الكتاب لسيبويه باب يذهب فيه الجزاء
من الأسماء
كما ذهب في إن وكان وأشباههما.
غير أن إن وكان عوامل فيما بعدهن،
(3/74)
والحروف في هذا الباب لا يحدثن فيما بعدهن
من الأسماء شيئاً كما أحدثت إن وكان وأشباههما، لأنها من الحروف التي
تدخل على المبتدإ والمبنيّ عليه فلا تغيّر الكلام عن حاله، وسأبين لك
كيف ذهب الجزاء فيهن إن شاء الله.
فمن ذلك قولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وما من يأتينا نأتيه، وأما من
يأتينا فنحن نأتيه.
وإنما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه. ألا ترى أنه لا يحسن أن
تقول: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، كما لم يجز أن تقول: إن إن تأتنا نأتك،
فلما ضارع هذا الباب باب إن وكان كرهوا الجزاء فيه.
وقد يجوز في الشعر أن يجازي بعد هذه الحروف، فتقول: أتذكر إذ من يأتنا
نأته. فإنما أجازوه لأن إذ وهذه الحروف لا تغير ما دخلت عليه عن حاله
قبل أن تجئ بها، فقالوا: ندخلها على من يأتنا نأته ولا تغير الكلام،
كأنا قلنا من يأتنا نأته، كما أنا إذا قلنا إذ عبد الله منطلقٌ فكأنا
قلنا: عبد الله منطلقٌ؛ لأن إذ لم تحدث شيئاً لم يكن قبل أن تذكرها.
وقال لبيد:
على حينَ مَن تَلْبَثْ عليه ذَنوبُهُ ... يَرِثْ شِرْبُهُ إذ في المقام
تَدابُرُ
(3/75)
ولو اضطر شاعرٌ فقال: أتذكر إذ إن تأتنا
نأتك، جاز له كما جاز في من.
وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين إذ ومن، كما فصل
الاسم في كان بين كان ومن. وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن
شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هاهنا. ألا ترى أنك تقول: مررت به فإذا أجمل
الناس، ومررت به فإذا أيما رجلٍ. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: فإذا هو
من يأته يعطه. فإذا لم تضمر وجعلت إذا هي لمن، فهي بمنزلة إذ لا يجوز
فيها الجزم.
وتقول: لا من يأتك تعطه، ولا من يعطك تأته، من قبل أن لا ليست كإذ
وأشباهها، وذلك لأنها لغو بمنزلة ما في قوله عز وجل: " فبما رحمة من
الله لنت لهم "، فما بعده كشيء ليس قبله لا. ألا تراها تدخل على
المجرور فلا تغيره عن حاله، تقول: مررت برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ.
وتدخل
(3/76)
على النصب فلا تغيره عن حاله، تقول: لا
مرحباً ولا أهلاً، فلا تغير الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن
تنفيه، ولا تنفيه مغيراً عن حاله، يعني في الإعراب التي كان عليها،
فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه لا، وإذ وأشباهها لا يقعن
هذه المواقع ولا يكون الكلام بعدهن إلا مبتدأ. وقال ابن مقبل:
وقِدْرٍ ككَفِّ القِرْدِ لا مُسْتعيرُها ... يُعارُ ولا مَنْ يَأْتِها
يَتَدَسَّمِ
ووقوع إن بعد لا يقوي الجزاء فيما بعد لا. وذلك قول الرجل: لا إن
أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا؛ ولا لغوٌ في كلامهم.
ألا ترى أنك تقول: خفت أن لا تقول ذاك وتجري مجرى خفت أن تقول.
وتقول: إن لا يقل أقل، فلا لغوٌ، وإذ وأشباهها ليست هكذا، إنما يصرفن
الكلام أبداً إلى الابتداء.
وتقول: ما أنا ببخيلٍ ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنّك
(3/77)
قد تضمرها هنا كما تضمر في إذا. ألا ترى
أنك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق. وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت
ذلك في إذا. قال طرفة:
ولستُ بحَلاَّلِ التِلاعِ مخَافةً ... ولكنْ متى يَسْتَرْفِد القومُ
أَرْفِدِ
كأنه قال: أنا. ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من
والذي. وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي:
وما ذاك أنْ كانَ ابنَ عَمِيّ ولا أخي ... ولكنْ متى ما أَملِكِ الضرَّ
أنْفَعُ
والقوافي مرفوعةٌ كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضر، ويكون
(3/78)
أملك على متى في موضع جزاء، وما لغوٌ، ولم
يجد سبيلا إلى أن يكون بمنزلة من فتوصل، ولكنها كمهما.
وأما قوله عز وجل: " وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب
اليمين " فإنما هو كقولك: أمّا غداً فلك ذاك. وحسنت إن كان لأنه لم
يجزم بها، كما حسنت في قوله: أنت ظالم إن فعلت.
بابٌ إذا ألزمت فيه الأسماء التي تجازي بها
حروف الجر لم تغيرها عن الجزاء
وذلك قولك: على أي دابةٍ أحمل أركبه، وبمن تؤخذ أو خذ به.
هذا قول يونس والخليل جميعا.
فحروف الجر لم تغيرها عن حال الجزاء، كما لم تغيرها عن حال الاستفهام.
