الكتاب لسيبويه

؟

هذا باب الحروف الخمسة
التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده
وهي من الفعل يمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصَرَّف تصرُّف الأفعال كما ان عشرين لا تصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أُخذت من الأفعال وشُبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهما لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حُمل العشرون عليه، ولكنه واحد بين به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضاربٌ زيدا، لأن زيدا ليس من صفة الضارب، ولا محمولا على ما حُمل عليه الضارب.
وكذلك هذه الحروف، منزلتها من الأفعال. وهي أنّ، ولكن، وليت، ولعل، وكأن.
وذلك قولك: إن زيدا منطلقٌ، وإن عمرا مسافرٌ، وإن زيدا أخوك. وكذلك أخواتها.
وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفعَ والنصب، كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيدٌ. إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبدَ الله، تريد كأن عبدَ الله أخوك، لأنها لا تصرف تصرف الأفعال، ولا يضمَر فيها المرفوع كما يضمَر في كان. فمن ثم فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما، فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال.
وتقول: إن زيدا الظريف منطلق، فإن لم يُذكر المنطلق صار الظريف

(2/131)


في موضع الخبر كما قلت: كان زيد الظريف ذاهبا، فلما لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريفَ، فنصب هذا في كان بمنزلة رفع الأول في أن وأخواتها.
وتقول: إن فيها زيدا قائما، وإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت: إن زيدا فيها قائما وقائمٌ. وتفسير نصب القائم ههنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بإن كما ارتفع ثم بالابتداء، إلا أن فيها ههنا بمنزلة هذا في انه يستغنى على ما بعدها السكوت، وتقع موقعه. وليست فيها بنفس عبد الله كما كان هذا نفسَ عبد الله، وإنما هي ظرفٌ لا تعمل فيها إن، بمنزلة خلفَك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه.
وقد يقع الشيء موقع الشيء وليس إعرابه كإعرابه، وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه.
وتقول: إن بك زيدا مأخوذ، وإن لك زيدا واقفٌ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرين لعبد الله، ولا موضعين. ألا ترى أن السكوت لا يستغنى على عبد الله إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف.
ومثل ذلك: إن فيك زيدا لراغب. قال الشاعر:

(2/132)


فلا تلْحِني فيها فإن بحبّها ... أخاكَ مُصابُ الثلب جمٌّ بلابِلُهْ
كأنك أردت: إن زيدا راغبٌ، وإن زيدا مأخوذٌ، ولم تذكر فيك ولا بكَ، فألغيتا ههنا كما أُلغيتا في الابتداء. ولو نصبت هذا لقلت إن اليوم زيدا منطلقا، ولكن تقول إن اليوم زيدا منطلق، وتُلغي اليومَ كما ألغيتَه في الابتداء.
وتقول: إن اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، من قبل أن إن عملت في اليوم، فصار كقولك: إن عمرا فيه زيدٌ متكلم. ويدلك على أن اليوم قد عملت فيه إن، أنك تقول اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، فترفع بالإبتداء، فكذلك تنصب بأن.
وتقول: إن زيدا لفيها قائما، وإن شئت ألغيتَ لفيها، كأنك قلت: إن زيدا لقائم فيها. ويدلك على أن لفيها يُلغى أنك تقول إن زيدا

(2/133)


لَبك مأخوذ. قال الشاعر، وهو أبو زُبيد الطائي:
إنّ اَمْرَأَ خَصِني عًمْداً مودّتَه ... على التَّنائى لَعندي غيرُ مكفورِ
فلما دخلت اللام فيما لا يكون إلا لغوا عرفنا أنه يجوز في فيها، ويكون لغوا لأن فيها قد تكون لغوا.
وإذا قلت: إن زيدا فيها لقائمٌ، فليس إلا الرفع، لأن الكلام محمول على إن، واللام تدل على ذلك، ولو جاز النصبُ ههنا لجاز فيها زيدٌ لقائماً في الابتداء. ومثله: إن فيها زيدا لقائمٌ.
وروى الخليل رحمه الله أن ناسا يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، فقال: هذا على قوله إنه بك زيدٌ مأخوذ، وشبّه بما يجوز في الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً تُوافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ

(2/134)


وقال الآخر:
ووجهٌ مشرقُ النحرِ ... كأنْ ثدياهُ حُقّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلاّ الإضمار.
وزعم الخليل أنَّ هذا يشبه قول من قال: وهو الفرزدق:

(2/135)


فلو كنتَ ضبِّياً عرفتَ قرابِتي ... ولكِنَّ زَنجيّ عظيمُ المشافرِ
والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال: ولكن زنجيا عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يُضمر ما بنى على الابتداء نحو قوله عز وجل: " طاعةٌ وقولٌ معروفٌ "، أي طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الشاعر:
فما كنتُ ضَفّاطاً ولكنّ طالباً ... أناخ قليلاً فوقَ ظَهْرِ سبيلِ
أي ولكن طالبا منيخا أنا.
فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف، ولجعل المضمَر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحا ولكنْ طالحٌ.
ورفعه على قوله ولكنّ زَنْجِىٌّ.

(2/136)


وأما قول الأعشى:
في فتيةٍ كسُيوفِ الهِنْدِ قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَن يحفى وينتعلُ
فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأنْ يكون الحذف يُدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكن، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علَماً لحذف الإضمار في إن، كما فعلوا ذلك في كأن.
وأما ليتما زيدا منطلقٌ فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة ابن العجاج ينشد هذا البيت رفعا، وهو قول النابغة الذبياني:
قالت ألاَ لَيْتَمَا هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونصفُ فقدِ

(2/137)


فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: مثلا ما بَعوضةٌ، أو يكون بمنزلة قوله: إنما زيدٌ منطلقٌ.
وأما لعلما فهو بمنزلة كأنما. وقال الشاعر، وهو ابن كُراع:
تحلّلْ وعالجْ ذاتَ نفِسكَ وانظُرَنْ ... أيا جُعَلٍ لَعَلَّمَا أنت حالِمُ
وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغوا لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل. كما كان نظيرَ إن من الفعل ما يعمل.
ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرار الفَقْعَسي:

(2/138)


أعَلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما ... أفنانُ رأسكَ كالثَّغَام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده.
واعلم أنهم يقولون: إن زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمرٌو لخيرٌ منك، لما خففها جعلها بمنزلة لكنْ حين خففها، وألزمها اللام لئلا تلتبس بإن التي هي بمنزلة ما التي تنفى بها.
ومثل ذلك: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظٌ "، إنما هي لَعلَيهْا حافظٌ.
وقال تعالى: " وإنْ كلُّ لَما جميعٌ لدينا مُحضَرون " إنما هي: لجميعٌ، وما لغوٌ.

