الكتاب لسيبويه هذا باب نفي الفعل
إذا قال: فعل فإنَّ نفيه لم يفعل. وإذا قال: قد فعل فإن نفيه لمَّا
يفعل. وإذا قال: لقد فعل فإنَّ نفيه ما فعل. لأنه كأنَّه قال: والَّله
لقد فعل فقال: والله ما فعل. وإذا قال هو يفعل، أي هو في حال فعل،
فإنَّ نفيه ما يفعل. وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعاً فنفيه لا
يفعل. وإذا قال لفعلنَّ فنفيه لا يفعل، كأنه قال: والَّله ليفعلنَّ
فقلت والَّله لا يفعل. وإذا قال: سوف يفعل فإنَّ نفيه لن يفعل
باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء
يضاف إليها أسماء الدهر. وذلك قولك: هذا يوم يقوم زيدٌ، وآتيك يوم يقول
ذاك. وقال الَّله عز وجل: " هذا يوم لا ينطقون " وهذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم ". وجاز هذا في الأزمنة واطرد فيها كما جاز للفعل أن
يكون صفةً؛ وتوسَّعوا بذلك في الدهر لكثرته في كلامهم، فلم يخرجوا
الفعل من هذا كما لم يخرجوا الأسماء من ألف الوصل نحو ابنٍ، وإنما أصله
للفعل وتصريفه.
ومما يضاف إلى الفعل أيضاً قولك: ما رأيته منذ كان عندي. ومذ جاءني
ومنه أيضاً " آية ".
(3/117)
قال الأعشى:
بآيةِ تُقْدمون الخيلَ شُعْثاً ... كأنّ على سَنابِكِها مُدامَا
وقال يزيد بن عمرو بن الصعق:
ألا مَن مبلغٌ عنِّي تميماً ... بآيةِ ما تحبُّون الطعامَا
فما لغوٌ.
ومما يضاف إلى الفعل قوله: لا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا
أفعل بذي تسلمون، المعنى: لا أفعل بسلامتك، وذو مضافة إلى الفعل كإضافة
ما قبله، كأنَّه قال: لا أفعل بذي سلامتك. فذو ههنا الأمر الذي بسلّمك
وصاحب سلامتك.
(3/118)
ولا يضاف إلى الفعل غير هذا كما أن لدن لا
تنصب إلاَّ في غدوة.
واطَّردت الأفعال في آية اطّرد الأسماء في أتقول إذا قلت: أتقول زيداً
منطلقاً، شبّهت بتطنّ.
وسألته عن قوله في الأزمنة كان ذاك زمن زيدٌ أمير؟ فقال: لمَّا كانت في
معنى إذ أضافوها إلى ما قد عمل بعضه في بعضٍ، كما يدخلون إذ على ما قد
عمل بعضه في بعض ولا يغيرونه، فشبَّهوا هذا بذلك. ولا يجوز هذا في
الأزمنة حتَّى تكون بمنزلة إذ. فإن قلت: يكون هذا يوم زيدٌ أميرٌ، كان
خطأ.
حدثنا بذلك يونس عن العرب؛ لأنَّك لا تقول: يكون هذا إذا زيدٌ أميرٌ.
جملة هذا الباب أنَّ الزمان إذا كان ماضياً أضيف إلى الفعل، وإلى
الابتداء والخبر؛ لأنَّه في معنى إذ، فأضيف إلى ما يضاف إليه إذ. وإذا
كان لما لم يقع لم يضف إلاَّ إلى الأفعال؛ لأنه في معنى إذا، وإذا هذه
لا تضاف ألاَّ إلى الأفعال.
هذا باب إنَّ وأنَّ
أما أنَّ فهي اسم وما عملت فيه صلةٌ لها، كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة
وتكون أن اسماً. ألا ترى أنك تقول: قد عرفت أنك منطلقٌ، فأنك
(3/119)
في موضع اسم منصوبٌ كأنك قلت: قد عرفت ذاك.
وتقول: بلغني أنك منطلقٌ، فأنَّك في موضع اسم مرفوع، كأنك قلت: بلغني
ذاك.
فأن الأسماء التي تعمل فيها صلةٌ لها، كما أن أنِ الأفعال التي تعمل
فيها صلةٌ لها.
ونظير ذلك في أنه وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد لا في غير ذلك، قولك:
رأيت الضارب أباه زيدٌ، فالمفعول فيه لم يغيَّره عن أنه اسمٌ واحد،
بمنزلة الرجل والفتى. فهذا في هذا الموضع شبيهٌ بأن، إذ كانت مع ما
عملت فيه بمنزلة اسم واحد، فهذا ليعلم أنَّ الشيء يكون كأنه من الحرف
الأول وقد عمل فيه.