ألا ترى أنك تقول: بمن تمر، وعلى أيها أركب؟ فلو غيرتها عن الجزاء
غيرتها عن الاستفهام. وقال ابن همام السلولي:
(3/79)
لمَّا تمكَّنَ دُنْياهُم أطاعهمُ ... في
أَيِّ نَحْوٍ يُميلوا دِينَه يَمِل
وذاك لأن الفعل إنما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها، فالفعل مع الباء
بمنزلة فعلٍ ليس قبله حرف جرٍ ولا بعده، فصار الفعل الذي يصل بإضافة
كالفعل الذي لا يصل بإضافة؛ لأن الفعل يصل بالجر إلى الاسم كما يصل
غيره ناصباً أو رافعاً. فالجر هاهنا نظير النصب والرفع في غيره.
فإن قلت: بمن تمر به أمر، وعلى أيهم تنزل عليه أنزل، وبما تأتيني به
آتيك، رفعت لأن الفعل إنما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية والباء
الأولى للفعل الآخر، فتغير عن حال الجزاء كما تغير عن حال الاستفهام،
فصارت بمنزلة الذي؛ لأنك أدخلت الباء للفعل حين أوصلت الفعل الذي يلي
الاسم بالباء الثانية إلى الهاء، فصارت الأولى ككان وإن - يقول: لا
يجازي بما بعدها - وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإن فيما بعدهما.
(3/80)
وقد يجوز أن تقول: بمن تمرر أمره، وعلى من
تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه؛ وليس بحد الكلام، وفيه ضعفٌ. ومثل
ذلك قول الشاعر، وهو بعض الأعراب:
إنّ الكريم وأبيك يَعْتَمِلْ ... إنْ لم يَجِدْ يوماً على مَنْ
يَتَّكِل
(3/81)
يريد: يتكل عليه، ولكنه حذف. وهذا قول
الخليل.
وتقول: غلام من تضرب أضربه؛ لأنَّ ما يضاف إلى من بمنزلة من. ألا ترى
أنك تقول: أبوأيهم رأيته، كما تقول: أيهم رأيته. وتقول: بغلام من تؤخذ
أو خذ به، كأنك قلت: بمن تؤخذ أؤخذ به.
وحسن الاستفهام ها هنا يقوِّي الجزاء، تقول: غلام من تضرب، وبغلام من
مررت. ألا ترى أن كينونة الفعل غير وصلٍ ثابتةٌ.
وتقول: بمن تمرر أمرر به، وبمن تؤخذ أوخذ به. فحدُّ الكلام أن تثبت
الباء في الآخر لأنه فعلٌ لا يصل إلا بحرف الإضافة. يدلك على ذلك أنك
لو قلت: من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول عليه، إلا في شعر.
فإن قلت: بمن تمرر أمرر أو بمن تؤخذ أوخذ، فهو أمثل وليس بحد الكلام.
وإنما كان في هذا أمثل لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول، فعلم أنّ
الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
باب الجزاء إذا أدخلت فيه ألف الاستفهام
وذلك قولك: أإن تأتني آتك. ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء، ومتى مثلها؛
فمن ثم أدخل عليه الألف، تقول: أمتى تشتمني أشتمك وأمن يفعل ذاك أزره؛
وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عملَ بعضه في بعض فلم يغيَّره،
وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك، لا تغيَّر الكلام عن
حاله، وليست كإذ وهل وأشباههما. ألا ترى أنها تدخل على المجرور
والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيره عن لفظ المستفهم. ألا ترى
(3/82)
أنه يقول: مررت بزيدٍ فتقول: أزيد إن شئت
قلت أزيدنيه، وكذلك تقول في النصب والرفع؛ وإن شئت أدخلتها على كلام
المخبر ولم تحذف منه شيئاً، وذلك إذا قال: مررت بزيدٍ قلت: أمررت
بزيدٍ. ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها.
ولو قلت: هل مررت بزيدٍ كنت مستأنفاً. ألا ترى أنَّ الألف لغوٌ. فإن
قيل: فإن الألف لا بدَّ لها من أن تكون معتمدةً على شىء فإنَّ هذا
الكلام معتمدٌ لها، كما تكون صلةً للذي إذا قلت: الذي إن تأته يأتك
زيدٌ. فهذا كلُّه وصلٌ.
فإن قال: الذي إن تأته يأتيك زيدٌ، وأجعل يأيتكَ صلةَ الَّذي لم يجد
بدَّاً من أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؛ لأنَّ أنا لا يكون كلاماً حتى
يبنى عليه وأمَّا يونس فيقول: أإن تأتني آتيك. وهذا قبيحٌ يكره في
الجزاء وإن كان في الاستفهام. وقال عزَّ وجلَّ: " أفإن متَّ فهم
الخالدون. " ولو كان ليس موضعَ جزاء قبح فيه إن، كما يقبح أن، تقول:
أتذكر إذ إن تأتني آتيك. فلو قلت: إن أتيتني آتيك على القلب كان حسناً.
(3/83)
؟ باب الجزاء إذا كان القسم في أوَّله
وذلك قولك: والَّله إن أتيتني لا أفعل، لا يكون إلا معتمدةً عليه
اليمين. ألا ترى أنَّك لو قلت: والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت
والَّله من يأتني آته كان محالاً، واليمين لا تكون لغواً كلا والألف؛
لأن اليمين لآخر الكلام وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين
وإذا قلت أإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في
كلامهم. ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلقٌ، فلو أدخلت اليمن غيَّرت
الكلام.
وتقول: أنا والَّله إن تأتني لا آتك؛ لأن هذا الكلام مبنيٌ على أنا ألا
ترى أنه حسنٌ أن تقول: أتا والله إن تأتني آتك فالقسم ها هنا لغوٌ.
فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه. ألا ترى أنك تقول: لئن
أتيتني لا أفعل ذاك، لأنها لام قسمٍ. ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا
أفعل؛ لأنَّ الآخر لا يكون جزماً.
وتقول: والَّله إن أتيتني آتيك، وهو معنى لا آتيك، وهو معنى لا آتيك.
فإن أردت أن الإتيان يكون فهو غير جائز، وإن نفيت الإتيان وأردت معنى
لا آتيك فهو مستقيم. وأمَّا قول الفرزدق:
(3/84)
وأنتم لهذا الناسِ كالقِبْلة التي ... بها
أن يضلَّ الناس يُهْدَى ضَلالُهَا
فلا يكون الآخر إلا رفعاً، لأنَّ أن لا يجازى بها وإنما هي مع الفعل
اسمٌ فكأنه قال: لأن يضلَّ الناس يهدى. وهكذا أنشده الفرزدق.
باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما
فأمَّا ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتني تسألني أعطك، وإن تأتني تمش
أمش معك. وذلك لأنك أردت أن تقول إن تأتني سائلاً يكن ذلك، وإن تأتني
ماشياً فعلت. وقال زهير:
ومَن لا يَزَلْ يَسْتحْمِلُ النَّاس نفسَه ... ولا يُغْنِها يوماً مِن
الدهر يُسْأَمِ
إنما أراد: من لا يزل مستحملاً يكن من أمره ذاك. ولو رفع يغنها جاز
وكان حسناً، كأنَّه قال: من لا يزل لا يغني نفسه.
(3/85)
ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة:
مَتى تأتِه تَعْشو إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ
مُوقِدِ
وسألت الخليل عن قوله:
متى تأتنا بلمم بنا في دِيارنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً
تأَجَّجَا
قال: تلمم بدلٌ من الفعل الأول. ونظيره في الأسماء: مررت برجلٍ عبد
الَّله، فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسَّر الاسم الأوَّل
بالاسم الآخر.
ومثل ذلك أيضاً قوله، أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد:
(3/86)
إن يَبْخَلوا أو يَجْبُنوا ... أو
يَغْدِروا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجَّلين كأنهم لم يفعلو
فقوله يغدوا: بدلٌ من لا يحفلوا، وغدوهم مرجَّلين يفسِّر أنَّهم لم
يحفلوا.
وسألته: هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك؟ فقال: هذا يجوز على غير أن يكون
مثل الأول، لأنَّ الأول الفعل الآخر تفسيرٌ له، وهو هو، والسُّوال لا
يكون الإتيان، ولكنَّه يجوز على الغلط والنَّسيان ثم يتدارك كلامه.
ونظير ذلك في الأسماء: مررت برجلٍ حمارٍ، كأنه نسي ثم تدارك كلامه.
وسألته عن قوله جلَّ وعزَّ: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب
يوم القيامة " فقال: هذا كالأول؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيٌّ الآثام.
ومثل ذلك من الكلام: إن تأتنا بحسن إليك نعطك ونحميك، تفسر الإحسان
بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلاً من الأول.
فإن قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك، كان غير جائز؛ لأنَّ القول ليس
بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا وأمَّا ما ينجزم بين
المجزومين فقولك: إن تأتني ثمَّ تسألني أعطك، وإن
(3/87)
تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتنيي وتسألني
أعطك. وذلك لأنَّ هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول. وكذلك أو
وما أشبههنَّ.
ولا يجوز في ذا الفعل الرفع. وإنَّما كان الرفع في قوله متى تأته تعشو،
لأنَّه في موضع عاش، كأنه قال: متى تأته عاشياً. ولو قلت متى تأته
وعاشياً كان محالا. فإنَّما أمرهن أن يشركن بين الأول والآخر.
وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثني أحدثك، وإن تأتني وتحدثني
أحدِّثك، فقال: هذا يجوز، والجزم الوجه.
ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد إن يكن إتيانٌ فحديث
أحدِّثك، فلمَّا قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أن، لأن الفعل معها
اسمٌ.
وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد
من الحديث، فلما كان ذلك كان أن يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى؛
وكرهوا أن يتخطَّوا به من بابه إلى آخر إذا كان يريد شيئاً واحداً.
وسألته عن قول ابن زهير:
(3/88)
ومَن لا يقدِّم رِجْلَه مُطْمَئِنَّة ...
فيُثْبِتَها في مُسْتَوَى الأرضِ يَزْلَقِ
فقال: النصب في هذا جيِّد، لأنه أرادها هنا من المعنى ما أراد في قوله:
لا تأتينا إلا لم تحدِّثنا، فكأنه قال: من لا يقدَّم إلا لم يثبت زلق.
ولا يكون أبداً إذا قلت: إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر الا رفعا،
وإنَّما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أنّ هذا منقطع من
الأوّل؛ شريكٌ له وإذا قلت إن يكن إتيانٌ فحديثٌ أحدثك، فالحديث متصل
بالأول؛ ألا ترى أنَّك إذا قلت: إن يكن إتيانٌ فحديثٌ ثم سكتَّ وجعلته
جواباً لم يشرك الأول، وكان مرتفعاً بالابتداء.
وتقول: إن تأتني لآتك فأُحدثك. هذا الوجه، وإن شئت ابتدأتَ. وكذلك
الواو وثمَّ، وإن شئت نصبت بالواو والفاء كما نصبت ما كان بين
المجزومين.
واعلم أن ثمَّ لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما
يضمر بعده أن، وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء، وليس معناها
معنى الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها.
