الكتاب لسيبويه ؟
باب الحروف التي ينبه بها المدعو
فأما الاسم غيرُ المندوب فينبَّه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهَيا، وأى،
وبالألف. نحو قولك: أحارِ بنَ عمرٍو. إلا أن الأربعة غير الألف قد
(2/229)
يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم
للشيء المتراخى عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يُرَون أنه لا يُقبل
عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد
في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد
يجوز لك ان تستعمل هذه الخمسة غيروا إذا كان صاحبك قريبا منك، مقبِلاً
عليك، توكيدا.
وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء كقولك: حار بنَ كعبٍ، وذلك أنه جعلهم
بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه.
ولا يحسن أن تقول: هذا، ولا رجلُ، وأنت تريد: يا هذا، ويا رجلُ ولا
يجوز ذلك في المبهم؛ لأن الحرف الذي ينبَّه به لزم المبهم كأنه صار
بدلا من أيُّ حين حذفته، فلم تقل يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك
تقول إن شئت: مَن لايزال مُحسناً افعل كذا وكذا؛ لأنه لا يكون وصفا
لأي.
وقد يجوز حذفُ يا من النكرة في الشعر، وقال العجّاج:
(2/230)
جاريَ لا تستنكِري عَذيري يريد يا جاريةُ.
وقال في مَثَل: افتَدِ مخنوقُ، وأصبِحْ ليلُ، وأطرِقْ كَرا. وليس هذا
بكثير ولا بقوى.
واما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنه يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه،
وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخ أو
غافل والتعجب كذلك. والندبة يلزمها يا ووا؛ لأنهم يحتلطون ويدعون ما قد
فات وبعد عنهم. ومع ذلك أن الندبة كأنهم يترنمون فيها، فمن ثم ألزموها
المد، وألحقوا آخر الاسم المدَّ مبالغة في الترنم.
؟
هذا باب
ما جرى على حرف النداء وصفا له
وليس بمنادى ينبهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختص من
(2/231)
بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. فالاختصاص
أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا
استفهام على حرف الاستفهام؛ لأنك تسوى فيه كما تسوى في الاستفهام.
فالتسوية أجرتْه على حرف الاستفهام، والاختصاصُ أجرى هذا على حرف
النداء.
وذلك قولك: ما أدرى أفَعلَ أم لم يفعل. فجرى هذا كقولك أزيدٌ عندك أم
عمرو، وأزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ، إذا استفهمتَ؛ لأن علمك قد استوى فيهما
كما استوى عليك الأمران في الأول. فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء.
وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا
أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعةُ أيها البائع، واللهم اغفِر لنا
أيتها العصابة، وأردت أن تختص ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها
الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختص حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول
للذي هو مقبلٌ عليه بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا
فلان، توكيدا. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبه غيرك. يعني: اللهمّ
غفر لنا أيتها العصابة.
(2/232)
؟ هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى
عليه النداء فيجيء لفظه على موضع النداء نصبا لأن موضع النداء نصب، ولا
تجري الأسماء فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يجروها على حروف النداء،
ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء.
وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ
لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم
المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده
محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنَّا بنى مِنقرٍ قومٌ ذَوُو حسَبٍ ... فينا سَراةُ بنى سعدٍ وناديَها
وقال الفرزدق:
(2/233)
ألم ترَ أنّا بنى دارِمٍ ... زُرارةُ منّا
أبو معبدِ
فإنما اختُصّ الاسم هنا ليعرَف بما حُمل على الكلام الأول، وفيه معنى
الافتخار. وقال رؤبة: بنا تَميماً يُكشف الضّبابْ وقال: نحن العُربَ
أقرى الناس لضيف، فإنما أدخلتَ الألف واللام لأنك أجريت الكلام على ما
النداء عليه، ولم تُجره مجرى الأسماء في النداء. ألا ترى أنه لا يجوز
لك أن تقول: يا العربَ، وإنما دخل في هذا الباب من حروف النداء أيُّ
وحدَها، فجرى مجراه في النداء.
