الكتاب لسيبويه

الجزء الثالث
بسم الله الرّحمن الرّحيم
باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء
اعلم أن هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء، كما أن حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال، وهي: أن، وذلك قولك: أريد أن تفعل. وكي، وذلك جئتك لكي تفعل. ولن.
فأما الخليل فزعم أنها لا أن، ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمه يريدون وي لامه، وكما قالوا يومئذٍ، وجعلت بمنزلة حرفٍ واحد، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد، فإنما هي هل ولا.
وأما غيره فزعم أنه ليس في لن زيادة وليست من كلمتين ولكنّها بمنزلة شئ على حرفين ليست فيه زيادة، وأنها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم، في أنه ليس واحد من الحرفين زائداً. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أما زيداً فلن أضرب لأن هذا اسم والفعل صلة فكأنه قال: أما زيداً فلا الضرب له.

باب الحروف التي تضمر فيها أن
وذلك اللام التي في قولك: جئتك لتفعل. وحتى، وذلك قولك:

(3/5)


حتى تفعل ذاك فإنما انتصب هذا بأن، وأن ههنا مضمرة؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالاً، لأن اللام وحتى إنما يعملان في الأسماء فيجران، وليستا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال. فإذا أضمرت أن حسن الكلام لأن أن وتفعل بمنزلة اسم واحد، كما أن الذي وصلته بمنزلة اسم واحد؛ فإذا قلت: هو الذي فعل فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل فكأنك قلت: أخشى فعلك. أفلا ترى أن أن تفعل بمنزلة الفعل، فلما أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما، لأنهما لا يعملان إلا في الأسماء ولا يضافان إّلا إليهما، وأن وتفعل بمنزلة الفعل.
وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتى، وذلك أنهم يقولون: كيمه في الاستفهام، فيعملونها في الأسماء كما قالوا حتى مه. وحتى متى، ولمه.
فمن قال كيمه فإنه يضمر أن بعدها، وأما من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فإنها عنده بمنزلة أن، وتدخل عليها اللام كما تدخل على أن. ومن قال كيمه جعلها بمنزلة اللام.

(3/6)


واعلم أن لا تظهر بعد حتى وكي، كما لا يظهر بعد أما الفعل في قولك: أما أنت منطلقاً انطلقت، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أن هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل، وأنهما ليسا مما يعمل في الفعل، وأن الفعل لا يحسن بعدهما إلا أن يحمل على أن، فأن ههنا بمنزلة الفعل في أما، وما كان بمنزلة أما مما لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلاً من اللفظ بأن.
وأما اللام في قولك: جئتك لتفعل، فبمنزلة إن في قولك: إن خيراً فخير وإن شراً فشر؛ إن شئت أظهرت الفعل ههنا، وإن شئت خزلته وأضمرته. وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته، وإن شئت أضمرته.
واعلم أن اللام قد تجئ في موضع لا يجوز فيه الإظهار وذلك: ما كان ليفعل، فصارت أن ههنا بمنزلة الفعل في قولك: إياك وزيداً، وكأنك إذا مثلت قلت: ما كان زيدٌ لأن يفعل، أي ما كان زيدٌ لهذا الفعل. فهذا بمنزلته، ودخل فيه معنى نفي كان سيفعل. فإذا قلت هذا قلت: ما كان ليفعل، كما كان لن يفعل نفياً لسيفعل. وصارت بدلاً من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلاً من واو القسم في قولك: آلله لتفعلن. فلم تذكر

(3/7)


إلا أحد الحرفين إذ كان نفياً لما معه حرف، لم يعمل فيه شئ ليضارعه فكأنه قد ذكر أن. كما أنه إذا قال: سقياً له فكأنه قال: سقاه الله.

باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها
وذلك: لم، ولما، واللام التي في الأمر، وذلك قولك: ليفعل، ولا في النهي، وذلك قولك لا تفعل؛ فإنما هما بمنزلة لم.
واعلم أن هذه اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي، وذلك قولك: لا يقطع الله يمنيك، وليجزك الله خيراً.
واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرةٌ، كأنهم شبهوها بأن إذا أعملوها مضمرةً. وقال الشاعر:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسَكَ كلُّ نفسٍ ... إذا ما خفت من شئ تَبالاَ
وإنما أراد: لتفد. وقال متمم بن نويرة:

(3/8)


على مِثْلِ أَصْحَابِ البَعوضة فاخْمُشِي ... لَكِ الويلُ حُرَّ الوجْهِ أو يَبْكِ مَن بَكَى
أراد: ليبك. وقال أحيحة بن الجلاح:
فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته وَيَجْهَدْ كُلَّ جَهْدِ
واعلم أن حروف الجزم لا تجزم إلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال

المضارعة للأسماء، كما أن الجر لا يكون إلا في الأسماء.
والجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيبٌ، وليس للفعل في الجر نصيب، فمن ثم لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجار. وقد أضمره الشاعر، شبهه بإضمارهم رب وواو القسم في كلام بعضهم.

باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال
المضارعة للأسماء
اعلم أنها إذا كانت في موضع اسمٍ مبتدإٍ أو موضع اسمٍ بني على مبتدإ

(3/9)


أو في موضع اسمٍ مرفوع غير مبتدإ ولا مبنيٍ على مبتدإ، أو في موضع اسمٍ مجرور أو منصوب، فإنها مرتفعة، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع، وهي سبب دخول الرفع فيها.
وعلته: أن ما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حد عمله في الأسماء كما أن ما يعمل في الأفعال فينصبها أو يجزمها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في موضع الأسماء ترفعها كما يرفع الاسم كينونته مبتدأٌ.
فأما ما كان في موضع المبتدإ فقولك: يقول زيدٌ ذاك.
وأما ما كان في موضع المبني على المبتدإ فقولك: زيدٌ يقول ذاك.
وأما ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبني عليه فقولك: مررت برجلٍ يقول ذاك، وهذا يومٌ آتيك، وهذا زيدٌ يقول ذاك، وهذا رجلٌ يقول ذاك، وحسبته ينطلق. فهكذا هذا وما أشبهه.
ومن ذلك أيضاً: هلا يقول زيدٌ ذاك، فيقول في موضع ابتداء وهلا لا تعمل في اسم ولا فعل، فكأنك قلت: يقول زيدٌ ذاك. إلا أن من الحروف ما لا يدخل إلا على الأفعال التي في موضع الأسماء المبتدأة وتكون الأفعال أولى من الأسماء حتى لا يكون بعدها مذكورٌ يليها إلا الأفعال. وسنبين ذلك إن شاء الله، وقد بين فيما مضى.

(3/10)


ومن ذلك أيضاً ائتني بعد ما تفرغ، فما وتفرغ بمنزلة الفراغ، وتفرغ صلةٌ، وهي مبتدأة، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي تفرغ، فتفرغ في موضع مبتدإ لأنّ الذي لا يعمل في شئ، والأسماء بعده مبتدأةٌ.
ومن زعم أن الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضعٍ ينتصب فيه الاسم، ويجرها إذا كانت في موضعٍ ينجر فيه الاسم؛ ولكنها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم.
ومن ذلك أيضاً: كدت أفعل ذاك وكدت تفرغ، فكدت فعلت وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها وأفعل ههنا بمنزلة في كنت، إلا أن الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها.
ومثل ذلك: عسى يفعل ذاك، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم، كأنك قلت: كدت فاعلاً، ثم وضعت أفعل في موضع فاعلٍ. ونظير هذا في العربية كثيرٌ، وستراه إن شاء الله تعالى. ألا ترى أنك تقول: بلغني أن زيداً جاء، فأن زيداً جاء كله اسمٌ. وتقول: لو أن زيداً جاء لكان كذا وكذا، فمعناه: لو مجيء زيدٍ، ولا يقال لو مجيء زيد.

