الكتاب لسيبويه ؟ باب ما حُمل على موضع العامل
في الاسم والاسم
لا على ما عمل في الاسم، ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو
منصوب.
وذلك قولك: ما أتاني من أحدٍ إلا زيدٌ، وما رأيت من أحدٍ إلا زيدا.
(2/315)
وإنما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنه
خلفٌ أن تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع
فجعله بدلا منه كأنه قال: ما أتاني أحد إلا فلان؛ لأن معنى ما أتاني
أحد وما أتاني من أحدٍ واحدٌ، ولكن مِن دخلت هنا توكيدا، كما تدخل
الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام، وفي: ما أنت بفاعل، ولستَ بفاعلٍ.
ومثل ذلك: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، من قبل أن بشيء في موضع
رفع في لغة بني تميم، فلما قبُح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من
اسم مرفوع، وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما
أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، استوت اللغتان، فصارت ما على أقيس
الوجهين؛ لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به فكأنك قلت:
ما أنت إلا شيء لا يُعبَأ به.
وتقول: لستَ بشيء إلا شيئا لا يُعبَأ به، كأنك قلت: لستَ إلا شيئا لا
يُعبَأ به، والباء ههنا بمنزلتها فيما قال الشاعر:
(2/316)
يا ابْنَيْ لُبَينَي لستُما بيدٍ ... إلاَّ
يَداً ليست لها عضُدُ
ومما أجرى على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد
الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدإ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما
أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ، من
قبل أنه خلفٌ أن تحمل المعرفة على مِن في ذا الموضع، كما تقول لا أحدَ
فيها لا زيدٌ ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تُحمل على لا؛ وذلك أن هذا
الكلام جواب لقوله: هل مِن أحد، أو هل أتاك من أحد؟ وتقول: لا أحدَ
رأيته إلا زيد، إذا بنيتَ رأيته على الأول، كأنك قلت: لا أحدَ مرئى.
وإن جعلت رأيته صفة فكذلك، كأنك قلت لا أحدَ مرئيا.
وتقول: ما فيها إلا زيدٌ، وما علمتُ أن فيها إلا زيدا. فإن قلبتَه
فجعلتَه يلي أن وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يَجز؛ لأنهما ليسا بفعل
فيُحتمل قلبُهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلا
ذاهبا، ولكنه لما طال الكلام قويَ واحتُمل ذلك، كأشياء تجوز في الكلام
إذا طال وتزداد حُسناً. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.
(2/317)
وتقول: إن أحدا لا يقول ذاك، وهو ضعيف
خبيث، لأن أحدا لا يستعمل في الواجب، وإنما نفيتَ بعد أن أوجبتَ، ولكنه
قد احتُمل حيث كان معناه النفي، كما جاز في كلامهم: قد عرفتُ زيدٌ أبو
مَن هو، حيث كان معناه أبو مَن زيدٌ. فمن أجاز هذا قال: إن أحداً لا
يقول هذا إلا زيدا، كما أنه يقول على الجواز: رأيتُ أحدا لا يقول ذاك
إلا زيدا، يصير هذا بمنزلة ما أعلمُ أن أحدا يقول ذاك، كما صار هذا
بمنزلة ما رأيتُ حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت إلا زيدٌ، فحملته
على يقول، كما جاز: يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها وليس هذا في القوة
كقولك: لا أحدَ فيها إلا زيدٌ، وأقلُّ رجلٍ رأيتُه إلا عمرو؛ لأن هذا
الموضع إنما ابتُدئ مع معنى النفي، وهذا موضعُ إيجاب، وإنما جيء بالنفي
بعد ذلك في الخبر، فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء، حين وقع
منفيا. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم يقل أقلُّ رجلٍ ولا
رجلَ، لأن الاستثناء لابد له ها هنا من النفي. وجاز أن يُحمل على إن
هاهنا، حيث صارت أحد كأنها منفية.
