باب علامة إضمار المنصوب
المتكلم والمجرور المتكلم
اعلم أن علامة إضمار المنصوب المتكلم نى، وعلامة إضمار المجرور المتكلم
الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرتَ نفسك وأنت منصوب: ضربني وقتلني،
وإنني ولعلني.
(2/368)
وتقول إذا أضمرت نفسك مجرورا: غلامي، وعندي
ومعي.
فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فإنه زعم أن
هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة في كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم
التضعيف، فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف، حذفوا التي تلي
الياء.
فإن قلت: لعلي ليس فيها نون. فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو
أقرب الحروف من النون. ألا ترى أن النون قد تُدغَم مع اللام حتى تبدَل
مكانها لام، وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر
استعمالهم إياه.
وسألته رحمه الله عن الضاربي فقال: هذا اسم، ويدخله الجر، وإنما قالوا
في الفعل: ضربني ويضربني، كراهية أن يدخلوا الكسرة في هذه الباء كما
تدخل الأسماء، فمنعوا هذا أن يدخله كما مُنع الجر.
فإن قلت: قد تقول اضرِب الرجل فتكسرُ، فإنك لم تكسرها كسرا يكون
للأسماء، إنما يكون هذا لالتقاء الساكنين. قد قال
(2/369)
الشعراء: ليتى إذا اضطروا، كأنهم شبهوه
بالاسم حيث قالوا الضاربى والمضمَر منصوب. قال الشاعر زيد الخليل:
كمُنية جابرٍ إذ قال لَيْتي ... أُصادِفُه وأفقدُ جلَّ مالِى
وسألته رحمه الله عن قولهم عني وقدْني، وقطْني ومني ولدُنّي، فقلت: ما
بالهم جعلوا علامة إضمار المجرور ها هنا كعلامة إضمار المنصوب؟ فقال:
إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحركا مكسورا، ولم يريدوا
أن يحركوا الطاء التي في قطْ ولا النون التي في مِن، فلم يكن لهم بد من
أن يجيئوا بحرف لياء الإضافة متحرك إذ لم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا
النونات؛ لأنها لا تئكَر أبدا إلا وقبلها حرف متحرك مكسور. وكانت النون
أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم؛ فجاءوا
(2/370)
بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج
هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا أن يجيئوا بحرف غير النون
فيخرجوا من علامات الإضمار.
وإنما حملهم على أن لا يحركوا الطاء والنونات كراهيةُ أن تشبه الأسماء
نحو يدٍ وهَنٍ. وأما ما تحرك آخره فنحو مع ولدُ كتحريك أواخر هذه
الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثم لم
يجعلوها بمنزلتها. فمن ذلك قولك معي، ولدى في لَدُ.
وقد جاء في الشعر: قطِي وقَدي. فأما الكلام فلابدّ فيه من النون، وقد
اضطر الشاعر فقال قدِي، شبهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد. قال الشاعر:
قدْني مِن نَصر الخُبيبَين قدِي ... ليس الإمامُ بالشَّحيح المُلحدِ
(2/371)
لما اضطر شبهه بحسبي وهَني؛ لأن ما بعد هنٍ
وحسب مجرور كما أن ما بعد قد مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء،
كما قال ليتى حيث اضطر فشبهه بالاسم نحو الضاربي؛ لأن ما بعدهما في
الإظهار سواء، فلما اضطر جُعل ما بعدهما في الإضمار سواء.
وسألناه رحمه الله عن إلى ولدى وعلى فقلنا: هذه الحروف ساكنة، ولا ترى
النون دخلتْ عليها. فقال: من قبل أن الألف في لدى والياء في على اللذين
قبلهما حرف مفتوح لا تحرّكُ في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون
التحريك لازما لياء الإضافة، فلما علموا أن هذه المواضع ليس لياء
الإضافة عليها سبيلٌ بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المُعجم
لم يجيئوا بالنون، إذ علموا أن الياء في ذا الموضع والألف ليستا من
الحروف التي تحرك لياء الإضافة.
ولو أضفت إلى الياء الكاف التي تجر بها لقلت: ما أنت كِي، والفتح
(2/372)
خطأ وهي متحركة كما أن اواخر الأسماء
متحركة، وهي تجر كما أن الأسماء تجر، ولكن العرب قلما تكلموا بذا.