(3/11)


وتقول في التعجب: ما أحسن زيداً، ولا يكون الاسم في موضع، فتقول: ما محسنٌ زيداً. ومنه: قد جعل يقول ذاك، كأنك قلت: صار يقول ذاك، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنهم إنما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أن معناها ومعنى غيرها معنى ما تدخله أن نحو قولهم: خليقٌ أن يقول ذاك وقارب أن لا يفعل. ألا ترى أنهم يقولون: عسى أن يفعل. ويضطر الشاعر فيقول: كدت أن، فلما كان المعنى فيهنّ ذلك تركوا الأسماء لئلا يكون ما هذا معناه كغيره، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت، لأنه فعلٌ مثله.
وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر، لأنه مثل كان في قولك: كان فاعلاً ويكون فاعلاً. وكأن معنى جعل يقول وأخذ يقول، قد آثر أن يقول ونحوه. ثمن ثم منع الأسماء، لأن معناها معنى ما يستعمل بأن فتركوا الفعل حين خزلوا أن، ولم يستعملوا الاسم لئلا ينقضوا هذا المعنى.
؟

هذا باب إذن
اعلم أن إذن إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل رأى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك: إذن أجيئك، وإذن آتيك.
ومن ذلك أيضاً قولك: إذن والله أجيئك. والقسم ههنا بمنزلته في أرى إذا قلت: أرى والله زيداً فاعلاً.
ولا تفصل بين شئ مما ينصب الفعل وبين الفعل سوى إذن، لأنّ إذن

(3/12)


أشبهت أرى، فهي في الأفعال بمنزلة أرى في الأسماء وهي تلغى وتقدم وتؤخر، فلما تصرّفت هذا التصرّف اجتروا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين.
ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهية أن يشبهوها بما يعمل في الأسماء، نحو ضربت وقتلت؛ لأنها لا تصرف تصرف الأفعال نحو ضربت وقتلت، ولا تكون إلا في أوّل الكلام لاؤمة لموضعها لا تفارقه، فكرهوا الفصل لذلك، لأنه حرف جامدٌ.
واعلم أن إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنك فيها بالخيار: إن شئت أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدةٌ منهما بين اسمين؛ وذلك قولك: زيداً حسبت أخاك، وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت زيدٌ حسبت أخوك.
فأما الاستعمال فقولك: فإذن آتيك وإذن أكرمك.
وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف: " وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلاً ". وسمعنا بعض العرب قرأها فقال: " وإذن لا يلبثوا ".

(3/13)


وأما الإلغاء فقولك: فإذن لا أجيئك. وقال تعالى: " فإذن لا يؤتون الناس نقيراً ".
واعلم أن إذن إذا كانت بين الفعل وبين شئ الفعل معتمدٌ عليه فإنها ملغاة لا تنصب البتة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيدٌ ذاهباً، وكما لا تعمل في قولك: إني أرى ذاهبٌ. فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب. فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي ههنا بمنزلة أرى حيت لا تكون إلا ملغاة.
ومن ذلك أيضاً قولك: إن تأتني إذن آتك، لأن الفعل ههنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي:
أرْدُدْ حِمارَك لا تُنْزَعْ سَوِيَّتُه ... إذَنْ يُرَدَّ وَقَيْدُ العَيْرِ مَكْروبُ
من قبل أن هذا منقطعٌ من الكلام الأول وليس معتمداً على ما قبله، لأن ما قبله مستغنٍ.
ومن ذلك أيضاً: والله إذن لا أفعل، من قبل أن أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغوٌ.

(3/14)


وليس الكلام ههنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوله، لأن اليمين ههنا الغالبة. ألا ترى أنك تقول إذا كانت إذن مبتدأةً: إذن والله لا أفعل، لأن الكلام على إذن ووالله لا يعمل شيئاً.
ولو قلت: والله إذن أفعل تريد أن تخبر أنك فاعلٌ لم يجز، كما لم يجز والله أذهب إذن إذا أخبرت أنك فاعل. فقبح هذا يدلك على أن الكلام معتمد على اليمين. وقال كثيّرة عزة:
لئنْ عادَ لِي عبدُ العزيزِ بمثْلِها ... وأمكنني منها إذَنْ لا أُقيِلُها
وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، إذا جعلت الكلام على أوله ولم تقطعه، وعطفته على الأول. وإن جعلته مستقبلاً نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغى. وهذا قول يونس، وهو حسن، لأنك إذا قطعته من الأول فهو بمنزلة قولك: فإذن أفعل، إذا كنت مجيباً رجلاً.
وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك، لا يكون إلا هذا؛ من قبل أن إذن الآن بمنزلة إنما وهل، كأنك قلت: إنما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن ههنا بمنزلة كي وأن لم يحسن، من قبل أنه لا يجوز لك أن تقول: كي زيدٌ

(3/15)


يقول ذاك، ولا أن زيدٌ يقول ذاك. فلما قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنما وأشباههما.
وزعم عيسى بن عمر أن ناساً من العرب يقولون: إذن أفعل ذاك، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدن ذا. ولم يكن ليروي إلا ما سمع، جعلوها بمنزلة هل وبل.
وتقول إذا حدثت بالحديث: إذن أظنه فاعلاً، وإذن إخالك كاذباً، وذلك لأنك تخبر أنك تلك الساعة في حال ظن وخيلةٍ، فخرجت من باب أن وكي، لأن الفعل بعدهما غير واقع وليس في حال حديثك فعلٌ ثابتٌ. ولما لم يجز ذا في أخواتها التي تشبه بها جعلت بمنزلة إنما.
ولو قلت: إذن أظنك، تريد أن تخبره أن ظنك سيقع لنصبت، وكذلك إذن يضربك، إذا أخبرت أنه في حال ضربٍ لم ينقطع.
وقد ذكر لي بعضهم أن الخليل قال: أن مضمرةٌ بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن فكانت بمنزلة اللام وحتى لأضمرتها إذا قلت عبد الله إذن يأتيك؛ فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك لأن المعنى واحد، ولم يغير فيه المعنى الذي كان في قوله: إذن يأتيك عبد الله، كما يتغير المعنى في حتى في الرفع والنصب. فهذا مارووا. وأما ما سمعت منه فالأول.

هذا باب حتّى
اعلم أنّ تنصب على وجهين:

(3/16)


فأحدهما: أن تجعل الدخول غايةً لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتى أدخلها، كأنك قلت: سرت إلى أن أدخلها، فالناصب للفعل ههنا هو الجار للاسم إذا كان غايةً. فالفعل إذا كان غايةً نصبٌ، والاسم إذا كان غايةً جرٌ. وهذا قول الخليل.
وأما الوجه الآخر فأن يكون السير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلمته حتى يأمر لي بشيء.
واعلم أن حتى يرفع الفعل بعدها على وجهين: تقول: سرت حتى أدخلها، تعني أنه كان دخولٌ متصلٌ بالسير كاتصاله به بالفاء إذا قلت: سرت فأدخلها، فأدخلها ههنا على قولك: هو يدخل وهو يضرب، إذا كنت تخبر أنه في عمله، وأن عمله لم ينقطع. فإذا قال حتى أدخلها فكأنه يقول: سرت فإذا أنا في حال دخول، فالدخول متصل بالسير كاتصاله بالفاء. فحتى صارت ههنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الابتداء،

(3/17)


لأنّها لم تجئ على معنى إلى أن، ولا معنى كي، فخرجت من حروف النصب كما خرجت إذن منها في قولك: إذن أظنك.
وأما الوجه الآخر: فإنه يكون السير قد كان وما أشبهه، ويكون الدخول وما أشبهه الآن، فمن ذلك: لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع، أي حتى أني الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل: لقد رأى مني عاماً أول شيئاً حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء، ولقد مرض حتى لا يرجونه. والرفع ههنا في الوجهين جميعاً كالرفع في الاسم. قال الفرزدق:
فيا عَجَباً حتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ
فحتى ههنا بمنزلة إذاً، وإنما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء.
ومثل ذلك: شربت حتى يجئ البعير يجر بطنه، أي حتى إن البعير ليجئ يجر بطنه.
ويدلك على حتى أنها حرف من حروف الابتداء أنك تقول: حتى إنه

(3/18)


ليفعل ذاك كما تقول: فإذا إنه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسان ابن ثابت:
يُغْشَوْنَ حتَّى لا تَهِرُّ كِلابُهمْ ... لا يَسالون عن السَّواد المُقْبِلِ
ومثل ذلك: مرض حتى يمر به الطائر فيرحمه، وسرت حتى يعلم الله أني كالٌ. والفعل ههنا منقطع من الأول، وهو في الوجه الأول الذي ارتفع فيه متصلٌ كاتصاله به بالفاء، كأنه قال سيرٌ فدخولٌ، كما قال علقمة ابن عبدة:
تُرادَى على دِمْنِ الحِياضِ فإنْ تَعَفْ ... فإنّ المُنَدَّى رِحْلةٌ فركُوبُ
لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضى، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضى، ولكن الآخر متصل بالأول، ولم يقع واحدٌ دون الآخر.

