الكتاب لسيبويه ؟
باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا
ولا يقع في موقعه غيرُ المفرد
وذلك قولك، يا أيها الرجلُ، ويا أيها الرجلان، ويا أيها المرأتان.
فأىُّ ههنا فيما زعم الخليل رحمه الله كقولك يا هذا، والرجل وصفٌ له
كما يكون وصفا لهذا. وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا
تستطيع أن تقول يا أيُّ ولا يا أيها وتسكت، لأنه مبهَم يلزمه التفسيرُ،
فصار هو والرجل بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت يا رجل.
(2/188)
واعلم أن الأسماء المبهَمة التي توصَف
بالأسماء التي فيها الألف واللام تُنزَل بمنزلة أى، وهي هذا وهؤلاء
وأولئك وما أشبهها، وتوصَف بالأسماء. وذلك قولك، يا هذا الرجلُ، ويا
هذان الرجلان. صار المبهَم وما بعده بمنزلة اسمٍ واحد.
وليس ذا بمنزلة قولك يا زيدُ الطويل، من قبل أنك قلت يا زيدُ وأنت تريد
أن تقف عليه، ثم خِفْتَ أن لا يُعرف فنعته بالطويل. وإذا قلت يا هذا
الرجل، فأنت لم ترد أن تقف على هذا ثم تصفه بعد ما تظن أنه لم يُعرف،
فمن ثم وُصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام، لأنها والوصف بمنزلة
اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
فهذه الأسماء المبهمة إذا فسرتها تصير بمنزلة أى، كأنك إذا أردت أن
تفسرها لم يجزْ لك أن تقف عليها. وإنما قلت: يا هذا ذا الجمة، لأن
(2/189)
ذا الجمة لا توصف به الأسماء المبهمة، إنما
يكون بدلا أو عطفا على الاسم إذا أردت أن تؤكد، كقولك: يا هؤلاء
أجمعون، وإنما أكدت حين وقفتَ على الاسم. والألف واللام والمبهَم
يصيران بمنزلة اسم واحد، يدلك على ذلك أن أي لا يجوز لك فيها أن تقول
يا أيها ذا الجُمّة. فالأسماء المبهمة توصَف بالألف واللام ليس إلا،
ويفسَّر بها، ولا توصَف بما يوصف به غير المبهمة، ولا تفسَّر بما يفسر
به غيرها إلا عطفا. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو ابن لَوذان السدوسى:
يا صاحِ يا ذا الضامر العنْس ... والرّحْلِ ذي الأنساع والحِلسِومثله
قول ابن الأبرص:
(2/190)
يا ذا المخوّفُنا بمَقْتَلِ شيخِه ...
حُجرٍ تَمَنَّيَ صاحبِ الأحلامِ
ومثله يا ذا الحسن الوجه. وليس ذا بمنزلة يا ذا ذا الجمة، من قبل أن
الضامر العنسِ والحسن الوجه كقولك: يا ذا الضامر ويا ذا الحسن، وهذا
المجرور ها هنا بمنزلة المنصوب إذا قلت يا ذا الحسن الوجه، ويا ذا
الحسنُ وجها. ويدلك على أنه ليس بمنزلة ذى الجمة، أن ذا معرفة بالجمة،
والضامرُ والحسن ليس واحدٌ منهما معرفة بما بعده، ولكن ما بعده تفسيرٌ
لموضع الضمور والحُسن، إذا أردت أن لا تُبهمهما. فكل واحد من المواضع
من سبب الأول، لا يكونان إلا كذلك. فإذا قلت الحسن فقد عمّمتَ. فإذا
قلت الوجهِ فقد اختصصت شيئاً منه. وإذا قلت الضامرُ فقد عمّمت، وإذا
قلت العنس فقد اختصصتَ شيئا من سببه كما اختصصت ما كان منه، وكأن
العنسَ شيءٌ منه، فصار هذا تبيينا لموضع ما ذكرتَ كما صار الدرهمُ
يبيَّن به مم العشرون، حين قلت: عشرون درهما.
ولو قلت: يا هذا الحسن الوجه، لقلت يا هؤلاء العشرين رجلا، وهذا بعيد،
فإنما هو بمنزلة الفعل إذا قلت يا هذا الضارب زيدا، ويا هذا الضارب
الرجلَ، كأنك قلت يا هذا الضارب، وذكرت ما بعده لتبين موضع الضرب ولا
تبهمه، ولم يُجعَل معرفة بما بعده. ومن ثم كان الخليل يقول: يا زيد
الحسنُ الوجه، قال: هو بمنزلة قولك يا زيدُ الحسن. ولو لم يجز فيما بعد
زيد الرفع لما جاز في هذا، كما أنه إذا لم يجز يا زيد ذو الجمة لم يجز
يا هذا ذو الجمة.
(2/191)
وقال الخليل رحمه الله: إذا قلت يا هذا
وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكونُ عطفا عليه، فأنت فيه
بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت، وذلك قولك يا هذا زيد، وإن شئت قلت
زيدا، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين. وكذلك يا هذان زيدٌ وعمرو،
وإن شئت قلت زيدا وعمرا، فتُجري ما يكون عطفا على الاسم مُجرى ما يكون
وصفا، نحو قولك: يا زيدُ الطويلُ ويا زيدُ الطويلَ.
وزعم لي بعض العرب أن يا هذا زيدٌ كثير في كلام طيّء.
ويقوى يا زيد الحسنُ الوجه - ولا تلتفتْ فيه إلى الطول - أنك لا تستطيع
أن تناديه فتجعله وصفا مثلَه منادى.
واعلم أن هذه الصفات التي تكون والمبهمة بمنزلة اسم واحد، إذا وُصفت
بمضاف أو عُطف على شيء منها، كان رفعا، من قبل أنه مرفوع غيرُ منادى.
واطرد الرفع في صفات هذه المبهمة كاطراد الرفع في صفاتها إذا ارتفعت
بفعلٍ أو ابتداء، أو تبنى على مبتدإ، فصارت بمنزلة صفاتها إذا كانت في
هذه الحال. كما أن الذين قالوا يا زيدُ الطويل جعلوا زيداً مبنزلة ما
يرتفع بهذه الأشياء الثلاثة. فمن ذلك قول الشاعر: يا أَيُّها الجاهلُ
ذو التَّنزِّى
(2/192)
وتقول: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ، وإنما
تنون لأنه موضعٌ يرتفع فيه المضاف، وإنما يُحذف منه التنوين إذا كان في
موضع ينتصب فيه المضاف.
وتقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة، إذا جعلته صفة للطويل، وإن حملته على
زيد نصبت. فإذا قلت يا هذا الرجلُ فأردتَ أن تعطف ذا الجمة على هذا جاز
فيه النصب، ولا يجوز ذلك في أي لأنه لا تعطف عليه الأسماء. ألا ترى أنك
لا تقول: يا أيها ذا الجمة، فمن ثم لم يكن مثله.
وأما قولك يا أيها ذا الرجل، فإن ذا وصفٌ لأي كما كان الألف واللام
وصفا لأنه مبهَم مثله، فصار صفة له كما صار الألف واللام وما أضيف
إليهما صفة للألف واللام؛ وذلك نحو قولك: مررتُ بالحسن الجميل، وبالحسن
ذي المال. وقال ذو الرمة:
أَلا أَيُّها ذا المنزلُ الدارِسُ الذي ... كأنك لم يَعْهَدْ بك الحيَّ
عاهدُ
ومن قال يا زيدُ الطويلَ قال ذا الجمة، لا يكون فيه غيرُ ذلك إذا جاء
بها من بعد الطويل. وإن رفع الطويلَ وبعده ذو الجمة كان فيه الوجهان.
وتقول: يا زيدُ الناكي العدوَّ وذا الفضل، إن حملتَ ذا الفضل على زيد
نصبتَ، لأنه وصفٌ لمنادى وهو مضاف. وإن حملته على غير زيد انتصب على يا
كأنك قلت: ويا ذا الفضل.
(2/193)
؟
هذا باب
ما ينتصب على المدح والتعظيم أو الشتم
لأنه لا يكون وصفا للأول ولا عطفا عليه وذلك قولك: يا أيها الرجل وعبدَ
الله المسلمَين الصالحَين. وهذا بمنزلة قولك: اصنعْ ما سر أباك وأحب
أخوك الرجلين الصالحين. فإذا قلت يا زيد وعمرو ثم قلت الطويلين، فأنت
بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت؛ لأنه بمنزلة قولك يا زيدُ الطويلُ.
وتقول: يا هؤلاء وزيدُ الطّوالُ والطوالَ؛ لأنه كله رفعٌ، والطوالُ ها
هنا رفع عطف عليهم.
وتقول: يا هذا ويا هذان الطوالَ، وإن شئت قلت الطوالُ، لأن هذا كله
مرفوع والطوالُ ههنا عطفٌ، وليس الطوالُ بمنزلة يا هؤلاء الطوالُ، لأن
هذا إنما هو من وصف غير المبهَمة.
وإنما فرقوا بين العطف والصفة لأن الصفة تجيء بمنزلة الألف واللام،
كأنك إذا قلت مررتُ بزيدٍ أخيك فقد قلت مررتُ بزيد الذي تعلم. وإذا قلت
مررت بزيد هذا فقد قلت بزيدٍ الذي ترى أو الذي عندك.
وإذا قلت مررتُ بقومك كلهم، فأنت لا تريد أن تقول مررتُ بقومك الذين من
صفتهم كذا وكذا، ولا مررتُ بقومك الهَنينَ.
وعلى هذا المثال جاء مررتُ بأخيك زيدٍ، فليس زيدٌ بمنزلة الألف واللام.
ومما يدلك على أنه ليس بمنزلة الألف واللام أنه معرفةٌ بنفسه
(2/194)
لا بشيء دخل فيه ولا بما بعده. فكل شيء جاز
أن يكون هو والمبهَم بمنزلة اسم واحد هو عطفٌ عليه. وإنما جرت المبهَمة
هذا المجرى لأن حالها ليس كحال غيرها من الأسماء.
وتقول يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين، من قبل أن رفعهما مختلف؛
وذلك أن زيدا على النداء والرجل نعت، ولو كان بمنزلته لقلت يا زيدُ ذو
الجُمة، كما تقول يا أيها الرجل ذو الجمة. وهو قول الخليل رحمه الله.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادى اسما فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم
قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام
لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كان الألف واللام فيه بمنزلة الألف
واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي
قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسما بمنزلة زيد وعمرو
غالبا. ألا ترى أنك تقول يا أيها الذي قال ذاك، ولو كان اسما غالبا
بمنزلة زيد وعمرو لم يجز ذا فيه، وكأن الاسم والله أعلمُ إلهٌ، فلما
أُدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلَفاً منها.
فهذا أيضا مما يقويه أن يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف.
(2/195)
ومثل ذلك أناسٌ، فإذا أدخلت الألف واللام
قلت الناس؛ إلا أن الناس قد تفارقهم الألف واللام ويكون نكرة، واسمُ
الله تبارك وتعالى لا يكون فيه ذلك.
وليس النجم والدبرانُ بهذه المنزلة؛ لأن هذه الأشياء الألف واللام فيها
بمنزلتها في الصعق، وهي في اسم الله تعالى بمنزلة شيء غير منفصل في
الكلمة، كما كانت الهاء في الجحاجحة بدلا من الياء، وكما كانت الألف في
يَمانٍ بدلا من الياء.
وغيروا هذا لأن الشيء إذا كثُر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره مما هو
مثلُه. ألا ترى أنك تقول: لم أكُ ولا تقول لم أقُ، إذا أردت أقُلْ.
وتقول: لا أدرِ كما تقول: هذا قاضٍ، وتقول لم أُبَل ولا تقول لم أرَمْ
تريد لم أُرامِ. فالعرب مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره.
وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداءٌ والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها
هنا فيما زعم الخليل رحمه الله آخرَ الكلمة بمنزلة يا في أولها، إلا أن
الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها.
فالميم في هذا الاسم حرفان أولُهما مجزومٌ، والهاء مرتفعةٌ لأنه وقع
عليها الإعراب.
وإذا ألحقتَ الميم تصف الاسم، من قبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة
صوتٍ كقولك: يا هناهْ.
وأما قوله عز وجلّ: " اللهمّ فاطرَ السموات والأرض " فعلى يا،
(2/196)
فقد صرفوا هذا الاسم على وجوه لكثرته في
كلامهم، ولأن له حالا ليست لغيره.
وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أي توكيدا، فكأنك كررت يا مرتين إذا
قلت: يا أيها، وصار الاسم بينهما كما صار هو بين ها وذا إذا قلت ها هو
ذا. وقال الشاعر:
مِنَ أجْلِكَ يا التي تيّمتِ قلبي ... وأنتِ بخيلةٌ بالوُدِّ عَنِّى
شبهه بيا الله.
وزعم الخليل رحمه الله أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء
من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا
فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيها الفاسقُ ويا أيها الرجل، وصار معرفة لأنك
أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء
التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه ذلك، وصار معرفة بغير ألف ولام لأنك
إنما قصدت قصدَ شيء بعينه. وصار هذا بدلا في النداء من الألف واللام،
واستُغني به عنهما كما استغنيت بقولك اضربْ عن لتضربْ،
(2/197)
وكما صار المجرور بدلا من التنوين، وكما
صارت الكاف في رأيتك بدلا من رأيتُ إياكَ.
وإنما يُدخلون الألف واللام ليعرفوك شيئا بعينه قد رأيتَه أو سمعت به،
فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحدا من أمة،
فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في
النداء.
ومما يدلك على أن يا فاسقُ معرفة قولك: يا خباثِ ويا لَكاعِ ويا فساقِ،
تريد يا فاسقةُ ويا خبيثةُ ويا لَكعاءُ، فصار هذا اسما لهذا كما صارت
جَعار اسما للضّبُع، وكما صارت حَذام ورقاش اسما للمرأة، وأبو الحارث
اسما للأسد.
ويدلك على أنه اسم للمنادى أنهم لا يقولون في غير النداء جاءتني خَباثِ
ولَكاعِ، ولا لُكَع ولا فُسَقُ. فإنما اختُصّ النداء بهذا الاسم أن
الاسم معرفة، كما اختُص الأسد بأبى الحارث إذ كان معرفة. ولو كان شيء
من هذا نكرة لم يكن مجرورا؛ لأنها لا تُجرّ في النكرة.
ومن هذا النحو أسماء اختُص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير
النداء، نحو: يا نومانُ، ويا هناء، ويا فل.
(2/198)
ويقوى ذلك كله أن يونس زعم أنه سمع من
العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ.
ومما يقوى أنه معرفة تركُ التنوين فيه، لأنه ليس اسمٌ يشبه الأصوات
فيكون معرفة إلا لم ينون، وينون إذا كان نكرة. ألا ترى أنهم قالوا هذا
عمرَوَيْهِ وعمرَوَيهٍ آخرُ.
وقال الخليل رحمه الله: إذا أردت النكرة فوصفتَ أو لم تصف فهذه منصوبة؛
لأن التنوين لحقها فطالت، فجُعلت بمنزلة المضاف لما طال نُصب ورُدّ إلى
الأصل، كما فُعل ذلك بقبلُ وبعدُ.
وزعموا أن بعض العرب يصرف قبلا وبَعْداً فيقول: ابدأ بهذا قَبلاً،
فكأنه جعلها نكرة.
فإنما جعل الخليل رحمه الله المنادى بمنزلة قبل وبعد، وشبهه بهما
مفردين إذا كان مفردا، فإذا طال وأضيف شبهه بهما مضافين إذا كان مضافا،
لأن المفرد في النداء في موضع نصبٍ، كما أن قبلُ وبعدُ قد يكونان في
موضع نصب وجر ولفظُهما مرفوع، فإذا أضفتهما رددتَهما إلى الأصل. وكذلك
نداء النكرة لما لحقها التنوين وطالت، صارت بمنزلة المضاف. وقال ذو
الرمة:
أَدَارًا بحُزوى هِجْتِ للعين عَبرةً ... فماءُ الهَوَى يرفَضُّ أَو
يترقْرَق
(2/199)
وقال الآخر، توبةُ بن الحُميّر:
لعَلَكَ يا تَيْساً نَزَا في مريرةٍ ... مُعذّبُ لَيْلَى أَنْ تَرانى
أَزورُهاَ
وقال عبدُ يغوث:
فيا راكباً إمّا عرَضْتَ فبلّغنَ ... ندامايَ من نجرانَ أنْ لا
تَلاَِقياَ
وأما قول الطّرِمّاح:
(2/200)
يا دارُ أَقْوَت بعدَ أصرامِها ... عاماً
وما يَعْنيكَ من عامِهاَ
فإنما ترك التنوين فيه لأنه لم يجعل أقوَتْ من صفة الدار، ولكنه قال:
يا دارُ، ثم أقبل بعدُ يحدث عن شأنها، فكأنه لما قال: يا دارُ، أقبل
على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكأنه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا
فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوتْ ليس بصفة.
ومثل ذلك قول الأحوص:
يا دارُ حسرَها البِلى تَحْسيراَ ... وسَفتْ عليها الريحُ بعدكَ مُورا
وأما قول الشاعر، لعمرو بن قِنعاس:
أَلاَ يا بيتُ بالعَلْياءِ بيتُ ... ولولا حبُّ أَهْلِكَ ما أتيتُ
(2/201)
فإنه لم يجعل بالعلياء وصفا، ولكنه قال:
بالعلياء لي بيتٌ، وإنما تركتُه لك أَيُّها البيتُ لحبِّ أَهله.
وأما قول الأحوص:
سلامُ الله يَا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ ياَ مطرُ السلامُ
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف، لأنه بمنزلة اسم لا ينصرف،
وليس مثل النكرة؛ لأن التنوين لازمٌ للنكرة على كل حال والنصبَ. وهذا
بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين اضطرارا؛ لأنك أردت في حال
التنوين في مطرٍ ما أردت حين كان غير منون، ولو نصبتَه في حال التنوين
لنصبته في غير حال التنوين، ولكنه اسم اطرد الرفعُ فيه وفي أمثاله في
النداء، فصار كأنه يُرفع بما يرفع من الأفعال والابتداء، فلما لحقه
التنوين اضطرارا لم يغيَّر رفعه كما لا يغير رفع ما لا ينصرف إذا كان
في موضع رفع، لأن مطرا وأشباهه في النداء بمنزلة ما هو في موضع رفع،
فكما
(2/202)
لا ينتصب ما هو في موضع رفع كذلك لا ينتصب
هذا.
وكان عيسى بن عمر يقول يا مطراً، يشبّه بقوله يا رجلا، يجعله إذا نُوّن
وطال كالنكرة. ولم نسمع عربيا يقوله، وله وجه من القياس إذا نُوّن وطال
كالنكرة.