وأما قطْ وعن ولدُن فإنهن تباعدنَ من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل
الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك على الفعل نحو خُذْ
وزِنْ، فضارعت الفعل وما لا يُجَرّ أبدا، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت
مجراه ولم يحركوه.
؟
هذا باب
ما يكون مضمَراً فيه الاسم متحولا عن حاله
إذا أُظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاى، إذا أضمرت الاسم فيه جُرّ، وإذا أظهرت رُفع. ولو
جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت، كما قال سبحانه: " لولا
أنتم لكنا مؤمنين "؛ ولكنهم جعلوه مضمَراً مجرورا.
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامةَ مضمَر مرفوع. قال
الشاعر، يزيد بن الحكَم:
(2/373)
وكَمْ موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هَوَى ...
بأَجْرامه من قُلةِ النّيقِ مُنهَوي
وهذا قول الخليل رحمه الله ويونس.
وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة:
(2/374)
يا أَبَتَا عَلَّكَ أو عَساكَا والدليل على
أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتُك نى. قال عمران بن حطان:
ولى نفسٌ أقولُ لها إذا ما ... تُنازعني لَعَلّى أو عَسانِى
فلو كانت الكاف مجرورة لقال عساى، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا
الموضع.
فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان للدُنْ حالٌ مع غُدوة
ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تُعملها في الأحيان لم تعملها فيما
سواها، فهى معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن
(2/375)
تقول وافق الرفعُ الجرَّ في لولاى، كما
وافق النصبُ الجرّ حين قلت: معك وضربَك؛ لأنك إذا أضفت إلى نفسك
اختلفا، وكان الجر مفارِقاً للنصب في غير الأسماء. ولا تقل: وافق
الرفعُ النصبَ في عساني كما وافق النصبُ الجر في ضرْبَك ومعك، لأنهما
مختلفان إذا أضفت إلى نفسك كما ذكرتُ لك.
وزعم ناس أن الياء في لولاى وعسانى في موضع رفع، جعلوا لولاى موافقة
للجر، ونى موافقة للنصب، كما اتفق الجر والنصب في الهاء والكاف. وهذا
وجه ردىء لما ذكرت لك، ولأنك لا ينبغي لك أن تكسر الباب وهو مطرد وأنت
تجد له نظائر. وقد يوجَّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجَد غيره.
وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بُيّن بعض ذلك وستراه فيما تستقبل إن شاء
الله.
؟ باب ما ترده علامةُ الإضمار إلى أصله
فمن ذلك قولك: لعبد الله مالٌ، ثم تقول لك مالٌ وله مال، فتفتح اللام،
وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالْتبستْ بلام الابتداء إذا قال
إن هذا لعلى ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا
(2/376)
لم يخافوا أن تلتبس بها، لأن هذا الإضمار
لا يكون للرفع ويكون للجر. ألا تراهم قالوا: يا لَبكرٍ، حين نادوا؛
لأنهم قد علموا أن تلك اللام لا تدخل ها هنا.
وقد شبهوا به قولهم: أعطيتُكموه، في قول من قال: أعطيتُكم ذلك فيجزم،
رده بالإضمار إلى أصله، كما رده بالألف واللام، حين قال: أعطيتُكم
اليوم، فشبهوا هذا بلكَ وله وإن كان ليس مثله، لأن من كلامهم أن يشبهوا
الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله. وقد بينا ذلك فيما مضى، وستراه فيما
بقى.
وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْهُ وأعطيتُكُمْها، كما يقول في المظهر.
والأول أكثر وأعرف.
باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمَر
فيما عمل وما يقبح أن يشرك المظهر المضمَر فيما عمل فيه.
أما ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك قولك: رأيتك
وزيدا، وإنك وزيدا منطلقان.
(2/377)
وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو المضمر
في الفعل المرفوع وذلك قولك: فعلت وعبدُ الله، وأفعل وعبدُ الله.
وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يُبنى عليه الفعل،
فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمَراً يغير الفعل عن حاله إذا بعد منه.
وإنما حسنتْ شِركتُه المنصوب لأنه لا يغيَّر الفعل فيه عن حاله التي
كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وصار منفصلا عندهم بمنزلة المظهر،
إذ كان الفعل لا يتغير عن حاله قبل أن يضمَر فيه.