(3/19)


وإذا قلت: لقد ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم، فليس كقولك: سرت فأدخلها، إذا لم ترد أن تجعل الدخول الساعة، لأن السير والدخول جميعاً وقعا فيما مضى. وكذلك مرض حتى لا يرجونه، أي حتى إنه الآن لا يرجونه؛ فهذا ليس متصلاً بالأول واقعاً معه فيما مضى.
وليس قولنا كاتصال الفاء يعني أن معناه معنى الفاء، ولكنك أردت أن تخبر أنه متصلٌ بالأول، وأنهما وقعا فيما مضى.
وليس بين حتى في الاتصال وبينه في الانفصال فرقٌ في أنه بمنزلة حرف الابتداء، وأن المعنى واحدٌ إلا أن أحد الموضعين الدخول فيه متصلٌ بالسير وقد مضى السير والدخول، والآخر منفصل وهو الآن في حال الدخول، وإنما اتصاله في أنه كان فيما مضى، وإلا فإنه ليس بفارق موضعه الآخر في شئ إذا رفعت.

باب الرفع فيما اتصل بالأول
كاتصاله بالفاء وما انتصب لأنه غاية
تقول: سرت حتى أدخلها، وقد سرت حتى أدخلها سواء، وكذلك إني سرت حتى أدخلها، فيما زعم الخليل.
فإن جعلت الدخول في كل ذا غايةً نصبت وتقول: رأيت عبد الله سار حتى يدخلها، وأرى زيداً سار حتى يدخلها ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم غير متيقن فإنه يدخل عليه سار زيدٌ حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري ويدخل عليه عبد الله سار حتى يدخلها أرى.

(3/20)


فإن قال: فإني لم أعمل أرى، فهو يزعم أنه ينصب بأرى الفعل.
وإن جعلت الدخول غايةً نصبت في ذا كله.
وتقول: كنت سرت حتّى أدخلها، إذا لم تجعل الدخول غايةً. وليس بين كنت سرت وبين سرت مرةً في الزمان الأول حتى أدخلها شئ، وإنّما ذا قول كان النحويّون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف. يقولون: إذا لم يجز القلب نصبنا فيدخل عليهم قد سرت حتى أدخلها أن ينصبوا وليس في الدنيا عربيٌ يرفع سرت حتى أدخلها إلا وهو يرفع إذا قال: قد سرت.
وتقول: إنّما سرت حتى أدخلها، وحتى أدخلها، إن جعلت الدخول غايةً. وكذلك ما سرت إلا قليلاً حتى أدخلها، إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، لأنّ معنى هذا معنى سرت قليلاً حتّى أدخلها، فإن جعلت الدخول غايةً نصبت.
ومما يكون فيه الرفع شئ ينصبه بعض الناس لقبح القلب، وذلك: ربما

(3/21)


سرت حتى أدخلها، وطالما سرت حتى أدخلها، وكثر ما سرت حتى أدخلها ونحو هذا. فإن احتجوا بأنه غير سيرٍ واحد فكيف يقولون إذا قلت: سرت غير مرة حتى أدخلها.
وسألنا من يرفع في قوله: سرت حتى أدخلها، فرفع في ربما ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في قد.
وتقول: ما أحسن ما سرت حتى أدخلها وقلما سرت حتى أدخلها، إذا أردت أن تخبر أنك سرت قليلاً وعنيت سيراً واحداً، وإن شئت نصبت على الغاية.
وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، إذا عنيت سيراً واحداً، أو عنيت غير سير، لأنك قد تنفي الكثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير.
وتقول: قلما سرت حتى أدخلها إذا عنيت غير سير، وكذلك أقل ما سرت حتى أدخلها، من قبل أن قلما نفيٌ لقوله كثر ما، كما أن ما سرت نفيٌ لقوله سرت. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: قلما سرت فأدخلها كما يقبح في ما سرت، إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل.
وتقول: قلما سرت فأدخلها، فتنصب بالفاء ههنا كما تنصب في ما، ولا يكون كثر ما سرت فأدخلها لأنه واجبٌ، ويحسن أن تقول: كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول: إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقراً لسيرك الذي أدى إلى الدخول، ويقبح إنما سرت حتى أدخلها، لأنه ليس في هذا اللفظ

(3/22)


دليلٌ على انقطاع السير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقر السير، لأنك لا تجعله سيراً يؤدي الدخول وأنت تستصغره، وهذا قول الخليل.
وتقول: كان سيرى أمس حتى أدخلها ليس إلا، لأنك لو قلت: كان سيرى أمس فإذا أنا أدخلها لم يجز، لأنك لم تجعل لكان خبراً.
وتقول: كان سيرى أمس سيراً متعباً حتى أدخلها، لأنك تقول: ههنا فأدخلها وفإذا أنا أدخلها، لأنك جئت لكان بخبرٍ، وهو قولك: سيراً متعباً.
واعلم أن ما بعد حتى لا يشرك الفعل الذي قبل حتى في موضعه كشركة الفعل الآخر الأوّل إذا قلت: لم أجئ فأقل، ولو كان ذلك لاستحال كان سيرى أمس شديداً حتّى أدخل، ولكنها تجئ كما تجئ ما بعد إذا وبعد حروف الابتداء.
وكذلك هي أيضاً بعد الفاء إذا قلت: ما أحسن ما سرت فأدخلها؛ لأنها منفصلة يعني الفاء؛ فإنما عنينا بقولنا الآخر متصلٌ بالأول أنهما وقعا فيما مضى، كما أنه إذا قال:
فإنَّ المُنَدَّى رِحْلَةٌ فرُكُوب
فإنما يعني أنهما وقعا في الماضي من الأزمنة، وأن الآخر كان مع فراغه من الأول.

(3/23)


فإن قلت: كان سيرى أمس حتى أدخلها، تجعل أمس مستقراً، جاز الرفع لأنه استغنى، فصار كسرت، لو قلت فأدخلها حسن، ولا يحسن كان سيري فأدخل، إلاّ أن تجئ بخبر لكان.
وقد تقع نفعل في موضع فعلنا في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله، لرجل من بني سلولٍ مولدٍ:
ولقد أمُرُّ على اللَّئيم يَسُبُّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
واعلم أن أسير بمنزلة سرت إذا أردت بأسير معنى سرت.
واعلم أن الفعل إذا كان غير واجب لم يكن إلا النصب، من قبل أنه إذا لم يكن واجباً رجعت حتى إلى أن وكي، ولم تصر من حروف الابتداء كما لم تصر إذن في الجواب من حروف الابتداء إذا قلت: إذن أظنك، وأظن غير واقعٍ في حال حديثك.
وتقول: أيهم سار حتى يدخلها، لأنك قد زعمت أنه كان سيرٌ ودخولٌ،

(3/24)


وإنما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنك لو قلت: أين الذي سار حتى يدخلها وقد دخلها لكان حسناً، ولجاز هذا الذي يكون لما قد وقع، لأن الفعل ثم واقعٌ، وليس بمنزلة قلما سرت إذا كان نافياً لكثرما، ألا ترى أنه لو كان قال: قلما سرت فأدخلها، أو حتى أدخلها، وهو يريد أن يجعلها واجبةً خارجةً من معنى قلما، لم يستقم إلا أن تقول: قلما سرت فدخلت وحتّى دخلت، كما تقول: ما سرت حتى دخلت. فإنما ترفع بحتى في الواجب، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلاً من الأول كان مع الأول فيما مضى أو الآن. وتقول: أسرت حتى تدخلها نصب، لأنك لن تثبت سيراً تزعم أنه قد كان معه دخول.

باب ما يكون العمل فيه من اثنين
وذلك قولك: سرت حتّى يدخلها زيداً، إذا كان دخول زيدٌ لم يؤده سيرك ولم يكن سببه، فيصير هذا كقولك: سرت حتى تطلع الشمس؛ لأن سيرك لا يكون سبباً لطلوع الشمس ولا يؤديه، ولكنك لو قلت: سرت حتى يدخلها ثقلى، وسرت حتى يدخلها بدنى، لرفعت لأنك جعلت دخول ثقلك يؤديه سيرك، وبدنك لم يكن دخوله إلا بسيرك.
وبلغنا أن مجاهداً قرأ هذه الآية: " وزلزلوا حتى يقول الرسول "؛ وهي قراءة أهل الحجاز.
وتقول: سرت حتى يدخلها زيدٌ وأدخلها، وسرت حتى أدخلها ويدخلها

(3/25)