(2/318)
؟ باب النصب فيما يكون مستثنى مبدَلاً
حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوقَ بعربيته يقول: ما
مررتُ بأحدٍ إلا زيدا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدا. وعلى هذا: ما رأيت
أحدا إلا زيدا، فينصب زيدا على غير رأيت؛ وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً
من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول. والدليل على ذلك أنه
يجيء على معنى: ولكن زيدا، ولا أعني زيدا. وعمل فيه ما قبله كما عمل
العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهما.
ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفُلان والله مالا إلا أنه شقي؛ فأنه لا
يكون أبدا على إن لفلان، وهو في موضع نصبٍ وجاء على معنى: ولكنه شقي.
؟ هذا بابٌ يختار فيه النصب
لأن الآخِر ليس من النوع الأول وهو لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: ما فيها
أحد إلا حمارا، جاءوا به على معنى ولكن حمارا، وكرهوا أن يُبدلوا
الآخِر من الأول، فيصيرَ كأنه من نوعه، فحُمل على معنى ولكن، وعمل فيه
ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.
وأما بنو تميم فيقولون: لا أحدَ فيها إلا حمارٌ، أرادوا ليس فيها إلا
حمار، ولكنه ذكر أحدا توكيدا لأن يُعلم أن ليس فيها آدميّ،
(2/319)
ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمارٌ.
وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
فإنْ تُمسِ في قبرٍ برَهوَةَ ثاوِيا ... أنيسُك أصداءُ القُبورِ تصيحُ
فجعلهم أنيسَه. ومثل ذلك قوله: ما لي عتابٌ إلاَّ السيفُ، جعله عتابه.
كما أنك تقول: ما أنت إلا سيرا، إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت
بنو تميم قولَ النابغة الذبياني:
(2/320)
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّندِ ...
أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... عيّتْ جَواباً وما بالرَّبْعِ مِن
أحدِ
إلا أُواريُّ لأياً ما أبيّنها ... والنّؤيُ كالحَوْض بالمَظْلومة
الجلَدِ
وأهل الحجاز ينصبون.
ومثل ذلك قوله:
(2/321)
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلاّ اليَعافيرُ
وإلا العيسُ
جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسرته في الحمار اول مرة.
وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدلٌ.
ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، لأن التكلف ليس من
السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف، هو بمنزلة التكلف. وإنما يجيء هذا على
معنى ولكنْ. ومثل ذلك قوله عز وجل ذكره: " ما لهم به من عِلمٍ إلا
اتّباعَ الظن "، ومثله: " وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريحَ لهم ولا هُم
يُنقَذون. إلا رحمة منا ". ومثل ذلك قول النابغة:
حلفتُ يَميناً غيرَ ذى مَثنَوِيةٍ ... ولا عِلمَ إلا حُسنَ ظنٍّ بصاحبِ
(2/322)
وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون
اتباع الظن علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلف سلطانه. وهم يُنشدون بيت
ابن الأيهم التغلبي رفعا:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا.
وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتِّباعَ الظن علمَهم. وإن شئتَ
(2/323)
كانت على ما فسّرتُ لك في الحمار إذا لم
تجعله أنيسَ ذلك المكان. وقال الحارث بن عُبار:
والحربُ لا يبقى لجا ... حمِها التّخيلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبّارُ في الن ... جَدَات والفرسُ الوَقاحُ
وقال:
لم يغذُها الرِّسلُ ولا أيسارُها ... إلا طريُّ اللحمِ واستجزارُها
وقال:
(2/324)
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا
النّبلُ إلا المشرَفيّ المصَمّمُ
وهذا يقوى: ما أتاني زيدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه إخوانُكم إلا إخوانُه؛
لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.
؟
باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن
فمن ذلك قوله تعالى: " لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم " أي
ولكن من رحم. وقوله عز وجل: " فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها
إلا قومَ يونسَ لما آمنوا " أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل:
" فلَوْلاَ كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قبلِكم أُولُوا بقيةٍ ينهونَ عَنِ
الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قلِيلاً ممن أنجينا منهم "، أي ولكن
قليلاً مما أنجينا منهم. وقوله عز وجل: " أُخرِجوا من ديارهم بغير حق
إلا أن يقولوا ربُّنا الله "، أي ولكنهم يقولون: ربُنا الله.