(2/139)


وقال تعالى: " وإنْ وجدنا أكثرَهم لَفاسقين "، " وإنْ نظنك لمِن الكاذبين ".
وحدثنا من نثق به، أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لَمنطلقٌ. وأهل المدينة يقرءون: " وإنْ كُلاً لَما لَيوفينّهم ربُّك أعمالَهم " يخففون وينصبون، كما قالوا: كأنْ ثدْيَيهْ حُقّانِ وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حُذف من نفسه شيء لم يغيَّر عملُه كما لم يغيَّر عملُ لم يكُ ولم أُبَل حين حُذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما.

(2/140)


؟

هذا باب
ما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف
الخمسة
لإضمارك ما يكون مستقَرّاً لها وموضعا لو أظهرته، وليس هذا المضمَر بنفس المظهر. وذلك: إن مالا وإن ولدا وإن عددا، أي إن لهم مالا. فالذي أضمرت لَهُمْ.
ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إن الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إن زيدا، وإن عمرا، أي إن لنا. وقال الأعشى:
إنّ مَحَلاًّ وإنّ مُرتحَلاً ... وإنَّ في السّفْر ما مَضَى مَهَلا
وتقول: إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال: إن لنا غيرَها إبلا وشاء، أو عندنا غيرَها إبلا وشاء. فالذي تضمِر هذا النحو وما أشبهه. وانتصب الإبلُ والشاء كانتصاب فارسٍ إذا قلت: ما في الناس مثلُه فارسا.

(2/141)


ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليتَ أيامَ الصِّبَا رَواجِعَا فهذا كقوله: ألا ماء باردا، كأنه قال: ألا ماء لنا مارداً، وكأنه قال: يا ليت لنا أيام الصبا، وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجعَ.
وتقول: إن قريبا منك زيدا، إذا جعلت قريباً منك موضعه. وإذا قلت جعلت الأول هو الآخِر قلت: إن قريبا منك زيدٌ.
وتقول: إن قريبا منك زيدٌ، والوجهُ إذا أردتَ هذا أن تقول: إن زيدا قريبٌ منك أو بعيد منك، لأنه اجتمع معرفةٌ ونكرة. وقال امرؤ القيس:
وإنّ شِفاءَ عَبرَةٌ مُهراقةٌ ... فهل عند رَسمٍ دارِسٍ من مُعَوَّلِ

(2/142)


فهذا أحسن لأنهما نكرة.
وإن شئت قلت: إن بعيدا منك زيدا. وقلما يكون بعيدا منك ظرفا وإنما قل هذا لأنك لا تقول إن بُعدَك زيدا وتقول إن قربَك زيد. فالدنو أشدُّ تمكينا في الظرف من البُعد.
وزعم يونُس أن العرب تقول: إن بدلَك زيدا، أي إن مكانك زيدا. والدليل على هذا قول العرب: هذا لك بدلَ هذا، أي هذا لك مكان هذا. وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إن بدلَك زيدٌ، أي إن بديلَك زيدٌ.
وتقول: إن ألفا في دراهمك بيضٌ، وإن في دراهمك ألفا بيضٌ. فهذا يجرى مجرى النكرة في كان وليس؛ لأن المخاطَب يحتاج إلى أن تُعلمه ههنا كما يحتاج إلى أن تعلمه في قولك ما كان أحدٌ فيها خيرا منك. وإن شئت جعلت فيها مستقرا وجعلت البيض صفة.
واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هنا، مثلُه في باب كان، ومثل ذلك قولك: إن أسدا في الطريق رابضا، وإن بالطريق أسدا رابضٌ. وإن شئت جعلت بالطريق مستقرا ثم وصفتَه بالرابض، فهذا يجرى هنا مجرى ما ذكرتُ من النكرة في باب كان.

(2/143)


؟ باب ما يكون محمولا على إن
فيشاركه فيه الاسم الذي ولِيها ويكون محمولا على الابتداء
فأما ما حُمل على الابتداء فقولك: إن زيدا ظريفٌ وعمرٌو، وإن زيدا منطلقٌ وسعيدٌ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين، فأحدُ الوجهين حسنٌ، والآخر ضعيف.
فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء، لأن معنى إن زيدا منطلقٌ، زيدٌ منطلق، وإن دخلتْ توكيدا، كأنه قال: زيدٌ منطلق وعمرو. وفي القرآن مثله: " إنَّ الله بَرَئٌ مِنَ المُشْرِكينَ ورسولُه ".
واما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضمَر في المنطلق والظريف، فإن أردتَ ذلك فأحسنه أن تقول: منطلقٌ هو وعمرٌو، وإن زيدا ظريفٌ هو وعمرو.
وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت: إن زيدا منطلقٌ وعمرا ظريفٌ، فحملته على قوله عز وجل: " وَلَوْ أَنَّ ماَ فِى الأَرْضِ مِنْ شجرةٍ أقلامٌ والبحرَ يمدُّه مِنْ بَعْدِهِ سبعةُ أبحُرٍ ". وقد رفعه قومٌ على قولك: لو ضربتَ عبدَ الله وزيدٌ قائم ما ضرك، أي لو ضربت عبد الله وزيدٌ في هذه الحال، كأنه قال: ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلامٌ والبحر هذا أمره، ما نفدت كلمات الله.

(2/144)


وقال الراجز، وهو رؤبة بن العجاج:
إنَّ الربيعَ الجوْدَ والخَريفاَ ... يَدا أبى العبّاس والصُّيوفَا
ولكن المثقلة في جميع الكلام بمنزلة إن.
وإذا قلت إن زيدا فيها وعمرٌو، جرى عمرٌو بعد فيها مجراه بعد الظريف؛ لأن فيها في موضع الظريف، وفي فيها إضمار. ألا ترى أنك تقول: إن قومك فيها أجمعون، وإن قومك فيها كلهم، كما تقول: إن قومك عرب أجمعون وفي فيها اسمٌ مضمَر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. وقال جرير:
إن الخِلافةَ والنُّبوَّةَ فيهمُ ... والمَكرُمات وسادةٌ أطهارُ

(2/145)


وإذا قلت: إن زيدا فيها، وإن زيدا يقول ذاك، ثم قلت نفسه، فالنصب أحسن. وإن أردت أن تحمله على المضمَر فعلى: هو نفسه.
وإذا قلت إن زيدا منطلقٌ لا عمرٌو، فتفسيره كتفسيره مع الواو. وإذا نصبتَ فتفسيرة كنصبة مع الواو، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ لا عمراً.
واعلم أن لعل وكأن وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في أن، إلا أنه لا يُرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس ليتَ زيدا منطلقٌ وعمرا وقَبُح عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن، فقبح عندهم أن يُدخلوا الواجب في موضع التمنى فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه بمنزلة إن.
ولكن بمنزلة إن.
وتقول: إن زيدا فيها لا بل عمرٌو. وإن شئت نصبت. ولا بلْ تجرى مجرى الواو ولا.

