخَبُثَ إذْ أُجرى غيرُ المصدر كالمصدر، وشبّهوه
بما هو فى الرَّدَاءةِ مثلُه، وهو قولُهم: وَيلٌ لهم وتَبٌّ.
وأمّا قوله: أمَّا البَصْرةُ فلا بَصْرةَ لك، وأمَّا الحارثُ فلا حارثَ
لك، وأمّا أبوك فلا أبا لك، فهذا لا يكون فيه أبداً إلاَّ الرفعُ؛
لأنَّه اسمٌ " مَعروفٌ " ومعلومٌ؛ قد عرف المخاطَبُ منه مثلَ ما قد
عرفتَ، كأَنَّك قلت: أَمَّا الحارِثُ فلا حارثَ لك بعده أو فلا حارثَ
لك سواه، وكأنّه قال: أَمّا البَصْرةُ فليستْ لك، وأما الحارث فليس لك؛
لأن ذلك المعنى تريد.
ولو قال: أَمَّا العبيدُ فأنت ذو عبيد، يريد عبيداً بأَعيانهم قد
عرفَهم المخاطَبُ كمعرفتك، كأنّك قلت: أَمَّا العبيدُ الذين تعرف، لم
يكنْ إلاّ رفعا. وقولُه ذو عبيدٍ كأنّه قال: أنت فيهم أو منهم ذو
عبيدٍ. ولو قال: أَمَّا أبوك
(1/389)
فلك أبٌ، لكان على قوله: فلك به أبٌ أو فيه
أبٌ، وإنما يريد بقوله: فيه أبٌ مَجرى الأب على سعة الكلام، وليس إلى
النصب ههنا سبيل.
وإنَّما جاز النصبُ فى العبيدِ حين لم يَجعلهم شيئاً معروفا بعينه لأنه
يشبّهه بالمصدر، والمصدر قد تَدخله الألفُ واللام ويَنتصب على ما ذكرتُ
لك. فإذا أردتَ شيئاً بعينه وكان هو الذي تلزمه الإشارة، جرى مجرى زيد
وعمرو وأبيك.
وأمَّا قول الناس للرَّجلِ: أَمّا أن يكون عالما فهو عالمٌ، وأَمَّا أن
يَعلم شيئاً فهو عالمٌ، فقد يجوز أن تقول: أَمَّا أَنْ لاَ يكونَ
يَعلمُ فهو يَعلم وأنت تريد " أَنْ " يكونَ، كما جاءَتْ: " لئلا يعلم
أهل الكتاب " فى معنَى لأَنْ يَعلَم أهلُ الكتاب. فهذا يُشْبِهُ أن
يكونَ بمنزلة المصدر، لأنَّ أنْ مع الفعل الذى يكون صلةً بمنزلة
المصدر، كأنك قلت: أما علما وأماكينونة علم فأنت عالمٌ. ألا ترى أنَّك
تقول: أنت الرجل أن تنازل أو " أن " تخاصم، كأنك قلت نِزالاً وخُصومةٌ،
وأنت تريد المصدر الذى فى قوله فَعَلَ ذاك مَخافةَ ذاك. ألا ترى أنك
تقول: سكتُّ عنه أَنْ أجْتَرَّ مودته، كما تقول: اجترار مودَّته. ولا
تقع أنْ وصِلتُها حالاً يكونُ الأوّلُ فى حالِ وقوعِهِ، لأنَّها إنما
تُذْكَرُ لما لم يَقع بعدُ. فمن ثم أُجريَت مُجرى المصدر الأول الذي هو
جواب لمه؟
(1/390)
باب ما يَنتصب من الأسماء التى ليست بصفةٍ
ولا مصادرَ لأنَّه حالٌ يَقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول به
وبعضُ العرب يقول: كلّمتُه فُوهُ إلى فِىَّ، كأنَّه يقول: كلّمتُه
وفُوهُ إلى فِىَّ، أى كلّمتُه وهذه حالهُ. فالرفعُ على قوله كلّمتُه
وهذه حالهُ، والنصبُ على قوله: كلّمتُه فى هذه الحال، فانتَصب لأنه حال
وقع فيه الفعل. وأما بايعته يدا بيد، فليس فيه إلا النصب، لأنه لا
يَحسن أن تقول: بايعته ويد بيد، ولم يرد أن يُخبر أنَّه بايَعه ويدُه
فى يده، ولكنَّه أراد أن يقولَ: بايعتُه بالتعجيل، ولا يبالِى أقَريباً
كان أم بعيدا.