واعلم أن ثمَّ إذا أدخلته على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلَّا
جزماً، لأَّنه ليس مما ينصب. وليس يحسن الابتداء لأنَّ ما قبله لم
ينقطع. وكذلك الفاء والواو وأو إذا لم ترد بهن النصب، فإذا انقضى
الكلام ثم
(3/89)
جئت بثمَّ، فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت.
وكذلك الواو والفاء. قال الَّله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار
ثمَّ لا ينصرون " وقال تبارك وتعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
ثمَّ لا يكونوا أمثالكم " إِّلا أنَّه قد يجوز النصب بالفاء والواو.
وبلغنا أنَّ بعضهم قرأ: " يحاسبكم به الَّله فيغفر لمن يشاء ويعذِّب من
يشاء " والَّله على كل شيء قدير " وتقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك،
وإن تأتني فأنا لآتيك وأحسن إليك. وقال عزَّ وجلَّ: " وإن تخفوها
وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم ". والرفع ههنا
وجه الكلام، وهو الجيِّد؛ لأنَّ الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في
غير الجزاء فجرى الفعل هنا كما كان يجري في غير الجزاء.
وقد بلغنا أنَّ بعض القرَّاء قرأ: " من يضلل الَّله فلا هادي له ويذرهم
في طغيانهم يعمهون "؛ وذلك لأنَّه حمل الفعل على موضع الكلام؛ لأنَّ
(3/90)
هذا الكلام في موضع يكون جواباً؛ لأن أصل
الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء؛ ولكنَّهم قد يضعون في موضع
الجزاء غيره.
؟ ومثل الجزم ههنا النصب في قوله:
فلسْنا بالجبالِ ولا الحديدَا
حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصبٍ، كما كان موضع ذاك موضع
جزمِ.
وتقول: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل، فالرفع ههنا الوجه إذا لم
يكن محمولاً على لن كما قال الرفع الوجه في قوله فهو خير لك وأكرمك
ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك فالرفع الوجه إذا لم تحمله على
لم كما كان ذلك في لن.
وأحسن ذلك أن تقول: إن تأتني لا آتك، كما أن أحسن الكلام أن تقول: إن
أتيتني لم آتك. وذلك أن لم أفعل نفي فعل وهو مجزوم بلم، ولا أفعل نفي
أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون
الجواب أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن
يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل. وإذا قال إن فعلت فأحسن
(3/91)
الكلام أن تقول: فعلت، لأنَّه مثله. فكما
ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت، قبح لم أفعل مع يفعل، لأن لم أفعل
نفي فعلت. وقبح لا أفعل مع فعل لأنها نفي أفعل.
واعلم أنَّ النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني لآتك وأعطيك ضعيف،
وهو نحومن قوله:
وَأَلحقُ بالحجاز فأسترِيحَا
فهذا يجوز وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلَّا أنَّه في الجزاء صار أقوى
قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل، إلا أن يكون من الأول فعلٌ، فلمَّا
ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، وإن كان
معناه كمعنى ما قبله إذا قال وأعطيك. وإنَّما هو في المعنى كقوله أفعل
إن شاء الَّله، يوجب بالاستثناء. قال الأعشى فيما جاز من النصب:
ومَن يَغترِبْ عن قومه لا يزل يرى ... مصرع مظلومٍ مَجَرّاً ومَسْحَبا
(3/92)
وتُدفَنَ منه الصالحاتُ وإن يُسيءُ ...
يكنْ ما أساء النار في رأس كبكبا
باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل
إذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهامٍ أو تمنِّ أو عرض
فأما ما انجزم بالأمر فقولك: ائتني آتك.
وأما ما انجزم بالنهي فقولك: لا تفعل يكن خيراً لك.
وأما ما انجزم بالاستفهام فقولك: ألا تأتيني أحدثِّك؟ وأين تكون أزرك؟
وأما ما انجزم بالتمني فقولك: ألا ماءَ أشربه، وليته عندنا يحدَّثنا.
وأمَّا ما انجزم بالعرض فقولك: ألا تنزل تصب خيراً.
وإنَّما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إن تأتني، بإن تأتني، لأنَّهم
(3/93)
جعلوه معلَّقاً بالأوّل عير مستغنٍ عنه إذا
أرادوا الجزاء، كما أنَّ إن تأتني عير مستغنية عن آتك.
وزعم الخليل: أنَّ هذه الأوائل كلَّها فيها معنى إن، فلذلك انجزم
الجواب؛ لأنه إذا قال ائتني آتك فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيانٌ آتك،
وإذا قال: أين بيتك أزرك، فكأنه قال إن أعلم مكان بيتك أزرك؛ لأن قوله
أين بيتك يريد به: أعلمني. وإذا قال ليته عندنا يحدثنا، فإن معنى هذا
الكلام إن يكن عندنا يحدَّثنا، وهو يريد ههنا إذا تمنَّى ما أراد في
الأمر. وإذا قال لو نزلت فكأنَّه قال انزل.
ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره قوله عز وجل: " هل أدلُّكم على
تجارةٍ تنجيكم من عذابِ أليم. تؤمنون بالَّله ورسوله وتجاهدون في سبيل
الَّله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون " فلمَّا انقضت
الآية قال: " يغفر لكم ".
ومن ذلك أيضاً: أتينا أمس نعطيك اليوم، أي إن كنت أتيتنا أمس
(3/94)
أعطيناك اليوم. هذا معناه فإن كنت تريد أن
تقررِّه بأنه قد فعل فإنَّ الجزاء لا يكون، لأنَّ الجزاء إنَّما يكون
في غير الواجب.