(2/146)


؟ باب ما تستوي فيه الحروفُ الخمسة
وذلك قولك: إن زيدا منطلق العاقلُ اللبيبُ. فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين: على الاسم المضمَر في منطلق، كأنه بدلٌ منه، فيصير كقولك: مررت به زيدٌ إذا أردت جوابَ بمن مررتَ. فكأنه قيل له: من ينطلق؟ فقال: زيدٌ العاقلُ اللبيب. وإن شاء رفعه على: مررتُ به زيدٌ، إذا كان جوابَ مَن هو؟ فنقول: زيد، كأنه قيل له: مَن هو؟ فقال: العاقل اللبيب.
وإن شاء نصَبَه على الاسم الأول المنصوب.
وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: " قُل إن ربي يقذف بالحق علاّمُ الغُيوب "، و " علامَ الغُيوب ".

؟ بابٌ ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة
انتصابَه إذا صار ما قبله مبنيا على الابتداء
لأن المعنى واحدٌ في أنه حالٌ، وأن ما قبله قد عمِل فيه، ومنعه الاسمُ الذي قبله أن يكون محمولا على إن. وذلك قولك: إن هذا عبدُ الله منطلقا، وقال تعالى: " إن هذه أمتُكم أمة واحدة ". وقد قرأ بعضهم: " أمتَكم

(2/147)


أمةٌ وَاحِدَةٌ " حمل أمتكم على هذه، كأنه قال، إن أمتكم كلها أمةٌ واحدة.
وتقول: إن هذا الرجل منطلقٌ، فيجوز في المنطلق هنا ما جاز فيه حين قلت: هذا الرجل منطلقٌ، إلا أن الرجل هنا يكون خبرا للمنصوب وصفة له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدأ أو خبرا له.
وكذلك إذا قلت: ليتَ هذا زيدٌ قائما، ولعل هذا زيدٌ ذاهبا، وكأن هذا بِشرٌ منطلقا. إلا أن معنى إن ولكن لأنهما واجبتان كمعنى هذا عبدُ الله منطلقا، وأنت في ليت تمناه في الحال، وفي كأن تشبّه إنسانا في حال ذهابه كما تمنيته إنسانا في حال قيام. وإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب. فلعل وأخواتها قد عملنَ فيما بعدهن عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت: ليس هذا عمراً وكان هذا بشراً، عملنا عملين، رفعتا ونصبتا، كما قلت ضربَ هذا زيدا، فزيدا ينتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب ثم قلت: أليس هذا زيدا منطلقا، فانتصب المنطلق لأنه حال وقع فيه الأمر، فانتصب كما انتصب في إن، وصار بمنزلة المفعول الذي تعدى إليه فعل الفاعل بعدما تعدى إلى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيدا قائما، فهو مثله في التقدير، وليس مثله في المعنى.
وتقول: إن الذي في الدار أخوك قائما، كأنه قال: من الذي في الدار؟

(2/148)


فقال: إن الذي في الدار أخوك قائما، فهو يجرى في أن ولكن في الحُسن والقُبح، مجراه في الابتداء: إنْ قبُح في الابتداء أن تذكر المنطلق قبُح ههنا، وإن حسُن أن تذكر المنطلق حسُن ههنا، وإن قبُح أن تذكر الأخ في الابتداء قبُح ههنا، لأن المعنى واحد، وهو من كلامٍ واجب.
وأما في ليت وكأن ولعل، فيجرى مجرى الأول.
ومن قال: إن هذا أخاك منطلقٌ قال: إن الذي رأيتُ أخاك ذاهبٌ. ولا يكون الأخ صفة للذي، لأن أخاك أخصُّ من الذي، ولا يكون له صفة من قبل أن زيدا لا يكون صفة لشيء.
وسألت الخليل عن قوله، وهو لرجل من بني أسد:
إن بها أكتلَ أو رِزاما ... خُوَيْرِبَين ينقُفان الهَامَا

(2/149)


فزعم أن خويربين انتصبا على الشتم، ولو كان على إن لقال خُويرباً، ولكنه انتصب على الشتم، كما انتصب " حمالةَ الحطب " - " والنازلينَ بكلّ معترَكِ " على المدح والتعظيم. وقال:
أمِنْ عمل الجرّاف أمسِ وظلمه ... وعدوانه أعتَبْتُمونا براسمِ
أميرَيْ عداءٍ إنْ حَبَسْنا عليهما ... بهائمَ مالٍ أوْدَيَا بالبَهائِمِ
نصبهما على الشتم؛ لأنك إن حملت الأميرين على الإعتاب كان محالا، وذلك لأنه لا تحمل صفة الاثنين على الواحد ولا تحمل الذي جر الأعتابُ على الذي جر الظلم، فلما اختلف الجران واختلطت الصفتان صار بمنزلة

(2/150)


قولك: فيها رجلٌ وقد أتاني آخرُ كريمين، ولو ابتدأ فرفع كان جيدا.
ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق:
ولكنَّني استبقيتُ أعراضَ مازنٍ ... وأيامَها من مستنيرٍ ومظلمِ
أُناساً بثغرٍ لاتزالُ رِماحُهمْ ... شوارعَ من غيرِ العشيرةِ في الدمِ
ومما ينتصب على أنه عظم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدى:
ولَمْ أرَ لَيْلَى بعد يومٍ تعرّضتْ ... لنا بين أثوَاب الطِّراف من الأدَمْ
كِلابيّةً وبرِيّةً حَبْتريّةً ... نأتْكَ وخانتْ بالمواعيد والذممْ

(2/151)


أُناساً عِدّي عُلّقتُ فيهمْ وليتني ... طلبتُ الهَوَى في رأس ذي زَلَقٍ أشتمّ
وقال الآخر:
ضننْتُ بنفسى حِقْبةً ثم أصبحتْ ... لبنتِ عطاء بينُها وجميعها
ضِبابيةً مُرّيّةً حابيّةً ... مُنيفاً بنعفِ الصّيدلَين وضيعُها
فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصبا.
ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح، أنك لو حملت الكلام على أن تجعل حالا لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفا. وليس هنا تعريفٌ ولا تنبيهٌ، ولا أراد أن يوقع شيئا في حال، لقبحه ولضعف المعنى.

(2/152)


وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السَّعدْيِنا.
نصبه على الفخر.
وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيدا، على إلغاء كان، وشبهه بقول الشاعر، وهو الفرزدق:
فكيف إذا رأيتَ ديارَ قومٍ ... وجِيران لنا كانوا كرامِ
وقال: إن من أفضلهم كان رجلا يقبح؛ لأنك لو قلت إن من خيارهم رجلا، ثم سكت كان قبيحا حتى تعرّفه بشيء، أو تقول: رجلا من أمره كذا وكذا.
وقال: إن فيها كان زيد، على قولك: إنه فيها كان زيدٌ، وإلا فإنه لا يجوز أن تحمل الكلام على إن.
وقال: إن أفضلهم كان زيدٌ وإن زيدا ضربتُ، على قوله: إنه زيدا

(2/153)


ضربت، وإنه كان أفضلهم زيدٌ. وهذا فيه قبحٌ، وهو ضعيف، وهو في الشعر جائز. ويجوز أيضا على: إن زيدا ضربتُه، وإن أفضلَهم كانه زيد فتنصبه على إن، وفيه قبحٌ كما كان في إن.
وسألت الخليل رحمه الله تعالى عن قوله: " ويْكأنّه لا يُفلح " وعن قوله تعالى جدّه: " ويْكأن الله " فزعم أنه ويْ مفصولةٌ من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم.
وأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله.