وأما فعلتُ فانهم قد غيروه عن حاله في الإظهار، أُسكنتْ فيه اللام
فكرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً يُبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار
حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيتُ.
فإن نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيدٌ، وقال الله
عز وجل: " اذهبْ أنت وربُّك " و: " اسكُنْ أنت وزوجُك الجنة ". وذلك
أنك لما وصفتَه حسن الكلام حيث طوله وأكده كما قال: قد علمتُ أن لا
تقول ذاك، فإن أخرجتَ لا قبُح الرفع.
(2/378)
فأنت وأخواتها تقوى المضمَر وتصير عوضا من
السكون والتغيير ومِن ترك العلامة في مثل ضربَ. وقال الله عز وجل: " لو
شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرمنا "، حسُن لمكان لا. وقد يجوز
في الشعر، قال الشاعر:
قلتُ إذْ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهادى ... كنعاجِ المَلا تعسّفْنَ رَمْلاَ
واعلم أنه قبيح أن تصفَ المضمَر في الفعل بنفسك وما أشبهه؛ وذلك أنه
قبيح أن تقول فعلتَ نفسُك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسُك. وإن قلت فعلتم
أجمعون حسن؛ لأن هذا يعم به. وإذا قلت نفسُك فإنما تريد أن تؤكد
الفاعل، ولما كانت تفسُك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يُجرّ ويُنصب
ويُرفع، شبهوها بما يشرك المضمَر، وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس
الجبل مُقابلي، ونحو ذلك.
وأما الأجمعون فلا يكون في الكلام إلا صفة.
(2/379)
وكلُّهم قد تكون بمنزلة أجمعين لأن معناها
معنى أجمعين، فهي تجرى مجراها.
وأما علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغير ما عمل فيها عن
حاله إذا أُظهر فيه الاسم فإنه يشركها المظهر؛ لأنه يشبه المظهر، وذلك
قولك: أنت وعبدُ الله ذاهبان، والكريم أنت وعبدُ الله.
واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبدُ الله، وذهبتُ وعبدُ الله، وذهبت
وأنا، لأن أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجيء
في الشعر. قال الراعى:
فلمَّا لَحِقنْا والجيادُ عشيةً ... دعَوا يا لَكَلبٍ واعتزَيْنا
لعامرِ
(2/380)
ومما يقبح أن يشركه المظهر علامةُ المضمَر
المجرور، وذلك قولك: مررتُ بك وزيدٍ، وهذا أبوك وعمرٍو، كرهوا أن يشرك
المظهر مضمَراً داخلا فيما قبله؛ لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها
جمعتْ أنها لا يُتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها، وأنها بدلٌ من
اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعفتْ عندهم كرهوا
أن يُتبعوها الاسمَ، ولم يجز أيضا أن يُتبعوها إياه وإن وصفوا؛ لا يحسن
لك أن تقول مررت بك أنت وزيدٍ كما جاز فيما أضمرتَ في الفعل نحو قمتَ
أنت وزيد، لأن ذلك وإن كان قد أُنزل منزلة آخر الفعل، فليس من الفعل
ولا من تمامه، وهما حرفان يستغنى كلُ واحدٍ منهما بصاحبه كالمبتدإ
والمبني عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في
الاسم، وحال الاسم إذا أضيف إليه مثلُ حاله منفردا، لا يستغنى به،
ولكنهم يقولون: مررتُ بكُم أجمعين، لأن أجمعين لا يكون إلا وصفا.
ويقولون: مررتُ بهم كلهم؛ لأن أحد وجهَيها مثلُ أجمعين.
وتقول أيضا: مررتُ بك نفسك، لما أجزْتَ فيها ما يجوز
(2/381)
في فعلتُم مما يكون معطوفا على الأسماء
احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغير علامة الإضمار ها هنا ما عمل فيها،
فضارعتْ ها هنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها.
وأما في الإشراك فلا يجوز، لأنه لا يحسن الإشراكُ في فعلتَ وفعلتُم إلا
بأنت وأنتم. وهذا قول الخليل رحمه الله وتفصيله عن العرب.
وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور،
إذا اضطر الشاعر.
