الكتاب لسيبويه

؟ باب يحرَّك فيه الحرف الذي يليه المحذوف
لأنه لا يلتقى ساكنان
وهو قولك في رجل اسمه رادٌّ: يا رادِ أقبل. وإنما كانت الكسرة أولى الحركات به لأنه لو لم يُدغم كان مكسورا، فلما احتجتَ إلى تحريكه كان أولى الأشياء به ما كان لازماً له لو لم يُدغم. وأما مفرٌّ فإذا حذفت منه وهو اسم رجل، لم تحرَّك الراء لأن ما قبلها متحرك. وإن حذفت من اسم مُحمارّ أو مُضارّ، قلت: يا مُحمارِ ويا مُضارِ، تجيء بالحركة التي هي له في الأصل، كأنك حذفت من مُحمارر، حيث لم يجز لك أن تُسكِن الراء الأولى. ألا ترى أنك إذا احتجت إلى تحريكها والراء الآخرة ثابتة لم تحرك إلا على الأصل، وذلك قولك لم يَحمارِرْ، فقد احتجت إلى تحريكها في الترخيم

(2/263)


كما احتجت إليه هنا حين جزمت الراء الآخرة.
وإن سميته بمضار وأنت تريد المفعول قلت: يا مُضارَ أقبل، كأنك حذفت من مُضارَر.
وأما مُحمرٌّ إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخمته تركت الراء الأولى مجزومة، لأن ما قبلها متحرك فلا تحتاج إلى حركتها. ومن زعم أن الراء الأولى زائدة كزيادة الواو والياء والألف، فهو لا ينبغي له أن يحذفها مع الراء الآخرة، من قبل أن هذا الحرف ليس من حروف الزيادة، وإنما يُزاد في التضعيف، فأشبه عندهم المضاعَف الذي لا زيادة فيه نحو مرتد وممتد، حين جرى مجراه ولم يجئ زائدا غير مضاعَف، لأنه ليس عندهم من حروف الزيادة، وإنما جاء زائدا في التضعيف، لأنه إذا ضوعِف جرى مجرى المضاعَف الذي ليس فيه زيادة.
ولو جعلت هذا الحرف بمنزلة الياء والألف والواو لثبت في التحقير والجمع الذي يكون ثالثة ألفا. ألا ترى أنه صار بمنزلة اسم على خمسة أحرف ليس فيه زيادة نحو جردَحْل وما أشبه ذلك.
وأما رجل اسمه إسحارٌّ فإنك إذا حذفت الراء الآخرة لم يكن

(2/264)


لك بدٌّ من أن تحرك الراء الساكنة لأنه لا يلتقى حرفان ساكنان. وحركته الفتحة، لأنه يلى الحرف الذي منه الفتحة، وهو الألف. ألا ترى أن المضاعف إذا أُدغم في موضع الجزم حُرّك آخر الحرفين لأنه لا يلتقي ساكنان، وجُعل حركته كحركة أقرب المتحركات منه. وذلك قولك: لم يردُّ ولم يرتد ولم يفر ولم يعض. فإذا كان أقرب من المتحرك إليه الحرف الذي منه الحركة المفتوحة ولا يكون ما قبله إلا مفتوحا، كان أجدرَ أن تكون حركته مفتوحة، لأنه حيث قرب من الحرف الذي منه الفتحة وإن كان بينهما حرف كان مفتوحا، فإذا قرب منه هو كان أجدرَ أن تفتحه، وذلك لم يُضارّ.
وكذلك تقول: يا أَسحارَّ أَقبلْ، فعلت بهذه الراء ما كنت فاعلا بالراء الآخرة لو ثبت الراءان ولم تكن الآخرة حرف الإعراب، فجرى عليها ما كان جاريا على تلك كما جرى على ميم مُدّ ما كان بعد الدال الساكنة، وامُدُد هو الأصل. إن شئت فتحت اللام إذا أسكنتَ على فتحة انطلق، ولم يلْدَ إذا جزموا اللام. وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع

(2/265)


العرب يقولون، وهو قول رجل من أزْد السَّراة:
أَلا رُبّ مَوْلودٍ وليس له أبٌ ... وذى وَلد لم يلْدَهُ أبوانِ
جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه. فهذا كأينَ وكيف.
وإنما منع أسحارا أن يكون بمنزلة مُحمارّ أن أصل محمار مُحمارِر، يدلك على ذلك فعله إذا قلت لم يَحمارِر. وأما إسحارٌّ فإنما هو اسم وقع مُدّغماً آخره، وليس لرائه الأولى في كلامهم نصيب في الحركة، ولا تقع إلا ساكنة، كما أن الميم الأولى من الحُمّر، والراء الأولى من شراب

(2/266)


لا يقعان إلا ساكنين، ليستا عندهم إلا على الإسكان في الكلام وفي الأصل.
وسنبين ذلك في باب التصريف إن شاء الله.
؟

باب الترخيم في الأسماء
التي كل اسم منها من شيئين كانا بائنين فضُمّ أحدهما إلى صاحبه فجُعلا اسما واحدا بمنزلة عَنتريس وحَلكوك وذلك مثل حَضرَموت، ومَعدي كَرب، وبُخْتَ نصر، ومارَسَرجِس، ومثل رجل اسمه خمسة عشر، ومثل عمرَوَيه. فزعم الخليل رحمه الله أنه تحذف الكلمة التي ضُمّت إلى الصدر رأسا وقال: أراه بمنزلة الهاء. ألا ترى أنى إذا حقرته لم أغير الحرف الذي يليه كما لم أغير الذي يلي الهاء في التحقير عن حاله التي كان عليها قبل أن يُحقَّر، وذلك قولك في تَمرة تُميرَة، فحال الراء واحدة. وكذلك التحقير في حضرمَوت تقول حُضَيرَموت، وقال: أُراني إذا أضفت إلى الصدر وحذفت الآخر فأقول في مَعدي كَرب: معدى، وأقول في الإضافة إلى أربعة عشر أربعى، فحذف الاسم الآخر بمنزلة الهاء، فهو في الموضع الذي يُحذف فيه ما يثبت