(2/154)


وقال القرشي، وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سَالَتَانِى الطلاقَ أنْ رَأَتاَنى ... قَلَّ مالى، وقد جِئتُمانى بنُكرِ
وَيْ كأنْ مَن يَكُنْ له نشبٌ يُح - بَبْ ومَن يَفْتَقِرْ يعِشْ عَيْشَ ضُرِّ واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان؛ وذاك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أنه قال: هم، كما قال: ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائياَ على ما ذكرتُ لك.
وأما قوله عز وجل: " والصابئون "، فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتدأ على قوله " والصابئون " بعدما مضى الخبر.

(2/155)


وقال الشاعر، بشر بن أبى خازم:
وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بَقِينا فى شِقاقِ
كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم.

؟ هذا باب كَمْ
اعلم أن لكَم موضعين: فأحدهما الاستفهام، وهو الحرف المستفهَم به، بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: الخبر، ومعناها معنى رُبّ.
وهي تكون في الموضعين اسما فاعلا ومفعولا وظرفا، ويُبنى عليها، إلا أنها لا تصرّف تصرّف يوم وليل، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرف تحتك وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنهما حروفٌ لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام. ومثل ذلك

(2/156)


في الكلام كثير وقد ذكر فيما مضى، وستراه فيما يُستقبَل إن شاء الله.
أما كم في الاستفهام إذا أُعملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم يتصرف في الكلام منون، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولا على ما حُمل عليه. وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.
وإذا قال لك رجل: كم لك، فقد سألك عن عدد؛ لأن كمْ إنما هي مسألة عن عدد ههنا، فعلى المجيب أن يقول: عشرون أو ما شاء، مما هو أسماءٌ لعدة. فإذا قال لك: كم لك درهما؟ أو كم درهما لك؟ ففسر ما يسأل عنه قلت عشرون درهما، فعملت كم في الدرهم عمل العشرين في الدرهم، ولك مبنية على كم.
واعلم أن كمْ تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم؛ لأن العشرين عددٌ منون وكذلك كمْ هو منون عندهم، كما أن خمسةَ عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا خمسةَ عشر درهما، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منون. وكذلك كمْ موضعها موضع اسم منون، وذهبتْ منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غيرُ متمكنين في الكلام.
وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهمَ، لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. وهذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألفَ واللام، وصيروه إلى الواحد، وحذفوا من استخفافا كما قالوا:

(2/157)


هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون هذا أول من الفرسان. فحُذف الكلام.
وكذلك كمْ، إنما أرادوا كم لك من الدراهم، أو كم من الدراهم لك.
وزعم أن كم درهما لك أقوى من كم لك درهما وإن كانت عربية جيدة. وذلك أن قولك العشرون لك درهما فيها قبح، ولكنها جازت في كم جوازا حسنا، لأنه كأنه صار عوضا من التمكن في الكلام، لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخَّر فاعلة ولا مفعولة. لا تقول: رأيتَ كم رجلا، وإنما تقول: كم رأيت رجلا. وتقول: كم رجلٍ أتانى، ولا تقول أتانى كم رجل. ولو قال: أتاكَ ثلاثون اليوم درهما كان قبيحا في الكلام، لأنه لا يقوى قوةَ الفاعل وليس مثل كم لما ذكرت لك. وقد قال الشاعر:
على أَنّنى بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهَجْر حَولاً كَميلاً
يُذَكِّرُنِيكِ حنينُ العَجول ... ونوحُ الحماَمةِ تَدْعُو هَديلا

(2/158)


وكم رجلا أتاك، أقوى من كم أتاك رجلا، وكم ههنا فاعلة. وكم رجلا ضربت، أقوى من كم ضربت رجلا، وكم ههنا مفعولة.
وتقول: كم مثله لك، وكم خيرا منه لك، وكم غيره لك، كل هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين فيما زعم يونس. تقول: كم غيره مثله لك، انتصب غير بكم وانتصب المثل لأنه صفة له.
ولم يُجز يونس والخليل رحمهما الله كم غِلماناً لك، لأنك لا تقول عشرونَ ثيابا لك، إلا على وجه لك مائةٌ بيضا، وعليك راقودٌ خَلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غِلماناً، ويقبح أن تقول كم غلمانا لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائما فيها، كما قبح أن تقول قائما فيها زيدٌ. وقد فسرنا ذلك في بابه.
وإذا قلت: كم عبد الله ماكثٌ، فكم أيامٌ وعبد الله فاعلٌ. وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرفٌ من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيرا للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوما عبد الله ماكثٌ، أو كم

(2/159)


شهرا عبد الله عندك، فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلا ضرب عبد الله.
فإذا قلت: كم جريبا أرضُك، فأرضك مرتفعةٌ بكَم لأنها مبتدأةٌ، والأرض مبنية عليها، وانتصب الجريب لأنه ليس بمبنى على مبتدإ، ولا مبتدإ، ولا وصف، فكأنك قلت: عشرون درهما خيرٌ من عشرة.
وإن شئت قلت: كم غلمانٌ لك؟ فتجعل غلمان في موضع خبر كمْ، وتجعل لك صفة لهم.
وسألته عن قوله: على كم جذعٍ بيتُك مبني؟ فقال: القياس النصب وهو قول عامة الناس. فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى مِن، ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفا على اللسان، وصارت على عوضا منها.
ومثل ذلك: اللهِ لا أفعل، وإذا قلت لاها الله لا أفعلِ لم يكن إلا الجر، وذلك أنه يريد لا والله، ولكنه صار ها عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.

(2/160)


ومثل ذلك: اللهِ لتفعلن؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجر وحذفوا، تخفيفا على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا.
واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منون، يجر ما بعده إذا أُسقط التنوين، وذلك الاسم نحو مائتي درهم، فانجر الدرهم لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله. والمعنى معنى رُبّ، وذلك قولك: كم غلامٍ لك قد ذهب.
فإن قال قائل: ما شأنُها في الخبر صارت بمنزلة اسمٍ غير منون؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل عشرين وما أشبهها، وجُعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة إلى العشرة، تجر ما بعدها، كما جرت هذه الحروف ما بعدها. فجاز ذا في كم حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرفة التي هي للعدد.
واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رُبّ، لأن المعنى واحدٌ، إلا أن كم اسمٌ ورُبّ غير اسم، بمنزلة مِنْ. والدليل عليه أن العرب تقول: كم رجلٍ أفضلُ منك، تجعله خبرَ كم. أخبرناه يونس عن أبي عمرو.
واعلم أن ناسا من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يُعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسمٌ منون. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه رُبّ إلا أنها تنصب، لأنها منونة، ومعناها منونة وغير منونة سواءٌ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطُرّ شاعرٌ فقال ثلاثةٌ أثواباً

(2/161)