وأما إنَّ فإنَّما هي بمنزلة الفعل لا يعمل فيها ما يعمل في أنَّ، كما
لا يعمل في الفعل ما يعمل في الأسماء، ولا تكون إن إلا مبتدأة، وذلك
قولك: إن زيداً منطلقٌ، وإنك ذاهب.
هذا باب من أبواب أن
تقول: ظننت أنَّه منطلقٌ، فظننت عاملة، كأنّك قلت: ظننت ذاك. وكذلك
وددت ذاك.
وتقول: لولا أنَّه منطلقٌ لفعلت، فأنَّ مبنيَّة على لولا كما تبنى
عليها الأسماء.
(3/120)
وتقول: لو أنه ذاهبٌ لكان خيراً له، فأنَّ
مبنيَّة على لو كما كانت مبنيَّة على لولا، كأنك قلت: لو ذاك، ثم جعلت
أنَّ وما بعدها في موضعه فهذا تمثيل وإن كانوا لا يبنون على لو غير أن،
كما كان تسلم في قولك بذي تسلم في موضع اسم، ولكنَّهم لا يستعملون
الاسم لأنّهم مما مستغنون بالشيء عن الشيء حتَّى يكون المستغنى عنه
مسقطاً.
وقال الَّله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون جزائن رحمة ربِّي إذا لأمسكتم
خشية الإنفاق ". وقال:
لو بغيرِ الماء حَلِقي شَرِقٌ
(3/121)
وسألته عن قول العرب: ما رأيته مذ أنَّ
الَّله خلقني؟ فقال: أنَّ في موضع اسمٍ، كأنه قال: مذ ذاك.
وتقول: أما إنَّه ذاهبٌ، وأما أنه منطلقٌ، وإذا قال: أما إنه منطلقٌ،
فسألت الخليل عن ذلك فقال: إذا قال: أما أنه منطلقٌ، فإنه يجعله كقولك:
حقاً أنه منطلقٌ، وإذا قال: أما إنه منطلقٌ، فإنه بمنزلة قوله: ألا،
كأنَّك قلت: ألا إنَّه ذاهبٌ.
وتقول: قد عرفت أنه ذاهبٌ ثم أنه معجل، ولأن الآخر شريك الأول في عرفت.
وتقول قد عرفت أنه ذاهبٌ ثم إني أخبرك أنه معجل، لأنك ابتدأت إني ولم
تعجل الكلام على عرفت. أما والَّله ذاهب أنه ذاهبٌ، كأنك قلت: قد علمت
والَّله أنه ذاهبٌ. وإذا قلت: أما والَّله إنه ذاهبٌ: كأنك قلت: ألا
إنه والَّله ذاهبٌ.
وتقول: رأيته شاباً وإنه يفخر يومئذٍ، كأنك قلت: رأيته شاباً وهذه
حاله. تقول هذا بتداء ولم يجعل الكلام على رأيت. وإن شئت حملت الكلام
على الفعل ففتحت. قال ساعدة بن جؤيَّة:
(3/122)
رأتهْ على شَيْبِ القَذالِ وأنْها ...
تُوَاقِعُ بَعْلاً مَّرة وتئيمُ
وزعم أبو الخطَّاب: أنَّه سمع هذا البيت من أهله هكذا.
وسألته عن قوله عز وجل: " وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون "، ما
منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذا في ذا
الموضع، إنما قال: وما يشعركم، ثم ابتدأ فأوجب فقال: إنَّها إذا جاءت
لا يؤمنون. ولو قال: وما يشعركم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون، كان ذلك
عذراً لهم.
وأهل المدينة يقولون " أنها ". فقال الخليل: هي بمنزلة قول العرب: ائت
السُّوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي لعلَّك، فكأنه قال: لعلها إذا جاءت لا
يؤمنون.
وتقول: إنَّ لك هذا علي وأنَّك لا تؤذي، كأنك قلت: وإن لك أنَّك لا
تؤذي. وإن شئت ابتدأت ولم تحمل الكلام على إنَّ لك. وقد قرئ هذا الحرف
على وجهين، قال بعضهم: " وأنك لا تظمأ فيها ". وقال بعضهم: " وأنّك ".