وإذا قال: كلّمتُه فُوهُ إلى فِىَّ، فإنَّما يريد أن يُخبِر عن قُربه
منه، وأنَّه شافَهه ولم يكن بينهما أحدٌ.
ومثله من المصادر فى أن تَلزمه الإِضافةُ وما بعدها مما يجوز فيه
الابتداءُ ويكونُ حالا، قولُه: رَجَعَ فلانٌ عودة على بَدْئه، وانثنى
فلانٌ عَوْدَه على
(1/391)
بَدْئه، كأنه قال: انثنى عَوْداً على
بَدْءٍ. ولا يُستعمل فى الكلام رجَعَ عَوْداً على بَدْءٍ، ولكنَّه
مُثّل به.
ومَنْ رَفَعَ فوه إلى فىَّ، أجاز الرفع فى قوله: رَجَعَ فلانٌ عَودُه
على بَدْئه.
ومما يَنتصب لأنَّه حالٌ وقع فيه الفعلُ قولك: بِعْتُ الشاءَ شاةً
ودرهماً، وقامرتُه درهماً فى درهمٍ، وبعتُه دارى ذراعاً بدرهم، وبعت
البرقفيز بن بدرهم، وأخذتُ زكاةَ مالِه درهماً لكلّ أربعين درهما،
وبيّنتُ له حِسابَه باباً باباً، وتَصدَّقتُ بمالى درهما درهما.
واعلم أنَّ هذه الأشياءَ لا ينفرد منها شيء دون ما بعده، وذلك أنَّه لا
يجوز أن تقول: كلّمتُه فاه حتّى تقول إلى فىَّ، لأنَّك إنَّما تريد
مشافَهةً، والمُشافهةُ لا تكون إلاّ من اثنين، فإنَّما يَصحّ المعنى
إذا قلت إلى فِىَّ، ولا يجوز أن تقول بايعتُه يداً، لأنَّك إنَّما تريد
أن تقول: أخَذَ منّى وأعطانى، فإِنَّما يَصحَ المعنى إذا قلت: بيدٍ
لأنهما عَمَلانِ. ولا يجوز أن تقول: انثَنى عَوْدَه لأنَّك إنّما تريد
أنّه لم يَقطع ذهابَه حتَّى وصلَه برجوع، وإنّما أردتَ أنه رجع فى
حافِرِته أى نَقَضَ مجيئَة برجوعٍ، وقد يكون أن يَنقطع مجيئه ثم يَرجع
فيقول: رجعتُ عَوْدِى
(1/392)
على بَدئى، أى رجعتُ كما جئتُ.. فالمجئُ
موصولٌ به الرجوعُ، وهو بَدءٌ والرجوعُ عَوْدٌ.
ولا يجوز أن تقول: بعتُ دِارى ذراعا، وأنت تريد بدرهم، فيُرَى
المخاطَبُ أنَّ الدار كلَّها ذراعٌ. ولا يجوز أن تقول: بعتُ شائى شاةً
شاةً، وأنت تريد بدرهم، فيُرَى المخاطَبُ أَنَّك بعتها الأوّلَ فالأولَ
على الوِلاءِ. ولا يجوز أن تقول: بيّنتُ له حِسابَه باباً، فيُرَى
المخاطَب أنك إنما جعلت له حسابه باباً واحدا غيرَ مفسَّرٍ. ولا يجوز
تَصدّقتُ بمالى درهماً، فيُرَى المخاطَبُ أنك تَصدّقت بدرهم واحد.
وكذلك هذا وما أشبهه.
وأمّا قول الناس: كان البُرُّ قَفيزَيْنِ، وكان السَّمْنُ مَنَوَينِ،
فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدَّرهم لِما فى صدورهم من عِلمه، ولأنَّ
الدرهم هو الذى يسعَّر عليه، فكأنّهم إنّما يَسألون عن ثمن الدرهم فى
هذا الموضع، كما يقولون: البربستين، وتركوا ذكر الكُرَّ؛ استغناءً بما
فى صدورهم من عِلمه، وبعلم المخاطَب، لأنَّ المخاطب قد علم ما يَعنى،
فكأَنّه إنّما يَسأل هنا عن ثمن الكُرّ كما سألَ الأوّلُ عن ثمن
الدرهم. وكذلك هذا وما أشبهه فأَجْرِه كما أجرتْه العربُ.