كان معناه ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن ضَبّة:
إذا عاشَ الفَتَى مائَتْينِ عامّا ... فقد ذَهَب المسرّةُ والفتاءُ
وقال الآخر:
أنعتُ عَيراً من حميرِ خَنزرَهْ ... فى كلِّ عَيرٍ مائَتانِ كَمَرَهْ
وبعض العرب ينشد قول الفرزدق:
كم عَمّةً لكَ يا جريرُ وخالة ... فَدْعاءَ قد حلبتْ على عِشاري
وهم كثيرٌ، فمنهم الفرزدق والبيت له.
وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا مِن كما جاز لهم أن يضمروا رُبّ.
وزعم الخليل أن قولهم: لاهِ أبوك ولقيتُه أمس، إنما هو على: لله

(2/162)


أبوك، ولقيته أمس، ولكنهم حذفوا الجار والألف واللام تخفيفا على اللسان، وليس كل جار يضمَر؛ لأن المجرور داخلٌ في الجار، فصارا عندهم بمنزلة حرفٍ واحد، فمن ثم قبُح، ولكنهم قد يُضمِرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم، لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعمالَه أحوج. وقال الشاعر العَنبري:
وجدّاءَ ما يُرجى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يَخشى السُّماةَ رَبيبُها
وقال امرؤ القيس:
ومثلِك بِكراً قد طرقتُ وثَيّباً ... فألهيتُها عن ذى تمائمَ مُغيَلِ

(2/163)


أى رب مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل.
وقال الشاعر:
ومثلَك رَهْبى قد تركتُ رَذيّةً ... تُقَلِّبُ عيَنيْها إذا مَرَّ طائرُ
سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.
والتفسير الأول في كمْ أقوى؛ لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذ إذا كان له وجهٌ جيد.
ولا يقوى قول الخليل في أمس، لأنك تقول ذهب أمس بما فيه.
وقال: إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء، استغنى عليه السكوت أو لم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون، لأنه قبيحٌ أن تفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجار، فصارا كأنهما كلمة واحدة. والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضاربٌ بك زيدا، ولا تقول: هذا ضاربُ بك زيدٍ. وقال زهير:

(2/164)


تؤمُّ سناناً وكم دونَه ... من الأرض مُدودباً غارُها
وقال القطامى:
كَمْ نالَني منهمُ فَضْلاً على عدمٍ ... إذ لا أكادُ من الإقتارِ أحتملُ
وإن شاء رفع فجعل كمِ المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالَني، فصار كقولك: كم قد أتانى زيدٌ، فزيد فاعلٌ وكم مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيدٌ من المرار. وقد قال بعض العرب:

(2/165)


كم عمّةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلَبتْ علىَّ عِشارِى
فجعل كم مرارا، كأنه قال: كم مرة قد حلبت عشارى على عماتك. وقال ذو الرمة، ففصل بين الجار والمجرور:
كأنّ أصواتَ، مِن أيغالِهنّ بنا، ... أواخِرِ الميسِ أصواتُ الفراريجِ
وقال الآخر:
فكم قد فاتَني بطلٌ كميٌّ ... وياسرُ فتيةٍ سمحٌ هَضومُ
وقد يجوز في الشعر أن تجر وبينها وبين الاسم حاجزٌ، فتقول: كم فيها رجلٍ، كما قال الأعشى:
إلاّ عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نهدِ الجُزارَهْ
فإن قال قائلٌ: أضمر مِن بعد فيها. قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجار، ومع ذلك إن وقوعها بعد كم أكثر. وقد يجوز في الشعر

(2/166)


أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجز، على قول الشاعر:
كم بجودٍ مقرفٌ نال العُلى ... وكريمٌ بخلُه قد وضَعهْ
الجر والرفع والنصب على ما فسّرناه، كما قال:
كم فهيم ملكٍ أغرَّ وسوقةٍ ... حكمٍ بأرديةِ المَكارمِ مُحتبى

(2/167)


وقال:
كم في سعدِ بن بَكْر سيدٍ ... ضخمِ الدَّسيعِة ماجدٍ نفّاعِ
وتقول: كم قد أتانى لا رجلٌ ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبدٌ ولا عبدان. فهذا محمول على ما حُمل عليه كم لا على ما تعمل فيه كم، كأنك قلت: لا رجلٌ أتانى ولا رجلان، ولا عبدٌ لك ولا عبدان. وذاك لأن كم تفسر ما وقعتْ عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت عشرون درهما، او بجميع منكور، نحو ثلاثة أثواب. وهذا جائزٌ في التي تقع في الخبر. فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.
ولو قلت: كم لا رجلا ولا رجلين، في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز، لأنه ليس هكذا تفسيرُ العدد، ولو جاز ذا لقلت: له عشرون لا عبدا ولا عبدين، فلا رجلٌ ولا رجلان توكيدٌ لكم لا للذي عمل فيه، لأنه لو كان عليه كان محالاً، وكان نقضاً.
ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبدا؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبُدٍ،

(2/168)


حمل الكلام على ما حمل عليه كم، ولم يُرد السائل من المسئول أن يفسر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر العدد حتى يجيبه المسئول عن العدد، ثم يفسره بعد إن شاء، فيعمل في الذي يفسر به العدد كما أعمل السائل كم في العبد، ولو أراد المسئول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على كم، كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبدا فيصير سائلا.
ومع ذلك أنه لا يجوز لك أن تُعمل كم وهي مضمرة في واحدٍ من الموضعين، لأنه ليس بفعل ولا اسم أُخذ من الفعل، ألا ترى أنه إذا قال المسئول عبدين أو ثلاثة أعبدٍ فنصب على كم، أنه قد أضمر كم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: كم غلاما لك ذاهبٌ؟ تجعل لك صفة للغلام، وذاهبا خبرا لكم.

(2/169)


ومن ذلك أن تقول: كم منكم شاهدٌ على فلان، إذا جعلت شاهدا خبرا لكم، وكذلك هو في الخبر أيضا، تقول: كم مأخوذٌ بك، إذا أردت أن تجعل مأخوذا بك في موضع لك إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم، ولكنه مبنيٌّ عليها، كأنك قلت كم رجلٍ لك وإن كان المعنيان مختلفين، لأن معنى كم مأخوذٌ بك؛ غير معنى كم رجلٍ لك، ولا يجوز في رُبّ ذلك، لأن كم اسمٌ ورب غير اسم، فلا يجوز أن تقول رُبّ رجلٌ لك.
؟

هذا باب
ما جرى مجرى كم في الاستفهام
وذلك قولك: له كذا وكذا درهما، وهو مبهمُ في الأشياء بمنزلة كم، وهو كنايةٌ للعدد، بمنزلة فلان إذا كنيتَ به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذَيّةَ وذيةَ، وذيتَ وذيتَ، وكيتَ وكيتَ. صار ذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
وكذلك كأيّنْ رجلا قد رأيتُ، زعم ذلك يونس، وكأين قد أتانى رجلا. إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مع مِن؟ قال عز وجل: " وكأيّنْ مِن قريةٍ ". وقال عمرو بن شأس:
وكائنْ رَدَدْنَا عنكمُ مِن مُدجِجٍ ... يجيء أَمامَ الألفِ يَردي مُقنّعا