وجاز قمتَ أنت وزيدٌ، ولم يجز مررتُ بك أنت وزيدٍ؛ لأن الفعل يستغنى
بالفاعل، والمضاف لا يستغنى بالمضاف إليه، لأنه بمنزلة التنوين. وقد
يجوز في الشعر. قال:
آبَكَ أيّهْ بي أو مُصدَّرِ ... من حُمُر الجِلَّة جأبٍ حَشْوَرِ
(2/382)
وقال الاخر:
فاليومَ قرّبتَ تَهْجُونا وتشتمِنا ... فاذهبْ فما بك والأيامِ من عجبِ
؟
هذا باب
ما لا يجوز فيه الإضمارُ من حروف الجر
وذلك الكاف في أنت كزيد، وحتى، ومُذ.
وذلك لأنهم استغنوا بقولهم مثلى وشِبهي عنه فأسقطوه.
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم: رأيتُهم حتى ذاك، وبقولهم: دعْهُ
حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعهُ حتى ذاك، وبالإضمار في إلى إذا قال
دعهُ إليه؛ لأن المعنى واحد، كما استغنوا بمثلى ومثله عن كى وكَهُ.
واستغنوا عن الإضمار في مُذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأن ذاك اسمٌ مبهَم، وإنما
يذكر
(2/383)
حين يُظن أنه قد عرفت ما يعنى. إلا أن
الشعراء إذا اضطُروا أضمروا في الكاف، فيجرُونها على القياس. قال
العجاج: وأمَّ أوعالٍ كَها أو أقرَبا وقال العجاج:
فلا تَرَى بَعْلاً ولا حَلائِلاً ... كَهُ ولا كهُنّ إلاَّ حاظِلا
(2/384)
شبهوه بقوله له ولهن.
ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه قال: ما أنت كِي. وكَي خطأ؛ من قبل
أنه ليس في العربية حرفٌ يُفتح قبل ياء الإضافة.
؟
باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن
وهو وهى وهم وهن وأنتن وهما وأنتما وأنتم وصفا
اعلم أن هذه الحروف كلها تكون وصفاً للمجرور والمرفوع والمنصوب
للمضمرين، وذلك قولك: مررتُ بك أنت، ورأيتُك أنت، وانطلقْتَ أنت.
وليس وصفا بمنزلة الطويل إذا قلت مررتُ بزيدٍ الطويل، ولكنه بمنزلة
نفسه إذا قلت مررتُ به نفسه وأتاني هو نفسه، ورأيتُه هو نفسَه. وإنما
تريد بهنّ ما تريد بالنفس إذا قلت: مررتُ به هو هو، ومررت به نفسِه
ولست تريد أن تحليه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار ذا عندهم
صفة لأن حاله كحال الموصوف كما أن حال الطويل وأخيك
(2/385)
في الصفة بمنزلة الموصوف في الإجراء، لأنه
يلحقها ما يلحق الموصوفَ من الإعراب.
واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفا للمظهر، كراهيةَ أن يصفوا المظهر
بالمضمَر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسُه معطوفا على النكرة في
قولهم: مررتُ برجلٍ نفسِه ومررتُ بقوم أجمعين.
فإن أردت أن تجعل مضمَراً بدلا من مضمَر قلت: رأيتُك إياك، ورأيتُه
إياه. فإن أردت أن تبدل من المرفوع قلت: فعلتَ أنت، وفعل هو. فأنت وهو
وأخواتهما نظائر إياه في النصب.
واعلم أن هذا المضمَر يجوز أن يكون بدلا من المظهر، وليس بمنزلته في أن
يكون وصفا له؛ لأن الوصف تابع للاسم مثلُ قولك: رأيت عبدَ الله أبا
زيد. فأما البدل فمنفرد كأنك قلت: زيدا رأيت أو رأيت زيدا ثم قلت إياه
رأيت. وكذلك أنت وهو وأخواتُهما في الرفع.
(2/386)
واعلم أنه قبيح أن تقول مررتُ به وبزيدٍ
هما، كما قبُح أن تصف المظهر والمضمَر بما لا يكون إلا وصفا للمظهر.
ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررتُ بزيدٍ وبه الظريفين. وإن أراد البدل
قال: مررتُ به وبزيدٍ بهما؛ لابد من الباء الثانية في البدل.
؟
هذا باب من البدل أيضا
وذلك قولك: رأيتُه إياه نفسَه، وضربتُه إياه قائما.