(3/123)
واعلم أنه ليسس يحسن لأنَّ أن تلي إنَّ ولا
أن كما قبح ابتداؤك الثقيلة المفتوحة وحسن ابتداؤك الخفيفة؛ لأن
الخفيفة لا تزول عن الأسماء، والثقيلة تزول فتبدأه. ومعناها مكسورة
ومفتوحة سواء. واعلم أنه ليس يحسن أن تلي إن أنَّ ولا أنَّ إن. ألا ترى
أنك لا تقول إن أنك ذاهبٌ في الكتاب، ولا تقول قد عرفت أ، إنِّك منطلقٌ
في الكتاب. وإنما قبح هذا ههنا كما قبح في الابتداء، ألا ترى أنه يقبح
أن تقول أن تقول أنك منطلقٌ بلغني أو عرفت، لأنَّ الكلام بعد أن وإن
غير مستغنٍ كما أن المبتدأ غير مستغن. وإنما كرهوا ابتداء أن لئَّلا
يشبِّهوها بالأسماء التي تعمل فيها إنَّ، ولئلا يشِّبهوها بأن الخفيفة،
لأنَّ أن والفعل بمنزلة مصدر فعله الذي ينصبه، والمصادر تعمل فيها إن
وأنَّ.
ويقول الرجل للرجل: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لم أنه ظريفٌ، كأنه قال: قلت
لمه قلت لأن ذاك كذلك.
وتقول إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم: أي إني تجد إذا ابتدأت كما
تبتدىء أي أنا نجدٌ. وإن شئت قلت أي أنِّى نجدٌ، كأنك قلت: أي لأني
نجدٌ.
(3/124)
هذا باب آخر من
أبواب أنَّ
تقول: ذلك وأن لك عندي ما أحببت، وقال الَّله عز وجل: " ذلكم وأن
الَّله موهن كيد الكافرين " وقال: " ذلكم فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب
النار "؛ وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه، كأنه قال: الأمر ذلك وأن
الَّله. ولو جاءت مبتدأةً لجازت، يدلك على ذلك قوله عزَّ وجل: " ذلك
ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمَّ بغي عليه لينصرنه الَّله. فمن ليس
محمولاً على ما حمل عليه ذلك فكذلك يجوز أن يكون إن منقطعةً من ذلك قال
الأحوص:
عَوّدتُ قومي إذا ما لضيَّف نبَّهي ... عَقْرَ العِشارِ على عُسْرِي
وإيساري
إنَّي إذا خَفِيَتْ نارٌ لمرملةٍ ... أُلْفَي بأَرْفعِ تلٍّ رافعاً
ناري
(3/125)
ذاك وإنَّي على جاري لذو حدبٍ ... أَحْنو
عليه بما يُحْنَى على الجارِ
فهذا لا يكون إلا مستأنفاً غير محمول على ما حمل عليه ذاك. فهذا أيضاً
يقوي ابتداء إن في الأول.
هذا باب آخر من أبواب أن
تقول: جئتك أنك تريد المعروف، إنَّما أراد: جئتك لأنك تريد المعروف،
ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت:
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكريمِ أّدِخاره ... وأُعْرِضُ عن ذَنْب الَّلئيم
تكرُّمَا
أي: لادخاره.
وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربُّكم
فاتقون "، فقال: إنَّما هو على حذف
(3/126)
اللام، كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمةً
واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون.
وقال: ونظيرها: " لإيلاف قريشٍ " لأنه إنما هو: لذلك " فليعبدوا ".
فإن حذفت اللام من أن فهو نصبٌ، كما أنَّك لو حذفت اللام من لإيلاف كان
نصباً. هذا قول الخليل. ولو قرؤها: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " كان
جيداً، وقد قرىء.
ولو قلت: جئتك إنَّك تحب المعروف، مبتدأ كان جيداً.
وقال سبحانه وتعالى: " فدعا ربه أنِّي مغلوبٌ فانتصر ". وقال: " ولقد
أرسلنا نوحا إلى قومه أنَّي لكم نذير مبين "، إنما أراد بأنِّي مغلوبٌ،
وبأنيِّ لكم نذيرٌ مبين، ولكنه حذف الباء. وقال أيضاً: " وأن المساجد
لله فلا تدعوا مع الَّله أحدا " بمنزلة: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة "،
والمعنى: ولأن هذه أمتكم فاتقون، ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الَّله
أحداً.
وأما المفِّسرون فقالوا: على أوحي، كما كان " وأنه لما قام عبد الله
يدعوه " على أوحي. ولو قرئت: وإن المساجد لله كان حسناً.
(3/127)
واعلم أن هذا البيت ينشد على وجهين على
إرادة اللام، وعلى الابتداء. قال الفرزدق.
منعتٌ تميماً منك أنِّى أنا ابنُها ... وشاعرُها المعروفُ عند
المَواسِمِ
وسمعنا من العرب من يقول: إنِّي أنا ابنها.