زيدٌ إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك وهو الذي أداه، ولا تجد بداً من أن تجعله ههنا في تلك الحال، لأن رفع الأول لا يكون إلا وسبب دخوله سيره.
وإذا كانت هذه حال الأول لم يكن بد للآخر من أن يتبعه، لأنك تعطفه على دخولك في حتى. وذلك أنه يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها زيدٌ، إذا كان سيرك يؤدي دخوله كما تقول: سرت حتى يدخلها ثقلى. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيدٌ، لأنك لو قلت: سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس كان جيداً، وصارت إعادتك حتى كإعادتك له في تباً له وويلٌ له، ومن عمراً ومن أخو زيد. وقد يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها زيد إذا كان أداه سيرك. ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز: " وزلزلوا حتى يقول الرسول ".
واعلم أنه لا يجوز سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس يقول: إذا رفعت طلوع الشمس لم يجز، وإن نصبت وقد رفعت فهو محالٌ حتى تنصب فعلك من قبل العطف، فهذا محالٌ أن ترفع، ولم يكن الرفع لأنّ

(3/26)


طلوع الشمس لا يكون أن يؤديه سيرك فترفع تطلع وقد حلت بينه وبين الناصبة.
ويحسن أن تقول: سرت حتى تطلع الشمس وحتى أدخلها، كما يجوز أن تقول: سرت إلى يوم الجمعة، وحتى أدخلها. وقال امرؤ القيس:
سَرَيْتُ بهمْ حتَّى تَكَّل مَطِيُّهمْ ... وحتَّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأَرْسانِ
فهذه الآخرة هي التي ترفع.
وتقول: سرت وسار حتى ندخلها، كأنك قلت: سرنا حتى ندخلها.
وتقول: سرت حتى أسمع الأذان، هذا وجهه وحده النصب، لأن سيرك ليس يؤدي سمعك الأذان، إنما يؤديه الصبح، ولكنك تقول: سرت حتى أكل لأن الكلال يؤديه سيرك.
وتقول: سرت حتى أصبح، لأن الإصباح لا يؤديه سيرك إنما هي غاية طلوع الشمس.

(3/27)


هذا باب الفاء
اعلم أن ما انتصب في باب الفاء ينتصب على إضمار أن، وما لم ينتصب فإنه يشرك الفعل الأول فيما دخل فيه، أو يكون في موضع مبتدإ أو مبني على مبتدإ أو موضع اسم مما سوى ذلك. وسأبين ذلك إن شاء الله.
تقول: لا تأتيني فتحدثني، لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأول فتقول: لا تأتيني ولا تحدثني، ولكنك لما حولت المعنى عن ذلك تحول إلى الاسم، كأنك قلت: ليس يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، فلما أردت ذلك استحال أن تضم الفعل إلى الاسم، فأضمروا أن، لأن أن مع الفعل بمنزلة الاسم، فلما نووا أن يكون الأول بمنزلة قولهم: لم يكن إتيانٌ، استحالوا أن يضموا الفعل إليه، فلما أضمروا أن حسن؛ لأنه مع الفعل بمنزلة الاسم.
وأن لا تظهر ههنا، لأنه يقع فيها معان لا تكون في التمثيل، كما لا يقع معنى الاستثناء في لا يكون ونحوها، إلا أن تضمر. ولولا أنك إذا قلت لم آتك صار كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ، لم يجز فأحدثك، كأنك قلت في التمثيل فحديث. وهذا تمثيل ولا يتكلم به بعد لم آتك، لا تقول: لم آتك فحديثٌ. فكذلك لا تقع هذه المعاني في الفاء إلا بإضمار أن، ولا يجوز إظهار أن، كما لا يجوز إظهار المضمر في لا يكون ونحوها.
فإذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ، ولم يجز أن تقول فحديثٌ، لأن هذا لو كان جائزاً لأظهرت أن.
ونظير جعلهم لم آتك ولا آتيك وما أشبهه بمنزلة الاسم في النية، حتّى

(3/28)


كأنهم قالوا: لم يك إتيانٌ، إنشاد بعض العرب قول الفرزدق:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحِينَ عشيرةً ... ولا ناعِبٍ إلاَّ ببَيْنٍ غُرابُهَا
ومثله قول الفرزدق أيضاً:
وما زُرْتُ سَلْمَى أن تكون حبيبَةً ... إلىَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالبُهْ
جره لأنه صار كأنه قال: لأن.
ومثله قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيَا
لما كان الأول تستعمل فيه الباء ولا تغير المعنى، وكانت مما يلزم الأول نووها في الحرف الآخر، حتى كأنهم قد تكلموا بها في الأول.

(3/29)


وكذلك صار لم آتك بمنزلة لفظهم بلم يكن إتيانٌ، لأن المعنى واحد.
واعلم أن ما ينتصب في باب الفاء قد ينتصب على غير معنىً واحدٍ، وكل ذلك على إضمار أن، إلا أن المعاني مختلفةٌ، كما أن يعلم الله يرتفع كما يرتفع يذهب زيدٌ، وعلم الله ينتصب كما ينتصب ذهب زيدٌ، وفيهما معنى اليمين.
فالنصب ههنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ فإن تحدث والمعنى على غير ذلك، كما أن معنى علم الله لأفعلن غير معنى رزق الله. فأن تحدث في اللفظ مرفوعةٌ بيكن؛ لأنّ المعنى: بم يكن إتيان فيكون حديث.
وتقول: ما نأتيني فتحدثني، فالنصب على وجهين من المعاني: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني، أي لو أتيتني لحدثتني.
وأما الآخر: فما تأتيني أبداً إلا لم تحدثني، أي منك إتيانٌ كثيرٌ ولا حديثٌ منك.
وإن شئت أشركت بين الأول والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول فتقول: ما تأتيني فتحدثني كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني.
فمثل النصب قوله عز وجل: " لا يقضى عليهم فيموتوا ". ومثل الرفع قوله عز وجل: " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون ".

(3/30)


وإن شئت رفعت على وجهٍ آخر، كأنك قلت: فأنت تحدثنا. ومثل ذلك قول بعض الحارثيين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين ... فترجّي ونُكْثِرُ التأْميلاَ
كأنه قال: فنحن نرجى. فهذا في موضع مبني على المبتدإ.
وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا، فالنصب فيه كالنصب في الأول، وإن شئت رفعت على: فأنت تحدثنا الساعة، وارفع فيه يجوز على ما.
وإنما اختير النصب لأن الوجه ههنا وحد الكلام أن تقول: ما أتيتنا فحدّثتنا، فلّما صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضموه إلى الاسم في قولهم: ما أنت منا فتنصرنا ونحوه.
وأما الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدثنا ههنا في موضع حدثتنا.

(3/31)


وتقول: ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل. فالمعنى أنّك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل، ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن، وتمثيله كتمثيل الأول وإن شئت رفعت على الشركة كأنه قال: وما تكلم إلاّ الجميل.
ومثل النصب قول الفرزدق:
وما قام منَّا قائمٌ في نَديِّنا ... فيَنْطِقَ إِلاَّ بالتي هي أعرف
وتقول: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبةً، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدثني إذا أردت معنى: ما تأتيني محدثاً، وإنما أراد معنى: ما أتيتني محدثاً إلا ازددت فيك رغبةً. ومثل ذلك قول اللعين:
وما حلَّ سعْديٌّ غريباً ببلدةٍ ... فيُنْسَبَ إِلاَّ الزِّبْرِقانُ له أبُ
وتقول: لا يسعني شئ فيعجز عنك، أي لا يسعني شئ فيكون عاجزاً

(3/32)


عنك ولا يسعني شئ إلا لم يعجز عنك. هذا معنى هذا الكلام. فإن حملته على الأول قبح المعنى؛ لأنك لا تريد أن تقول: إن الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك، فهذا لا ينويه أحدٌ.
وتقول: ما أنت منا فتحدثنا، لا يكون الفعل محمولاً على ما؛ لأن الذي قبل الفعل ليس من الأفعال فلم يشاكله، قال الفرزدق:
ما أنتَ من قيسٍ فتَنْبِحَ دُونها ... ولا من تَميمٍ في اللهَا والغَلاصِمِ
وإن شئت رفعت على قوله:
فنُرَجِّى ونكثر التأميلا
وتقول: ألا ماء فأشر به، وليته عندنا فيحدثنا. وقال أميه بن أبي الصلت:
ألا رَسولَ لنا مِنّا فيُخْبِرنَا ... ما بُعْدُ غايتِنا من رأسِ مُجْرانَا

(3/33)