وأما قول لبيد:
(2/234)
نحن بنو أمِّ البنينَ الأربعة ... ونحن
خيرُ عامر بنِ صَعصعَهْ
فلا يُنشدونه إلا رفعا، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يُعرَفوا
بأن عدّتهم أربعة، ولكنهم جعل الأربعة وصفا ثم قال: المُطعمِون
الفاعلون، بعدما حلاهم ليُعرَفوا.
وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك:
إنا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: بك اللهَ نرجو الفضلَ، وسُبحانك اللهَ
العظيمَ، نصبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم. وزعم أن دخول أى
(2/235)
في هذا الباب يدل على أنه محمول على ما
حُمل عليه النداء، يعني أيتها العصابة فكان هذا عندهم في ألأصل أن
يقولوا فيه يا، ولكنهم خزلوها وأسقطوها حين أجروه على الأصل.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول: إني هذا أفعلُ كذا
وكذا، ولكن تقول: إني زيدا أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسما معروفا؛
لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيدا وتوضيحا هنا للمضمَر وتذكيرا وإذا
أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر. ولو جاز هذا لجازت النكرةُ
فقلتَ إنا قوما، فليس هذا من مواضع النكرة والمبهَم، ولكن هذا موضعُ
بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيدا لما
يعظمون أمرَه أن يذكروا مبهما.
وأكثر الأسماء دخولا في هذا الباب بنو فلان، ومعشَر مُضافةً، وأهل
البيت، وآل فلان. ولا يجوز أن تقول إنهم فعلوا أيتها العصابةُ، إنما
يجوز هذا للمتكلم والمكلَّم المنادى، كما أن هذا لا يجوز إلا لحاضر.
وسألت الخليل رحمه الله ويونس عن نصب قول الصّلَتان العبدي:
(2/236)
يا شاعراً لا شاعرَ اليومَ مثلَه ...
جَريرٌ ولكنْ في كليبٍ تواضعُ
فزعما أنه غير منادى وإنما انتصب على إضمار كأنه قال يا قائل الشعر
شاعرا، وفيه معنى حسبُك به شاعرا.
كأنه حيث نادى قال حسبُك به، ولكنه أضمر كما أضمروا في قوله: تالله
رجلا وما أشبهه، مما ستجده في الكتاب إن شاء الله عز وجل.
ومما جاء وفيه معنى التعجب كقولك: يا لك فارسا، قولُ الأخوص ابن شُريح
الكلابي:
(2/237)
تمنّاني ليلقاني لَقيطٌ ... أعامِ لك بنَ
صعصعةَ بنِ سعدِ
وإنما دعاهم لهم تعجبا، لأنه قد تبين لك أن المنادى يكون فيه معنى
أفعِل به، يعنى يا لك فارسا.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا البيت مثلُ ذلك؛ للأخطل:
أيامَ جُملِ خَليلاً لو يَخافُ لها ... صُرماً لَخولِط منه العقلُ
والجسدُ
(2/238)
وقال في قول الشاعر: يا هندُ هندٌ بين
خِلبٍ وكَبدْ أنه أراد: أنتِ بين خِلب وكبِد، فجعلها نكرةً.
وقد يجوز أن تقول بعد النداء مقبِلاً على مَن تحدثه: هندٌ هذه بين
خِلبٍ وكبدٍ، فيكون معرفة.
؟
هذا باب الترخيم
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفا، كما حذفوا غير ذلك من
كلامهم تخفيفا، وقد كتبناه فيما مضى، وستراه فيما بقى إن شاء الله
تعالى.
واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرّ شاعرٌ، وإنما
كان ذلك في النداء لكثرته في كلامهم، فحذفوا ذلك كما حذفوا التنوين،
وكما حذفوا الياء من قومى ونحوه في النداء.