وليس هذا بمنزلة قولك: أظنه هو خيرا منك، من قبل أن هذا موضع فصل،
والمضمَر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنك تقول رأيت زيدا هو خيرا
منك، وقال الله عز وجل: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزلَ إليك من
ربك هو الحق ". وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها
بمنزلتها في الابتداء. فأما ضربتُ وقتلتُ ونحوهما فإن الأسماء بعدها
بمنزلة المبني على المبتدإ، وإنما تذكر قائما بعد ما يستغنى الكلام
ويكتفى، وينتصب على أنه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إياه يوم الجمعة.
فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل،
وإنما ذكرتهما توكيدا، كقوله جل ذكره: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون "؛
إلا أن إياه بدلٌ والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجلَ زيدا نفسه، وزيد
بدل ونفسه على الاسم. وإنما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما
(2/387)
كان الفصل في أظن ونحوها لأنه موضع يلزم
فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدا. وإنما فصل
لأنك إذا قلت كان زيدٌ الظريف، فقد يجوز أن تريد بالظريف نعتا لزيد،
فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر. وإنما فصل لما لابد له منه،
ونفسه يجزئ من إيا، كما تُجزئ منه الصفة؛ لأنك جئت بها توكيدا وتوضيحا،
فصارت كالصفة.
ويدلك على بُعده أنك لا تقول أنت إياك خيرٌ منه. فإن قلت أظنه خيرا
منه، جاز أن تقول إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام، فصار
كقولك: ضربتُه إياه.
وكان الخليل يقول: هى عربية: إنك إياك خيرٌ منه. فإذا قلت إنك فيها
إياك، فهو مثل أظنه خيرا منه، يجوز أن تقول: إياك.
ونظير إيا في الرفع أنت وأخواتُها.
(2/388)
واعلم أنها في الفعل أقوى منها في إن
وأخواتها. ويدلك على أن الفصل كالصفة، أنه لا يستقيم أظنه هو إياه خيرا
منك إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، لأن أحدهما يُجزئ من الآخر؛ لأن
الفصل هو كالصفة، والصفة كالفصل.
وكذلك أظنه إياه هو خيرا منه؛ لأن الفصل يجزئ من التوكيد، والتوكيد
منه.
؟
باب ما يكون فيه هو وأنت
وأنا ونحن وأخواتهن فصلا
اعلم أنهن لا يكن فصلا إلا في الفعل، ولا يكن كذلك إلا في كل فعل الاسم
بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في
الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في
الابتداء، إعلاما بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه
منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما
تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد
منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدل المحدَّث أن ما
بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا
تفسير الخليل رحمه الله.
(2/389)
وإذا صارت هذه الحروف فصلا وهذا موضع فصلها
في كلام العرب، فأجرِه كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبتُ وخلْتُ وظننت
ورأيت إذا لم ترد رؤية العين؛ ووجدتُ إذا لم ترد وجدانَ الضالة، وأُرى،
وجعلتُ إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ولكن تجعلها بمنزلة صيرته
خيرا منك، وكان وليس وأصبح وأمسى.
ويدلك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو
كانتا بمنزلة جاء وركب، لقبُح أن تقول أصبح العاقلَ وأمسى الظريفَ، كما
يقبح ذلك في جاء وركب ونحوهما. فمما يدلك على أنهما بمنزلة ظننتُ أنه
يُذكر بعد الاسم فيهما ما يُذكر في الابتداء.
واعلم أن ما كان فصلا لا يغير ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن
يُذكر، وذلك قولك: حسبتُ زيدا هو خيرا منك، وكان عبد الله هو الظريف،
وقال الله عز وجل: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو
الحق ".
وقد زعم ناسٌ أن هو ها هنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من الدنيا عربي
يجعلها ها هنا صفة للمظهر. ولو كان ذلك كذلك لجاز مررتُ بعبد الله هو
نفسه، فهو ها هنا مستكرهة لا يتكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها
عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا
(2/390)
لنحن الصالحين. فالعرب تنصب هذا والنحويون
أجمعون. ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليه اللام؛ لأنك لا تُدخلها في ذا
الموضع على الصفة فتقول: إن كان زيد للظريف عاقلا. ولا يكون هو ولا نحن
ها هنا صفة وفيهما اللام.