ويا عشرين رجلا كقولك: يا ضاربا رجلا.
؟
هذا باب
ما يكون الاسمُ والصفة فيه بمنزلة اسم واحد
ينضمّ فيه قبل الحرف المرفوع حرفٌ، وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي
ينضم قبل المرفوع، وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف. وهو ابْنُمٌ
وامرؤٌ. فإن جررت قلت: في ابنِمٍ وامرئٍ، وإن نصبت قلت: ابنَماً
وامرَأً، وإن رفعت قلت: هذا ابنُمٌ وامرُؤٌ.
ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمرو. وقال الراجز، وهو من بنى الحِرماز:
يا حكمَ بنَ المنذرِ بنِ الجارودْ
(2/203)
وقال العجاج: يا عمرَ بنَ معمرٍ لا
منتَظَرْ وإنما حملهم على هذا أنهم أنزلوا الرفعة التي في قولك زيد
بمنزلة الرفعة في راء امرئ، والجرة بمنزلة الكسرة في الراء والنصبة
كفتحة الراء وجعلوه تابعا لابن. ألا تراهم يقولون: هذا زيدُ بنُ عبد
الله، ويقولون: هذه هندُ بنتُ عبد الله فيمن صرف، فتركوا التنوين ها
هنا لأنهم جعلوه بمنزلة اسم واحد لما كثُر في كالمهم، فكذلك جعلوه في
النداء تابعا لابن.
وأما مَن قال: يا زيدُ بنَ عبد الله، فإنه إنما قال هذا زيدُ بنُ عبد
الله وهو لا يجعله اسما واحدا، وحذف التنوين لأنه لا ينجزم حرفان.
فإن قلت: هلا قالوا: هذا زيدُ الطويلُ؟ فإن القول فيه أن تقول جُعل هذا
لكثرته في كلامهم بمنزلة قولهم: لَدُ الصلاة، حذفها لأنه لا ينجزم
حرفان ولم يحركها. واختُصّ هذا الكلام بحذف التنوين لكثرته كما اختُصّ
لا أدرِ ولم أُبَلْ لكثرتهما. ومن جعله بمنزلة لَدُنْ فحذفه لالتقاء
(2/204)
الساكنين ولم يجعله بمنزلة اسم واحد قال:
هذه هندٌ بنتُ فلان.
وزعم يونس أنها لغةٌ كثيرة في العرب جيدة.
وأما زيدُ ابنَ أخينا فلا يكون إلا هكذا، من قبل أنك تقول: هذا زيدٌ
ابنُ أخينا، فلا تجعله اسما واحدا كما تقول هذا زيدٌ أخونا. وزيدٌ في
قولك يا زيدُ بنَ عمرو في موضع نصب، كما أن الأم في موضع جر في قولك:
يا ابنَ أمَّ، ولكنه لفظه كما ذكرت لك، وهو على الأصل.
؟
باب يكرر فيه الاسم في حال الإضافة
ويكون الأول بمنزلة الآخر وذلك قولك: يا زيدَ زيدَ عمرٍو، ويا زيدَ
زيدَ أخينا ويا زيدَ زيدَنا.
زعم الخليل رحمه الله ويونس أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة. وقال
جرير:
يا تَيْمَ تيمَ عَديّ لا أبا لكمُ ... لا يُلقيَنّكمُ في سَودةٍ عمرُ
وقال بعض ولدِ جرير:
(2/205)
يا زيدَ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ وذلك
لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصبا، فلما كرروا
الاسمَ توكيدا تركوا الأول على الذي كان يكون عليه لو لم يكرروا.
وقال الخليل رحمه الله: هو مثلُ لا أبالك، قد علم أنه لو لم يجئ بحرف
الإضافة قال أباكَ، فتركه على حاله الأولى؛ واللام وها هنا بمنزلة
الاسم الثاني في قوله: يا تيمَ تيمَ عديّ، وكذلك قول الشاعر إذا
اضطُرّك
(2/206)
يا بؤسَ للحَرب إنما يريد: يا بؤسَ الحرب.
وكأن الذي يقول: يا تيمَ تيم عَديّ لو قاله مضطَرّاً على هذا الحد في
الخبر لقال: هذا تيمُ تيمُ عدىًّ.
قال: وإن شئت قلت يا تيمُ تيمُ عدىًّ، كقولك: يا تيمُ أخانا، لأنك تقول
هذا تيمٌ تيمُ عدى، كما تقول: هذا تيمٌ أخونا.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: يا طلحةَ أقبلْ، يشبه: يا تسمَ تيمَ
عدىٍّ، من قبل أنهم قد علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخرُ الاسم
مفتوحا، فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن
يُلحقوا الهاء. وقال النابغة الذبياني:
كِليِنِى لهَِمّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أُقاسِيه بطيءِ الكواكبِ
فصار يا تيمَ تيمَ عدى اسما واحدا، وكان الثاني بمنزلة الهاء في طلحة،
(2/207)
تحذف مرة ويجاء بها أخرى. والرفع في طلحة،
ويا تيمُ تيمَ عدى القياس.
واعلم أه لا يجوز في غير النداء أن تُذهب التنوين من الاسم الأول،
لأنهم جعلوا الأول والآخِر بمنزلة اسم واحد، نحو طلحةَ في النداء،
واستخفوا بذلك لكثرة استعمالهم إياه في النداء ولا يُجعل بمنزلة ما
جُعل من الغايات كالصوت في غير النداء، لكثرته في كلامهم. ولا يُحذف
هاء طلحة في الخبر فيجوز هذا في الاسم مكررا، يعني طرح التنوين من تيمٍ
تيمِ عدى في الخبر. يقول: لو فُعل هذا بطلحة جاز هذا.
وإنما فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم، ولأن أول الكلام أبدا
النداء، إلا أن تدعه استغناء بإقبال المخاطَب عليك، فهو أول كل كلام لك
به تعطف المكلَّم عليك، فلما كثر وكان الأول في كل موضع، حذفوا منه
تخفيفا؛ لأنهم مما يغيرون الأكثر في كلامهم، حتى جعلوه بمنزلة الأصوات
وما أشبه الأصوات من غير الأسماء المتمكنة، ويحذفون منه، كما فعلوا في
لم أُبَلْ. وربما ألحقوا فيه كقولهم: أُمَّهاتٌ.