وتقول: لبيك إن الحمد والنعمة لك، وإن شئت قلت أن. ولو قال إنسان: إن "
أنَّ في موضع جرٍّ في هذه الأشياء، ولكنه حرفٌ كثر استعماله في كلامهم،
فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا رب في قولهم:
وبلدٍ تَحْسَبُه مَكْسُوحاً
لكان قولاً قوياً. وله نظائر نحو قوله: لاه أبوك والأول قول الخليل.
ويقوي ذلك قوله: " وأن المساجد لله "؛ لأنهم لا يقدِّمون أنّ
(3/128)
ويبتدئونها ويعملون فيها ما بعدها. إلا أنه
يحتجُّ الخليل بأن المعنى معنى اللام. فإذا كان الفعل أو غيره موصلاً
إليه باللام جاز تقديمه وتأخيره، لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى،
فاحتملوا هذا المعنى كما قال: حسبك ينم الناس؛ إذ كان فيه معنى الأمر.
وسترى مثله، ومنه ما قد مضى.
هذا باب إنَّما وأنَّما
اعلم أنَّ كلِّ موضع تقع فيه أنَّ تقع فيه أنَّما، وما ابتدىء بعدها
صلةُ لها كما أنّ الذي ابتدىْ بعد الذي صلة له. ولا تكون هي عاملةً
فيما بعدها كما لا يكون الذي عاملاً فيما بعده.
فمن ذلك قوله عز وجل: " قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم
إله واحدٌ ". وقال الشاعر، ابن الإطنابة:
أبلغ الحارث بن ظالم المو ... عد والناذِرَ النُّذور عليَّا
أنَّما تقتل النِّيام ولا تقت ... ل يقظان ذا سلاحٍ كميَّا
(3/129)
فإنما وقعت أنما ههنا لأنك لو قلت: أن
إلهكم إلهٌ واحدٌ، وأنك تقتل النيام كان حسناً. وإن شئت قلت: إنَّما
تقتل النيام، على الابتداء. زعم ذلك الخليل.
فأما إنَّما فلا تكون اسماً، وإنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل
ملغى، مثل: أشهد لزيد خير منك، لأنَّها تعمل فيما بعدها ولا تكون إلاَّ
مبتدأة بمنزلة إذا، لا تعمل في شيء.
واعلم أن الموضع الذي لا يجوز فيه أنَّ لا تكون فيه إنَّما إلاَّ
مبتدأة وذلك قولك: وجدتك إنما أنت صاحب كل خنىً لم يجز ذلك، لأنَّك إذا
قلت أرى أنه منطلقٌ فإنما وقع الرأي على شيء لا يكون الكاف التي في
وجدتك ونحوها من الأسماء
(3/130)
فمن ثم لم يجز لأنك لو قلت وجدتك أنك صاحب
كل خنى رأيتك أنك منطلقٌ، فإنما أدخلت إنَّما على كلامٍ مبتدإ؛ كأنك
قلت: وجدتك أنت صاحب كلِّ خىً، ثم أدخلت إنما على هذا الكلام، فصار
كقولك: إنَّما أنت صاحب كل خنىً، لأنَّك أدخلتها على كلام قد عمل بعضه
في بعض. ولم تضع إنَّما في موضع ذاك إذا قلت وجدتك ذاك، لأن ذاك هو
الأول، وأنَّما وأنَّ إنما يصيِّران الكلام شأناً وحديثاً، فلا يكون
الخبر ولا الحديث الرجل ولا زيداً، ولا أشباه ذلك من الأسماء. وقال
كثيَّر.
أراني ولا كُفْرَانَ لَّله إنَّما ... أواخي مِن الأقوامِ كلَّ بخيلٍ
لأنه لو قال: " أنَّى " ههنا كان غير جائز لما ذكرنا، فإنَّما ههنا
بمنزلتها في قولك: زيدٌ إنما يواخي كلَّ بخيل. وهو كلام مبتدأ، وإنَّما
فى موضع خبره، كما أنك إذا قلت: كان زيدٌ أبوه منطلقٌ. فهو مبتدأ وهو
في موضع خبره.
وتقول: وجدت خبره أنَّما يجالس أهل الخبث؛ لأنك تقول: أرى أمره أنَّه
يجالس أهل الخبث، فحسنت أنَّه ها هنا لأنّ الآخر هو الأوّل.
(3/131)
بابٌ تكون فيه أنَّ بدلا من شيءٍ
هو الأول
وذلك قولك: بلغتني قصَّتك أنك فاعلٌ، وقد بلغني الحديثُ أنَّهم
منطلقون، وكذلك القصة وما أشبهها.