ومما جاء أيضاً منجزماً بالاستفهام قوله، وهو رجل من بني تغلب، جابر
ابن حنى:
أَلا تَنْتَهِي عنَّا مُلوكٌ وتَتقِي ... مَحارِمَنَا لا يَبؤِ الدَّم
بالدَّم
وقال الراجز:
متى أَنامُ لا يُؤَرِّقْنْي الكَرِي ... ليلاً ولا أسمع أجراس المطى
كأنّه قال: إ، يكن منِّى نومٌ في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرىُّ،
كأنَّه لم يعَّد نومه في هذه الحال نوماً.
وقد سمعنا من العرب من يشمُّه الرَّفع، كأنه يقول: متى أنام غير مؤرق.
وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن
(3/95)
لا تجعله معلقاً بالأوَّل، ولكنَّك تبتدئه
وتجعل الأول مستغنياً عنه، كأنَّه يقول: ائتني أنا آتيك. ومثل ذلك قول
الشاعر، وهو الأخطل:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف أمريءٍ يَمْضِي لمِقْدارِ
وقال الأنصاري:
يا مالِ والحقُّ عنده فقِفُوا ... تَؤتَوْنَ فيه الوفاءَ مُعْترَفَا
كأنه قال: إنكم تؤتون فيه الوفاء معترفاً. وقال معروف:
(3/96)
كونوا كَمن واسَى أخاه بنفسه ... نعيشُ
جميعاً أو نموتُ كلانَا
كأنه قال: كونوا هكذا إنا نعيش جميعاً أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا.
وزعم الخليل: أنَّه يجوز أن يكون نعيش محمولا على كونوا، كأنه قال:
كونوا نعيش جميعاً أو نموت كلانا.
وتقول: لا تدن منه يكن خيراً لك. فإن قلت: لا تدن من الأسديا كلك فهو
قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس؛ لأنَّك لا تريد أن تجعل تباعده من
الأسد سبباً لأكله. وإن رفعت فالكلام حسنٌ، كأنك قلت: لا تدن منه
فإنَّه يأكلك. وإن أدخلت الفاء فهو حسنٌ، وذلك قولك: لا تدن منه
فيأكلك.
وليس كلُّ موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنه يقول: ما
أتيتنا فتحثنا، والجزاء ههنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا
يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.
(3/97)
وسمعنا عربياً موثوقاً بعربيته يقول: لا
تذهب به تغلب عليه؛ فهذا كقوله: لا تدن من الأسد يأكلك.
وتقول: ذره يقل ذاك، وذره يقول ذاك فالرفع من وجهين: فأحدهما الابتداء،
والآخر على قولك: ذره قائلاً ذاك؛ فتجعل يقول في موضع قائل.
فمثل الجزم قوله عز وجل: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل " ومثل
الرفع قوله تعالى جدٌّه: " ذرهم في خوضهم يلعبون ".
وتقول: ائتني تمشي، أي ائتني ماشياً، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشي
فيما يستقبل فيما يستقبل. وإن شاء رفعه على الابتداء.
وقال عز وجل: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى
". فالرفع على وجهين: على الابتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائفٍ ولا
خاشٍ.
وتقول: قم يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعله دعاء بعد قيامه ويكون القيام
سبباً له، ولكنَّك أردت: قم إنه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت.
وأما قول الأخطل
(3/98)
كرُّوا إلى حرَّيتكم تعمرونهما ... كما
تكرُّ إلى أوطانها البَقَرُ
فعلى قوله: كرُّوا عامرين. وإن شئت رفعت على الابتداء.
وتقول: مره يحفرها، وقل له يقل ذاك. وقال الَّله عز وجل: " قل لعبادي
الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممَّا رزقناهم ". ولو قلت مره
يحفرها على الابتداء كان جيَّداً. وقد جاء رفعه على شىء هو قليلٌ في
الكلام، على مره أن يحفرها، فإذا لم يذكروا أن، جعلوا المعنى بمنزلته
في عسينا نفعل. وهو في الكلام قليلٌ، لا يكادون يتكلمون به، فإذا
تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب، كأنه قال: عسى زيدٌ قائلا،
ثم وضع يقول في موضعه. وقد جاء في الشعر، قال طرفة بن العبد:
ألا أبهذا الزاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى ... وأَنْ أَشْهَدَ الَّلذات هل
أنت مخلدي
(3/99)
وسألته عن قوله عز وجل: " قل أفغير الَّله
تأمروني أعبد أيُّها الجاهلون " فقال: تأمرونِّي كقولك: هو يقول ذاك
بلغني، فبلغني لغوٌ فكذلك تأمرونِّي، كأنه قال: فيما تأمرونِّي، كأنه.
قال فيما بلغني. وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى
باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي
لأن فيها معنى الأمر والنهي
فمن تلك الحروف: حسبك، وكفيك، وشرعك، وأشباهها.
تقول: حسبك ينم الناس. ومثل ذلك: " اتقي الَّله امرؤ وفعل خيراً يثب
عليه " لأن فيه معنى ليتَّق الَّله امرؤ وليفعل خيراً. وكذلك ما أشبه
هذا.
وسألت الخليل عن قوله عز وجل: " فأصَّدق وأكن من الصالحين " فقال: هذا
كقول زهير:
بَدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
(3/100)
فإنَّما جروا هذا، لأنَّ الأول قد يدخله
الباء، فجاءوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا
لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا بالثاني،
وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهموا هذا.