لا يكون في هذا إلا النصب، لأن الفعل لم تضمه إلى فعلٍ.
وتقول: ألا تقع الماء فتسبح، إذا جعت الآخر على الأول، كأنك قلت: ألا تسبح. وإن شئت نصبته على ما انتصب عليه ما قبله، كأنك قلت: ألا يكون وقوعٌ فأن تسبح. فهذا تمثيلٌ وإن لم يتكلم به.
والمعنى في النصب أنه يقول: إذا وقعت سبحت.
وتقول: ألم تأتنا فتحدثنا، إذا لم يكن على الأول. وإن كان على الأول جزمت. ومثل النصب قوله:
ألم تَسأل فتُخْبِرَكَ الرسومُ ... على فِرْتاجَ، والطَّلَلُ القديمُ
وإن شئت جزمت على أول الكلام.
وتقول: لا تمددها فتشقها، إذا لم تحمل الآخر على الأول. وقال عز وجل: " لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ". وتقول: لا تمددها فتشققها، إذا أشركت بين الآخر والأول كما أشركت بين الفعلين في لم.
وتقول: ائتني فأحدّثك. وقال أبو النجم:

(3/34)


ياناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فنستريحا
ولا سبيل ههنا إلى الجزم؛ من قبل أن هذه الأفعال التي يدخلها الرفع والنصب والجزم، وهي الأفعال المضارعة، لا تكون في موضع افعل أبداً، لأنها إنما تنتصب وتنجزم بما قبلها، وافعل مبنية على الوقف.
فإن أردت أن تجعل هذه الأفعال أمراً أدخلت اللام، وذلك قولك: ائته فليحدثك، وفيحدثك إذا أردت المجازاة. ولو جاز الجزم في: ائتني فأحدثك ونحوها لقلت: تحدثني تريد به الأمر.
وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا، إذا جعلته جواباً ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان؛ وإن أردت فحدثتنا رفعت.
وتقول: كأنك لم تأتنا فتحدثنا؛ وإن حملته على الأول جزمت. وقال رجل من بني دارم:
كأنَّك لم تَذبح لأهلِك نَعْجةً ... فيصْبِحَ مُلْقىً بالفِناء إِهابُهَا

(3/35)


وتقول: ودّلو تأتيه فتحدثه. والرفع جيد على معنى التمني. ومثله قوله عز وجل: " ودوا لو تدهن فيدهنون ". وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: " ودوا لو تدهن فيدهنوا ".
وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعاً، ومعناه: أن لو شتمني لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع؛ لأن هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعل.
واعلم أنك إن شئت قلت: ائتني فأحدثك، ترفع. وزعم الخليل: أنك لم ترد أن تجعل الإتيان سبباً لحديث، ولكنك كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدثك البتة، جئت أو لم تجئ. قال النابغة الذبياني:
ولا زالً قبرٌ بين تُبْنَى وجاسمٍ ... عليه من الوَسْميّ جَوْدٌ ووابلُ

(3/36)


فيُنْبتُ حَوْذاناً وعَوْفاً مُنَوِّراً ... سأُتْبِعُه مِن خيرِ ما قال قائلُ
وذلك أنه لم يرد أن يجعل النبات جواباً لقوله: ولا زال، ولا أن يكون متعلقاً به، ولكنه دعا ثم أخبر بقصة السحاب، كأنه قال: فذاك ينبت حوذاناً. ولو نصب هذا البيت قال الخليل لجاز، ولكنّا قبلناه رفعاً:
ألم تسأل الرّبع القَواءَ فيَنْطِقُ ... وهل تُخْبِرَنْكَ اليومَ بَيْداءُ سَمْلَقُ
لم يجعل الأول سبباً للآخر، ولكنه جعله ينطق على كل حال، كأنه قال: فهو مما ينطق كما قال: ائتني فأحدثك، فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال.
وزعم يونس: أنه سمع هذا البيت بألم. وإنما كتبت ذا لئلا يقول

(3/37)


إنسانٌ: فلعل الشاعر قال ألا. وسألت الخليل عن قول الأعشى:
لقد كانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ ... تُقَضَّى لُباناتٌ ويَسْأمُ سائِمُ
فرفعه وقال: لا أعرف فيه غيره؛ لأن أول الكلام خبرٌ وهو واجب، كأنه قال: ففي حول تقضي لُباناتٌ ويسأم سائمٌ. هذا معناه.
واعلم أن الفاء لا تضمر فيها أن في الواجب، ولا يكون في هذا الباب إلا الرفع، وسنبين لم ذلك. وذلك قوله: إنه عندنا فيحدثنا، وسوف آتيه فأحدثه ليس إلا، إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأول، وإن شئت كان منقطعاً؛ لأنك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلا الرفع. وقال عز وجل: " فلا تكفر فيتعلمون " فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلمون، ليجعلا كفره سبباً لتعليم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلّمون.

(3/38)


ومثله: " كن فيكون "، كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون.
وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الاضطرار من حيث انتصب في غير الواجب، وذلك لأنك تجعل أن العاملة. فمما نصب في الشعر اضطراراً قوله:
سأتْرُكُ منزلي لبني تميم ... وأَلَحْقُ بالحجاز فأَستَرِيحَا
وقال الأعشى، وأنشدناه يونس:
ثُمَّتَ لا تجزونني عند ذاكم ... ولكنْ سَيَجْزيني الإلهُ فيُعقِبَا

(3/39)


وهو ضعيف في الكلام. وقال طرفة:
لنا هَضْبَةٌ لا يدخل الذُّلُّ وسطَها ... ويَأْوي إليها المُستجيرُ فيُعْصَمَا
وكان أبو عمرو يقول: لا تأتنا فنشتمك.
وسمعت يونس يقول: ما أتيتني فأحدثك فيما أستقبل، فقلت له: ما تريد به؟ فقال: أريد أن أقول ما أتيتني فأنا أحدثك وأكرمك فيما أستقبل.
وقال: هذا مثل ائتني فأحدثك، إذا أراد ائتني فأنا صاحب هذا.
وسألته عن: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة "، فقال: هذا واجبٌ، وهو تنبيهٌ، كأنك قلت: أتسمع أن الله أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وإنما خالف الواجب النفي لأنك تنقض النفي إذا نصبت وتغير المعنى، يعني أنك تنفي الحديث وتوجب الإتيان، تقول: ما أتيتني قط فتحدثني إلا بالشر، فقد نقضت نفي الإتيان وزعمت أنه قد كان.
وتقول: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى فكيف تحدثني، فأنت لا تنفي الحديث، ولكنك زعمت أن منه الحديث، وإنما يحول بينك وبينه ترك الإتيان.

(3/40)


وتقول: ائتني فأحدثك، فليس هذا من الأمر الأوّل في شئ.
وإذا قلت: قد كان عندنا فسوف يأتينا فيحدثنا، لم تزده على أن جئت بواجب كالأول، فلم يحتاجوا إلى أن، لما ذكرت لك، ولأنّ تلك المعاني لا تقع هاهنا، ولو كانت الفاء والواو وأو ينصبن لأدخلت عليهن الفاء والواو للعطف، ولكنها كحتى في الإضمار والبدل، فشبهت بها لما كان النصب فيها الوجه؛ لأنهم جعلوا الموضع الذي يستعملون فيه إضمار أن بعد الفاء كما جعلوه في حتى، إنما يضمر إذا أراد معنى الغاية، وكاللام في ما كان ليفعل.

هذا باب الواو
اعلم أن الواو ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، وأنها قد تشرك بين الأول والآخر كما تشرك الفاء، وأنها يستقبح فيها أن تشرك بين الأول والآخر كما استقبح ذلك في الفاء، وأنها يجئ ما بعدها مرتفعاً منقطعاً من الأول كما جاء ما بعد الفاء.
واعلم أن الواو وإن جرت هذا المجرى فإن معناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى الأخطل قال:

(3/41)


لاتنه عن خُلُقٍ وتأْتِيَ مِثْلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
فلو دخلت الفاء ههنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمعنّ النهي والإتيان، فصار تأتي على إضمار أن.
ومما يدلك أيضاً على أن الفاء ليست كالواو قولك: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد فعمرو، تريد أن تعلم بالفاء أن الآخر مر به بعد الأول.
وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فلو أدخلت الفاء ههنا فسد المعنى. وإن شئت جزمت على النهي في غير هذا الموضع. قال جرير:
ولا تشتم المَوْلَى وتَبْلُغْ أَذاتَه ... فإنك إن تَفعلْ تُسَفَّهْ وتَجْهَلِ
ومنعك أن ينجزم في الأول لأنه إنما أراد أن يقول له: لا تجمع بين

(3/42)


اللبن والسمك، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدةٍ ويشرب اللبن على حدةٍ، فإذا جزم فكأنه نهاه أن يأكل السمك على كل حال أو يشرب اللبن على كل حال.
ومثل النصب في هذا الباب قول الحطيئة:
أَلم أَكُ جارَكُمْ ويَكونَ بيني ... وبينَكُم الموَدّةُ والإخاءُ
كأنه قال: ألم أك هكذا ويكون بيني وبينكم. وقال دريد بن الصمة:
قتلتُ بعبد الله خيرَ لِداتِهِ ... ذُؤَاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وتقول: لا يسعني شئ ويعجز عنك، فانتصاب الفعل هاهنا من الوجه الذي انتصب به في الفاء، إلا أن الواو لا يكون موضعها في الكلام موضع الفاء.