(2/267)


في الإضافة أجدر أن يحذف إذا أردت أن ترخم.
وهذا يدل على أن الهاء تُضمّ إلى الأسماء كما يُضمّ الاسم الآخر إلى الأول. ألا ترى أنها لا تُلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة، كما أن هذه الأسماء الآخرة لم تُضمّ إلى الصدر لتُلحق الصدر ببنات الأربعة، ولا لتُلحقه ببنات الخمسة، وذلك لأنها ليست زائدات في الصدور، ولا هي منها، ولكنها موصولة بها وأُجريت مجرى عنتَريس ونحوه، ولا يغيَّر لها بناء كما لا يغير لياء الإضافة أو ألف التأنيث أو لغيرهما من الزيادات. وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل ذكره.
كما أن الأسماء الآخرة لم تغير بناء الأولى عن حالها قبل أن تُضمّ إليها، لم تغير خمسة في خمسة عشر عن حالها. فالهاء وهذه الأسماء الآخرة مضمومة إلى الصدور كما يُضمّ المضاف إليه إلى المضاف لأنهما كانا بائنين وُصل أحدهما بالآخر، فالآخر بمنزلة المضاف إليه في أنه ليس من الأول ولا فيه، وهما من الإعراب كاسم واحد لم يكن آخره بائنا من أوله.
وإذا رخمت رجلا اسمه خمسة عشر قلت: يا خمسةَ أقبل، وفي الوقف تبين الهاء - يقول لا تجعلها تاء - لأنها تلك الهاء التي كانت في خمسة

(2/268)


قبل أن تُضمّ إليها عشرَ. كما أنك لو سميت رجلا مُسلمين قلت في الوقف: يا مُسلِمَهْ؛ لأن الهاء لو أبدلت منها تاء لتُلحق الثلاثة بالأربعة لم تحرك الميم.
وأما اثنا عشر فإذا رخمته حذفت عشر مع الألف، لأن عشر بمنزلة نون مُسلمين، والألف بمنزلة الواو، وأمره في الإضافة والتحقير كأمر مُسلمين. يقول: تُلقي عشر مع الألف كما تُلقي النون مع الواو.
واعلم أن الحكاية لا ترخَّم، لأنك لا تريد أن ترخم غير منادى، وليس مما يغيره النداء، وذلك نحو تأبط شرا وبرق نحرُه وما أشبه ذلك. ولو رخمت هذا لرخمت رجلا يسمى بقول عنترة:
يا دار عبلةَ بالجِواء تكلّمي
؟ باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارا قال الراجز: وقد وسطْتُ مالِكا وحَنْظَلاً

(2/269)


وقال ابن أحمر:
أبو حَنَش يؤرقُنا وطلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا
يريد: أثالة.
وقال جرير:
أَلا أضحتْ حِبالكمُ رِماما ... وأَضحتْ منكَ شاسِعةً أُماما

(2/270)


يَشُقُّ بها العساقِل مُؤْجَداتٌ ... وكلُّ عرَنْدَس يَنْفِى اللُّغاما
وقال زهير:
خذُوا حَظَّكمْ يا آلَ عِكرم واذْكُرُوا ... أواصِرَنا والرِّحمُ بالغَيْبِ تُذكرُ
وقال آخر، وهو ابن حَبْناء التميمي:

(2/271)


إنّ ابنَ حارثَ إنْ أشتَقْ لرُؤْيِته ... أو أمتدِحه فإنّ الناسَ قد عَلِمُوا
وأما قول الأسود بن يعفر:
أَوْدَى ابنُ جُلهُمَ عبّادٌ بصرْمته ... إنّ ابن جُلهُم أَمْسَى حَيّةَ الوادِى
فإنما أراد أمه جُلهم. والعرب يسمون المرأة جُلهم والرجل جُلهُمة.
وأما قوله، وهو رجل من بنى يشكر:

(2/272)


لَها أَشاريرُ من لْحَمٍ تُتَمّرُه ... من الثَّعالِى ووزخزٌ من أرانيَها
فزعم أن الشاعر لما اضطر إلى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة. وقال أيضا:
ومنهلٍ ليس له حَوازق ... ولِضفادي جَمّه نقانقُ

(2/273)


وإنما أراد ضفادع، فلما اضطر إلى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفا لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفا يوقَف في الجر والرفع. وليس هذا لأنه حذف شيئا فجعل الياء عوضا منه؛ لو كان ذلك لعوضت حارثا الياء حيث حذفت الثاء وجعلت البقية بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام على ثلاثة أحرف، وذلك حين قلت يا حارُ. ولو قلت هذا لقلت يا مَروي إذا أردت أن تجعل ما بقى من مروان بمنزلة ما بقى من حارث حين قلت: يا حارُ.
؟

هذا باب النفى بلا
ولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها.
وترك التنوين لما تعمل فيه لازم، لأنها جُعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجرى مجراه، لأنها لا تعمل إلا في نكرة، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. فلا لا تعمل إلا في نكرة كما أن رب لا تعمل إلا في نكرة، وكما أن كم لا تعمل في الخبر والاستفهام إلا في النكرة، لأنك لا تذكر بعد لا إذا كانت عاملة شيئا بعينه كما لا تذكر ذلك بعد رب، وذلك لأن رب إنما هى للعدة بمنزلة كم، فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما

(2/274)


خولف بأيُّهم حين خالفت الذي، وكما قالوا يا الله حين خالفت ما فيه الألف واللام، وسترى أيضا نحو ذلك إن شاء الله عز وجل.
فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهى عاملة فيما بعدها، كما قالوا يا ابن أم، فهى مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هى خمسة وعشرة.
فلا لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب، فيما زعم الخليل رحمه الله في قولك: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
واعلم أن لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدإ. وكذلك: ما من رجل، وما من شيء، والذي يُبنى عليه في زمان أو في مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته. وكذلك لا رجل ولا شيء، إنما تريد لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان.
والدليل على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ، وما من رجل في موضع

(2/275)


اسم مبتدإ في لغة بنى تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضل منك.
وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل أفضلُ منك، وهل من رجل خيرٌ منك، كأنه قال: ما رجلٌ أفضلُ منك، وهل رجلٌ خيرٌ منك.
واعلم أنك لا تفصل بين لا وبين للنفي، كما لا تفصل بين من وبين ما تعمل فيه، وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: لا فيها رجلَ، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه هل من فيها رجل. ومع ذلك أنهم جعلوا لا وما بعدها بمنزلة خمسة عشر، فقُبح أن يفعلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة وعشر بشيء من الكلام؛ لأنها مشبهة بها.
؟

باب المنفى المضاف بلام الإضافة
اعلم أن التنوين يقع من المنفى في هذا الموضع إذا قلت: لا غلامَ لك كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثلَ زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامَيْ لك، ولا مُسلمَيْ لك.
وزعم الخليل رحمه الله أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة.
وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك، في معنى لا أبالك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطا كسقوطه في لا مثل زيد

(2/276)


فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحدا، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تَيْم تَيْم عَديّ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحةَ في النداء، لم يغيروا آخر طلحةَ عما كان عليه قبل أن تلحق، وذلك قولهم: كِلينى لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطُر، للنابغة:

(2/277)


يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرّاراً لأقوامِ حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤسَ الجهل.
وإنما فُعل هذا في المنفى تخفيفا، كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذ قالوا يا طلحةَ أقبلْ فكأنهم لم يذكروا الهاء، وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة لا تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، كما لا تغير الهاء الاسمَ عن حاله قبل أن تلحق، فالنفيُ في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثم جاء فيه مثل ما جاء في النداء.
وإنما ذهبت النون في لا مُسلمَيْ لك على هذا المثال، جعلوه بمنزلة ما لو حُذفت بعده اللام كان مضافاً إلى اسم وكان في معناه إذا ثبتت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك؛ فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا لا مُسلمَيْك فعلى هذا الوجه حذفوا النون في لا مُسلمَي لك، وذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلم بلا

(2/278)


مسلمَيْكَ. قال مسكين الدارمى:
وقد مات شماخٌ وماتَ مزَرِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ يمتَّعُ
ويُروى: مخلّدُ.
وتقول: لا يَدَينِ بها لك، ولا يدينِ اليوم لك، إثبات النون أحسن، وهو الوجه. وذلك أنك إذا قلت: لا يَدَيْ لك ولا أبالك، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء؛ نحو لا مِثل زيد؛ فكما قبح أن تقول لا مثل بها زيد فتفصل، قبح أن تقول لا يَدَي بها لك، ولكن تقول: لا يَدَين بها لك، ولا أبَ يوم الجمعة لك، كأنك قلت: لا يدين بها ولا أبَ يوم الجمعة، ثم جعلت لك خبرا، فرارا من القبح.
وكذلك إن لم تجعل لك خبرا ولم تفصل بينهما، وجئت بلك بعد أن تضمر مكانا وزمانا كإضمارك إذا قلت: لا رجلَ. ولا بأس، وإن أظهرت

(2/279)


فحسن. ثم تقول لك لتبين المنفى عنه، وربما تركتَها استغناء بعلم المخاطب، وقد تذكرها توكيدا وإن عُلم من تعنى. فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قُبح أن تفصل بين لك وبين المنفى الذي قبله؛ لأن المنفى الذي قبله إذا جعلته كأنه اسمٌ لم تفصل بينه وبين المضاف إليه بشيء، قبح فيه ما قُبح في الاسم المضاف إلى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئا؛ لأن اللام كأنها ههنا لم تُذكر.
ولو قلت هذا لقلت لا أخا هذينِ اليومين لك. وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
كأن أصواتَ من إيغالهن بنا ... أواخرِ المَيس أصواتُ الفراريجِ
وإنما اختير الوجهُ الذي تثبَت فيه النون في هذا الباب كما اختير في كم إذا قلت كم بها رجلا مصابا، وأنت تُخبر، لغة من ينصب بها، لئلا يفصَل بين الجار والمجرور: ومن قال: كم بها رجل مصاب فلم يُبالِ القبح قال: لا يَدَيْ بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك، ولا أخا فاعلم لك.
والجر في كم بها رجلٍ مصابٍ، وترك النون في لا يَديْ بها لك، قول

(2/280)