(2/239)
واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا
في وصف؛ لأنهما غيرُ منادَيين، ولا يرخم مضاف ولا اسمٌ منون في النداء؛
من قبل أنه جرى على الأصل وسلِم من الحذف، حيث أُجري مجراه في غير
النداء إذا حملتَه على ما ينصب. يقول: إن المحذوف في الترخيم إنما يقع
على النداء لا على الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة
كنت إنما حذفت هذا الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة
كنت إنما حذفت هذا الإعراب، ومع ذلك إنه إنما ينبغى أن تحذف آخر شيء في
الاسم، ولا يُحذف قبل أن تنتهي إلى آخره، لأن المضاف إليه من الاسم
الأول بمنزلة الوصل من الذي إذا قلت الذي قال، وبمنزلة التنوين في
الاسم.
ولا ترخم مستغاثا به إذا كان مجرورا، لأنه بمنزلة المضاف إليه. ولا
ترخم المندوب لأن علامته مستعملة، فإذا حذفوا لم يحملوا عليه مع الحذف
الترخيم.
(2/240)
وإذا ثنيت لم ترخم؛ لأنها كالتنوين.
واعلم أن الحرف الذي يلي ما حذفت ثابتٌ على حركته التي كانت فيه قبل أن
تحذف، إن كان فتحا أو كسرا أو ضما أو وقفا؛ لأنك لم ترد أن تجعل ما بقي
من الاسم اسما ثابتا في النداء وغير النداء، ولكنك حذفت حرف الإعراب
تخفيفا في هذا الموضع وبقي الحرف الذي يلي ما حُذف على حاله، لأنه ليس
عندهم حرفَ الإعراب. وذلك قولك يا حارث: يا حار، وفي سلَمة: يا سَلَم،
وفي بُرثُن: يا بُرثُ، وفي هرقل: يا هِرَقْ.
؟
باب ما أواخر الأسماء فيه الهاء
اعلم أن كل اسم كان مع الهاء ثلاثة أحرف أو أكثر من ذلك، كان اسما خاصا
غالبا، أو اسما عاما لكل واحد من امة، فإن حذف الهاء منه في النداء
أكثر في كلام العرب. فأما ما كان اسما غالبا فنحو قولك: يا سلَمَ أقبل.
وأما الاسم العام العام فنحو قول العجاج: جاريَ لا تَستنكرى عَذِيرِى
إذا أردت يا سَلَمةُ، ويا جاريةُ.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف مع الهاء فنحو قولك: يا شا ارْجُني ويا
ثُبَ أقبِلي، إذا أردت: شاة وثُبةً.
(2/241)
واعلم أن ناسا من العرب يثبتون الهاء
فيقولون: يا سلمةُ أقبلْ، وبعض من يُثبت يقول: يا سلمةَ أقبل.
واعلم أن العرب الذين يحذفون في الوصل إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا
طلحَهْ. وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء، وصارت هذه
الهاء لازمة لهما في الوقف كما لزمت الهاء وقف ارمه، ولم يجعلوا
المتكلم بالخيار وحذف الهاء عند الوقف وإثباتها، من قبل أنهم جعلوا
الحذف لازماً لهاء التأنيث في الوصل، كما لزم حذفُ الهاء من ارمِهْ في
الوصل وكأنهم ألزموا هذه الهاء في ارْمِهْ في الوقف ولم يجعلوها
بمنزلتها إذا بيّنتَ حركة ما لم يحذف بعده شيء نحو علَيَّهْ وإليّهْ،
ولكنها لازمة كراهية أن يجتمع في ارمِه حذف الهاء وترك الحركة، فأرادوا
أن تثبت الحركة على كل حال، ليكون ثباتُها عوضا من الحذف للياء والهاء،
فبُيّنت الحركة بالهاء في السكوت ليكون ثباتُها في الاسم على كل حال؛
لئلا يُخلّوا به.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف، وذلك لأنهم
يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلا منها.