(3/43)


وتقول: ائتني وآتيك، إذا أردت ليكن إتيانُ منك وأن آتيك، تعني إتيانٌ منك وإتيانٌ مني. وإن أردت الأمر أدخلت اللام كما فعلت ذلك في الفاء حيث قلت: ائتني فلأحدثك، فتقول ائتني ولآتك.
ومن النصب في هذا الباب قوله عز وجل: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "، وقد قرأها بعضهم: " ويعلم الصابرين ".
وقال تعالى: " ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "، إن شئت جعلت وتكتموا على النهي، وإن شئت جعلته على الواو.
وقال تعالى: " ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ". فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأول. والآخر على قولك: دعني ولا أعود، أي فإني ممن لا يعود، فإنما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتة ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك وأن لا يعود. وأما عبد الله بن أبي إسحاق فكان ينصب هذه الآية.

(3/44)


وتقول: زرني وأزورك، أي أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه، ولم ترد أن تقول لتجتمع منك الزيارة وأن أزورك، تعني لتجتمع منك الزيارة فزيارةٌ مني، ولكنه أراد أن يقول زيارتك واجبةٌ على كل حال، فلتكن منك زيارةٌ. وقال الأعشى:
فقلتُ ادْعِي وأدُعْو إنَّ أنْدَى ... لِصَوْتٍ أنْ يُنادِيَ دَاعِيانِ
ومن النصب أيضاً قوله:
لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أحبُّ إلىّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ

(3/45)


لما لم يستقم أن تحمل وتقر وهو فعلٌ على لبس وهو اسمٌ، لما ضممته إلى الاسم، وجعلت أحب لهما ولم ترد قطعه، لم يكن بدٌ من إضمار أن. وسترى مثله مبيناً.
وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب، وهو لكعبٍ الغنوي:
وما أنا للشيء الذي ليس نافِعِي ... ويَغْضَبَ منه صاحِبي بقَؤُولِ
والرفع أيضاً جائزٌ حسن، كما قال قيس بن زهير بن جذيمة:
فلا يَدْعُني قومي صَريحاً لُحرّةٍ ... لئن كنتُ مقتولا ويَسْلمُ عامرُ
ويغضب معطوف على الشيء، ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في صلة الذي.

هذا باب أو
اعلم أن ما انتصب بعد أو فإنه ينتصب على إضمار أن كما انتصب في الفاء والواو على إضمارها، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في الفاء والواو، والتمثيل هاهنا مثله ثم. تقول إذا قال لألزمنك أو تعطيني، كأنه يقول: ليكونن اللزوم أو أن تعطيني.

(3/46)


واعلم أن معنى ما انتصب بعد أو على إلا أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل تقول: لألزمنك أو تقضيني، ولأضربنك أو تسبقني؛ فالمعنى لألزمنك إلا أن تقتضيني ولأضربنك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس:
فقلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنَّما ... نُحاوِلُ مُلْكاً أو نَموتَ فنُعْذَرَا
والقوافي منصوبةٌ، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا، وإلا أن تعطيني، كما كان تمثيل الفاء على ما ذكرت لك، وفيه المعاني التي فصلت لك.
ولو رفعت لكان عربياً جائزاً على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأول، يعني أو نحن ممن يموت.
وقال جل وعز: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على: أو هم يسلمون.

(3/47)


وقال ذو الرمة:
حَراجيجُ لا تنْفَكُّ إلاَّ منُاخَةَ ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بَلَدَا قَفْرَا
فإن شئت كان على لا تنفك نرمي بها، أو على الابتداء.
وتقول: الزمه أو يتقيك بحقك، واضربه أو يستقيم. وقال زياد الأعجم:
وكنتُ إذا غَمَزْتُ قَنَاةَ قومٍ ... كَسَرْتُ كُعوبَها أو تستقيما

(3/48)


معناه إلا أن، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء؛ لأنه لا سبيل إلى الإشراك.
وتقول: هو قاتلي أو أفتدي منه؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال: أو أنا أفتدي، وقال طرفة بن العبد:
ولكنّ مولايَ امرؤ هو خانِقِي ... على الشُّكْر والتَّسْآلِ أو أَنا مُفْتَدِي
وسألت الخليل عن قوله عز وجل: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء "، فزعم أن النصب محمول على أن سوى هذه التي قبلها. ولو كانت هذه الكلمة على أن هذه لم يكن للكلام وجهٌ، ولكنه لما قال: " إلا وحيا أو من وراء حجاب " كان في معنى إلا أن يوحي، وكان أو يرسل فعلاً لا يجري على إلا، فأجري على أن هذه، كأنه قال: إلا أن يوحي أو يرسل؛ لأنه لو قال: إلا وحياً وإلا أن يرسل كان حسناً، وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال، فحملوه على أن، إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل، فكأنه قال: إلا وحياً أو أن يرسل.
وقال الحصين بن حمام المرّي:

(3/49)


ولولا رِجالٌ من رِزامٍ أَعِزّةٌ ... وآلُ سُبَيْعٍِ أو أسُوءَك عَلْقَمَا
يضمر أن، وذاك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر أن، كأنه قال: لولا ذاك، أو لولا أن أسوءك.
وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فكأنه والله أعلم قال الله عز وجل: لا يكلم الله البشر إلا وحياً أو يرسل رسولاً، أي في هذه الحال وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل. وقال الشاعر، وهو عمرو بن معدي كرب:
وخَيْلٍ قد دَلَفْتُ لها بخَيْلٍ ... تَحِيّةُ بَيْنهِم ضَرْبٌ وَجيعُ
وسألت الخليل عن قول الأعشي:

(3/50)


إن تَركبوا فرُكوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تَنْزلونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُل
فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا، لما كان موضعها لو قال فيه أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابقٍ شيئاً. وأما يونس فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: أو أنتم نازلون. وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية، كأنه قال: أو هو يرسل رسولاً، كما قال طرفة:
أو أنا مُفتدِي
وقول يونس أسهل، وأما الخليل فجعله بمنزلة قول زهير:
بَدا ليَ أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيَا
والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد ولا سابقٍ شيئاً. ألا ترى أنه لو كان هذا كهذا لكان في الفاء والواو. وإنما توهم هذا فيما خالف معناه التمثيل. يعني مثل هو يأتينا ويحدثنا. يقول: يدخل عليك نصب هذا على

(3/51)


توهم أنك تكلمت بالاسم قبله، يعني مثل قولك: لا تأته فيشتمك؛ فتمثيله على لا يكن منك إتيانٌ فشتيمةٌ، والمعنى على غير ذلك.

باب اشتراك الفعل في أن
وانقطاع الآخر من الأول الذي عمل فيه أن
فالحروف التي تشرك: الواو، والفاء، وثم، وأو. وذلك قولك: أريد أن تأتيني ثم تحدثني، وأريد أن تفعل ذاك وتحسن، وأريد أن تأتينا فتبايعنا، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت: أريد أن تأتيني ثم تحدثني جاز، كأنك قلت: أريد إتيانك ثم تحدثني.
ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال. وقال عز وجل: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله "، ثم قال سبحانه: " ولا يأمركم "، فجاءت منقطعة من الأول، لأنه أراد: ولا يأمركم الله. وقد نصبها بعضهم على قوله: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا.
وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني، لم يرد الشتيمة، ولكنه قال: كلما أردت إتيانك شتمتني. هذا معنى كلامه، فمن ثمّ نقطع من أن. قال رؤبة:

(3/52)


يريدُ أن يُعْرِبَهُ فيُعْجِمُهْ
أي فإذا هو يعجمه.
وقال الله عز وجل: " لنبين لكم ونقر في الأرحام "، أي ونحن نقر في الأرحام؛ لأنه ذكر الحديث للبيان ولم يذكره للإقرار. وقال عز وجل: " أن تضل إحداهما الأخرى فتذكر إحدهما الأخرى "، فانتصب لأنّه أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى ومن أجل أن تذكر.
فإن قال إنسانٌ: كيف جاز أن تقول: أن تضل ولم يعد هذا للضلال وللالتباس؟ فإنما ذكر أن تضل لأنه سبب الإذكار، كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه، وهو لا يطلب بإعداد ذلك ميلان الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم وبسببه.