يونس، واحتج بأن الكلام لا يستغنى إذا قلت كم بها رجلٍ. والذي يستغنى به الكلام وما لا يستغنى به قبحهما واحدٌ إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجار والمجرور. ألا ترى أن قبح كم بها رجلٍ مصاب، كقبح رُبّ فيها رجل، فلو حسن بالذي لا يستغنى به الكلام لحسُن بالذي يستغنى به، كما أن كل مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: إن بها زيدا مصابٌ، وإن فيها زيدا قائمٌ، وكان بها زيد مصابا، وكان فيها زيدٌ مصابا. وإنما يفرَق بين الذي يحسُن عليه السكوت وبين الذي لا يحسن عليه في موضع غير هذا.
وإثبات النون قول الخليل رحمه الله.
وتقول: لا غلامَينِ ولا جريتَيْ لك، إذا جعلت الآخِر مضافا ولم تجعله خبراً له، وصار الأول مضمَراً له خبرٌ، كأنك قلت: لا غلامين في مِلكك ولا جاريتيْ لك، كأنك قلت: ولا جاريتَيك في التمثيل، ولكنهم لا يتكلمون.
فإنما اختُصّت لا في الأب بهذا كما اختُصّ لدُن مع غُدوةَ بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعمل في كلامهم، نحو

(2/281)


قولهم: ملامحُ ومذاكيرُ، لا يستعملون لا مَلمَحةً ولا مِذكاراً؛ وكما جاء عذيرك على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو ضَرباً وضرْبَك، ولا يُتكلم به إلا معرفة مضافة. وسترى نحو هذا إن شاء الله. ومنه ما قد مضى.
وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جريتين لك، إذا جعلت لك خبرا لهما، وهو قول أبى عمرو. وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبرا، لأنه لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأن المضاف يحتاج إلى الخبر مضمَراً او مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عدى في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمارُ مكان، ولكنه تُرك استخفافا واستغناء. قال الشاعر، وهو نهارُ بن تَوسِعة اليشكُريّ فيما جعله خبرا:
أبِى الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... اذا افتَخروا بقيسٍ أو تميمِ

(2/282)


وإذا ترك التنوين فليس الاسم مع لا بمنزلة خمسة عشر، لأنه لو أراد ذلك لجعل لك خبرا وأظهر النون، أو أضمر خبرا ثم جاء بعدها بلك توكيدا، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء، لأنه موضع حذف وتخفيف، كما أن النداء كذلك.
وتقول أيضا إن شئت: لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين، كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء بلك بعد ما بنى على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يَدَين بها لك، حين صيره كأنه جاء بلك فيه بعد ما قال لا يَدين بها في الدنيا.
واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يك لك فإنما يُذهب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر، كما أُذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين فيها، ولا أبَ فيها؛ وأثبتوا النون لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جُعلا اسما واحدا، ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء على حد التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف.

(2/283)


وإنما صارت الأسماء حين وَلِيَت لك بمنزلة المضاف لأنهم كأنهم ألحقوا اللام بعد اسمٍ كان مضافا، كما أنك حين قلت: يا تيمَ تيمَ عَديّ فإنما ألحقتَ الاسم اسماً كان مضافاً، ولم يغير الثاني المعنى كما أن اللام لم تغير معنى لا أباكَ. وإذا قلت: لا أبَ فيها، فليست فى من الحروف التي إذا لحقتْ بعد مضاف لم تغير المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن اللام لا تغير معنى المضاف إلى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنى به لا يغير المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثم صارت اللام بمنزلة الاسم يثنى به.
وتقول: لا غلامَ وجارية فيها، لأن لا إنما تُجعل وما تعمل فيه اسما واحدا إذا كانت إلى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسة من عشر، كذلك لم يستقم هذا لأنه مشبه به، فإذا فارقه جرى على الأصل. قال الشاعر:

(2/284)


لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... اذا هو بالمَجْد ارْتَدى وتأَزَّرَا
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةً يا فتى إذا كنت لا بمنزلتها في ليس حين تقول: ليس لك لا رجلٌ ولا امرأة فيها. وقال رجل من بنى سُليم، وهو أنس بن العباس:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلةً ... اتَّسَعَ الخَرقُ على الراقِع

(2/285)


وتقول: لا رجلَ ولا امرأةَ فيها، فتُعيد لا الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فتكون حالُ الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى، أثبت النون، لأن لكَ خبرٌ عنهما، والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد، لأن النون أقوى من التنوين، فلم يُجروا عليها ما أجرَوا على التنوين في هذا الباب؛ لأنه مفارِق للنون، ولأنها تثبت فيما لا يَثبت فيه.
واعلم أن كل شيء حسن لك أن تُعمل فيه تُبّ حسُن لك أن تعمِل فيه لا.
وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب: ولاسيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثلَ زيدٍ، وما لَغوٌ. وقال: ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ، وكقوله: " مثلا ما بَعوضةٌ "؛ فسيٌّ في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثم عملتْ فيه لا كما تعمل رُبّ في مثل، وذلك قولك: رب مثلِ زيدٍ. وقال أبو محجن الثقفى:
يا رُبّ مثلِكِ فى النساء غريرةٍ ... بيضاءَ قد متّعْتُها بطَلاقِ

(2/286)


هذا باب
ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية
وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهى الاسم، فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يُحذف في النفى والنداء منتهى الاسم. وهو قولك: لا خيرا منه لك، ولا حسَناً وجهُه لك، ولا ضاربا زيدا لك؛ لأن ما بعد حسنٍ وضاربٍ وخيرٍ صار من تمام الاسم فقبح عندهم أن يحذفوا قبل أن ينتهوا إلى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفى في أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهما لك.
وقال الخليل رحمه الله: كذلك لا آمِراً بالمعروف لك، إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلتَه متصلا به، كأنك قلت: لا آمِراً معروفا لك. وإن قلت لا آمِرَ بمعروف، فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيتَ على الأول كلاما، كقولك: لا آمِرَ في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمِر يوم الجمعة فيها؛ فيصير المبني على الأول مؤخَّراً، ويكون المُلغى مقدما. وكذلك لا راغبا إلى الله لك، ولا مُغيراً على الأعداء لك، إذا جعلت الآخِر متصلا بالأول كاتصال منك بأفعل. وإن جعلته منفصلا من

