الكتاب لسيبويه

؟ باب مجرى علاماتِ المضمرين
وما يجوز فيهن كلهن وسنبين ذلك إن شاء الله.
؟

باب علامات المضمرين المرفوعين
اعلم أن المضمَر المرفوع، إذا حدث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ.
ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلْتُ، لا يجوز أن تقول فعل أنا، لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا. ولا يقع نحنُ في موضع نا التي في فعَلْنا، لا تقول فعلَ نحن.
وأما المضمَر المخاطَب فعلامته إن كان واحدا: أنت، وإن خاطبتَ اثنين فعلامتُهما: أنتُما، وإن خاطبتَ جميعا فعلامتُهم: أنتم.

(2/350)


واعلم أنه لا يقع أنتَ في موضع التاء التي في فعَلْتَ، ولا أنتما في موضع تُما التي في فعلتُما. ألا ترى أنك لا تقول فعل أنتُما. ولا يقع أنتم في موضع تُمْ التي في فعلتُم، لو قلت فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنت في موضع التاء في فعلْتَ، ولا يقع أنتُنّ في موضع تنَّ التي في فعلتُنّ، لو قلت فعلَ أنتُنّ لم يجز.
وأما المضمَر المحدَّث عنه فعلامتُه: هو، وإن كان مؤنثا فعلامته: هي، وإن حدّثتَ عن اثنين فعلامتُهما: هُما. وإن حدّثتَ عن جميع فعلامتهم: هُم، وإن كان الجميع جميع المؤنث فعلامته: هُنّ. ولا يقع هو في موضع المضمَر الذي في فعل، لو قلت فعل هو لم يجز إلا أن يكون صفة. ولا يجوز أن يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في فعلتْ، لأن ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أن يكون صفة، كما لم يجز ذلك في المذكر؛ فالمؤنث يجري مجرى المذكّر.
فأنا وأن ونحن، وأنتما وأنتم وأنتن، وهو وهي وهُما وهُم وهنّ

(2/351)


لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ولا في موضع المضمَر الذي لا علامةَ له، لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك.
؟

باب استعمالهم علامة الإضمار
الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعه
فمن ذلك قولهم: كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء ههنا، ولا على الإضمار الذي في فعلَ. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هنا على التاء والميم التي في فعلتُم كما لا تقدر في الأول على التاء في فعلتَ. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم، لأنك لا تقدر على التاء والميم التي في فعلتُم ها هنا. وفيها هم قياما، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في الفعل.
ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنا وأنتم ذاهبين، ومثل ذلك أهو هو. وقال الله عز وجل: " كأنه هو وأوتينا العلم "؛ فوقع هو ها هنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعلَ. وقال الشاعر:

(2/352)


فكأَنَّها هي بعد غِبّ كلالِها ... أو أسفعُ الخدّيْن شاةُ إرانِ
وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدى كرب:
قد علمَتْ سَلْمَى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارِسَ إلاَّ أنا
وكذلك هاأناذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها هما ذانك، وها هم أولئك، وها أنت ذا، وها أنتما ذان، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء، وها هنّ أولئك.

(2/353)


وإنما استُعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعلَ.
وزعم الخليل رحمه الله أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا أنا هذا وهذا أنا، فقدموا ها وصارت أنا بينهما.
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوقَ بهم يقولون: أنا هذا، وهذا أنا.
ومثل ما قال الخليل رحمه الله في هذا قول الشاعر:
ونحن اقَتسمنا المالَ نِصْفينِ بيننا ... فقلتُ: لهم هذا لها ها وذالِيَا
كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصير الواو بين ها وذا.
وزعم أن مثل ذلك: إي ها الله ذا، إنما هو هذا.
وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدلك على هذا قوله عز وجل: " ها أنتم هؤلاء "

(2/354)


فلو كانت ها ها هنا هي التي تكون أولا إذا قلت هؤلاء، لم تُعَد ها ها هنا بعد أنتم.
وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب، أن العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرِد بقوله هذا أنت، أن يعرفه نفسَه، كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضرُ عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال تعالى: " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسَكم ".
؟

باب علامة المضمرين المنصوبين
اعلم أن علامة المضمرين المنصوبين إيَّا ما لم تقدَر على الكاف التي في رأيتك، وكُما التي في رأيتُكما، وكُم التي في رأيتكم، وكُنّ التي في رأيتكن، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهُما التي في رأيتهما، وهُم التي في رأيتهم، وهن التي في رأيتهن، ونى التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا.
فإن قدرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم تُوقع إيا ذلك الموضع

(2/355)


لأنهم استغنوا بها عن إيا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.