(3/53)


وقرأ أهل الكوفة: " فتذكر " رفعاً.
وسألت الخليل عن قول الشاعر، لبعض الحجازيين:
فما هو إلاّ أن أراها فجاءة ... فأَبْهَتُ حتّى ما أكادُ أُجيبُ
فقال: أنت في أبهت بالخيار، إن شئت حملتها على أن، وإن شئت لم تحملها عليه فرفعت، كأنك قلت: ما هو إلا الرأي فأبهت.
وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعاً من أن:
يُعالِجُ عاقِراً أُعْيَتْ عليه ... ليُلْقِحَها فينْتِجُها حوارا

(3/54)


كأنه قال: يعالج فإذا هو ينتجها. وإن شئت على الابتداء.
وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد، وإن شئت رفعت، كأنك قلت لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد.
وتقول: ما عدا أن رآني فيثب، كأنه قال ما عدا ذلك فيثب، لأنه ليس على أول الكلام. فإن أردت أن تحمل الكلام على أن فإن أحسنه ووجهه أن تقول: ما عدا أن رآني فوثب، فضعف يثب هاهنا كضعف ما أتيتني فتحدثني، إذا حملت الكلام على ما.
ونقول: ما عدوت أن فعلت، وهذا هو الكلام، ولا أعدوا أن أفعل، وما آلو أن أفعل، يعني لقد جهدت أن أفعل.
وتقول: ما عدوت أن آتيك، أي ما عدوت أن يكون هذا من رأي فيما أستقبل. ويجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلا في مجازاةٍ، نحو: إن فعلت فعلت.
وتقول: والله ما أعدو أن جالستك، أي أن كنت فعلت ذلك، أي ما أجاوز مجالستك فيما مضى. ولو أراد ما أعدو أن جالستك غداً كان محالاً ونقضاً، كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا.

(3/55)


وإنما ذكرت هذا لتصرف وجوهه ومعانيه، وأن لا تستحيل منه مستقيماً، فإنه كلامٌ يستعمله الناس.
ومما جاء منقطعا قول الشاعر، وهو عبد الرحمن بن أم الحكم:
على الحَكَم المأْتيِّ يوماً إذا قَضَى ... قَضيْتَه أن لا يَجوزَ ويَقْصِدُ
كأنه قال: عليه غير الجور، ولكنه يقصد أو هو قاصدٌ، فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن، كما تقول: عليه أن لا يجور، وينبغي له كذا وكذا، فالابتداء في هذا أسبق وأعرف؛ لأنها بمنزلة قولك، كأنه قال: ونولك. فمن ثم لا يكادون يحملونها على أن.

هذا باب الجزاء
فما يجازي به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيهم. وما يجازي به من الظروف: أي حينٍ، ومتى، وأين، وأنى، وحيثما. ومن غيرهما: إن، وإذ ما.
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحد منهما ما

(3/56)


فتصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو، ولكن كل واحد منهما مع ما بمنزلة حرف واحد.
فمما كان من الجزاء بإذما قول العباس بن مرداس:
إذْ ما أتيتَ على الرسول فقُلْ له ... حَقّاً عليك إذا اطْمَأَنَّ المَجْلِسُ
وقال الآخر، قالوا: هو لعبد الله بن همام السّلوليّ:
إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أُصَعِّدُ سَيْراً في البلاد وأُفْرِعُ
فإِنَّي من قوم سواكم وإنّما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع

(3/57)


سمعناهما ممن يرويهما عن العرب. والمعنى إما.
ومما جاء من الجزاء بأني قول لبيد:
فأَصبحتَ أنّي تأتها تلتبس بها ... كلا مر كبيها تحت رِجْلك شاجِرُ
وفي أين قوله، وهو ابن همام السلولي:
أيْن تَضربْ بنا الُعداةُ تجدْنا ... نَصْرِفُ العِيسَ نَحْوَها للتَّلاقِي
وإنما منع حيث أن يجازي بها أنك تقول: حيث تكون أكون، فتكون وصلٌ لها، كأنك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون.
ويبين هذا أنها في الخبر بمنزلة إنما وكأنما وإذا، أنه يبتدأ بعدها الأسماء، أنك تقول: حيث عبد الله قائمٌ زيدٌ، وأكون حيث زيدٌ قائمٌ. فحيث كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر، ولا يكون هذا من

(3/58)


حروف الجزاء. فإذا ضممت إليها ما صارت بمنزلة إن وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجئ بما، وصارت بمنزلة إما.
وأما قول النحويين: يجازى بكلّ شئ يستفهم به، فلا يستقيم، من قبل أنك تجازي بإن وبحيثما وإذ ما ولا يستقيم بهن الاستفهام، ولكن القول فيه كالقول في الاستفهام. ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلةً. فالوجه أن تقول: الفعل ليس في الجزاء بصلةٍ لما قبله كما أنه في حروف الاستفهام ليس صلةً لما قبله، وإذا قلت: حيثما تكن أكن، فليس بصلةٍ لما قبله، كما أنك إذا قلت أين تكون وأنت تستفهم فليس الفعل بصلةٍ لما قبله، فهذا في الجزاء ليس بصلةٍ لما قبله، كما أن ذلك في الاستفهام ليس بوصلٍ لما قبله. وتقول: من يضربك في الاستفهام، وفي الجزاء: من يضربك أضربه، فالفعل فيهما غير صلة.
وسألت الخليل عن مهما فقال: هي ما أدخلت معها ما لغواً، بمنزلتها مع متى إذا قلت متى ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع إن إذا قلت إن ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع أين كما قال سبحانه وتعالى: " أينما تكونوا يدرككم

(3/59)


الموت " وبمنزلتها مع أيٍ إذا قلت: " أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى "، ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظاً واحداً فيقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد يجوز أن يكون مه كإذ ضم إليها ما.
وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنع أصنع. فقال: هي مستكرهة وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها على أي حالٍ تكن أكن.
وسألته عن إذا، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في إذا بمنزلته في إذ، إذا قلت: أتذكر إذ تقول، فإذا فيما تستقبل بمنزلة إذ فيما مضى. ويبيّن هذا أنّ إذا تجئ وقتاً معلوماً؛ ألا ترى أنك لو قلت: أتيك إذا احمر البسر كان حسناً، ولو قلت: آتيك إن احمر البسر، كان قبيحاً. فإن أبداً مبهمة، وكذلك حروف الجزاء. وإذا توصل بالفعل، فالفعل في إذا بمنزلته في حين كأنك قلت: الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. وقال ذو الرمة:
تُصْغِي إذا شَدَّها بالرَّحْلِ جانحةً ... حتّى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ.

(3/60)


وقال الآخر، ويقال وضعه النحويون:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
وقد جازوا بها في الشعر مضطرين، شبهوها بإن، حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بدّلها من جواب.
وقال قيس بن الخطيم الأنصاري:
إذا قَصُرَتْ أَسْيافُنا كان وَصْلُها ... خُطانَا إلى أَعْدائنا فنُضارِبِ
وقال الفرزدق:

(3/61)


تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يرفَعُ لي ... ناراً إذا خَمَدَتْ نِيرانُهمْ تَقِدِ
وقال بعض السلوليين:
إذا لم تَزل في كلِّ دارٍ عرفتَها ... لها واكفٌ مِن دَمْعِ عينِك يَسْجُمِ
فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول كعب بن زهير:
وإذا ما تشاءُ تَبعثُ منها ... مَغْرِبَ الشمسِ ناشِطاً مَذْعوراً
واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال وينجزم الجواب بما قبله.