وقال الشاعر، ابن الخرع:
(2/242)
كادت فزارةُ تَشقَى بنا ... فأُوْلَى
فزارةُ أَوْلَى فَزارا
وقال القُطامي: قِفِى قبل التفرِّق يا ضُباعا وقال هُدبةُ: عُوجي علينا
واربَعي يا فاطِما
(2/243)
وإنما كان الحذف ألزمَ للهاءات في الوصل،
وفيها أكثر منه في سائر الحروف في النداء، من قبل أن الهاء في الوصل في
غير النداء تبدل مكانَها التاء، فلما صارت الهاء في موضع يحذف منه لا
يُبدّل منه شيء تخفيفا، كان ما يُبدّل ويُغيّر أولى بالحذف، وهو له
ألزم، وجعلوا تغييره الحذف في موضع الحذف إذ كان متغيرا لا محالة.
وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حَرملْ، يريد يا حَرمَلَهْ، كما قال
بعضهم: إرْمْ، يقفون بغير هاء.
واعلم أن هاء التأنيث إذا كانت بعد حرف زائد لو لم تكن بعده حُذف، أو
بعد حرفين لو لم تكن بعدهما حُذفا زائدين، لم يحذف، من قبل أن الحروف
الزوائد قبل الهاء في الترخيم بمنزلة غير الزوائد من الحروف وذلك قولك
في طائفية: يا طائفى أقبلى، وفي مَرجانة: يا مرجانَ أقبلى.
(2/244)
وفي رعشنةٍ: يا رَعْشَنَ أقبلى، وفي
سِعلاةٍ: يا سِعلا أقبلى. ولو حذفتَ ما قبل الهاء كحذفك إياه وليس بعده
هاء لقلت في رجل يسمى عُثمانةَ يا عُثمَ أقبل، لأن الهاء لو لم تكن
ههنا لقلت يا عُثْمَ أقبل؛ فإنما الكلام أن تقول يا عُثمان أقبل.
فأجْرِ ترخيمَ هذا بعد الزوائد مجراه إذا كان بعدما هو من نفس الحرف.
ومَن حذف الزوائد مع الهاء فإنه ينبغي له أن يقول في فاظمة: يا فاطِ لا
تفعلي، من قبل أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت يا فاطِ كما تقول يا
حارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف كما تحذف الزوائد، فإذا ألحقته
الزوائد لم تحذفه مع الزوائد. فكذلك الزوائد إذا ألحقتَها مع الزوائد
لم تحذفها معها.
؟ باب يكون فيه الاسم بعدما يُحذف منه الهاء
بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم يكن فيه هاء
قط
وذلك قول بعض العرب، وهو عنترة العبسى:
(2/245)
يَدعون عنترُ، والرماحُ كأنَّها ... أشطانُ
بيرٍ فى لَبان الأدهمِ
جعلوا الاسم عنترا وجعلوا الراء حرف الإعراب.
وقال الأسود بن يعفُر تصديقا لهذه اللغة:
أَلا هل لهذا الدَّهرِ من مُتعلّلِ ... عن الناس، مهما شاء بالناس أن
يَفْعَلِ
ثم قال:
وهذا رِدائِى عنده يَستعيرُه ... ليسلُبَني حَقّى أمالِ بنَ حنظلِ
(2/246)
وذلك لأن الترخيم يجوز في الشعر في غير
النداء، فلما رخم جعل الاسم بمنزلة اسمٍ ليست فيه هاء. وقال رؤبة:
إمَّا تَرَيني اليومَ أمَّ حمزِ ... قاربتُ بين عَنَقي وجَمزي
وإنما أراد: أمَّ حمزة. وأما قول ذى الرمة:
ديارَ ميّةَ إذْ مَيٌّ تُساعفُنا ... ولا يَرى مثلَها عُجمٌ ولا عربُ
فزعم يونس أنه كان يسميها مرة مية ومرة ميا، ويجعل كل واحد من الاسمين
اسما لها في النداء وفي غيره.