ومن ذلك قوله عز وجل: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله
هو خيرا لهم "، كأنه قال: ولا يحسبن الذين يبخلون البُخل هو خيرا لهم.
ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنه البخل، لذكره يبخلون.
ومثل ذلك قول العرب: " مَنْ كَذَب كان شرَّا له "، يريد كان الكذب شرا
له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب، لقوله كذب في أول
حديثه؛ فصار هو وأخواتُها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوا، في أنها لا
تغير ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكَر.
(2/391)
واعلم أنها تكون في إن وأخوتها فصلا وفي
الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع، لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.
واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلا حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه
المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيدا وعمرا نحو خير
منك ومثلك، وأفضل منك وشر منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها
معرفة أو ما ضارعها، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. لو
قلت: كان زيد هو منطلقاً، كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرتُ لك
من المعرفة أو ما ضارعها من النكرة مما لا يدخله الألف واللام.
وأما قوله عز وجل: " إنْ تَرَنِى أنَا أقلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً "
فقد تكون أنا فصلا وصفة، وكذلك " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند
الله هو خيرا وأعظمَ أجراً ".
وقد جعل ناسٌ كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسمٍ
مبتدأ وما بعده مبني عليه، فكأنك تقول: أظن زيدا أبوه خيرٌ منه، ووجدتُ
عمرا أخوه خيرٌ منه. فمن ذلك أنه بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيدا هو
خيرٌ منك. وحدثنا عيسى أن ناساً كثيراً يقرؤونها:
(2/392)
" وَمَا ظَلَمنْاهُمْ وَلَكِنْ كَانوا هُمُ
الظَّالِمُونَ ". وقال الشاعر، قيس بن ذريح:
تُبَكّي على لُبنى وأنتَ تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ
وكان أبو عمرو يقول: إن كان لهو العاقل.
وأما قولهم: " كلُّ مولود يُولَدُ على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان
يهودانه وينصرانه "، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.
فأحد وجهى الرفع أن يكون المولود مضمَراً في يكون، والأبوان مبتدآن،
وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه
(2/393)
اللذان يهودانه وينصرانه. ومن ذلك قول
الشاعر، رجل من بني عبس:
إذا ما الَمرْءُ كانَ أبوه عَبْسٌ ... فحسبُك ما تريد إلَى الكَلامَ
وقال آخر:
متى ما يُفِد كسبًا يكنْ كلُ كسبه ... له مطعمٌ من صدرِ يومٍ ومأكلُ
والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هُما مبتدأ وما بعده
خبرا له.
والنصب على أن تجعل هُما فصلا.
وإذا قلت: كان زيد أنت خيرٌ منه، وكنت أنا يومئذ خيرٌ منك فليس إلا
الرفع؛ لأنك إنما تفصل بالذي تعنى به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو
الأول وكان خبره، ولا يكون الفصل ما تعنى به غيره. ألا ترى أنك
(2/394)
لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغير المعنى،
وإذا اخرجت هو من قولك كان زيد هو خيرا منك لم يفسد المعنى.
وأما إذا كان ما بعد الفصل هو الأول قلت: هذا عبد الله هو خيرٌ منك،
وضربتُ عبدَ الله هو قائمٌ، وما شأن عبد الله هو خيرٌ منك، فلا تكون هو
وأخواتها فصلاً فيها وفي أشباهها ها هنا؛ لأن ما بعد الاسم ها هنا ليس
بمنزلة ما يُبنى على المبتدإ، وإنما ينتصب على أنه حالٌ كما انتصب قائم
في قولك: انظُر إليه قائما. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد هو القائم،
ولا ما شأنُك أنت الظريفُ. أوَلا ترى أن هذا بمنزلة راكبٍ في قولك مر
زيدٌ راكبا.
فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلا؛ لأن ما بعد
الأسماء هنا لا يفسد تركُه الكلام، فيكون دليلا على أنه فيما تكلمه به،
وإنما يكون هو فصلاً في هذه الحال.
؟
باب لا تكون هو واخواتها فيه فصلا
ولكن يكن بمنزلة اسم مبتدإ.