وهذا الضربُ في القرآن كثير.
(2/325)
ومن ذلك من الكلام: لا تكونن من فلان في
شيء إلا سلاما بسلام.
ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما
نفع إلا ما ضر. فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضرر. كما أنك
إذا قلت: ما أحسنَ ما كلم زيدا، فهو ما أحسنَ كلامَ زيدا. ولولا ما لم
يجز الفعل بعدُ إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسنَ بغير ما،
كأنه قال: ولكنه ضر، وقال: ولكنه نقص. هذا معناه.
ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيبَ فيهمْ غيرَ أنْ سيوفَهم ... بهن فلولٌ من قِراعِ الكَتائِبِ
أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدى:
(2/326)
فَتىً كمُلت خيراتُه غيرَ أنه ... جوادٌ
فلا يُبقي من المالِ باقيِاَ
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق:
وما سَجَنوني غيرَ أنّي ابنُ غالبٍ ... وأنّى من الأثرَيْنَ غيرِ
الزّعانفِ
كأنه قال: ولكني ابنُ غالب. ومثل ذلك في الشعر كثيرٌ. ومثل ذلك قوله،
وهو قول بعض بني مازن يقال له عنزُ بن دجاجة:
(2/327)
من كانَ أشركَ في تفرُّقِ فالجٍ ...
فلَبُونه جرِبَت معاً وأغدّتِ
إلاّ كناشرةَ الذي ضيّعتُم ... كالغُصن في غُلوائه المنبّتِ
كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال:
لولا ابنُ حارِثَة الأميرُ لقد ... أغضيْتَ من شَتْمى على رغمِ
(2/328)
إلاّ كمُعرضٍ المحسّرِ بَكرَه ... عَمداً
يسبّبُني على الظُلْم
؟ باب ما تكون فيه أنَّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء
وذلك قولهم ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا، فأَنَّ في موضع اسم
مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولُهم كذا وكذا.
ومثل ذلك قولهم: ما مَنَعَني إلاّ أنْ يَغضب علىّ فلانٌ.
والحجةُ على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من
العرب الموثوق بهم، مَن يُنشد هذا البيت رفعا للكناني:
لَمْ يَمُنعَ الشربَ منها غيرُ أنْ نطقَتْ ... حَمامة في غصونٍ ذات
أوقالِ
(2/329)
وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي
في موضع الرفع، فقال الخليل رحمه الله: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل
موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة:
على حين عاتَبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلتُ ألَمَّا أصْحُ والشيبُ
وازعُ
كأنه جعل حين وعاتبتُ اسما واحدا.
؟
باب لا يكون المستثنى فيه إلاَّ نصبا
لأنه مخرَجٌ مما أدخلت فيه غيره، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في
الدرهم حين قلت: له عشرون درهما. وهذا قول الخليل رحمه الله، وذلك
(2/330)
قولك: أتاني القومُ إلا أباك، ومررتُ
بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك وانتصب الأب إذ لم يكن داخلا
فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العاملُ فيه ما قبله من
الكلام؛ كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمولٍ على ما حُملت عليه
وعمل فيها.
وإنما منع الأبَ أن يكون بدلا من القوم أنك لو قلت أتاني إلا أبوك كان
مُحالاً. وإنما جاز ما أتاني القومُ إلا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول: ما
أتاني إلا أبوك فالمبدَل إنما يجيء أبداً كأنه لم يُذكَر قبله شيء لأنك
تُخلي له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: ما أتاني القومُ إلا أبوك
فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك.
وتقول: ما فيهم أحدٌ إلا وقد قال ذلك إلا زيدا، كأنه قال: قد قالوا ذلك
إلا زيداً.
؟
باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً
بمنزلة مثلٍ وغيرٍ
وذلك قولك: لو كان مَعَنا رجلٌ إلاّ زيدٌ لغُلِبنا.
والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكْنا وأنت
تريد الاستثناء لكنت قد أحلتَ. ونظر ذلك قوله عز وجل:
(2/331)
" لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدَتا ".
ونظير ذلك من الشعر قوله، وهو ذو الرمة:
أنيخَت فألقتْ بَلْدَةً فوقَ بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا
بُغامُها
كأنه قال: قليلٍ بها الأصوات غيرُ بغامها، إذا كانت غيرُ غيرَ استثناء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " لاَ يَسْتَوى الْقاَعِدُونَ مِنَ الْمْؤمِنينَ
غيرُ
(2/332)
أُولىِ الضّرَر "، وقوله عز وجل ذكره: "
صراطَ الذِينَ أنعمتَ عَلَيْهمْ غير المغضوبِ عَلَيْهمْ ". ومثل ذلك في
الشعر للبيد بن ربيعة:
وإذا أُقرضتَ قرضاً فاجرِه ... إنَّما يَجْزِى الفَتَى غيرُ الجملْ
وقال أيضا:
لو كان غيري سُليمى اليومَ غيّرَهُ ... وقعُ الَحوادثِ إلاّ الصارمُ
الذّكرُ
(2/333)
كأنه قال: لو كان غيري غيرُ الصارم الذكر،
لغيره وقع الحوادث، إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى أنه أراد
أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيّره شيء.
وإذا قال: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت إلا زيد
بدلا، وإن شئت جعلته صفة. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدٌ وأنت
تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل، وإنما يجوز ذلك صفة.
ونظير ذلك من كلام العرب أَجْمَعُونَ، لا يجرى في الكلام إلا على اسم،
ولا يعمل فيه ناصبٌ ولا رافعٌ ولا جار.
وقال عمرو بن معدى كرب:
وكلُ أخٍ مُارقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلاّ الفرقدانِ
(2/334)
كأنه قال: وكلُ أخ غيرُ الفرقدين مفارقُه
أخوه، إذا وصفتَ به كُلاً، كما قال الشماخ:
وكلُ خليلٍ غيرُ هاضم نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعازرُ
ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون، لأنك لا تضمِر الاسم الذي هذا من
تمامه، لأن أنْ يكون اسما.
؟ هذا باب ما يقدَّم فيه المستثنى
وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحدٌ، وما لي إلا أباك صديقٌ.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم إنما حملهم على نصب هذا أن المستثني إنما
وجهه عندهم أن يكون بدلا ولا يكون مبدَلاً منه؛ لأن الاستثناء إنما حده
أن تَدارَكَه بعد ما تنفى فتُبدِله، فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه
على وجه قد يجوز إذا أخّرتَ المستثني، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون
الاسم صفة في قولهم: فيها قائما رجلٌ، حملوه على وجه قد يجوز لو أخّرتَ
الصفة، وكان هذا الوجهُ أمثلَ عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه.
قال كعب بن مالك:
(2/335)
الناسُ ألبٌ علينا فيكَ، ليس لنا ... إلا
السيوفَ وأطرافَ القَنَا وزَرُ
سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم، كراهية أن يجعلوا ما حدُّ
المستثني أن يكون بدلا منه بدلاً من المستثنى.
ومثل ذلك: ما لي إلا أباك صديقٌ.
فإن قلت: ما أتاني أحدٌ إلا أبوك خيرٌ من زيد، وما مررتُ بأحدٍ إلا
عمرو خيرٍ من زيد وما مررتُ بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيدٍ، كان الرفع
والجر جائزين، وحسُن البدل لأنك قد شغلت الرافعَ والجار، ثم أبدلتَه من
المرفوع والمجرور، ثم وصفتَ بعد ذلك.
وكذلك: مَن لي إلا أبوك صديقا؛ لأنك أخليت مَن للأب ولم تُفرده لأن
يعمل كما يعمل المبتدأ.
(2/336)
وقد قال بعضهم: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدا
خيرٍ منه، وكذلك مَن لي إلا زيداً صديقاً، وما لي أحدٌ إلا زيدا صديقٌ؛
كرهوا أن يقدموا وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصبا، كما كرهوا أن يقدَّم
قبل الاسم إلا نصبا.
وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد،
فيجعلون أحدا بدلا كما قالوا: ما مررتُ بمثله أحد، فجعلوه بدلا. وإن
شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقا، كأنك قلت: لى أبوك صديقا، كما قلت: مَن
لي إلا أبوك صديقا حين جعلتَه مثلَ: ما مررتُ بأحدٍ إلا أبيك خيراً
منه. ومثله قول الشاعر، وهو الكَلحَبة الثعلبي:
أمرتُكمُ أمرى بمنقطَع اللِّوى ... ولا أمرَ للمَعصيّ إلا مضيَّعا
(2/337)
كأنه قال: للمعضيّ أمرٌ مضيعا، كما جاز
فيها رجلٌ قائما. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضا على قوله:
لا أحدَ فيها إلا زيدا.
؟
هذا باب
ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار
وذلك قولك: ما لي إلا زيدا صديقٌ وعمرا وعمرٌو، ومَن لي إلا أباك صديقٌ
وزيدا وزيدٌ.
أما النصب فعلى الكلام الأول، وأما الرفع فكأنه قال: وعمرو لي، لأن هذا
المعنى لا ينقضُ ما تريد في النصب. وهذا قول يونسَ والخليل رحمهما
الله.
هذا باب تثنية المستثنى
وذلك قولك: ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمرا. ولا يجوز الرفعُ في عمرو، من
قبل أن المستثنى لا يكون بدلا من المستثنى. وذلك أنك لا تريد أن تُخرج
الأول من شيء تُدخل فيه الآخِر.
وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيدا إلا عمرٌو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون
زيد منتصبا من حيث انتصب عمرو، فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول
ورفعت الآخر، وإن شئت نصبتَ الآخِر ورفعت الأول.
(2/338)
وتقول: ما أتاني إلا عمرا إلا بِشراً أحدٌ،
كأنك قلت: ما أتاني إلا عمرا أحدٌ إلا بِشرٌ، فجعلتَ بشرا بدلا من أحد
ثم قدّمت بشراً فصار كقولك: ما لي إلا بشراً أحدٌ؛ لأنك إذا قلت: ما لي
إلا عمرا أحدٌ إلا بشرٌ، فكأنك قلت: ما لي أحدٌ إلا بشرٌ.
والدليل على ذلك قول الشاعر، وهو الكُميتُ:
فما لِىَ إلاّ اللهُ لا رَبَّ غيرَه ... وما لىَ إلاّ اللهَ غيرَك
ناصرُ
فغيرَك بمنزلة إلا زيدا.
وأما قوله، وهو حارثة بن بدر الغُدانيّ:
(2/339)
يا كعبُ صَبْراً على ما كان من حدثٍ ... يا
كعبُ لم يبقَ منّا غيرُ أجلادِ
إلاَّ بقيّاتُ أنفاسٍ تُحشرِجُها ... كراحلٍ رائحٍ أو باكرٍ غادِى
فإن غير ههنا بمنزلة مثل، كأنك قلت: لم يبقَ منها مثلُ أجلادٍ إلا
بقياتُ أنفاس.
وعلى ذا أنشدَ بعض الناس هذا البيت رفعا للفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلاّ دارُ مروانِ
(2/340)
جعلوا غير صفة بمنزلة مثل، ومَن جعلها
بمنزلة الاستثناء لم يكن له بد من أن ينصب أحدَهما، وهو قول ابن أبي
إسحاق.
وأما إلا زيدٌ فإنه لا يكون بمنزلة مثل إلا صفة.
ولو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جيدا، إذا كان أبو
عبد الله زيدا ولم يكن غيره، لأن هذا يكرَّر توكيدا، كقولك: رأيت زيدا
زيدا.
وقد يجوز أن يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أن تقول:
رأيتُ زيداً عمراً، لأه إنما أراد عمرا فنسى فتدارك.
ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أن تبيّن وتُوضحَ
قوله:
ما لك من شيخِك إلاّ عملُه ... إلاّ رسيمُه وإلاّ رَمَلُهْ
(2/341)
؟
هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلا
وذلك قولك: ما مررتُ بأحد إلا زيدٌ خيرٌ منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيدٌ
خيرٌ منهم، إلا أنك أدخلت إلا لتجعل زيدا خيرا من جميع من مررتَ به.
ولو قال: مررتُ بناس زيدٌ خيرٌ منهم، لجاز أن يكون قد مر بناس آخرين هم
خيرٌ من زيد، فإنما قال: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه ليخبر أنه
لم يمر بأحدٍ يفضل زيدا.
ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا
وكذا. فأنْ أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا، وهو مبني على حِلّ،
وحِلّ مبتدأ، كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
وأما قولهم: والله لا أفعلُ إلا أن تفعل، فأنْ تفعل في موضع نصب،
والمعنى حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل. والأول مبتدأ ومبني عليه.
(2/342)
؟
هذا باب غيْرٍ
اعلم أن غيرا أبدا سوى المضاف إليه، ولكنه يكون فيه معنى إلا فيُجرى
مُجرى الاسم الذي بعد إلا، وهو الاسم الذي يكون داخلاً فيما يخرج منه
غيره وخارجا مما يدخل فيه غيره.
فأما دخوله فيما يخرج منه غيرُه فأتاني القومُ غيرَ زيد، فغيرهم الذين
جاءوا ولكن فيه معنى إلا، فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا.
وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غيرُ زيدٍ. وقد يكون بمنزلة
مثل ليس فيه معنى إلا.
وكلُ موضع جاز فيه الاستثناء بالا جاز بغيْر، وجرى مجرى الاسم الذي بعد
إلا، لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا. ولو جاز أن تقول: أتاني القومُ
زيدا، تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا.
ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يُبتدأ بعد إلا؛ وذلك أنهم لم
يجعلوا فيه معنى إلا مبتدأ، وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل
موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويُجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال:
أتاني غيرُ عمرٍو كان قد أخبر أنه لم يأته وإن كان قد يستقيم أن يكون
قد أتاه، فقد يُستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني
غيرُ زيد، يريد بها منزلة مثل لكان مُجزِئاً من الاستثناء، كأنه قال:
ما أتاني الذي هو غيرُ زيد،
(2/343)
فهذا يُجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيدٌ.
باب ما أُجري على موضع غير
لا على ما بعد غير.
زعم الخليل رحمه الله ويونس جميعا أنه يجوز: ما أتاني غيرُ زيد وعمرو.
فالوجه الجر. وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيدٌ وفي معناه، فحملوه على
الموضع كما قال: فلسنا بالجبال ولا الحَديدَا فلما كان في موضع إلا
زيدٌ وكان معناه كمعناه، حملوه على الموضع.
والدليل على ذلك أنك إذا قلت غيرُ زيد فكأنك قد قلت إلا زيد. ألا ترى
أنك تقول: ما أتاني غيرُ زيد وإلا عمرٌو، فلا يقبحُ الكلام، كأنك قلت:
ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
؟ باب يُحذف المستثنى فيه استخفافا
وذلك قولك: ليس غيرُ، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك
(2/344)
وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفا
واكتفاءً بعلم المخاطَب وما يعنى.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيتُه في حال كذا
وكذا، وإنما يريد ما منهم واحدٌ مات. ومثل ذلك قوله تعالى جده: " وإن
مِن أهلِ الكتاب إلا لَيُؤمننّ به قبلَ موته ". ومثل ذلك من الشعر قول
النابغة:
كأنك من جِمال بنى أُقَيشٍ ... يقعقَعُ خلفَ رجليْه بشّنِّ
أى كأنك جملٌ من جمال بنى أقيش.