(2/208)
ومن قال يا زيدُ الحسنُ قال يا طلحةَ
الحسنُ، لأنها كفتحة الحاء إذا حذفت الهاء. ألا ترى أن من قال يا زيدُ
الكريمُ قال يا سلَمَ الكريمُ.
؟
باب إضافة المنادى إلى نفسك
اعلم أن ياء الإضافة لا تثبت مع النداء كما لم يثبت التنوين في المفرد
لأن ياء الإضافة في الاسم بمنزلة التنوين، لأنها بدل من التنوين، ولأنه
لا يكون كلاما حتى يكون في الاسم، كما أن التنوين إذا لم يكن فيه لا
يكون كلاما، فحُذف وتُرك آخرُ الاسم جرا ليُفصَل بين الإضافة وغيرها،
وصار حذفها هنا لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء.
ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء ولم يكن لُبسٌ في كلامهم
لحذفها وكانت الياء حقيقة بذلك لما ذكرتُ لك، إذ حذفوا ما هو أقل
اعتلالا في النداء، وذلك قولك: يا مومِ لا بأسَ عليكم، وقال الله جل
ثناؤه: " يا عبادِ فاتّقونِ ".
وبعض العرب يقول: يا رَبُّ اغفِرْ لى، ويا قومُ لا تَفعلوا. وثباتُ
الياء فيما زعم يونس في الأسماء.
(2/209)
واعلم أن بقيان الياء لغة في النداء في
الوقف والوصل، تقول: يا غلامي أقبل. وكذلك إذا وقفوا.
وكان أبو عمرو يقول: " يا عِبَادى فاتّقونِ ". وقال الراجز، وهو عبد
الله بن عبد الأعلى القرشي:
وكنت إذ كنتَ إلهي وَحْدَكا ... لم يكُ شيء يا إلِهى قَبْلَكاَ
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف، وسنبين ذلك إن شاء الله، وذلك
قولك: يا ربا تجاوز عنا، ويا غلاما لا تفعل. فإذا وقفت قلت: يا
غُلاماه. وإنما ألحقتَ الهاء ليكون أوضح للألف؛ لأنها خفية. وعلى هذا
النحو يجوز: يا أباه، ويا أُمّاه.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: يا أبَهْ، ويا أبَتِ لا تفعلْ، ويا
أبتاه
(2/210)
ويا أمتاه، فزعم الخليل رحمه الله أن هذه
الهاء مثل الهاء في عمةٍ وخالة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب من يقول: يا أمةُ لا تَفعلى.
ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة وخالة أنك تقول في الوقف: يا
أمة ويا أبَهْ، كما تقول يا خالَهْ. وتقول: يا أمّتاهْ كما تقول يا
خالتاهْ. وإنما يُلزمون هذه الهاء في النداء إذا أضفتَ إلى نفسك خاصة،
كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء، وأرادوا أن لا يخلوا بالاسم حين
اجتمع فيه حذف الياء، وأنهم لا يكادون يقولون يا أباهْ ويا أماه، وهي
قليلة في كلامهم وصار هذا محتملا عندهم لما دخل النداء من التغيير
والحذف، فأرادوا أن يعوضوا هذين الحرفين كما قالوا أيْنُقٌ لما حذفوا
العين رأسا جعلوا الياء عوضا، فلما ألحقوا الهاء في أبَهْ وأمّهْ،
صيروها بمنزلة الهاء التي تلزم الاسم في كل موضع، نحو خالة وعمة.
واختُصّ النداء بذلك لكثرته في كلامهم كما اختُصّ النداء بيا أيها
الرجلُ.
(2/211)
ولا يكون هذا في غير النداء، لأنهم جعلوها
تنبيها فيها بمنزلة يا. وأكدوا التنبيه ب ها حين جعلوا يا مع ها، فمن
ثم لم يجز لهم أن يسكتوا على أي، ولزمه التفسير.
قلت: فلمَ دخلت الهاء في الأب وهو مذكّر.
قال: قد يكون الشيء المذكر يوصَف بالمؤنث ويكون الشيء المذكر له الاسم
المؤنث نحو نَفْس، وأنت تعنى الرجل به. ويكون الشيء المؤنث يوصَف
بالمذكر، وقد يكون الشيء المؤنث له الاسم المذكر. فمن ذلك: هذا رجلٌ
ربْعةٌ وغلامٌ يَفَعةٌ. فهذه الصفات.
والأسماء قولهم: نَفْسٌ، وثلاثة أنفس، وقولهم ما رأيت عينا، يعنى عين
القوم. فكأن أبَهْ اسم مؤنث يقع للمذكر، لأنهما والدان كما تقع العين
للمذكر والمؤنث لأنهما شخصان. فكأنهم إنما قالوا أبوان لأنهم جمعوا بين
أبٍ وأبةٍ، إلا أنه لا يكون مستعمَلاً إلا في النداء إذا عنيت المذكر.
واستغنوا بالأم في المؤنث عن أبة، وكان ذلك عندهم في الأصل على هذا،
فمن ثم جاءوا عليه بالأبوين؛ وجعلوه في غير النداء أباً بمنزلة الوالد،
وكأن مؤنثه أبةٌ كما أن مؤنث الوالد والدة.
ومن ذلك أيضاً قولك للمؤنث: هذه امرأةٌ عَدْلٌ. ومن الأسماء فرَسٌ، هو
للمذكر، فجعلوه لهما، وكذلك عدْل وما أشبه ذلك.
(2/212)
وحدثنا يونس أن بعض العرب يقول: يا أمَّ لا
تفعلى، جعلوا هذه الهاء بمنزلة هاء طلحة إذ قالوا: يا طلحَ أقبلْ؛
لأنهم رأوها متحركة بمنزلة هاء طلحة فحذفوها، ولا يجوز ذلك في غير الأم
من المضاف.
وإنما جازت هذه الأشياء في الأب والأم لكثرتهما في النداء، كما قالوا:
يا صاح في هذا الاسم. وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل،
لأنه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل.
؟ باب ما تضيف إليه ويكون مضافا إليك
قبل المضاف إليه
وتثبت فيه الياء، لأنه غير منادى، وإنما هو بمنزلة المجرور في غير
النداء.