(2/247)
وعلى هذا المثال قال بعض العرب إذا رخموا:
يا طَلحُ ويا عنترُ. وقد يكون قولهم يدعون عنترُ بمنزلة ميَّ؛ لأن
ناساً من العرب يسمونه عنتراً في كل موضع. ويكون أن تجعله بمنزلة مى
بعد ما حذفت منه، وقد يكون ميٌّ أيضا كذلك، يجعلها بمنزلة ما ليس فيه
هاء بعد ما تحذف الهاء.
وأما قول العرب: يا فُلُ أقبلْ، فإنهم لم يجعلوه اسما حذفوا منه شيئا
يثبت فيه في غير النداء، ولكنهم بنوا الاسمَ على حرفين، وجعلوه بمنزلة
دم. والدليل على ذلك أنه ليس أحدٌ يقول يا فُلَ فإن عنوا امرأة قالوا:
يا فُلةُ: وهذا الاسم اختُصّ به النداء، وإنما بُني على حرفين لأن
النداء موضعُ تخفيف، ولم يجز في غير النداء لأنه جُعل اسما لا يكون إلا
كناية لمنادى، نحو يا هَناهْ، ومعناه يا رجلُ. وأما فلان فإنما هو
كناية عن اسم سُمي به المحدث عنه، خاص غالب. وقد اضطُرّ الشاعرُ فبناه
على حرفين في هذا المعنى. قال أبو النجم: فى لّجَةٍ أمسِكْ فُلاناً عن
فُلِ
(2/248)
؟ هذا باب إذا حذفتَ منه الهاء
وجعلت الاسم بمنزلة ما لم تكن فيه الهاء أبدلتَ حرفا مكان الحرف الذي
يلي الهاء وإن لم تجعله بمنزلة اسم ليس فيه الهاء لم يتغير عن حاله
التي كان عليها قبل أن تحذف.
وذلك قولك في عَرقوةٍ وقَمَحدوَةٍ وإن جعلت الاسم بمنزلة اسم لم تكن
فيه الهاء على حالٍ: يا عَرقي ويا قَمَحْدي؛ من قبل أنه ليس في الكلام
اسمٌ آخر كذا. وكذلك إن رخّمتَ رَعومٌ وجعلته بهذه المنزلة، قلت يا
رَعي.
وإن رخَّمْت رجلا يسمى قَطَوان فجعلته بهذه المنزلة قلت: يا قَطا
أقبلْ.
(2/249)
فإن رخمت رجلا اسمُه طُفاوةُ قلت: يا
طُفاءُ أقبلْ، من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ هكذا آخِره يكون حرفَ
الإعراب، يعني الواو والياء إذا كانت قبلهما ألف زائدة ساكنة لم يثبتا
على حالهما، ولكن تُبدّل الهمزة مكانَهما. فإن لم تجعلهما حروف الإعراب
فهي على حالها قبل أن تحذف الهاء، وذلك قولك: يا طُفاوَ أقبلْ، إذا لم
ترد أن تجعله بمنزلة اسم ليست فيه الهاء.
واعلم أن ما يُجعل بمنزلة اسم ليست فيه هاء أقلُّ في كلام العرب، وترك
الحرف على ما كان عليه قبل أن تُحذف الهاء أكثر؛ من قبل أن حرف الإعراب
في سائر الكلام غيره. وهو على ذلك عربي.
وقد حملهم ذلك على أن رخَّموه حيثُ جعلوه بمنزلة ما لا هاء فيه. قال
العجاج:
فقد رأى الراءونَ غيرَ البُطَّلِ ... أنَّك يا مُعاوِ يا ابنَ الأفضلِ
(2/250)
يريد: يا مُعاوية.
وتقول في حَيْوَةَ: يا حَيوَ أقبلْ، فإن رفعت الواو تركتها على حالها
لأنه حرف أُجري على الأصل وجُعل بمنزلة غزوٍ، ولم يكن التغيير لازما
وفيه الهاء.
واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه
الهاء إذا لم يكن اسما خاصا غالبا، من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس
المؤنث بالمذكر. وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيثُ أقبلى.
وإنما جاز في الغالب لأنك لا تذكر مؤنثا ولا تؤنث مذكرا.