(2/170)


فإنما ألزموها مِن لأنها توكيد، فجُعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولاسيما زيدٍ، فرب توكيدٍ لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة.
وكأيّنْ معناها معنى رُبّ. وإن حذفتَ مِن وما فعربى.
وقال: إن جرها أحدٌ من العرب فعسى أن يجرها بإضمار مِن كما جاز ذلك فيما ذكرنا في كم.
وقال: كذا وكأين عملتا فيما بعدهما كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلُهم رجلا، فصار أيٌّ وذا بمنزلة التنوين، كما كان هُم بمنزلة التنوين.
وقال الخليل رحمه الله كأنهم قالوا: له كالعدد درهما، وكالعدد من قرية. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به.
وإنما تجيء الكاف للتشبيه، فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولُك: كأن، أدخلتَ الكاف على أن للتشبيه.

(2/171)


؟

هذا باب ما ينصب نصب كم
إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام
وذلك ما كان من المقادير، وذلك قولك: ما في السماء موضع كف سحابا، ولى مثلُه عبدا، وما في الناس مثلُه فارسا، وعليها مثلُها زُبداً.
وذلك أنك أردت أن تقول: لي مثلُه من العبيد، ولى مِلؤه من العسل، وما في السماء موضع كف من السحاب، فحذف ذلك تخفيفا كما حذفه من عشرين حين قال: عشرون درهما، وصارت الأسماء المضافُ إليها المجرورةُ بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولا على ما حُملت عليه، فانتصب بملءِ كف ومثلِه، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن مثل بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين، لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.
وزعم الخليل رحمه الله أن المجرور بدلٌ من التنوين، ومع ذلك أنك إذا قلت لي مثلُه فقد أبهمتَ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهما فقد اختصصتَ نوعا، وبه يُعرَفُ من أي نوع ذلك العدد. فكذلك مثلُه هو مبهَم يقع على أنواع: على الشجاعة، والفروسة، والعبيد. فإذا قال عبدا فقد بين من أي أنواع المِثلُ. والعبدُ ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعا، والنوع هو المِثل ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس من العشرين

(2/172)


ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب العشرون، ويُحذف من النوع كما يُحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دَيناً، الشَّعر مقدارٌ. وكذلك: لي ملء الدار خيرا منك، ولي خيرٌ منك عبدا، ولي ملء الدار أمثالَك، لأن خيرا منك نكرةٌ، وأمثالك نكرةٌ.
وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلا، وأنت تريد جميعا، فيجوز ذلك، ويكون كمزلته في كم وعشرين.
وإن شئت قلت: رجالا، فجاز عنده كما جاز عنده في كم حين دخل فيها معنى رُبّ؛ لأن المقدار معناه مخالفٌ لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره الواحد والجميع كما جاز في كم إذ دخلها معنى رُبّ، كما تقول ثلاثةٌ أثوابا، أي من ذا الجنس، تجعله بمنزلة التنوين.
ومثل ذلك: لا كزيدٍ فارسا، إذا كان الفارسُ هو الذي سميته، كأنك قلت: لا فارسَ كزيد فارسا. وقال كعب بن جعيل:
لنا مِرفَدٌ سبعون ألف مُدجّج ... فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفدا
كأنه قال: فهل في معد مرفدٌ فوق ذلك مرفداً.

(2/173)


ومثل ذلك: تالله رجلا، كأنه أضمر تالله ما رأيتُ كاليوم رجلا، وما رأيت مثلَه رجلاً.

؟ باب ما ينتصب انتصابَ الاسم بعد المقادير
وذلك قولك: ويحَه رجلا، ولله درُّه رجلا، وحسبُك به رجلا، وما أشبه ذلك. وإن شئت قلت: ويحَه من رجلٍ، وحسبُك به من رجل، ولله درُّه من رجل، فتدخل من ههنا كدخولها في كم توكيدا. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول، فصارت الهاء بمنزلة التنوين.
ومع هذا أيضاً أنك إذا قلت وحيه فقد تعجبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجبت، وأي الأنواع تعجبت منه. فإذا قلت فارسا وحافظا فقد اختصصت ولم تُبهم، وبينت في أي نوع هو.
ومثل ذلك قول عباس بن مرداس:
ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبدّدوا ... ويطعنُهم شَزراً فأبرحْتَ فارِساً

(2/174)


فكأنه قال: فكفى بك فارسا، وإنما يريد كفيتَ فارسا. ودخلتْه هذه الباء توكيدا.
ومن ذلك قول الأعشى:
تقول ابنتى حين جَدَّ الرحيلُ ... فأبْرحتَ ربًّا وأبرحتَ جاراً
ومثله: أكرمْ به رجلاً.

؟ باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَرا
وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا كما جرتْ إن بمنزلة الفعل الذي تقدم مفعولُه قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم، كما لزمتْ إن هذه الطريقة في كلامهم.
وما انتصب في هذا الباب فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب حسبُك به وويحه، وذلك قولهم: نِعمَ رجلا عبدُ الله، كأنك قلت: حسبُك به رجلا عبدُ الله؛ لأن المعنى واحد.

(2/175)


ومثل ذلك: رُبّه رجلا، كأنك قلت: ويحه رجلا، في أنه عمل فيما بعده، كما عمل ويحه فيما بعده لا في المعنى. وحسبُك به رجلا مثل نِعم رجلا في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة.
ولا يجوز لك أن تقول نعمَ ولا رُبّه وتسكت، لأنهم إنما بدؤوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز عليه السكوت نحو زيدٌ ضربتُه إنما أضمر بعد ما ذكر الاسم مظهرا، فالذي تقدم من الإضمار لازمٌ له التفسير حتى يبينه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.
ومما يضمر لأنه يفسره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إنه كِرامٌ قومُك، وإنه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كأنه في التقدير - وإن كان لا يُتكلم به - قال: إن الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كله خبرا للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره.
وأما قولهم: نعم الرجل عبد الله، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله، عمل نِعم في الرجل ولم يعمل في عبدُ الله.
وإذا قال: عبد الله نعمَ الرجلُ، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كأنه

(2/176)