(3/62)


وزعم الخليل أنك إذا قلت: إن تأتني آتك، فآتك انجزمت بإن تأتني، كما تنجزم إذا كانت جوابا للأمر حين قلت: ائتني آتك.
وزعم الخليل أن إن هي أم حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل أنى أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكن استفهاما ومنها ما يفارقه ما فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حالٍ واحدة أبدا لا تفارق المجازاة.
واعلم أنه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء فأما الجواب بالفعل فنحو قولك: إن تأتني آتك، وإن تضرب أضرب، ونحو ذلك.
وأما الجواب بالفاء فقولك: إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثم. ألا ترى أن الرجل يقول افعل كذا وكذا فتقول: فإذن يكون كذا وكذا. ويقول: لم أغث أمس، فتقول: فقد أتاك الغوث اليوم. ولو أدخلت الواو وثم في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز.
وسألت الخليل عن قوله جل وعز: " وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت

(3/63)


أيديهم إذا هم يقنطون " فقال: هذا كلام معلقٌ بالكلام الأول كما كانت الفاء معلقةً بالكلام الأول وهذا ها هنا في موضع قنطلوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. قال: ونظير ذلك قوله: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " بمنزلة أم صمتم. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنّها لا تجئ مبتدأة كما أنّ الفاء لا تجئ مبتدأةً.
وزعم الخليل أن إدخال الفاء على إذا قبيحٌ، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسنا لكان الكلام بغير الفاء قبيحا؛ فهذا قد استغنى عن الفاء كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هاهنا جوابا كما صارت الفاء جوابا.
وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريمٌ، فقال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعرٌ، من قبل أنّ أنا كريم يكون كلا ما مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقد قاله الشاعر مضطراً، يشبهه بما يتكلم به من الفعل. قال حسان بن ثابت:

(3/64)


مَن يَفعلِ الحَسَناتِ الله يَشْكُرُها ... والشرُّ بالشرّ عند الله مثلان
وقال الأسدي:
بَنِي ثُعَلٍ لا تَنْكَعُوا العَنْزَ شِربْهَا ... بني ثُعَلٍ مَن يَنكَعِ العَنْزَ ظالمُ
وزعم أنه لا يحسن في الكلام إن تأتني لأفعلن، من قبل أنّ لأفعلنّ تجئ مبتدأةً. ألا ترى أن الرجل يقول لأفعلن كذا وكذا. فلو قلت:

(3/65)


إن أتيتني لأكرمنك، وإن لم تأتني لأغمنك، جاز لأنه في معنى لئن أتيتني لأكرمنك ولئن لم تأتني لأغمنك، ولا بد من هذه اللام مضمرةً أو مظهرةً لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنك.
فإن قلت: لئن تفعل لأفعلن قبح، لأن لأفعلن على أول الكلام، وقبح في الكلام أن تعمل إن أو شئ من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله. ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول آتيك إن تأتني، إلا في شعر، لأنك أخرت إن وما عملت فيه ولم تجعل لإن جوابا ينجزم بما قبله.
فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى أنه قال عز وجل: " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وقال عز وجل: " وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " لما كانت إن العاملة لم يحسن إلا أن يكون لها جوابٌ ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت.
وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني. قال زهير:
وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ

(3/66)


ولا يحسن إن تأتني آتيك، من قبل أن إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجلي:
يا أَقْرَعُ بنَ حابسٍ يا أَقْرَعُ ... إنَّك إن يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ
أي إنك تصرع إن يصرع أخوك. ومثل ذلك قوله:
هذا سُراقةُ للقُرْآن يَدْرُسُهُ ... والمرءُ عند الرُّشا إن يلقها ذيب

(3/67)


أي والمرء ذئب إن يلق الرشا. قال الأصمعيّ: هو قديم، أنشدينه أبو عمرو. وقال ذو الرمة:
وأنِّي متى أُشْرِفْ على الجانِب الذي ... به أنتِ من بين الجَوانبِ ناظرُ
أي ناظرٌ متى أشرف. فجاز هذا في الشعر، وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً؛ لأن المعنى واحد، كما شبّه الله يشكرها وظالم بإذا هم يقنطون، جعله بمنزلة يظلم ويشكرها الله، كما كان هذا بمنزلة قنطوا، وكما قالوا في اضطرارٍ: إن تأتني أنا صاحبك، يريد معنى الفاء، فشبهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.
وقد يقال: إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم، وكأنه قال: إن تفعل أفعل.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها "، فكان فعل. وقال الفرزدق:

(3/68)


دَسَّتْ رسولاً بأنًّ القوم إنْ قَدَروا ... عليكَ يَشْفُوا صُدوراً ذاتَ تَوْغيرِ
وقال الأسود بن يعفر:
ألا هَلْ لهذا الدَّهرِ مِن مُتَعَلَّلِ ... عن النّاس مَهْمَا شاءَ بالناس يَفْعَلِ
وقال: إن تأتني فأكرمك، أي فأنا أكرمك، فلا بد من رفع فأكرمك إذا سكت عليه، لأنه جواب، وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ.
ومثل ذلك قوله عز وجل " ومن عاد فينتقم الله منه " ومثله: " ومن كفر فأمتعه قليلا " ومثله: " فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً ".

باب الأسماء التي يجازي بها
وتكون بمنزلة الذي
وتلك الأسماء: من، وما، وأيهم. فإذا جعلتها بمنزلة الذي، قلت: ما تقول أقول، فيصير تقول صلةً لما حتى تكمل اسماً، فكأنك قلت: الذي تقول أقول. وكذلك: من يأتني آتيه وأيها تشاء أعطيك. وقال الفرزدق:

(3/69)


ومَنْ يَميلُ أَمالَ السَّيفُ ذِرْوَتَه ... حيثُ التقَى من حفا في رأسِه الشَّعَرُ
وتقول: آتي من يأتيني، وأقول ما تقول، وأعطيك أيها تشاء. هذا وجه الكلام وأحسنه، وذلك أنه قبيح أن تؤخر حرف الجزاء إذا جزم ما بعده فلما قبح ذلك حملوه على الذي، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول: آتيك إن تأتني. فإذا قلت: آتي من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلةً وإن شئت كانت بمنزلتها في إن.
وقد يجوز في الشعر: آتي من يأتني، وقال الهذلي:
فقلتُ تَحَمَّلْ فوق طَوْقِك إنَّها ... مُطَبَّعةٌ مَن يأتِها لا يضيرها

(3/70)


هكذا أنشدناه يونس، كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، كما كان: وإني متى أشرف ناظر، على القلب، ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن. وإن قلت: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن، وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنى تأتها، لم يجز إلا في الشعر، وكان جزماً. وإنما كان من قبل أنهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجاً إلى الصلة حتى يكمل اسماً. ألا ترى أنه لا تقول مهما تصنع قبيحٌ، ولا في الكتاب مهما تقول، إذا أراد أن يجعل القول وصلا. فهذه الحروف بمنزلة إن لا يكون الفعل صلةً لها. فعلى هذا فأجر ذا الباب.

باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازي بها
بمنزلة الذي
وذلك قولك: إن من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه.
وإنما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنك أعملت كان وإن، ولم يسغ

(3/71)


لك أن تدع كان وأشباهه معلقةً لا تعملها في شئ فلما أعملتهن ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه. ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى، تريد إن إن وإن متى، كان محالا. فهذا دليلٌ على أن الجزاء لا ينبغي له أن يكون هاهنا بمن وما وأيٍ. فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.
فمن ذلك قولك: إنه من يأتنا نأته، وقال جل وعز: " إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا "، وكنت من يأتني آته. وتقول: كان من يأته يعطه، وليس من يأته يحببه، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس، لأنه حينئذ بمنزلة لست وكنت. فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفنا.
وقد جاء في الشعر إن من يأتني آته. قال الأعشى:
إنَّ مَن لامَ في بني بنت حسّا ... ن ألُمهْ وأَعْصِه في الخُطوبِ

(3/72)


وقال أمية بن أبي الصلت:
ولكنَّ مَن لا يلق أمراً ينوبه ... بعدّته يَنْزِلْ به وَهْوَ أَعْزَلُ
فزعم الخليل أنه إنما جازى حيث أضمر الهاء، وأراد إنه ولكنه، كما قال الراعي:
فلو أنَّ حُقَّ اليومَ منكمْ إقامةٌ ... وإن كان سَرْحٌ قد مضى فتَسَرَّعَا
أراد: فلو أنه حق اليوم. ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.
وتقول: قد علمت أن من يأتني آته، من قبل أن أن هاهنا فيها إضمار الهاء، ولا تجئ مخففةٌ هاهنا إلا على ذلك، كما قال، وهو عدي بن زيد:

(3/73)


أُكاشِرُه وأَعْلَمُ أَنْ كِلانا ... على ما ساءَ صاحبَه حَريصُ
ولا يجوز أن تنوي في كان وأشباه كان علامة إضمار المخاطب ولا تذكرها. لو قلت: ليس من يأتك تعطه، تريد لست، لم يجز. ولو جاز ذلك لقلت كان من يأتك تعطه، تريد به كنت. وقال الشاعر، الأعشى:
في فِتْيةٍ كسُيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
فهذا يريد معنى الهاء.
ولا تخفف أن إلا عليه، كما قال: قد علمت أن لا يقول ذاك، أي أنه لا يقول. وقال عز وجل: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ". وليس هذا بقويٍ في الكلام كقوة أن لا يقول، لأن لا عوض من ذهاب العلامة. ألا ترى أنّهم لا يكادون يتكلّمون به بغد الهاء، فيقولون: قد علمت أن عبد الله منطلق.