واعلم أن الأسماء التي ليس في اواخرها هاء أن لا يُحذف منها أكثر،
لأنهم كرهوا أن يُخِلّوا بها فيحملوا عليها حذف التنوين وحذف حرف لازم
للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول.
وإن حذفتَ فحسن. وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك
وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيرا في الشعر، وأكثروا التسمية بها
للرجال. قال مهلهل بن ربيعة:
يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنّا ذَوو السّوراتِ والأَحْلامِ
(2/251)
وقال امرؤ القيس:
أحارِ تَرى بَرْقاً أُريكَ وميضَهُ ... كلمعِ اليَدَيْنِ في حَبيّ
مكلّلِ
وقال الأنصاري: يا مالِ والحقُّ عنده فقِفُوا وقال النابغة الذبياني:
فصالحِونا جميعاً إن بَدَا لكلم ... ولا تَقولوا لنا أمثالَها عامِ
وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه.
(2/252)
وكل اسم خاص رخمته في النداء فالترخيم فيه
جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر. فمن ذلك قول الشاعر:
فقُلتمْ تَعالَ يا يَزي بنَ مُخرِّم ... فقلتُ لكُمْ إنّى حَليفُ
صُداءِ
وهو يزيد بن مخرم.
وقال مجنون بني عامر:
أَلا يا ليلَ إن خُيّرتِ فينا ... بنفسي فانسري أينَ الخيارُ
يريد في الأول: يزيد، وفي الثاني ليلى.
وقال أوس بن حجر:
(2/253)
تسكّرتِ منّا بعدَ معرفةٍ لَمي يريدُ:
لميسَ.
واعلم أن كل شيء جاز في الاسم الذي في آخره هاء بعد أن حذفت الهاء منه
في شعر أو كلام، يجوز فيما لا هاء فيه بعدُ أن تحذف منه. فمن ذلك قول
امرئ القيس:
لَنِعمَ الفَتَى تَعشو إلى ضَوْءِ نارهِ ... طريفُ بنُ مالٍ ليلةَ
الجُوعِ والخصَرْ
جعل ما بقي بعد ما حذف، بمنزلة اسم لم يُحذف منه شيء، كما جعل
(2/254)
ما بقي بعد حذف الهاء بمنزلة اسمٍ لم تكن
فيه الهاء.
وقال رجل من بني مازن:
علىَّ دِماءُ البُدنِ إن لم تُفارِقِى ... أبا حردَبٍ ليلاً وأصحابَ
حردَبِ
وقال، وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العِباديين:
أسعدَ بنَ مالٍ ألم تَعلموا ... وذو الرأى مَهْمَا يقُل يصدُقِ
واعلم أن كل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم تكن آخره
الهاء. فزعم الخليل رحمه الله أنهم خففوا هذه الأسماء التي ليست
أواخرها الهاء ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة
على ثلاثة. فإنما أرادوا أن يقربوا الاسم من الثلاثة أو يصيروه إليها،
وكان غاية التخفيف عندهم؛ لأنه أخف شيء عندهم في كلامهم ما لم يُنتقص،
(2/255)
فكرهوا أن يحذفوه إذ صار قصاراهم أن ينتهوا
إليه.
واعلم أنه ليس من اسم لا تكون في آخره هاء يُحذف منه شيء إذا لم يكن
اسما غالبا نحو زيد وعمرو، من قبل أن المعارف الغالبة أكثر في الكلام
وهم لها أكثر استعمالا، وهم لكثرة استعمالهم إياها قد حذفوا منها في
غير النداء، نحو قولك: هذا زيد بن عمرو، ولم يقولوا هذا زيد ابنُ أخيك.
ولو حذفت من الأسماء غير الغالبة لقلت في مسلمين: يا مُسلم أقبِلوا،
وفي راكب: يا راكِ أقبلْ. إلا أنهم قد قالوا: يا صاح، وهم يريدون يا
صاحبُ؛ وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف، فحذفوا كما قالوا: لم أُبَلْ،
ولم يكُ، ولا أدرِ.