وذلك قولك: ما أظن أحداً هو خير منك، وما أجعلُ رجلا هو أكرم منك، وما
إخالُ رجلا هو أكرمُ
(2/395)
منك. لم يجعلوه فصلا وقبله نكرة، كما أنه
لا يكون وصفا ولا بدلا لنكرة، وكما أن كلهم وأجمعين لا يكرَّران على
نكرة، فاستقبحوا أن يجعلوها فصلا في النكرة كما جعلوها في المعرفة
لأنها معرفة، فلم تصر فصلا إلا لمعرفة كما لم تكن وصفا ولا بدلا إلا
لمعرفة.
وأما أهل المدينة فينزلون هو ها هنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها
فصلا في هذا الموضع. فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحنا، وقال: احتبى
(2/396)
ابنُ مروان في ذِه في اللحن. يقول: لحنَ،
وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: "
هؤلاء بناتي هن أطهرَ لكم "، فنصب.
وكان الخليل يقول: والله إنه لعظيمٌ جعلهم هو فصلا في المعرفة وتصييرهم
إياها بمنزلة ما إذا كانت ما لغوا، لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنهم جعلوها
في ذلك الموضع لغوا كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس. وإنما
قياسُها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما. ومما يقوى ترك ذلك في النكرة أنه
لا يستقيم أن تقول: رجلٌ خيرٌ منك. ويقول: لا يستقيم أظن رجلا خيرا
منك، فإن قلت: لا أظن رجلا خيرا منك فجيد بالغ. ولا تقول: أظن رجلا
خيرا منك، حتى تنفى وتجعله بمنزلة أحد، فلما خالفَ المعرفة في الواجب
الذي هو بمنزلة الابتداء، لم يجرِ في النفي مجراه لأنه قبيح في
الابتداء وفيما أجرى مجراه من الواجب، فهذا مما يقوى ترك الفصل.
(2/397)
؟
هذا باب أى
اعلم أن أيا مضافا وغير مضاف بمنزلة مَن. ألا ترى أنك تقول: أيٌ أفضل،
وأيُ القوم أفضلُ. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى مَن، كما أن
زيدا وزيدَ مَناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحُسن
والقبح كحال المفرد. قال الله عز وجل: " أَيَّا مَا تَدْعُو فَلَهُ
الأَسْمَاءُ الحُسنى "؛ فحسُن كحسنه مضافا.
وتقول: أيها تشاء لك، فتشاء صلةٌ لأيها حتى كمل اسما، ثم بنيتَ لك على
أيها، كأنك قلت: الذي تشاء لك. وإن أضمرت الفاء جاز وجزمت تشأ، ونصبت
أيها. وإن أدخلتَ الفاء قلت: أيها تشأ فلك؛ لأنك إذا جازيت لم يكن
الفعل وصلا، وصار بمنزلته في الاستفهام إذا قلت أيها تشاء؟ وكذلك مَن
تجرى مجرى أيٍ في الذي ذكرنا وتقع موقعه.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن قولهم: اضربْ أيُّهم أفضل؟ فقال: القياس
النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضلُ، لأن أيا في غير الجزاء والاستفهام
بمنزلة الذي، كما أن مَن في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي.
(2/398)
وحدّثنا هارون أن ناساً، وهم الكوفيون
يقرؤونها: " ثم لننزِعنّ من كل شيعةٍ أيَّهم أشدُّ عَلى الرَّحْمَنِ
عُتيّا "، وهي لغة جيدة، نصبوها كما جروها حين قالوا: امرُرْ على أيهم
أفضلُ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضربِ الذي أفضلُ، لأنك تُنزل
أيا ومَن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.
وزعم الخليل أن أيُّهم إنما وقع في اضربْ أيهم أفضل على أنه حكاية،
كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيهم أفضلُ، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيتُ مِن الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
(2/399)
وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهدُ
إنك لَرسولُ الله.
واضربْ معلّقةٌ. وأرى قولهم: اضربْ أيهم أفضلُ على أنهم جعلوا هذه
الضمة بمنزلة الفتحة في خمسةَ عشرَ، وبمنزلة الفتحة في الآنَ حين قالوا
من الآنَ إلى غدٍ، ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئا لم تجئ أخواته عليه
إلا قليلا، واستُعمل استعمالا لم تُستعمله أخواته إلا ضعيفا. وذلك أنه
لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضربْ، واضربْ مَن أفضلُ، حتى يدخلَ هو.