؟ باب استعمالهم إيا
إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنا
فمن ذلك قولهم: إياك رأيتُ وإياك أعني، فإنما استعلمت إياك ها هنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عز وجل: " وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضَلال مُبين " من قبل أنك لا تقدر على كُم ههنا. وتقول: إنى وإياك منطلقان، لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى جده: " ضل من تدعون إلا إياه ".
فلو قدرتَ على الهاء التي في رأيته لم تقل إياه. وقال الشاعر:
مُبَرّأٌ من عُيوبِ الناس كلِّهمِ ... فاللهُ يَرْعَى أبا حربٍ وإيَّانَا
لأنه لا يقدر على نا التي في رأيتَنا. وقال الآخر:

(2/356)


لعمُرك ما خشيتُ على عدىٍّ ... سيوفَ بني مقيِّدة الحمارِ
ولكنّي خشيتُ على عدىٍّ سيوفَ القوم أو إيَّاك حارِ
ويُروى: رماح القوم؛ لأنه لم يقدر على الكاف.
وتقول: إن إياك رأيتُ، كما تقول إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت إن أفضلهم لقيتُ فأفضلَهم منتصب بلقيت.
فإن قلت: إن أفضلهم لقيت، فنصبت أفضلهم بإن فهو قبيح حتى تقول لقيتُه، وقد بُيّن وجه ذلك، وقد بيناه في باب إن وأخواتها، واستُعملت إياك لقبح الكاف والهاء ها هنا.
وتقول: عجبتُ من ضربي إياك. فإن قلت: لِمَ وقد تقع الكاف ها هنا وأخواتها، تقول عجبتُ من ضربيكَ ومن ضربيه ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلم بهذا، وليس بالكثير.

(2/357)


ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال عجبت من ضربكَني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبُح هذا عندهم ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع صارت إيا عندهم في هذا الموضع لذلك بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.
ومثل ذلك: كان إياه، لأن كانَه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف ها هنا، لا تقول كأنني وليسني، ولا كانَك. فصارت إيّا ههنا بمنزلتا في ضربي إياك.
وتقول: أتوني ليس إياك ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء ها هنا، فصارت إيا بدلا من الكاف والهاء في هذا الموضع.
قال الشاعر:
لَيْتَ هذا الليلَ شهرٌ ... لا نرى فيه عَريبا
ليس إيَّاىَ وإيّا ... كَ ولا نَخْشَى رقيبَا

(2/358)


وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني وكذلك كانني.
وتقول: عجبتُ من ضَرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيدا مفعولا، وجعلت المضمَر الذي علامته الكاف فاعلا فجاز أنت ههنا للفاعل كما جاز إيا للمفعول، لأن إيا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوى دخولَ أنت ههنا.
وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنت أنت، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كأنك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف.
وإن شئت قلت: قد وليتَ عملا فكنتَ أنت إياك، وقد جرّبتُك فوجدتُك أنت إياك، جعلتَ أنت صفة وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا

(2/359)


قلت: فوجدتُك أنت الظريف. والمعنى أنك أردت أن تقول وجدتُك كما كنتُ أعرف. وهذا كله قول الخليل رحمه الله، سمعناه منه.
وتقول: أنت أنت، تكررها، كما تقول للرجل أنت وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كررتها توكيدا، وإن شئت جعلت كنتَ صفة، لأنك قد تقول: قد جُرّبت فكنت، ثم تسكت.
؟

باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل
وذلك إن ولعلّ وليتَ وأخواتها، ورُويد ورُويدك وعليكَ وهلم وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن ها هنا كحالهن في الفعل، لا تقوى أن تقول: عليك إياه ولا رُويدَ إياه؛ لأنك قد تقدر على الهاء، تقول عليكَه ورُويدَه. ولا تقول: عليك إياى، لأنك قد تقدر على نى.