قال نِعمَ الرجلُ فقيل له مَن هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال عبدُ الله فكأنه فقيل له: ما شأنه؟ فقال: نِعم الرجل.
فنعمَ تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة ويحه ومثلَه، ثم يعملان في الذي فسر المضمر عمل مثله وويحه إذا قلت لي مثله عبدا. وتكون مرة أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه. فهي مرة بمنزلة رُبّه رجلا، ومرة بمنزلة ذهب أخوه، فتجرى مجرى المضمر الذي قُدّم لما بعده من التفسير وسد مكانه، لأنه قد بينه، وهو نحو قولك: أزيدا ضربتَه.
واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعمَ الرجل، والرجلُ غيرُ عبد الله، كما أنه محال أن تقول عبد الله هو فيها، وهو غيره.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومُك نِعمَ صغارُهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعمَ الصغار ونعم الكبار، وقومُك نعمَ القومُ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلهم صالحٌ، كما أنك إذا قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمةٍ كلهم صالح، ولم ترد أن تعرف شيئا بعينه بالصلاح بعد نعمَ.
ومثل ذلك قولك: عبدُ الله فارِهُ العبدِ فاره الدابة؛ فالدابة لعبد الله ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، ولست تريد أن تُخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول إن في مِلكِ زيد العبدَ الفارِه والدابة الفارهة؛ إذ لم ترد عبدا بعينه ولا دابة بعينها. فالاسمُ الذي يظهر بعد نعمَ إذا كانت نِعمَ عاملةَ فيه الاسمُ الذي فيه

(2/177)


الألف واللام، نحو الرجل، وما أضيف إليه وما أشبهه نحو غلام الرجل، إذا لم ترد شيئا بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في رُبّ قد يُبدأ بإضمار الرجل قبله حين قلت: رُبّه رجلا لما ذكرتُ لك، وتبدأ بإضمار الرجل في نعمَ لما ذكرتُ لك. فإنما منعك أن تقول نعمَ الرجلَ إذا أضمرتَ أنه لا يجوز أن تقول حسبُك به الرجل، إذا أردت معنى حسبُك به رجلا.
ومن زعم أن الإضمار الذي في نعمَ هو عبد الله، فقد ينبغي له أن يقول نعمَ عبد الله رجلا، وقد ينبغي له أن يقول: نعمَ أنت رجلا، فتجعل أنت صفة للمضمَر.
وإنما قبُح هذا المضمر أن يوصَف لأنه مبدوء به قبل الذي يفسره، والمضمَر المقدَّم قبل ما يفسره لا يوصَف، لأنه إنما ينبغي لهم أن يبينوا ما هو.
فإن قال قائل: هو مضمر مقدم، وتفسيره عبد الله بدلا منه محمولا على نعمَ، فأنت قد تقول عبد الله نعمَ رجلا، فتبدأ به، ولو كان نعمَ يصير لعبد الله لما قلت عبدُ الله نعمَ الرجلُ فترفعه، فعبد الله ليس من نعمَ في شيء، والرجل هو عبدُ الله ولكنه منفصلٌ منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه. فهذا تقديره وليس معناه كمعناه.
ويدلك على أن عبد الله ليس تفسيرا للمضمَر أنه لا يعمل فيه نعمَ بنصبٍ ولا رفع ولا يكون عليها أبدا في شيء.
واعلم أن نعمَ تؤنث وتذكر، وذلك قولك: نعمتِ المرأةُ، وإن شئت قلت: نعمَ المرأةُ، كما قالوا ذهبَ المرأة. والحذفُ في نعمت أكثر.

(2/178)


واعلم أنك لا تُظهر علامةَ المضمرين في نعمَ، لا تقول: نِعْموا رجالا، يكتفون بالذي يفسره كما قالوا مررتُ بكلٍّ. وقال الله عزّ وجلّ: " وكلٌّ آترهُ داخرين "، فحذفوا علامة الإضمار وألزموا الحذف، كما ألزموا نِعمَ وبئسَ الإسكان، وكما ألزموا خُذ الحذف، ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.
وأصلُ نعمَ وبئسَ: نعم وبئسَ، وهما الأصلان اللذان وُضعا في الرداءة والصلاح، ولا يكونُ منهما فعلٌ لغير هذا المعنى.
واما قولهم: هذه الدار نعمتِ البلدُ فإنه لما كان البلد الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أمَّك، وما جاءت حاجتَك.
ومن قال نعمَ المرأةُ قال نعمَ البلدُ، وكذلك هذا البلد نعمَ الدارُ، لما كانت البلد ذُكّرتْ. فلزم هذا في كلامهم لكثرته، ولأنه صار كالمثَل، كما لزمت التاء في ما جاءت حاجتَ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو لبعض السَّعْدِيِّينَ:

(2/179)


هل تعرفُ الدار يعفّيها المُورْ ... والدّجْنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
لكلّ ريحٍ فيه ذيلٌ مسفورْ فقال فيه لأن الدارَ مكانٌ، فحمله على ذلك.
وزعم الخليل رحمه الله أن حبّذا بمنزلة حبّ الشيء، ولكن ذا وحب بمنزلة كلمة واحدة نحو لولا، وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابنَ عمَّ، فالعمُّ مجرورٌ، ألا ترى أنك تقول للمؤنث حبذا ولا تقول حبّذهِ، لأنه صار مع حب على ما ذكرتُ لك، وصار المذكر هو اللازم، لأنه كالمثَل.
وسألتُه عن قوله: وهو الراعي:
فأومأْتُ إيما خَِفَّيا لحبترٍ ... وللهِ عَيْنَا حبترٍ أيُّما فَتَى
فقال: أيما تكون صفة للنكرة، وحالا للمعرفة، وتكون استفهاماً

(2/180)


مبنيا عليها ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك أتَوْني إلا زيدا. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيما رجلٍ، ولا أتَوْني إلا أيما رجلٍ، فالنصبُ في: لي مثلُه رجلا، كالنصب في عشرين رجلا.
فأيما لا تكون في الاستثناء، ولا يختص بها نوع من الأنواع، ولا يُفسَّر بها عدد.
وأيما فتى استفهامٌ. ألا ترى أنك تقول سُبحان الله مَن هو وما هو فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبرا لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول مَن هو وتسكت.
وأما أحدٌ وكَرّابٌ وأرمٌ وكَتيعٌ وعريبٌ، وما أشبه ذلك، فلا يقعن واجباتٍ ولا حالا ولا استثناء، ولا يُستخرج به نوعٌ من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم إذا قلت عشرون درهما، ولكنهن يقعن في النفى مبنيا عليهن ومبنية على غيرهن. فمن ثم تقول: ما في الناس مثلُه أحدٌ، حملتَ أحدا على مثل ما حملت عليه مثلا. وكذلك ما مررت بمثلِك أحدٍ، وقد فسرنا لمَ ذلك. فهذه حالُها كما كانت تلك حال أيما.
فإذا قلت: له عسلٌ ملءُ جرة، وعليه دَينٌ شَعَرُ كلبين، فالوجهُ الرفع، لأنه وصفٌ. والنصب يجوز كنصب عليه مائةٌ بيضا بعد التمام.
وإن شئت قلت: لي مثلُه عبدٌ، فرفعتَ. وهي كثيرة في كلام العرب. وإن شئت رفعتَه على أنه صفةٌ وإن شئت كان على البدل.
فإذا قلت: عليها مثلُها زُبدٌ، فإن شئت رفعت على البدل، وإن

(2/181)


شئت رفعت على قوله ما هو؟ فتقول: زبدٌ، أي هو زُبدٌ. ولا يكون الزبد صفة لأنه اسم. والعبد يكون صفة، وتقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وهو قبيح لأنه اسم.
؟