؟ هذا باب ما يُحذف من آخره حرفان
لأنهما زيادة واحدة بمنزلة حرف واحد زائد
وذلك قولك في عثمان: يا عُثْمَ أقبلْ، وفي مَرْوانَ: يا مرْوَ أقبل،
وفي
(2/256)
أسْماءَ: يا أسمَ أَقبلى.
وقال الفرزدق: يا مَروَ إنّ مَطّيتى مَحْبوسةً تَرْجُو الحِباء
ورَبُّها لم ييأسِ وقال الراجز: يا نعمَ هل تحلف لا تَدينُها
(2/257)
وقال لبيد:
يا أسمَ صَبْراً على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث مَلقيٌّ ومنتظَرُ
وإنما كان هذان الحرفان بمنزلة زيادة واحدة من قبل أنك لم تُلحق الحرفَ
الآخِر أربعة أحرف رابعهن الألف، من قبل أن تزيد النون التي في مروان،
والألف التي في فَعلاء، ولكن الحرف الاخر الذي قبله زيدا معا، كما أن
ياءَي الإضافة وقعتا معا. ولم تلحق الآخرةَ بعد ما كانت الأولى لازمة،
كما كانت ألف سلمى إنما لحقتْ ثلاثة أحرف ثالثها الميم لازمها، ولكنهما
زيادتان لحقتا معاً فحذفتا جميعاً كما لحقنا جميعاً.
(2/258)
وكذلك ترخيم رجل يقال له مسلمون، بحذف
الواو والنون جميعا من قبل أن النون لم تلحق واوا ولا ياء قد كانت لزمت
قبل ذلك. ولو كانت قد لزمت حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف ثم لحقتها
زائدة لم تكن حرف الإعراب.
وكذلك رجل اسمه مُسلمان: تحذف الألف والنون.
وأما رجل اسمه بَنون فلا يُطرح منه إلا النون، لأنك لا تصير اسما على
أقل من ثلاثة أحرف. ومن جعل ما بقى من الاسم بعد الحذف بمنزلة اسم
يتصرف في الكلام لم تكن فيه زيادة قط قال يا بَني، لأنه ليس في الكلام
اسم يتصرف آخره كآخِر بَنو.
هذا باب يكون فيه الحرف
الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد
وقع وما قبله جميعا
وذلك قولك في منصور: يا مَنصُ أقبلْ، وفي عمارٍ: يا عمّ أقبل، وفي رجل
اسمه عنتريسٌ: يا عنتَرِ أقبلْ. وذلك لأنك حذفت الآخر كما حذفت الزائد،
وما قبله ساكن بمنزلة الحرف الذي كان قبل النون زائدا فهو زائد كما كان
ما قبل النون زائدا، ولم يكن لازما لما قبله من الحروف ثم لحقه ما
بعده، لأن ما بعده ليس من الحروف التي تُزاد. فلما كانت حال هذه
الزيادة حالَ تلك الزيادة وحُذفت الزيادة وما قبلها، حُذف هذا الذي من
(2/259)
نفس الحرف.
؟
باب تكون الزوائد فيه بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في قَنَوَّرٍ: يا قنوَّ أقبلْ، وفي رجل اسمه هَبَيّخ: يا
هَبَيّ أَقبل؛ لأن هذه الواو التي في قنوّر والياء التي في هبيّخ،
بمنزلة الواو التي في جَدْوَلٍ، والياء التي في عِثيَر.
وإنما لحقنا لتُلحقا ما كان على ثلاثة أحرف ببنات الأربعة، وليصير
بمنزلة حرف من نفس الحرف؛ كفاء جعفر في هذا الاسم.