(2/287)


الأول كانفصال لك من سَقياً لك لم تنوّن، لأن يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت: لا آمرا يومَ الجمعة إذا نفيتَ الآمرينَ يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: لا آمرَ يومَ الجمعة فأنت تنفى الآمرين كلهم ثم أعلمت في أى حين. وإذا قلت لا ضاربا يوم الجمعة فإنما تنفى ضاربى يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره، وتجعل يوم الجمعة فيه منتهى الاسم. وإنما نونت لأنه صار منتهى الاسم اليوم، كما صار ما ذكرتُ منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخِره نحو واو مضروب وألف مُضارب، فنونت كما نونتَ في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه.
فنوِّنْ في هذا ما نوّنتَه في النداء مما ذكرت لك إلا النكرة فإن النكرة، في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء. ولا تعمل لا إلا في النكرة، تُجعل معها بمنزلة خمسة عشر، فالنكرة ههنا بمنزلة المعرفة هناك، إلا ما ذكرت لك.
؟

هذا باب وصف المنفى
اعلم أنك إذا وصفت المنفى فإن شئت نونت صفةَ المنفى وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنون. وذلك قولك: لا غلام ظريفا لك، ولا غلامَ ظريفَ لك.

(2/288)


فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفى.
وأما الذين قالوا: لا غلامَ ظريفَ لك، فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
فإذا قلت: لا غلامَ ظريفاً لك، فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منونا؛ من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.
ومثل ذلك: لا غلامَ فيها ظريفا، إذا جعلتَ فيها صفة أو غير صفة.
وإن كررتَ الاسمَ فصار وصفا فأنت فيه بالخيار، إن شئت نوّنتَ وإن شئت لم تنون. وذلك قولك: لا ماءَ ماءَ باردا، ولا ماءَ ماءَ باردا. ولا يكون باردا إلا منوّناً، لأنه وصفٌ ثانٍ.
؟

باب لا يكون الوصف فيه إلا منونا
وذلك قولك: لا رجلَ اليوم ظريفا ولا رجلَ فيها عاقلا، إذا جعلت فيها

(2/289)


خبرا أو لغوا، ولا رجلَ فيك راغبا، من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسمٍ واحد وقد فصلتَ بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر وخمسة في خمسة عشر.
ومما لا يكون الوصفُ فيه إلا منونا قوله: لا ماء سماءٍ لك باردا، ولا مثلَه عاقلا، من قبل أن المضاف لا يُجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر، وإنما يذبه التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثم صار وصفُه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافا لم يكن إلا منونا كما يكون في غير باب النفى؛ وذلك قولك: لا ضاربا زيدا لك، ولا حسنا وجهَ الأخ فيها. فإذا كففتَ التنوين وأضفت كا بمنزلته في غير هذا الباب كما كان كذلك غيرَ مضاف، فلما صار التنوين إنما يُكَفّ للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: لا ماءَ ولا لبنَ، ثم وصفت اللبن، فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإذا جعلت الصفة للماء لم يكن الوصفُ إلا منونا؛ لأنه لا يُفصَل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمَراً أو مظهَراً، لأنهما قد صارا اسما واحدا بمنزلة زيد، ويحتاجان إلى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تَيمُ تيمُ عدى لم يستقم إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمار مكان.

؟ باب لا تسقط فيه النون وإن وَلِيَتْ لك
وذلك قولك: لا غلامين ظريفين ولا مسلمين صالحين لك، من قبل

(2/290)


أن الظريفين والصالحين نعتٌ للمنفى ومن اسمه، وليس واحدٌ من الاسمين ولِيَ لا ثم ولِيتَه لك، ولكنه وصف وموصوف، فليس للموصوف سبيل إلى الإضافة. ولم يجئ ذلك في الوصف لأنه ليس بالمنفى، وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفى فلم يجز ذلك إلا في المنفى، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه، من الحذف والاستخفاف. وقد بُيّن ذلك.
؟

باب ما جرى على موضع المنفى
لا على الحرف الذي عمل في المنفى فمن ذلك قول ذى الرمة:
بها العِينُ والآرامُ لا عِدَّ عندَها ... ولا كَرَعٌ إلا المَغاراتُ والرَّبْلُ
وقال رجل من بني مَذحِج:

(2/291)


هذا لعَمرُكم الصَّغارُ بعينِهِ ... لا أمَّ لى إن كان ذاك ولا أبُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا يجرى على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال: فَلسْنَا بالجِبال ولا الحَديدَا أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضا قول العرب: لا مالَ له قليلٌ ولا كثير، رفعوه على الموضع.
ومثل ذلك أيضا قول العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. وإن شئت حملتَ الكلام على لا فنصبت.
وتقول: لا مثلَه رجلٌ إذا حملته على الموضع، كما قال بعضُ العرب: لا حولَ ولا قوة إلا بالله. وإن شئت حملته على لا فنونته ونصبته. وإن شئت قلت: لا مثلَه رجلا، على قوله: لى مثلُه غلاما. وقال ذو الرمة:
هى الدارُ إذ مَيٌّ لاهْلِكِ جيرةٌ ... لياليَ لا أمثالَهنّ لياليا

(2/292)