(2/360)


وحدثنا يونس أنه سمع من العرب من يقول عليكَني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل نى ولا نا في ذا الموضع استغناء بعليك بي وعليك بنا عن نى ونا، وإياى وإيانا.
ولو قلت عليك: إياه كان ها هنا جائزا في عليك وأخواتها، لأنه ليس بفعل وإن شبِّه به. ولم تقو العلامات ها هنا كما قويت في الفعل، فهى مضارعة في ذلك الأسماء.
واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إياه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوى إيا، وهو الكاف التي في رأيتك فيها، والهاء التي في رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا لم تكلموا بأياك، استغنوا بهذا عن إياك وإياه. ولو جاز هذا لجاز ضربَ زيدٌ إياك وإن فيها إياك، ولكنهم لما وجدوا إنك فيها وضربَه زيدٌ، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: إن فيها إياك، وضرب زيدٌ إياك استغنوا به عن إيا.
وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك، فإنه لا يدخل على هذا؛

(2/361)


من قبل أنه لو أخر إلا كان الكلام محالا. ولو أسقط إلا كان الكلام منقلب المعنى وصار الكلام على معنى آخر.

؟ باب ما يجوز في الشعر من إيا
ولا يجوز في الكلام فمن ذلك قول حُميد الأرقط:
إليكَ حتَّى بلغتْ إيَّاكَا وقال الآخر، لبعض اللصوص:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيانا
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
؟

باب علامة إضمار المجرور
اعلم أن أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور، من قبل أن أنت اسم مرفوع، ولا يكون المرفوع مجرورا. ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بزيد وأنت، لم يجز. ولو قلت: ما مررتُ بأحد إلا أنت لم يجز. ولا يجوز إيا

(2/362)


أن تكون علامة لمضمر مجرور، من قبل أن إيا علامةٌ للمنصوب، فلا يكون المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع مواقعَهن إيا، إلا أن تضيف إلى نفسك نحو قولك: بى ولى وعندى.
وتقول: مررتُ بزيد وبك، وما مررتُ بأحد إلا بك، أعدتَ مع المضمَر الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجار مع المضمَر. ولم توقِع إيا ولا أنت ولا أخواتها ههنا من قبل أن المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور.

؟ باب إضمار المفعولَين
اللذين تعدى إليهما فعلُ الفاعل
اعلم أن المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أُضمَر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيا موقعها، وقد تكون علامتُه إذا أُضمَر إيا.
فأما علامة الثاني التي لا تقع إيا موقعها فقولك: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكَني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: قد أعطاهوني، فهو قبيح

(2/363)


لا تكلّمُ به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
وإنما قبُح عند العرب كراهيةَ أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن تقول أعطاك إياى، وأعطاه إياى، فهذا كلام العرب. وجعلوا إيا تقع هذا الموقع إذ قبُح هذا عندهم كما قالوا: إياك رأيتُ، وإياى رأيت، إذ لم يجز لهم ني رأيتَ ولا كَ رأيتُ.
فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطَباً وغائبا، فبدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامةُ التي لا تقع موقعها إيا، وذلك قوله: أعطيتُكَه وقد أعطاكَه، وقال عز وجل: " فعُمّيَتْ عليكم أنُلزمُكموها وأنتم لها كارهون ". فهذا هكذا إذا بدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب.
وإنما كان المخاطَب أولى بان يُبدأ به من قبل أن المخاطَب أقرب إلى المتكلم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه قبل المخاطَب، كان المخاطَب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يُبدأ به من الغائب.
فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوكَ، فهو في القبح وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطَب إذا بُدئ بهما قبل المتكلم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت قد أعطاه إياك.
وأما قول النحويين: قد أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم تكلم به العرب، ووضعوا الكلام في غير موضعه، وكان قياس هذا لو تُكلّم به كان هينا.