وأما قول عمرو بن عمار الطائي:
فقلتُ له صوِّب ولا تجهدنَّه ... فيُدْنِك من أُخْرَى القطاةِ
فتَزْلَقِ
فهذا على النهي كما قال: لا تمددها فتشققها، كأنَّه قال: لا تجهدنه ولا
يدنينك من أخرى القطاة ولا تزلقن.
ومثله من النهي: لا يرينَّك ههنا، ولا أرينَّك ههنا.
وسألته عن آتي الأمير لا يقطع الِّصَّ، فقال: الجزاء ها هنا خطأ، لا
يكون الجزاء أبداً حتى يكون الكلام الأول غير واجب، إلا أن يضطرَّ
شاعرٌ. ولا نعلم هذا جاء في شعر البتَّة.
وسألته عن قوله: أما أنت منطلقاً انطلق معك، فرفع. وهو قول أبي عمرو،
وحدثنا به يونس. وذلك لأنه لا يجازي بأن كأنه قال: لأن صرت منطلقاً
أنطلق معك.
(3/101)
وسألته عن قوله: ما تدوم لي أدوم لك، فقال:
ليس في هذا جزاء، من قبل أن الفعل صلةٌ لما؛ فصار بمنزلة الذي، وهو
بصلته كالمصدر، ويقع على الحين كأنه قال: أدوم لك دوامك لي. فما، ودمت،
بمنزلة الدَّوام. ويدلك على أنَّ الجزاء لا يكون ها هنا أنك لا تستطيع
أن تستفهم بما تدوم على هذا الحد.
ومثل ذلك: كلَّما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لما، كأنه قال: كلَّ
إتيانك آتيك، وكلَّما تأتيني يقع أيضاً على الحين كما كان ما تأتيني
يقع على الحين. ولا يستفهم بما تدوم.
وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء ها هنا
والَّذي يأتيني بمنزلة عبد اللَّه، وأنت لا يجوز لك أن تقول عبد الَّله
فله درهما؟ فقال: إنَّما يحسن في الَّذي لأنه جعل الآخر جواباً
للأوَّل، وجعل الأول به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء ها هنا، كما دخلت
في الجزاء إذا قال: إن يأتني فله درهمان. وإن شاء قال: الذي يأتيني له
درهمان، كما تقول: عبد الَّله له درهمان غير أنَّه إنما أدخل الفاء
لتكون العطّية مع وقوع الإتيان، فإذا أدخل الفاء فإنما يجعل الإتيان
سبب ذلك. فهذا جزاء وإن لم يجزم، لأنَّه صلة.
(3/102)
ومثل ذلك قولهم: كل رجل يأتينا فله درهمان.
ولو قال: كل رجل فله درهمان كان محالاً، لأنه لم يجيْ بفعل ولا بعمل
يكون له جوابٌ.
ومثل ذلك: " الذَّين ينفقون أموالهم بالَّليل والنَّهار سرَّاّ وعلانية
فلهم أجرهم عند ربِّهم " وقال تعالى جدُّه: " قل إن الموت الذي تفرون
منه فإنه ملاقيكم " ومثل ذلك: " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات
ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنَّم ولهم عذاب الحريق.
وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: " حتَّى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها "
أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب
"، " ولو يرى إذ وقفوا على النَّار " فقال: إن العرب قد تترك في مثل
هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبر لأيِّ شيءٍ وضع هذا الكلام.
وزعم أنَّه قد وجد في أشعار العرب ربَّ لا جواب لها. من ذلك قول
الشماخ:
(3/103)
ودوّيّةٍ قفرٍ تمشِّى نَعامُها ... كمَشْي
النَّصارى في خفافِ الأَرنْدَجِ
وهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجيء فيها جوابٌ لربَّ؛ لعلم
المخاطب أنه يريد قطعتها، وما فيه هذا المعنى:
باب الأفعال في القسم
اعلم أنَّ القسم توكيدٌ لكلامك. فإذا حلفت على فعلٍ غير منفي لم يقع
لزمته اللامُ. ولزمت اللام النونُ الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة.
وذلك قولك: والَّله لأفعلنَّ.
وزعم الخليل: أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك: إن كان
لصالحاً، فإن بمنزلة اللام، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة.
واعلم أن من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين، يجري الفعل بعدها مجراه
بعد قولك واللَّه، وذلك قولك: أقسم لأفعلنَّ، وأشهد لأفعلنَّ، وأقسمت
باللَّه عليك لتفعلنَّ.
(3/104)
وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد
على اللام؛ وذلك قولك: والَّله لفعلت. وسمعنا من العرب من يقول:
والَّله لكذبت، وواللَّه لكذب.
فالنون لا تدخل على فعلٍ قد وقع، إنَّما تدخل على غير الواجب.
وإذا حلفت على فعلٍ منفيٍّ لم تغيِّره عن حاله التي كان عليها قبل أن
تحلف، وذلك قولك: والَّله لا أفعل. وقد يجوز لك وهو من كلام العرب أن
تحذف لا وأنت تريد معناها، وذلك قولك: والَّله أفعل ذلك أبداً، تريد:
والَّله لا أفعل ذلك أبداً. وقل:
فحالِفْ فلا والَّله تَهْبِطُ تَلْعةً ... من الأَرضِ إلا أنتَ للذل
عارِفُ
وسألت الخليل عن قولهم: أقسمت عليك إلاَّ فعلت ولما فعلت، لم جاز هذا
في هذا الموضع، وإنما أقسمت ها هنا كقولك: والَّله؟ فقال: وجه الكلام
(3/105)
لتفعلنَّ، هاهنا ولكنهم إنما أجازوا هذا
لأنهم شبهوه بنشدتك الله، إذ كان فيه معنى الطلب. وسألته عن قوله إذا
جاءت مبتدأةً ليس قبلها ما يحلف به؟ فقال: إنما جاءت على نيَّة اليمين
وإن لم يتكلَّم بالمحلوف به.