وقال الخليل رحمه الله: يدلك على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدإ مرفوع، قولك: لا رجلَ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضل منك. ومثل ذلك: بحَسبك قول السّوْء، كأنك قلت: حسبك قولُ السّوْء.
وقال الخليل رحمه الله: كأنك قلت: رجلٌ أفضل منك، حين مثله.
وأما قول جرير:
يا صاحبَيّ دَنا الرّواحُ فسِيرا ... لا كالعشيةِ زائراً ومَزورا
فلا يكون إلا نصبا؛ من قبل أن العشية ليست بالزائر، وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائرا، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلا، فكاليوم كقولك في اليوم، لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب، كما قال: تالله رجلا، وسبحان الله رجلا، وإنما أراد: تالله ما رأيت رجلا، ولكنه

(2/293)


يترك الإظهار استغناء، لأن المخاطَب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمَر فيه هذا الفعل، لكثرة استعمالهم إياه.
وتقول: لا كالعشية عشيةٌ، ولا كزيد رجلٌ؛ لأن الآخِر هو الأول، ولأن زيدا رجل، وصار لا كزيد كأنك قلت: لا أحدَ كزيد، ثم قلت رجلٌ، كما تقول: لا مال له قليلٌ ولا كثير، على الموضع. قال الشاعر، امرؤ القيس:
ويْلِمِّها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ
كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرتُ لك. وإن شئت نصبته على نصبه: فهل في مَعدّ فوقَ ذلك مِرفَدا كأنه قال: لا أحدَ كزيد رجلا، وحمل الرجل على زيد، كما حمل المرفد على ذلك. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه لا مال له قليلا ولا كثيرا.

(2/294)


ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولُهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.

؟ باب ما لا تُغيّر فيه لا الأسماء عن حالها
التي كانت عليها قبل أن تدخل لا
ولا يجوز ذلك إلا أن تُعيد لا الثانية؛ من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية، إذا ادّعيتَ أن أحدهما عنده. ولا يحسن إلا أن تُعيد لا، كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.
وإذا قال لا غلامَ، فإنما هي جوابٌ لقوله: هل من غلام، وعملتْ لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء، كما عملتْ مِن في الغلام وإن كان في موضع ابتداء.
فمما لا يتغير عن حاله قبل أن تدخل عليه لا قولُ الله عز وجل ذكره: " لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون ". وقال الشاعر، الراعى:
وما صرَمْتُكِ حتّى قلتِ مُعلنةً ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ

(2/295)


وقد جُعلت، وليس ذلك بالأكثر، بمنزلة ليس.
وإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا، في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك:
مَن صَدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
واعلم أن المعارف لا تجرى مجرى النكرة في هذا الباب، لأن لا لا تعمل في معرفة أبدا. فأما قول الشاعر: لا هيثَمَ الليلةَ للمَطيّ فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهيثمَين. ومثل ذلك: لا بضرةَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدى:

(2/296)


أرى الحاجاتِ عند أبى خُبَيبٍ ... نكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلادِ
وتقول: قضية ولا أبا حسن، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليا رضى الله عنه فقال: لأنه لا يجوز لك أن تعمِل لا في معرفة، وإنما تعملها في النكرة فإذا جعلت أبا حسنٍ نكرة حسن لك أن تعمِل لا، وعلم المخاطَب أنه قد دخل في هؤلاء المنكورين عليٌّ، وأنه قد غُيِّب عنها.
فإن قلت: إنه لم يُردْ أن ينفى كل من اسمُه على؟ فإنما أراد أن ينفى منكورين كلهم في قضيته مثلُ على كأنه قال: لا أمثالَ على لهذه القضية، ودل هذا الكلام على أنه ليس لها على، وأنه قد غيب عنها.
وإن جعلته نكرة ورفعته كما رفعت لا بَراحُ، فجائز. ومثله قول الشاعر، مُزاحم العُقَيلي:

(2/297)


فرَطْنَ فلا رَدٌ لِما بُتّ وانقضى ... ولكنْ بغوضٌ أن يقالَ عديمُ
وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة، ولا تثنى لا. قال الشاعر:
بكتْ جَزْعّا واسترجعت ثم آذنتْ ... ركائبُها أن لا إلينا رجوعُها
واعلم أنك إذا فصلت بين لا وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد لا الثانية، لأنه جُعل جواب: إذا عندك أم ذا؟ ولم تُجعل لا في هذا الموضع

(2/298)


بمنزلة ليس، وذلك لأنهم جعلوها، إذا رفعتْ، مثلها إذا نصبتْ؛ لا تفصل لأنها ليست بفعل.
فمما فُصل بينه وبين لا بحشوٍ قوله جل ثناؤه: " لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون ". ولا يجوز لا فيها أحد إلا ضعيفا، ولا يحسن لا فيك خيرٌ؛ فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعا؛ لأن لا لا تعمل إذا فُصل بينها وبين الاسم، رافعة ولا ناصبة، لما ذكرت لك.
وتقول: لا أحد أفضل منك، إذا جعلته خبرا، وكذلك: لا أحدَ خيرٌ منك: قال الشاعر:
ورَدَّ جازرُهم حَرفاً مُصَرّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مصبوحُ

(2/299)


لما صار خبرا جرى على الموضع؛ لأنه ليس بوصف ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحدَ فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويُجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمَل عليها. ولم تُجعل لا التي كليس مع ما بعدها كاسم واحد، لئلا يكون الرافع كالناصب. وليس أيضاً كل شيء يخالف بلفظه يجري مجرى ما كان في معناه.
؟

باب لا تجوز فيه المعرفة إلا
أن تُحمَل على الموضع لأنه لا يجوز للا أن تعمل في معرفة، كما لا يجوز ذلك لرب
فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العبّاسُ. فإن قلت: أحملُه على لا؟ فإنه ينبغي لك أن تقول: رب غلامٍ لك والعباس، وكذلك لا غلام لك وأخوه.
فأما من قال: كلَّ شاة وسخلتِها بدرهم فإنه ينبغي له أن يقول: لا رجلَ