هذا باب النداء
اعلم أن النداء، كل اسم مضاف فيه فهو نصبٌ على إضمار الفعل المتروك إظهارُه. والمفرد رفعٌ وهو في موضع اسمٍ منصوب.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم نصبوا المضافَ نحو يا عبدَ الله ويا اخانا، والنكرة حين قالوا: يا رجلا صالحا، حين طال الكلام، كما نصبوا: هو قبلَك

(2/182)


وهو بعدَك. ورفعوا المفردَ كما رفعوا قبلُ وبعدُ وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيدُ ويا عمرو. وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبلُ.
قلت: أرأيتَ قولهم يا زيدُ الطويلَ علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفةٌ لمنصوب. وقال: وإن شئت كان نصبا على أعني.
فقلت: أرأيتَ الرفعَ على أي شيء هو إذا قال يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفةٌ لمرفوع.
قلت: ألستَ قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلمَ لا يكون كقوله لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبدا، وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجرورا، فلما اطرد الرفعُ في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفَه إذا كان مفردا بمنزلته.
قلت: أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيدُ أَخا ورقاءَ إن كنتَ ثائراً ... فقد عرضَتْ أحناءُ حقٍ فخاصمِ

(2/183)


لأي شيء لم يجز فيه الرفعُ كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد؛ وهذا لحنٌ. فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته، لأنه هنا وصفٌ لمنادى في موضع نصبٍ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب، ولم يكن فيه ما كان في الطويل لطوله.
وقال الخليل رحمه الله: كأنهم لما أضافوا ردوه إلى الأصل. كقولك: إن أمسَك قد مضى.
وقال الخليل رحمه الله وسألته عن يا زيد نفسَه، ويا تميمُ كلَّكم، ويا قيسُ كلَّهم، فقال: هذا كله نصبٌ، كقولك: يا زيدُ ذا الجُمّة. وأما يا تميمُ أجمعون فأنته فيه بالخيار، إن شئت قلت أجمعون، وإن شئت قلت أجميعن، ولا ينتصب على أعنى، من قبل أنه مُحال أن تقول أعني أجمعين. ويدلك على أن أجمعين ينتصب لأنه وصفٌ لمنصوب قول يونس: المعنى في الرفع والنصب واحدٌ. وأما المضاف في الصفة فهو ينبغي له أن لا يكون إلا نصبا إذا كان المفردُ ينتصب في الصفة.
قلت: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا أقبل؟ قال: عطفوه على هذا

(2/184)


المنصوب فصار نصبا مثله، وهو الأصل، لأنه منصوب في موضع نصبٍ. وقال قوم: يا أخانا زيدُ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله: وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قولُه يا زيدُ أخانا بمنزلة يا أخانا، فيُحملُ وصفُ المضاف إذا كان مفرَداً بمنزلته إذا كان منادى. ويا اخانا زيدا أكثرُ في كلام العرب؛ لأنهم يردونه إلى الأصل حيث أزالوه عن الموضع الذي يكون فيه منادى، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ إلى أصله، وكما ردوا أتقولُ حين جعلوه خبرا إلى أصله. فأما المفرد إذا كان منادى فكلُ العرب ترفعه بغير تنوين، وذلك لأنه كثُر في كلامهم، فحذفوه وجعلوه بمنزلة الأصوات نحو حَوب وما أشبهه.
وتقول: يا زيدُ زيدُ الطويل، وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول يا زيدُ زيدا الطويلَ. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يا زيدُ الطويلٌ، وتفسيره كتفسيره. وقال رؤبة:
إنَّي وأسطارٍ سُطِرنَ سَطْرَا ... لَقائلٌ يا نصرُ نَصْراً نَصْرَا

(2/185)


وأما قول رؤبة فعلى أنه جعل نصرا عطفَ البيان ونصبَه، كأنه على قوله يا زيدُ زيدا. وأما قول أبي عمرو فكأنه استأنف النداء. وتفسير يا زيدُ زيدُ الطويلُ كتفسير يا زيدُ الطويلُ، فصار وصفُ المفرد إذا كان مفردا بمنزلته لو كان منادى. وخالف وصف أمسِ لأن الرفع قد اطرد في كل مفردٍ في النداء. وبعضُهم ينشد: ين نصرُ نصرُ نَصْرَا وتقول: يا زيدُ وعمرو، ليس إلا لأنهما قد اشتركا في النداء في قوله يا. وكذلك يا زيدُ وعبد الله، ويا زيدُ لا عمرو، ويا زيدُ أو عمرو؛ لأن هذه الحروف تُدخل الرفعَ في الآخِر كما تدخل في الأول، وليس ما بعدها بصفة، ولكنه على يا.
وقال الخليل رحمه الله من قال يا زيدُ والنّضْرَ فنصب، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُردّ فيها الشيء إلى أصله. فأما العرب فأكثر

(2/186)


ما رأيناهم يقولون: يا زيدُ والنضرُ. وقرأ الأعرج: " يا جِبالُ أوبي معه والطيرُ ". فرفع.
ويقولون: يا عمرو والحارثُ، وقال الخليل رحمه الله: هو القياس، كأنه قال: ويا حارثُ. ولو حمل الحارثُ على يا كان غيرَ جائز البتة نصب أو رفع، من قبل أنك لا تنادى اسما فيه الألفُ واللام بيا، ولكنك أشركت بين النضر والأول في يا، ولم تجعلها خاصة للنضر، كقولك ما مررت بزيد وعمرو، ولو أردت عملين لقلت ما مررتُ بزيد ولا مررتُ بعمرو.
وقال الخليل رحمه الله: ينبغي لمن قال النّضرَ فنصب، لأنه لا يجوز يا النضرُ، أن يقول: كلُّ نعجةٍ وسخلتها بدرهمٍ فينصب، إذا أراد لغة من يجر، لأنه محال أن يقول كل سخلتها، وإنما جر لأنه أراد وكلُّ سخلةٍ لها. ورفع ذلك لأن قوله والنضرُ بمنزلة قوله ونضرُ، وينبغي أن يقول: أيُّ فَتَى هَيْجاءَ أنتَ وجارَها لأنه محالٌ أن يقول وأيُّ جارِها.
وينبغي أن يقول: رُبّ رجلٍ وأخاه. فليس ذا من قبل ذا، ولكنها

(2/187)


حروفٌ تُشرك الآخِر فيما دخل فيه الأول. ولو جاءت تلى ما وليه الاسم الأول كان غير جائز؛ لو قلت: هذا فصيلها لم يكن نكرة كما كان هذه ناقة وفصيلها. وإذا كان مؤخَّراً دخل فيما دخل فيه الأول.
وتقول: يا أيها الرجل وزيدُ، ويا أيها الرجلُ وعبدَ الله؛ لأن هذا محمول على يا، كما قال رؤبة: يا دارَ عفراءَ ودارَ البَخدَنِ وتقول يا هذا ذا الجمة، كقولك: يا زيدُ ذا الجمة، ليس بين أحدٍ فيه اختلاف.