فذلك قولك: يا ابنَ أخي، ويا ابنَ أبي، يصير بمنزلته في الخبر. وكذلك
يا غلامَ غلامي. وقال الشاعر أبو زُبيد الطائي:
يا ابنَ أمي ويا شُقَيّقَ نَفْسِى ... أنتَ خَلَّيْتَني لدهرٍ شديدِ
(2/213)
وقالوا: يا ابنَ أمَّ ويا ابنَ عمَّ،
فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد، لأن هذا أكثرُ في كلامهم من يا ابنَ أبي
ويا غلامَ غلامي. وقد قالوا أيضا: يا ابنَ أمِّ ويا ابنَ عم، كأنهم
جعلوا الأول والآخر اسما، ثم أضافوا إلى الياء، كقولك: يا أحدَ عشرَ
أَقبِلوا. وإن شئت قلتَ: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم.
وعلى هذا قال أبو النجم: يا ابنةَ عمّا لا تلومي واعجَعي واعلم أن كل
شيء ابتدأتُه في هذين البابين أولا فهو في القياس. وجميع ما وصفناه من
هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب.
(2/214)
؟
باب ما يكون النداء فيه مضافا
إلى المنادى بحرف الإضافة
وذلك في الاستغاثة والتعجب، وذلك الحرفُ اللامُ المفتوحة، وذلك قول
الشاعر، وهو مهلهل:
يا لَبكرٍ أنشِروا لي كُليباً ... ويا لَبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
فاستغاث بهم ليُنشروا له كُليباً. وهذا منه وعيد وتهدد. وأما قوله يا
لَبكرٍ أين أينَ الفِرارُ فإنما استغاث بهم لهم، أي لمَ تفرون؟ استطالة
عليهم ووعيدا.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي:
(2/215)
أَلا يا لَقوم لطَيفَ الخَيالِ ...
أَرَّقَ، مِنْ نازِحِ ذى دَلالِ
وقال قيس بن ذريح:
تَكَنَّفنِى الوُشاةُ فأَزْعَجوني ... فيَا لَلناس للْواشى المطاعِ
وقالوا يا لله، يا لَلناس، إذا كانت الاستغاثة. فالواحد والجميع فيه
سواء. وقال الآخر:
يا لَقوم مَن للعُلى والمساعي ... ويا لَقوم مَن للنّدى والسماحِ
(2/216)
ويا لَعطّافنا ويا لَرياح ... وأبِى
الحشرجِ الفَتَى النّفّاحِ
ألا تراهم كيف سووا بين الواحد والجميع.
وأما في التعجّب فقوله، وهو فرار الأسدى: لَخُطّابُ لَيلى يا لَبُرثنَ
منكمُ أدلُّ وأمضى من سُليك المقانبِ وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛
كأنهم راوا أمرا عجبا فقالوا: يا لَبُرثن، أي مثلكم دُعي للعظائم.
وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجبا أو رأوا ماء كثيرا، كانه
يقول: تعالَ يا عجبُ أو تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك.
ومثل ذلك قولهم: يا لَدواهي، أي تعالينَ فإنه لا يُستنكر لكن،
(2/217)
لأنه من أبانكن وأحيانكن.
وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت
يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز.
ولم يلزم في هذا الباب إلا يا للتنبيه؛ لئلا تلتبس هذه اللام بلام
التوكيد كقولك: لَعمرو خيرٌ منك. ولا يكون مكان يا سواها من حروف
التنبيه نحو أي وهَيا وأيا؛ لأنهم أرادوا أن يميزوا هذا من ذلك الباب
الذي ليس فيه معنى استغاثة ولا تعجب.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذه اللام بدلٌ من الزيادة التي تكون في آخر
الاسم إذا أضفتَ، نحو قولك: يا عجَباه ويا بَكراه، إذا استغثتَ أو
تعجبت. فصار كلُ واحد منهما يعاقب صاحبَه، كما كانت هاء الجحاجحة
معاقبة ياء الجحاجيح، وكما عاقبت الألف في يمانٍ الياء في يَمَني.
ونحو هذا في كلامهم كثير، وستراه إن شاء الله عز وجلّ.
؟
باب ما تكون اللام فيه مكسورة
لأنه مدعوّ له ها هنا وهو غير مدعو
وذلك قول بعض العرب: يا لِلعجب ويا لِلماء، وكأنه نبّه بقوله
(2/218)
يا غيرَ الماء للماء. وعلى ذلك قال أبو
عمرو: يا ويلٌ لك ويا ويحٌ لك كأنه نبه إنسانا ثم جعل الويل له. وعلى
ذلك قول قيس بن ذريح: فيا لَلناس للواشي المُطاع يا لقومي لِفرْقةِ
الأحبابِ كسروها لأن الاسم الذي بعدها غير منادى، فصار بمنزلته إذا قلت
هذا لزيدٍ. فاللام المفتوحة أضافت النداء إلى المنادى المخاطَب، واللام
المكسورة أضافت المدعو إلى ما بعده لأنه سببُ المدعو. وذلك أن المدعو
إنما دُعي من أجل ما بعده، لأنه مدعو له.
ومما يدلك على أن اللام المكسورة ما بعدها غيرُ مدعو قوله:
يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سِمعانَ من جارِ
(2/219)
فيا لغير اللعنة.
وتقول: يا لَزيدٍ ولعمرو وإذا لم تجئ بيا إلى جنب اللام كسرتَ ورددتَ
الى الأصل.
؟
هذا باب الندبة
اعلم أن المندوب مدعو ولكنه متفجع عليه، فإن شئت ألحقتَ في آخر الاسم
الألف، لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق
في النداء.
واعلم أن المندوب لابد له من أن يكون قبل اسمه يا أو وا، كما لزم يا
المستغاثَ به والمتعجَّبَ منه.
واعلم أن الألف التي تلحق المندوب تُبتح كلُّ حركة قبلها مكسورة كانت
أو مضمومة لأنها تابعة للألف، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا.
فأما ما تلحقه الألف فقولك: وازيداه، إذا لم تُضف إلى نفسك، وإن أضفتَ
إلى نفسك، فهو سواء، لأنك إذا أضفتَ زيدا إلى نفسك فالدالُ مكسورة وإذا
لم تُضف فالدال مضمومة، ففتحت المكسور كما فتحت
(2/220)
المضموم. ومن قال يا غلامي وقرأ يا عبادي
قال: وازيدِيا إذا أضاف؛ من قبل أنه إنما جاء بالألف فألحقها الياء
وحركها في لغة من جزم الياء؛ لأنه لا ينجزم حرفان، وحركها بالفتح لأنه
لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا.