(2/300)


لك وأخاه، لأنه كأنه قال: لا رجلَ لك وأخاً له.
؟

باب ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله
التي كان عليها قبل أن تلحق
وذلك لأنها لحقت ما قد عمل فيه غيرُها، كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية لا، كما لا تثنى لا في الأفعال التي هي بدل منها.
وذلك قولك: لا مرحَباً ولا أهلا، ولا كرامة، ولا مسرة، ولا شللاً، ولا سقياً ولا رَعياً، ولا هنيئا ولا مريئا، صارت لا مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه لا، لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق لا.
ومثل ذلك: لا سلامٌ عليك، لم تغير الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق.
وقال جرير:
ونُبّئتُ جَوَّاباً وسَكناً يَسُبُّني ... وعمَرو بن عَفْرَا لا سلامٌ على عمرِو
فلم يلزمك في ذا تثنية لا، كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه، وذلك لا سلم الله عليه. فدخلتْ في ذا الباب لتنفي ما كان دُعاء كما دخلت على الفعل الذي هو بدلٌ من لفظه.

(2/301)


ومثلُ لا سلامٌ على عمرو: لا بك السّوْء؛ لأن معناه لا ساءك الله.
ومما جرى مجرى الدعاء مما هو تطلُّقٌ عند طلب الحاجة وبشاشة، نحو كرامة ومسرة ونُعمةَ عين. فدخلتْ على هذا كما دخلتْ على قوله: ولا أُكرمُك ولا أسُرّك، ولا أُنعمُك عينا. ولو قبح دخولها هنا لقبح في الاسم، كما قبح في لا ضَرباً، لأنه لا يجوز: لا اضربْ، في الأمر.
وقد دخلت في موضع غير هذا فلم تغيره عن حاله قبل أن تدخله، وذلك قولهم: لا سَواء، وإنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعتْ عليه سواء. ألا ترى أنك لا تقول هذان لا سواءٌ، فجاز هذا كما جاز: لا ها اللهِ ذا، حين عاقبتْ ولم يجز ذكر الواو.
وقالوا: لا نَوْلك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقِباً لقوله: لا ينبغي أن تفعل كذا وكذا، وصار بدلا منه، فدخل فيه ما دخل في ينبغي، كما دخل في لا سلامٌ ما دخل في سلم.
واعلم أن لا قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء، وذلك نحو قولك: أخذتَه بلا ذَنب، وأخذته بلا شيء، وغضبتَ من لا شيء، وذهبتَ بلا عتاد؛ والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد، وأخذتَه بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل غيرا شيئا أخذه به يعتد به عليه.

(2/302)


ومثل ذاك قولك للرجل: أجئتَنا بغير شيء، أي رائقاً.
وتقول إذا قلّلتَ الشيءَ أو صغّرتَ أمره: ما كان إلا كلا شيء، وأنك ولا شيئا سواءٌ. ومن هذا النحو قول الشاعر، وهو أبو الطفيل:
تركتَني حينَ لا مالٍ أعيشُ به ... وحينَ جُنّ زمانُ الناسِ أو كَلِبا
والرفع عربي على قوله: حينَ لا مُستَصْرَخُ

(2/303)


و: لا بَراحُ والنصبُ أجودُ وأكثر من الرفع؛ لأنك إذا قلت لا غلامَ فهي أكثر من الرافعة التي بمنزلة ليس. قال الشاعر، وهو العجاج: حَنَّتْ قَلوصي حينَ لا حينَ مَحَنّْ

(2/304)


وأما قول جرير:
ما بالُ جهلِك بعد الحِلم والدينِ ... وقد علاكَ مَشيبٌ حينَ لا حينِ
فإنما هو حينَ حينٍ، ولا بمنزلة ما إذا أُلغيتْ.
واعلم أنه قبيح أن تقول: مررتُ برجل لا فارسٍ، حتى تقول: لا فارسٍ ولا شجاع. ومثلُ ذلك: هذا زيدٌ لا فارسا، لا يحسن حتى تقول: لا فارسا ولا شجاعا. وذلك أنه جوابٌ لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجلٍ شجاع مررتَ أم بفارسٍ؟ وكقوله: أفارسٌ زيدٌ أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجلٌ من بني سَلول:
وأنتَ امرؤٌ منَّا خُلقتَ لغيرِنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ

(2/305)


فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبرا للأسماء، نحو: زيدٌ لا فارسٌ ولا شجاع.
واعلم أن لا في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله، البيت لحسان بن ثابت:
أَلاَ طِعانَ ولا فُرسانَ عادِيةً ... إلاّ تَجشّؤُكم عند التنانيرِ
وقال في مثل: أفلا قُماصَ بالعَير.

(2/306)


ومن قال: لا غلام ولا جارية، قال: ألا غلامٌ وألا جارية.
واعلم أن لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملتْ فيما بعدها فنصبته، ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر، وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر. فمن ذلك: ألا غلامَ لى وألا ماءَ باردا. ومن قال: لا ماءَ باردَ قال: ألا ماء باردَ.
ومن ذلك: ألا أبا لي، وألا غلامَيْ لي.
وتقول: ألا غلامين أو جاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك.
وتقول: ألا ماءَ ولبنا كما قلت: لا غلامَ وجارية لك، تُجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرتُ لك.