(2/364)


ويدخل على مَن قال هذا أن يقول الرجل إذا منحته نفسه: قد منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبُح إذا وضعت نى في غير موضعها، فإذا ذكرتَ مفعولين كلاهما غائب فقلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز، وهو عربي. ولا عليك بأيهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب.
وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه. على أنه قد قال الشاعر:
وقد جعلتْ نفسى تطيبُ لضَغمةٍ ... لضغمِهِماها يقرعُ العَظمَ نابُها
ولم تستحكم العلامات ها هنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضَربي إياك، ولا في كان إياه، ولا في ليس إياه.
وتقول: حسبتُك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتُنيه وحسبتُكَه قليل في كلامهم؛ وذلك لأن حسبتُ بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدإ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال.
ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه

(2/365)


مبتدأ. والمنصوبان بعد حسبتُ بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبتُ وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقينا أو شكا أو عِلماً، وليس بفعل أحدثته منك إلى غيرك كضربتُ وأعطيتُ، إنما يجعلان الأمر في علمك يقينا أو شكا فيما مضى.
ولا يجوز أن تقول ضربتُني ولا ضربتُ إياى، لا يجوز واحدٌ منهما لأنهم قد استغنوا عن ذلك بضربتُ نفسي وإيّاي ضربتُ.

؟ باب لا تجوز فيه علامة المضمَر
المخاطَب ولا علامة المضمَر المتكلم، ولا علامة المضمَر المحدَّث عنه الغائب
وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطَب: اضرِبْكَ، ولا اقتُلْكَ ولا ضربْتَك، لما كان المخاطب فاعلا وجعلت مفعوله نفسه قبُح ذلك، لأنهم استغنوا بقولهم اقتُل نفسك وأهلكتَ نفسك، عن الكاف ها هنا وعن إياك.

(2/366)


وكذلك المتكلم، لا يجوز له أن يقول أهلكتُني ولا أُهلكُني لأنه جعل نفسه مفعولة فقبُح؛ وذلك لأنهم استغنوا بقولهم أنفعُ نفسي عن نى، وعن إياي.
وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول ضربة إذا كان فاعلا وكان مفعوله نفسه؛ لأنهم استغنوا عن الهاء وعن إياه بقولهم ظلم نفسه وأهلك نفسه، ولكنه قد يجوز ما قبح ها هنا في حسبتُ وظننت وخلتُ، وأُرى وزعمتُ، ورأيت إذا لم تعنِ رؤية العين، ووجدتُ إذا لم ترد وجدان الضالة، وجميع حروف الشك، وذلك قولك: حسبتُني وأرانى ووجدتُني فعلت كذا وكذا، ورأيتُني لا يستقيم لي هذا. وكذلك ما أشبه هذه الأفعال، تكون حال علامات المضمَرين المنصوبين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.
ومما يثبت علامة المضمَرين المنصوبين ها هنا أنه لا يحسن إدخال النفس ها هنا. لو قلت يظن نفسه فاعلة وأظن نفسى فاعلةً على حد يظنه وأظنني ليُجزئَ هذا من ذا لم يُجزئ كما أجزأ أهلكتَ نفسك عن أهلكتَك، فاستُغنى به عنه.

(2/367)


وإنما اقترفتْ حسبتُ وأخواتها والأفعال الأُخَر لأن حسبت وأخواتها إنما أدخلوها على مبتدإ ومبنى عليه لتجعل الحديث شكا او علما. ألا ترى أنك لا تقتصر على المنصوب الأول كما لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخَر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبنى على المبتدأ، فلما صارت حسبتُ وأخواتُها بتلك المنزلة جُعلتْ بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إنني ولعلني ولكنني وليتني، لأن إن وأخواتها لا يُقتصر فيها على الاسم الذي يقع بعدها لأنها إنما دخلت على مبتدإ ومبنى على مبتدأ.
وإذا أردت برأيتُ رؤية العين لم يجز رأيتُني؛ لأنها حينئذ بمنزلة ضربْتُ. وإذا أردتَ التي بمنزلة علمتُ صارت بمنزلة إن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى. وكذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلمٍ أو شك، ولم يُردْ فعلاً سلف منه الى إنسان يبتدئه.
؟