ولا يقول: هاتِ ما أحسنُ حتى يقول ما هو أحسن. فلما كانت أخواته
مفارِقة له لا تستعمل كما يُستعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على
غير ما استُعملت عليه أخواته إلا قليلا. كما أن قولك: يا اللهُ حين
خالف سائرَ ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفَه، وكما أن ليس لما
خالفت سائر الفعل ولم تصرف تصرف الفعل تُركت على هذه الحال.
وجاز إسقاط هو في أيهم كما كان: لا عليك، تخفيفا، ولم يجزْ في أخواته
إلا قليلاً ضعيفاً.
(2/400)
وأما الذين نصبوا فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة
قولنا اضربِ الذين أفضلُ، إذا أثرنا أن نتكلم به. وهذا لا يرفعه أحد.
ومن قال: امرُرْ على أيهم أفضل قال: امرُرْ بأيهم أفضل؛ وهما سواء.
فإذا جاء أيهم مجيئاً يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر رجع الى الأصل
والى القياس، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ إلى الأصل وإلى القياس.
وتفسير الخليل رحمه الله ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في
اضطرار. ولو ساغ هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضربِ الفاسقُ الخبيثُ
تريد الذي يقال له الفاسقُ الخبيثُ.
وأما قول يونس فلا يشبه أشهد إنك لمنطلق. وسترى بيان ذلك في باب إن وأن
إن شاء الله.
ومن قولهما: اضربْ أيٌ أفضلُ. وأما غيرهما فيقول: اضربْ أيا أفضلُ.
ويقيس ذا على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلم في ذلك المضاف إلى
قول العرب ذلك، يعني أيهم، وأجروا أيا على القياس.
(2/401)
ولو قالت العرب اضربْ أيٌ أفضلُ لقلته، ولم
يكن بدٌ من متابعتهم. ولا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في
القياس، كما أنك لا تقيس على أمس أمسك، ولا على أيقول، ولا سائر أمثلة
القول، ولا على الآن أنَك. وأشبه هذا كثير.
ولو جعلوا أيا في الانفراد بمنزلته مضافا لكانوا خُلقاء إن كان بمنزلة
الذي معرفة أن لا ينون؛ لأن كل اسم ليس يتمكن لا يدخله التنوين في
المعرفة ويدخله في النكرة. وسترى بيان ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف إن شاء
الله.
وسألته رحمه الله عن أيّي وأيُّك كان شرا فأخزاه الله؟ فقال: هذا
كقولك: أخزى الله الكاذب منى ومنك، إنما يريد منا. وكقولك: هو بيني
وبينك، تريد هو بيننا. فإنما أراد أيُّنا كان شرا، إلا أنهما لم يشتركا
في أي ولكنه أخلصَه لكل واحدٍ منهما. وقال الشاعر، العباس ابن مرداس:
فأيِّى ما وأيُّك كان شرَّا ... فسيقَ إلى المُقامةِ لا يَرَاها
(2/402)
وقال خداشُ بن زهير:
ولقد علمتُ إذا الرجالُ تَناهَزُوا ... أيِّى وأيّكمُ أعزُّ وأمنعُ
وقال خداش أيضا:
فأيَّى وأيُّ ابنِ الحُصين وعثعثٍ ... غداةَ التقينا كان عندك أعذرا
؟ باب مجرى أى مضافاً على القياس
وذلك قولك: اضربْ أيَّهم هو أفضل، واضرب أيَّهم كان أفضل، واضرب أيهم
أبوه زيد. جرى ذا على القياس لأن الذي يحسن ها هنا.
ولو قلت: آضربْ أيهم عاقلٌ رفعت، لأن الذي عاقل قبيحة.
(2/403)
فإذا أدخلتَ هو نصبتَ لأن الذي هو عاقل حسن. ألا ترى أنك لو قلت: هذا
الذي هو عاقل، كان حسنا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع عربيا يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئا.
وهذه قليلة، ومن تكلم بهذا فقياسه اضربْ أيهم قائل لك شيئا.
قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: لا. فقلت: فما بالُ المسألة
الأولى؟ فقال: لأنه إذا طال الكلام فهو أمثلُ قليلا، وكأن طولَه عوض من
ترك هو. وقلّ من يتكلم بذلك.