واعلم أنَّك إذا أخبرت عن غيرك أنَّه أكَّد على نفسه أو على غيره
فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت؛ وذلك قولك: أقسم ليفعلنَّ، واستحلفه
ليفعلن، وحلف ليفعلنَّ ذلك، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبداً. وذاك أنَّه
أعطاه من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيت أنت من نفسك حين حلفت،
كأنَّك قلت حين قلت أقسم ليفعلَّن قال واللَّه ليفعلنَّ، وحين قلت
استحلفه ليفعلنَّ قال له واللَّه ليفعلنَّ.
ومثل ذلك قوله تعالى جدُّه: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون
إلاَّ الَّله ".
وسألته: لِمَ لَم يجز والَّله تفعل يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال: من
قبل أنَّهم وضعوا تفعل ها هنا محذوفة منها لا، وإنما تجيء في معنى لا
أفعل، فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى. فقلت: فلم ألزمت
(3/106)
النون آخر الكلمة؟ فقال: لكي لا يشبه قوله
إنه ليفعل، لأن الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعلٍ واقعٍ فيه الفاعل،
كما ألزموا اللام: إن كان ليقول، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك، لأن
إن تكون بمنزلة ما.
وسألته عن قوله عز وجل: " وإذ أخذ الَّله ميثاق النَّبييِّن لما آتيتكم
من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنَّه
" فقال: ما ههنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على إن حين قلت:
والله لئن فعلت لأفعلن، واللام التي في ما كهذه التي في إن، واللام
التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا.
ومثل هذه هذه اللام الأولى أن إذا قلت: والَّله أن لو فعلت لفعلت.
وقال:
فأُقْسِمُ أن لوِ التَقينْا وأنْتُمُ ... لكان لكمْ يومٌ من الشرِّ
مُظْلِمُ
فأن في لو بمنزلة اللام في ما، فأوقعت ها هنا لامين: لامٌ للأول ولامٌ
للجواب، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم، فكذلك الامان في قوله
عز وجل: " لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدَّق لما
(3/107)
معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه " لامٌ للأول
وأخرى للجواب.
ومثل ذلك " لمن تبعك منهم لأملأنَّ " إنما دخلت اللام على نية اليمين.
والَّله أعلم.
وسألته عن قوله عز وجل: " ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من
بعده يكفرون " فقال: هي في معنى ليفعلنَّ، كأنه قال ليظلَّن، كما تقول:
والَّله لا فعلت ذاك أبداً، تريد معنى لا أفعل.
وقالوا: لئن زرته ما يقبل منك، وقال: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو
فاعلٌ وما يفعل، كما كان لظلُّوا مثل ليظلن، وكما جاءت: " سواءٌ عليكم
أدعوتموهم أم أنتم صامتون " على قوله: أم صمتٌّم فكذلك جاز هذا على ما
هو فاعلٌ. قال عز وجل: " ولئن أتيت الذين أوتوا
(3/108)
الكتاب بكلِّ آيةٍ مَّا تبعوا قبلتك " أي
ما هم تابعين.
وقال: سبحانه: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده " أي ما
يمسكهما من أحدٍ.
وأما قوله عز وجل: " وإنَّ كلاً لما ليوفِّينهم ربُّك أعمالهم " فإن إن
حرف توكيد، فلها لامٌ كلام اليمين، لذلك أدخلوها كما أدخلوها في: " إن
كلُّ نفسٍ لما عليها حافظ "، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين،
كأنَّه قال: إن زيداً لما واللَّه ليفعلنَّ.
وقد يستقيم في الكلام إن زيداً ليضرب وليذهب، ولم يقع ضربٌ. والأكثر
على ألسنتهم كما خبَّرتك في اليمين، فمن ثمَّ ألزموا النون في اليمين،
لئلا يلتبس بما هو واقعٌ. قال الَّله عز وجل: " إنَّما جعل السَّبت على
الذين اختلفوا فيه وإن ربَّك ليحكم بينهم يوم القيامة ". وقال لبيد:
(3/109)
ولقد علمتُ لَتَأْتِيَن منيَّتي ... إنَّ
المَنايا لا تَطِيشُ سِهامُهَا
كأنَّه قال: والَّله لتأتين، كما قال: قد علمت لعبد الله خيرٌ منك،
وقال: أظنُّ لتسبقنني، وأظنُّ ليقومنَّ، لأنه بمنزلة علمت. وقال عز
وجل: " ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه "؛ لأنه موضع ابتداء.
ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أيُّهم أفضل، لحسن كحسنه في علمت، كأنك
قلت: ظهر لهم أهذا أفضل أم هذا.
هذا باب
الحروف التي لا تقدِّم فيها الأسماء الفعل
فمن تلك الحروف العوامل في الأفعال الناصبة. ألا ترى أنك لا تقول: جئتك
كي زيدٌ يقول ذاك، ولا خفت أن زيدٌ يقول ذاك. فلا يجوز أن تفصل بين
الفعل والعامل فيه بالاسم، كما لا يجوز أن تفصل بين الاسم وبين إن
وأخواتها بفعلٍ.