وزعم الخليل أنه يجوز في الندبة واغلامِيَهْ؛ من قبل أنه قد يجوز أن
أقول واغُلاميَ فأبين الياء كما أبينها في غير النداء، وهي في غير
النداء مبيّنة فيها للغتان: الفتح والوقف. ومن لغة مَن يفتح أن يُلحق
الهاء في الوقف حين يبين الحركة، كما أُلحقت الهاء بعد الألف في الوقف
لأن يكون أوضحَ لها في قولك يا رَبّاه. فإذا بينت الياء في النداء كما
بينتها في غير النداء جاز فيها ما جاز إذا كانت غيرَ نداء. قال الشاعر،
وهو ابن قيس الرُقيّات:
تَبكيهم دَهماءُ مُعولةً ... وتقول سَلْمَى وارَزِيّتِيَهْ
وإذا لم تُلحق الألفَ قلت: وازيدُ إذا لم تُضف، ووازيدِ أذا أضفت، وإن
شئت قلت: وازيدي. والإلحاق وغير الإلحاق عربي فيما زعم الخليل رحمه
الله ويونس.
(2/221)
وإذا أضفت المندوب وأضفتَ إلى نفسك المضاف
إليه المندوبُ فالياء فيه أبدا بينة، وإن شئت ألحقت الألف، وإن شئت لم
تُلحق. وذلك قولك: وانقطاع ظهرياهْ، ووا انقطاعَ ظهرى. وإنما لزمتْه
الياء لأنه غير منادى.
واعلم أنك إذا وصلتَ كلامَك ذهبتْ هذه الهاء في جميع الندبة، كما تذهب
في الصلة إذا كانت تبيَّن به الحركة.
وتقول: واغلامَ زيداه، إذا لم تُضف زيدا إلى نفسك. وإنما حذفت التنوين
لأنه لا ينجزم حرفان. ولم يحركوها في هذا الموضع في النداء إذ كانت
زيادة غير منفصلة من الاسم، فصارت تعاقب، وكانت أخفَّ عليهم، فهذا في
النداء أحرى، لأنه موضع حذف. وإن شئت قلت: واغلامَ زيد، كما قلت
وازيدُ.
وزعموا أن هذا البيت يُنشَد على وجهين، وهو قول رؤبة:
(2/222)
فهْي تُنادي بأبِى وابْنِيما ويروى: بأَباَ
وابناَما، فما فضلٌ، وإنما حكى نُدبتَها.
واعلم أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياءَ الإضافة في النداء لم تحذف
أبدا ياء الإضافة ولم يُكسر ما قبلها، كراهية للكسرة في الياء، ولكنهم
يلحقون ياءَ الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان. وإذا ندبت فأنت
بالخيار: إن شئت ألحقت الألفَ وإن لم تُلحق جاز كما جاز ذلك في غيره.
وذلك قولك: واغلامَيّاهْ وواقاضياهْ، وواغلاميّ وواقاضيّ، يصير مجراه
ها هنا كمجراه في غير الندبة، إلا أن لك في الندبة أن تلحق الألف.
وكذلك الألف إذا أضفتها إليك مجراها في الندبة كمجراها في الخبر إذا
أضفت إليك.
وإذا وافقت ياء الإضافة ألفا لم تحرَّك الألف، لأنها إن حرِّكت صارت
ياء، والياء لا تدخلها كسرةٌ في هذا الموضع. فلما كان تغييرهم إياها
يدعوهم إلى ياء أخرى وكسرة تركوها على حالها كما تُركت ياء قاضي، إذ لم
يخافوا التباسا وكانت أخف، وأثبتوا ياء الإضافة ونصبوها لأنه لا ينجزم
حرفان. فإذا ندبت فأنت بالخيار إن شئت ألحقت الألف كما ألحقتها في
الأول وإن شئت لم تُلحقها، وذلك قولك: وامُثنّاياه وامُثنّاي. فإن لم
تُضف الى
(2/223)
نفسك قلت: وا مُثنّاه، وتحذف الأول لأنه لا
ينجزم حرفان ولم يخافوا التباسا: فذهبتْ كما تذهب في الألف واللام، ولم
يكن كالياء لأنه لا يدخلها نصبٌ.
؟ باب تكون ألفُ الندبة فيه تابعة لما قبلها
إن كان مكسورا فهي ياء، وإن كان مضموما فهي واو.
وإنما جعلوها تابعة ليفرقوا بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجميع،
وذلك قولك: واظهْرَهُوهْ، إذا أضفت الظهر إلى مذكر، وإنما جعلتها واوا
لتفرق بين المذكر والمؤنث إذا قلت: واظهرَهاهْ.
وتقول: واظهرهُموه، وإنما جعلت الألف واوا لتفرق بين الاثنين والجميع
إذا قلت: واظهرهُماه.
وإنما حذفت الحرف الأول لأنه لا ينجزم حرفان، كما حذفت الألف الأول من
قولك وامُثنّاه.
وتقول: واغلامَكِيهْ، إذا أضفت الغلام إلى مؤنث. وإنما فعلوا ذلك
ليفرقوا بينها وبين المذكر إذا قلت: واغُلامَكاه.
وتقول: واانقطاعَ ظهرهُوه، في قول من قال: مررت بظهرهو قبل. وتقول:
وانقطاع ظهرِهيهْ. في قول من قال: مررتُ بظهرهي قبلُ.
وتقول: واأبا عمرياه وإن كنت إنما تندب الأب، وإياه تضيف إلى نفسك لا
عَمراً، من قبل أن عمرا مجراه هنا كمجراه لو كان لك، لأنه
(2/224)
لا يستقيم لك إضافة الأب إليك حتى تجعل
عمرا كانه لك، لأن ياء الإضافة عليه تقع، ولا تحذفها لأن عمرا غير
منادى. ألا ترى أنك تقول يا أبا عَمري. ومما يدلّك على أن عمراً ها هنا
بمنزلته لو كان لك، أنه لا يجوز أن تقول هذا أبو النّضرِك، ولا هذه
ثلاثةُ الأثوابِك، إذا أردت أن تضيف الأب والثلاثة، من قبل أنه لا يسوغ
لك ولا تصل إلى أن تضيف الأول حتى تجعل الآخِر مضافا إليك كأنه لك.