وزعم الخليل أنه يجوز: بعتُ الشاءَ شاةٌ ودرهمٌ، إنَّما يريد شاةً
بدرهمٍ، ويَجعل بدرهمٍ خبراً للشاة وصارت الواوُ بمنزلة الباء فِى
المعنى، كما كانت فى قولك: كلُّ رَجُلٍ وضيعتُه، فى معنى مع.
(1/393)
وإذا قلت شاةً بدرهم، فإِنّ بدرهمٍ ليس
مبنيًّا على اسمٍ قبله ولكنَّه إنّما جاءَ ليبيَّن به السعرُ، كما
جاءتْ " لَكَ " فى سَقْيًا، لتبيَّنَ من تَعنى. فالباءُ هاهنا بمنزلة
إلَى فى قولك: فاهُ إلى فِىّ، ولم تُبْنَ على ما قبلها.
وكذلك ما انتَصب فى هذا الباب وكان ما بعده ممّا يجوز أن يُبْنَى على
ما قبله فى هذا الباب.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: بعتُ الدَّارَ ذراعٌ بدرهم،
كما جاز لك فى الشاء. وزعم أنه يقول: بعتُ دارى الذراعانِ بدرهم، وبعتُ
البُرَّ القَفيزانِ بدرهم. ولم يشبَّهْ هذا بقوله: فاه إلى فِىَّ،
لأنَّ هذا فى بابه بمنزلة المصار التى تكون حالاً يقع فيها الأمرُ، نحو
قولك: لقيتُه كِفاحاً، ونحو قوله: أَرْسَلَها العِراكَ، وفعلتُ ذاك
طاقتى.
وليس كلُّ مصدرٍ فى هذا الباب تَدخله الألُف واللام ويكونُ معرفةً
بالإِضافة، وليس كلُّ المصادر فى هذا الباب يكون فيها هذا فالأسماءُ
أَبْعَدُ.
فلذلك كان الذراعُ رفعاً لأنّه لا يجوز أن " تجعله معرفة وتجعله حالاً
يكون فيه الأمر، كما أنه لا يجوز لَك أن " تَدخل الألفُ واللام في قولك
لقيته قائماً وقاعداً، أن تقولك لقيتُه القائمَ والقاعدَ، ولا " تقولُ
": ضربتُه القائمَ، فلمّا قبح ذلك فى الذَّراع جُعل بمنزلة قولك:
لقيتُه يدُه فوق رأسه. ومثلُ ذلك: بعته ربح الدرهم درهم، لا يكون فيه
النَّصبُ على حال.
(1/394)
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: رَبِحَتُ
الدرهمَ درهماً، محالٌ، حتَّى تقول: فى الدرهمِ وللدّرهمِ.
وكذلك وجدنا العربَ تقول.
فإِنْ قال قائل: فاحذف حرف الجر وأنوه. قيل له: لا يجوز ذلك كما لا
تقول مررتُ أخاك وأنت تريد بأخيك. فإِنْ قال: لا يجوز حذفُ الباِء من
هذا قيل له: فهذا لا يقال أيضا.
وقال الخليل رحمه الله: كَلّمَنِى يدُه فى يدى الرفع لا يكون غيره؛ لأن
هذا لايكون من صفة الكلام.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلت: رجعت عودك في بَدْئك مفعولاً
بمنزلة قولك: رجعتَ المالَ علىَّ، أي رددت المال علي، كأنه قال: ثنيت
عَوْدى على بَدْئى.
هذا باب
ما يَنتصب فيه الاسمُ لأنه حال يقع فيه السَّعرُ
وإن كنتَ لم تَلفظ بفعلٍ، ولكنّه حال يقع فيه السَّعْرُ، فيَنتصبُ كما
انَتصب لو كان حالاً وقع فيه الفعل، لأنه في أنه حال وقع فيه أمرٌ فى
الموضعين سَواءٌ.
(1/395)
وذلك قولُك: لك الشّاءُ شاةٌ بدرهم شاةً بدرهم. وإن شئت أَلغيت لَكَ
فقلتَ: لك الشاءُ شاةٌ بدرهمٍ شاةٌ بدرهمٍ، كما قلتَ: فيها زيدٌ قائمً،
رفعتَ.
وإذا قلت: الشاءُ لك، فإن شئتَ رفعتَ، وإن شئتَ نصبتَ، وصار لك الشاءُ
إذا نصبتَ بمنزلة وَجَبَ الشاءُ، كما كان فيها زيدٌ قائماً بمنزلة:
استقر زيد قائماً. |