(3/110)
ومما لا تقدَّم فيه الأسماء الفعل الحروف
العوامل في الأفعال الجازمة، وتلك: لم، ولما، ولا التي تجزم الفعل في
النهيولا التي تجزم في الأمر. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: لم زيدٌ
يأتك، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بشيء، كما لم يجز أن تفصل بين
الحروف التي تجر وبين الأسماء بالأفعال، لأن الجزم نظير الجر. ولا تجوز
أن تفصل بينها وبين الفعل بحشوٍ، كما لا تجوز لك أن تفصل بين الجار
والمجرور بحشوٍ، إلا في شعر.
ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب، كراهة أن تشبَّه بما يعمل
في الأسماء. ألا ترى أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه
بحشوٍ، كراهية أن يشبهوه بما يعمل في الاسم؛ لأن الاسم ليس كالفعل،
وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل. ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في
الاسم وقلة هذا.
فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء، وذلك
أنك لو قلت: جئتك كي بك يؤخذ زيدٌ لم يجز، وصار الفصل في الجزم والنصب
أقبح منه في الجر؛ لقلة ما يعمل في الأفعال، وكثرة ما ينسى في الأسماء.
(3/111)
واعلم أن حروف الجزاء يقبح أن تتقدم
الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك لأنهم شبهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا
أن حروف الجزاء قد جاز فيها ذلك في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها فعل
ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فترفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة الذي،
فلما كانت تصرَّف هذا التصُّرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجبرُّ من
الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو: ضارب عبد الَّله، لأنك
إن شئت نونت ونصبت، وإن شئت لم تجاوز الاسم العامل في الآخر، يعني
ضاربٍ، فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام في الأمر؛ لأنهن لا
يفارقن الجزم.
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ، نحو قوله:
عاوِدْ هَراةَ وإنْ معمورُها خَرِبَا
فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبَّه بلم، وإنما جاز في الفصل ولم يشبه لم
لأن لم لا يقع بعدها فعل، وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء
(3/112)
ولا تفارقه، فجاز هذا كما جاز إضمار الفعل
فيها حين قالوا: إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرُّ.
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعفٌ في الكلام، لأنَّها ليست كإن، فلو
جاز في إن وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيها فعل.
وممَّا جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدىَّ بن زيد:
فَمتى واغلٌ ينبهم يحيّو ... هـ هو وَتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقِي
وقال كعب بن جعيل:
صَعْدَةٌ نَابِتَةٌ فِي حَائِرٍ ... أَيْنَمَا الريحُ تميَّلها تَمِلْ
ولو كان فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام.
واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنما ارتفع على فعلٍ
(3/113)
هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك: إن زيداً
رأيته يكن ذلك؛ لأنه لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها.
فإن قلت: إن تأتني زيدٌ يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته،
وهذا موضع ابتداء ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خيرٌ
لك، كان حسناً. وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله:
اللهُ يَشكرُها
ومثل الأوّل قول هشام المرّى:
فَمن نحن نُؤْمِنْه يَبِتْ وهْوَ آمِن ... ومَنْ لا نُجِرْهُ يُمْسِ
منّا مفزّعَا
هذا باب
الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل
ولا تغير الفعل عن حاله التي كان عليها قبل
أن يكون قبله شيء منها
فمن تلك الحروف قد، لا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جوابٌ لقوله
أفعل كما كانت ما فعل جواباً لهل فعل؟ إذا أخبرت أنه لم يقع. ولما
(3/114)
يفعل وقد فعل، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون
شيئاً. فمن ثم أشبهت قد لما، في أنَّها لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف أيضاً سوف يفعل؛ لأنها بمنزلة السين التي في قولك
سيفعل. وإنما تدخل هذه السين على الأفعال، وإنَّما هي إثباتٌ لقوله لن
يفعل، فأشبهتها في أن لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف: ربما وقلما وأشباههما، جعلوا ربَّ مع ما بمنزلة كلمة
واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل، لأنهم لم يكن لهم سبيلٌ إلى " ربَّ
يقول "، ولا إلى " قلَّ يقول "، فألحقوهما ما وأخلصوهما للفعل.
ومثل ذلك: هلا ولولا وألاَّ، ألزموهن لا وجعلوا كلَّ واحدة مع لا
بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض.
وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال:
صددن فأطولت الصدودِ وقلَّما ... وِصالٌ على طُول الصدود يَدْومُ
واعلم أنه إذا اجتمع بعد حروف الاستفهام نحو هل وكيف ومن اسمٌ وفعلٌ،
كان الفعل بأن يلي حرف الاستفهام أولى؛ لأنها عندهم في الأصل من الحروف
التي يذكر بعدها الفعل. وقد بيِّن حالهنَّ فيما مضى.
(3/115)
هذا باب
الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء
ويجوز أن يليها بعدها الأفعال
وهي لكن، وإنما، وكأنما، وإذ، ونحو ذلك، لأنَّها حروفٌ لا تعمل شيئاً،
فتركت الأسماء بعدها على حالها كأنَّه لم يذكر قبلها شيءٌ، فلم يجاوز
ذا بها إذ كانت لا تغيَّر ما دخلت عليه، فيجعلوا الاسم أولى بها من
الفعل.
وسألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك، فزعم
أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيِّرت للفعل كما صيِّرت للفعل
ربَّما، والمعنى لعلِّى آتيك؛ فمن ثم لم ينصبوا به الفعل، كما لم
ينصبوا بربما. قال رؤبة:
لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ
وقال أبو النجم:
قلتُ لِشَيْبانَ ادْنُ مِن لقائهْ ... كما تغدِّى النَاسَ مِن شِوائِه
(3/116)
|