؟
هذا باب
ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوب
وذلك قولك: وازيدُ الظريفُ والظريفَ. وزعم الخليل رحمه الله أنه منعه
من أن يقول الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى، ولو جاز ذا لقلت: وازيدُ
أنت الفارسُ البَطَلاهْ؛ لأن هذا غير منادى كما أن ذلك غير نداء.
(2/225)
وليس هذا كقولك: واأميرَ المؤمنيناه، ولا
مثل: واعبدَ قيساه؛ من قبل أن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد
منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم ومقتضاه، ومن الاسم. ألا ترى أنك لو
قلت عبدا أو أميرا، وأنت تريد الإضافة لم يجز لك. ولو قلت هذا زيد كنتَ
في الصفة بالخيار، إن شئت وصفتَ وإن شئت لم تصف. ولستَ في المضاف إليه
بالخيار، لأنه من تمام الاسم، وإنما هو بدل من التنوين. ويدلك على ذلك
أن ألف الندبة إنما تقع على المضاف إليه كما تقع على آخر الاسم المفرد،
ولا تقع على المضاف، والموصوف إنما تقع ألفُ الندبة عليه لا على الوصف.
وأما يونس فيلحق الصفة الألف، فيقول: وازيدُ الظريفاه، واجُمجمتيّ
الشّاميّتيْناه.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا خطأ.
وتقول: واقهسرُوناه، لأن هذا اسم مفرد. وكذلك رجل سُمّي باثنَيْ عشر
تقول: واثنا عشرَاه، لأنه اسم مفرد بمنزلة قِنّسرين.
وإذا ندبت رجلا يسمى ضربوا قلت: واضَربوه. وإن سُمي ضربا
(2/226)
قلت: واضرباه. فهذا بمنزلة واغلامَهاه،
جعلت ألف الندبة تابعة لتفرق بين الإثنين والجميع.
ولو سميتَ رجلا بغلامهم أو غلامهما لم تحرف واحدا منهما عن حاله قبل أن
يكون اسما، ولتركته على حاله الأول في كل شيء. فكذلك ضربا وضربوا، إنما
تحكى الحال الأولى قبل أن يكونا اسمين، وصارت الألف تابعة لهما كما
تبعت التثنية والجمع قبل أن يكونا اسمين، نحو غلامهما وغلامهم، لأنهما
كما لم يتغيرا في سائر المواضع لم يتغيرا في الندبة.
؟ هذا باب ما لا يجوز أن يُندب
وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويونس أنه
قبيح، وأنه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إنما قبح لأنك أبهمت. ألا
ترى أنك لو قلت واهذاه، كان قبيحا، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن
تفجع بأعرف الأسماء، وأن تخص ولا تُبهم؛ لأن الندبة على البيان، ولو
جاز هذا لجاز يا رجلا ظريفا، فكنت نادبا نكرة. وإنما كرهوا ذلك أنه
تفاحَش عندهم أن يختلطوا وان يتفجعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم
في المبهَم لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم، وأصابك
جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أن تُبهم.
(2/227)
وكذلك: وامَن في الداراه، في القبح.
وزعم أنه لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه، وكأن
التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب. ولو
قلت هذا لقلت وامن لا يعنين أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنه لا يُعذر
على أن يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجع ويُبهم، كما لا يُعذر على
أن يتفجع على من لا يعنيه أمره.
؟
باب يكون الاسمان فيه بمنزلة اسم واحد
ممطول وآخر الاسمين مضموم إلى الأول بالواو
وذلك قولك: واثلاثة وثلاثيناه. وإن لم تندب قلت: يا ثلاثة وثلاثين،
كأنك قلت يا ضاربا رجلا.
وليس هذا بمنزلة قولك يا زيدُ وعمرو، لأنك حين قلت يا زيدُ وعمرو جمعت
بين اسمين كلُ واحد منهما مفرد يُتوهّم على حياله، وإذا قلت يا ثلاثة
وثلاثين فلم تُفرد الثلاثة من الثلاثين لتُتوهّم على حيالها، ولا
الثلاثين من الثلاثة. ألا ترى أنك تقول يا زيدُ ويا عمرو، ولا تقول يا
ثلاثة ويا ثلاثون، لأنك لم ترد أن تجعل كل واحد منهما على حياله، فصار
بمنزلة قولك ثلاثة عشر، لأنك لم ترد أن تفصل ثلاثة من العشرة ليتوهموها
على حيالها. ولزمها النصب كما لزم يا ضاربا رجلا، حين طال الكلام.
(2/228)
وقال: يا ضاربا رجلا معرفة كقولك يا ضاربُ، ولكن التنوين إنما يثبت
لأنه وسط الاسم، ورجلا من تمام الاسم، فصار التنوين بمنزلة حرف قبل آخر
الاسم. ألا ترى أنك لو سميت رجلا خيرا منك، لقلت يا خيرا منك فألزمته
التنوين وهو معرفة، لأن الراء ليست آخر الاسم ولا منتهاه، فصار بمنزلة
الذي، إذا قلت هذا الذي فعل. فكما أن خيرا منك لزمه التنوين وهو معرفة،
كذلك لزم ضاربا رجلا، لأن الباء ليست منتهى الاسم، وإنما يُحذب التنوين
في النداء من آخر الاسم. فلما لزمت التنوينة وطال الكلام رجع إلى أصله.
وكذلك ضارب رجل إذا ألقيت التنوين تخفيفاً، لأن الرجل لا يجعل ضاربا
نكرة إذا أردت معنى التنوين، كما لا يجعله معرفة في غير النداء إذا
أردت معنى التنوين وحذفته، نحو قولك: هذا ضاربُك قاعدا. ألا ترى أن حذف
التنوين كثباته لا يغير الفاعل إذا كنت تحذفه وأنت تريد معناه.
وأما قولك يا اخا رجل، فلا يكون الأخ ها هنا إلا نكرة، لأنه مضاف إلى
نكرة، كما أن الموصوف بالنكرة لا يكون إلا نكرة، ولا يكون الرجل ههنا
بمنزلته إذا كان منادى، لأنه ثم يدخله التنوين، وجاز لك أن تريد معنى
الألف واللام ولا تلفظ بهما وهو هنا غير منادى وهو نكرة، فجُعل ما أضيف
إليه بمنزلته. |