ومثل ذلك أيضا قوله:
لو قلتَ ما فى قومِها لم تيثَمِ ... يَفضُلُها فى حَسبٍ وميسَمِ
(2/345)
يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا هذا كما
قالوا: لو أن زيدا هنا، وإنما يريدون: لكان كذا وكذا. وقولهم: ليس أحدٌ
أي ليس هنا أحدٌ. فكل ذلك حُذف تخفيفا، واستغناء بعلم المخاطَب بما
يعني.
ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مُقبل:
وما الدهرُ إلاّ تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأُخرى أَبتغى العيشَ أكدحُ
إنما يريد منهما تارةٌ أموتُ وأُخرى.
ومثل قولهم ليس غير: هذا الذي أمسِ، يريد الذي فعل أمس.
(2/346)
وقوله، وهو العجّاج: بعد اللَّتيّا
واللّتيا والتِّي فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام
الاسم.
؟
باب لا يكون وليس وما أشبههما
فإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإن فيهما إضمارا، على هذا وقع فيهما
معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهى في حسبك إلا أن يكون مبتدأ.
وذلك قولك: ما أتاني القومُ ليس زيدا، وأتوني لا يكون زيدا، وما أتاني
أحدٌ لا يكون زيدا، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطَب عنده قد وقع في
خلَده أن بعض الآتين زيدٌ، حتى كأنه قال: بعضُهم زيدٌ، فكأنه قال: ليس
بعضهم زيدا. وترك إظهار بعضٍ استغناء، كما ترك الإظهار في لاتَ حينَ.
(2/347)
فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا
وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما.
وقد يكون صفة، وهو قول الخليل رحمه الله. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ ليس
زيدا، وما أتاني رجل لا يكون بشرا إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك:
ما أتاني أحدٌ لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول في موضع قائلٌ ذاك.
ويدلك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةٌ لا تكون فلاة، وما
أتتني امرأة ليست فلانة. فلو لم يجعلوه صفة لم يؤنثوه لأن الذي لا يجيء
صفة فيه إضمار مذكَّر. ألا تراهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس
فلانة، يريد: ليس بعضُهن فلانة، والبعض مذكر.
وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا
يكون، وهو إضمارٌ قصته فيهما قصته في لا يكون وليس. وذلك قولك: ما
أتاني أحدٌ خلا زيدا، وأتاني القومُ عدا عمرا، كأنك قلت: جاوز بعضُهم
زيدا. إلا أن خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثل لك
به، وإن كان لا يُستعمل في هذا الموضع.
(2/348)
وتقول: أتاني القومُ ما عدا زيدا، وأتَوني
ما خلا زيدا. فما هنا اسمٌ، وخلا وعدا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز
بعضُهم زيدا. وما هم فيها عدا زيدا، كأنه قال: ما هم فيها ما جوز
بعضُهم زيدا، وكأنه قال: إذا مثّلتَ ما خلا وما عدا فجعلتَه اسما غير
موصول قلت: أتوني مجاوزتَهم زيدا، مثّلتَه بمصدر ما هو في معناه، كما
فعلتَه فيما مضى. إلا أن جاوز لا يقع في الاستثناء.
وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيدٌ فالرفع جيدٌ بالغ، وهو كثير في كلام
العرب، لأن يكونُ صلةٌ لأنْ وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في
موضع اسم مستثنى كأنك قلت: يأتونك إلا أن يأتيك زيد.
والدليل على أن يكون ليس فيها هنا معنى الاستثناء: أن ليس وعدا وخلا،
لا يقعن ههنا.
ومثلُ الرفع قولُ الله عز وجل: " إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم ".
وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر.
وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرفٌ يجر ما بعده كما تجر حتى ما بعدها،
وفيه معنى الاستثناء. وبعضُ العرب يقول: ما أتاني القومُ خلا عبدِ
الله،
(2/349)
فيجعل خلا بمنزلة حاشا. فإذا قلت ما خلا فليس فيه إلا النصب، لأن ما
اسمٌ ولا تكون صلتُها إلا الفعل ها هنا، وهي ما التي في قولك: أفعلف ما
فعلتَ. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيدا، لم يكن كلاما.
وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل رحمه الله أن هذا كقولك: أتاني
القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء. |