ويدلك على أنها بمنزلتها أن الألف التي تجيء لتُلحق الثلاثة بالأربعة
منونة كما ينون ما هو من نفس الحرف،
وذلك نحو مِعزى. ومع ذلك أن الزوائد تلحقها كما تلحق ما ليس فيه زيادة،
نحو جِلواخٍ وجِريال وقِرواح، كما تقول سِرداح. وتَقَدّمُ قبل هذه
الزيادة الياء والواو زائدتين كما تقدم الحرف الذي من نفس الحرف في
فَدَوْكس وخَفَيدَد، وهي الواو
(2/260)
التي في قَنَّورٍ الأولى، والياء التي في
هبيّخ الأولى بمنزلة ياء سَميدَع، فصار قَنَوّرٌ بمنزلة فدوْكَس،
وهبيّخ بمنزلة سَميدَع، وجَدْوَلٌ بمنزلة جَعْفَر، فأجروا هذه الزوائد
بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فكرهوا أن يحذفوها إذ لم يحذفوا ما شبهوها
به وما جعلوها بمنزلته. ولو حذفوا من سميدع حرفين لحذفوا من مهاجر
حرفين فقالوا: يا مُها، وهذا لا يكون، لأنه إخلال مُفرط بما هو من نفس
الحرف.
؟ باب تكون الزوائد فيه أيضا بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في رجل اسمه حَولايا أو بَردَرايا: يا بَردراي أقبلْ، ويا
حَولاي أقبل؛ من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي
قبلها لازمة لها يقعان معا لكانت الياء ساكنة وما كانت حية، لأن الحرف
الذي يجعل وما بعده زيادة واحدة ساكن لا يتحرك، ولو تحرك لصار بمنزلة
حرف من نفس الحرف، ولجاء بناء آخرُ. ولكن هذه الألف بمنزلة الهاء التي
في درحاية وفي عفارية، لأن الهاء إنما تلحق للتأنيث، والحرف الذي قبلها
بائن منها قد لزم ما قبله قبل أن تلحق.
وكذلك الألف التي تجيء للتأنيث إذا جاءت وحدها، لأن حال الحرف الذي
قبلها كحال الحرف الذي قبل الهاء، والهاء لا تكون أبداً مع شيء
(2/261)
قبلها زائد بمنزلة زيادة واحدة وإن كان
ساكنا نحو ألف سِعلاة. ولو كانت بمنزلة زيادة واحدة لم يقولوا
سُعَيلِية، ولكانت في التحقير ياء مجزومة كالياء التي تكون بدل ألف
سِرحان إذا قلت سُرَيحين، أو بمنزلة عُثمان إذا قلت عُثيمان، ولكنها
لحقت حرفاً جيء به ليلحق الثلاثة ببنات الأربعة. وكذلك ألف التأنيث إذا
جاءت وحدها، يدلك على ذلك تحرك ما قبلها وحياته.
وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف، وما
بعدها، بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلتْ وما بعدها بمنزلة
حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية.
ويدلك على أن الألف التي في حَولايا بمنزلة الهاء أنك تقول: حَولائي
كما تقول: دِرحائي. ولو كانت وما قبلها بمنزلة زيادة واحدة لم تحذف
الألف، كما لا تحذفها إذا قلت: خُنفساوي.
؟ باب ما إذا طُرحت منه الزائدتان
اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفا
وذلك قولك في رجل اسمه قاضون: يا قاضى أقبل، وفي رجل اسمه ناجيّ: يا
ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون، وفي رجل اسمه مُصطَفون: يا
مصطفى أقبل.
وإنما رددت هذه الحروف لأنك لم تَبن الواحد على حذفها كما بُنيت دمٌ
على حذف الياء، ولكنك حذفتهن لأنه لا يسكن حرفان معا، فلما ذهب
(2/262)
في الترخيم ما حذفتهن لمكانه رجعتهن. فحذف الواو والنون ههنا كحذفها في
مسلمين؛ لأن حذفها لم يكن إلا لأنه لا يسكن حرفان معا والياء، والألف
يعني في قاضي ومصطفى تثبتان كما ثبتت الميم في مسلمين.
ومثل ذلك: " غيرَ مُحِلّي الصيدِ وأنتم حُرُم ". وهذا قول الخليل رحمه
الله. فإذا لم تذكر الصيد قلت مُحلّي. |