(2/307)


وسألت الخليل رحمه الله عن قوله:
ألا رجلاً جزَاه اللهُ خيراً ... يَدلُّ على محصلةٍ تبيتُ
فزعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلا خيرا من ذلك، كأنه قال: ألا تُروني رجلا جزاه الله خيرا.
وأما يونس فزعم أنه نون مضطرا، وزعم أن قوله:

(2/308)


لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً على الاضطرار. وأما غيره فوجهه على ما ذكرتُ لك. والذي قال مذهب.
ولا يكون الرفع في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: إذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع معنى ليس.
وتقول: ألا ماء وعسلا باردا حلوا، لا يكون في الصفة إلا التنوين، لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلتَ البرد للماء، والحلاوةَ للعسل.
ومن قال: لا غلامَ أفضلُ منك، لم يقل في ألا غلامَ أفضلَ منك إلا بالنصيب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنيا عن الخبر كاستغناء اللهم غلاما، ومعناه اللهم هب لي غلاما.
؟

هذا باب الاستثناء
فحرفُ الاستثناء إلا. وما جاء من الأسماء فيه معنى إلا فغيرٌ، وسوى. وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون، وليس، وعدا، وخلا. وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشى وخلا في بعض اللغات.
وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله عز وجل الأولَ فالأول.

(2/309)


؟

باب ما يكون استثناء بإلا
اعلم أن إلا يكون الاسم بعدها على وجهين: فأحدُ الوجهين أن لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن لا حين قلت: لا مرحبا ولا سلامٌ، لم تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى.
والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه ما قبله، عاملا فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهما.
فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه، وذلك قوله: ما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيدا، وما مررتُ إلا بزيدٍ، تُجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيدٌ، وما لقيتُ زيدا، وما مررتُ بزيد، ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفى ما سواها، فصارت هذه الأسماء مُستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلا؛ لأنها بعد إلا محمولة على ما يجر ويرفع وينصب،

(2/310)


كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلا، ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلا الفعلَ بغيرها.

؟ باب ما يكون المستثنى فيه بدلا مما
نفى عنه ما أُدخل فيه وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، وما رأيتُ أحدا إلا زيدا، جعلت المستثنى بدلا من الأول، فكأنك قلت: ما مررتُ إلا بزيدٍ، وما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيدا. كما أنك إذا قلت: مررت برجلٍ زيدٍ، فكأنك قلت: مررتُ بزيدٍ. فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلا من الذي قبله، لأنك تُدخله فيما أخرجتَ منه الأول.
ومن ذلك قولك: ما أتاني القومُ إلا عمرو، وما فيها القومُ إلا زيدُ، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررتُ بالقوم إلا أخيك. فالقوم ههنا بمنزلة أحد.
ومن قال: ما أتاني القومُ إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القومُ إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول: " مَا فَعَلُوهُ إلاَّ قَليلاً مِنْهُمُ ".
وحدثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجهُ ما أتاني القومُ إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما أنه

(2/311)


لا يجوز أتاني أحدٌ، ولكن المستثنى في هذا الموضع مبدَلٌ من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: " ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُم " ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذاك إلا زيد، لأنه ذكر واحدا.
ومن ذلك أيضا: ما فيهم أحدٌ اتخذتُ عنده يداً إلا زيدٌ، وما فيهم خيرٌ إلا زيدٌ، إذا كان زيد هو الخير.
وتقول: ما مررتُ بأحد يقول ذاك إلا عبدِ الله، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. هذا وجه الكلام. وإن حملتَه على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيد ورفعت فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. وإن شئت رفعت فعربي. قال الشاعر، وهو عدى بن زيد:
في ليلةٍ لا نَرى بها أحداً ... يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها

(2/312)


وكذلك ما أظن أحدا يقول ذاك إلا زيدا. وإن رفعتَ فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحدا يقول ذاك إلا زيدا، وإن شئت رفعت.
وإنما اختير النصبُ هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدَل منه، وأن لا يكون بدلا إلا من منفى، فالمبدَل منه منصوب منفى ومضمَره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلا منه لأنه هو المنفى، وهذا وصف أو خبر وقد تكلموا بالآخر، لأن معناه النفي إذا كان وصفا لمنفى، كما قالوا: قد عرفت زيدٌ أبو مَن هو، لما ذكرتُ لك، لأن معناه معنى المستفهَم عنه.
وقد يجوز: ما أظن أحداً فيها إلا زيدٌ، ولا أحدَ منهم اتخذتُ عنده يداً إا زيدٍ، على قوله: إلاَّ كواكبُها.
وتقول: ما ضربتُ أحدا يقول ذاك إلا زيدا، لا يكون في ذا إلا النصب، وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلِك، ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد، ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا. والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدٌ،

(2/313)


ولكنك قلت رأيتُ أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل رحمه الله: ألا ترى أنك تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقوله إلا عمرو. فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضعَ فعل كضربتُ وقتلت، ولكنه فعلٌ بمنزلة ليس يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك.
وتقول: أَقلُّ رجلٍ يقولُ ذاك إلاَّ زيدٌ، لأنه صار في معنى ما أحدٌ فيها إلا زيد.
وتقول: قَلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلاَّ زيدٌ، فليس زيدٌ بدلا من الرجل في قلَّ، ولكن قلَّ رجلٌ في موضع أقلُّ رجل، ومعناه كمعناه. وأقل رجلٍ مبتدأ مبني عليه، والمستثنى بدل منه؛ لأنك تُدخله في شيء تُخرج منه مَن سواه.
وكذلك أقل من يقول ذلك، وقل من يقول ذاك، إذا جعلتَ

(2/314)


مَن بمنزلة رجلٍ. حدثنا بذلك يونس عن العرب، يجعلونه نكرة، كما قال:
رُبَّ ما تكره النفوسُ مِن الأ ... مر له فَرجةٌ كحلِّ العِقالِ
فجعل ما نكرة.