هذا بابٌ تكون فيه أنَّ بدلا
من شيءٍ ليس بالآخر
من ذلك: " وإذ يعدكم الَّله إحدى الطائفتين أنَّها لكم "، فأنَّ مبدلة
من إحدى الطَّائفتين، موضوعةٌ في مكانها، كأنك قلت: وإذ يعدكم الَّله
إن، ّ إحدى الطائفتين لكم، كما أنَّك إذا قلت: رأيت متاعك بعضه فوق
بعض، فقد أبدلت الآخر من الأول، وكأنَّك قلت: رأيت بعض متاعك فوق بعض،
كما جاء الأول على معنى وإذ يعدكم الَّله أن إحدى الطائفتين لكم.
ومن ذلك قوله عز وجل: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنَّهم
إليهم لا يرجعون ". فالمعنى والَّله أعلم: ألم يروا أنَّ القرون الذين
أهلكناهم إليهم لا يرجعون.
ومما جاء مبدلاً من هذا الباب: " أيعدكم أنَّكم إذا متُّم وكنتم ترابا
وعظاما أنَّكم مخرجون "، فكأنه على: أيعدكم أنَّكم مخرجون
(3/132)
إذا متم، وذلك أريد بها، ولكنه إنما قدمت
أنَّ الأولى ليعلم بعد أي شيءٍ الإخراج.
ومثل ذلك قولهم: زعم أنه إذا أتاك أنَّه سيفعل، وقد علمت أنه إذا فعل
أنّه سيمضي.
ولا يستقيم أن تبتدىء إنَّ ها هنا كما تبتدىء الأسماء أو الفعل، إذا
قلت: قد علمت زيداً أبوه خيرٌ منك، وقد رأيت زيداً يقول أبوه ذاك، لأن
إنَّ لا تبتدأ في كل موضع، وهذا من تلك المواضع.
وزعم الخليل: أ، ّ مثل ذلك قوله تبارك وتعالى: " ألم يعلموا أنَّه من
يحادد اللَّه ورسوله فأن له نار جهنم ". ولو قال: " فإن " كانت عربيه
جيدة.
وسمعناهم يقولون في قول ابن مقبلٍ:
(3/133)
وعِلْمِي بأسْدامِ المِياهِ فلم تَزَلْ ...
قَلائصُ تَخْدِى في طريقٍ طَلائحُ
وأنَّى إذا ملَّت رِكابي مُناخَها ... فإنِّي على حظَّي من الأمر جامحُ
وإن جاء في الشعر قد علمت أنك إذا فعلت إنَّك سوف تغتبط به، تريد معنى
الفاء جاز. والوجه والحد ما قلت لك أول مرةٍ.
وبلغنا أن الأعرج قرأ: " أنَّه من عمل منكم سوأ بجهالةٍ ثم تاب من بعده
وأصلح فإنه غفورٌ رحيم ". ونظيره ذا البيت الذي أنشدتك.
هذا باب من أبواب أن
تكون أن فيه مبنية على ما قبلها
وذلك قولك: أحقاً أنَّك ذاهبٌ، وآلحقَّ أنَّك ذاهبٌ، وكذلك
(3/134)
إن أخبرت فقلت: حقا " ً أنَّك ذاهبٌ. والحق
أنك ذاهبٌ وكذلك أأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، وأجهد رأيك أنَّك ذاهبٌ. وكذلك
هما في الخبر.
وسألت الخليل فقلت: ما منعهم أن يقولوا: أحقاً إنَّك ذاهبٌ على القلب،
كأنَّك قلت: إنَّك ذاهبٌ حقاً، وإنَّك ذاهب الحقَّ، وأنَّك منطلقٌ
حقاً؟ فقال: ليس هذا من مواضع إنَّ؛ لأن إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع.
ولو جاز هذا لجاز يوم الجمعة، إنك ذاهبٌ، تريد إنك ذاهبٌ يوم الجمعة
ولقلت أيضاً لا محالة إنك ذاهبٌ، تريد إنك لا محالة ذاهبٌ، فلما لم يجز
ذلك حملوه على: أفي حق أنَّك ذاهبٌ، وعلى: أفي أكبر ظنَّك أنَّك ذاهبٌ،
وصارت أنَّ مبنيةً عليه، كما يبنى الرحيل على غدٍ إذا قلت: غداً
الرحيل. والدليل على ذلك إنشاد العرب هذا البيت كما أخبرتك.
زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر:
أَحَقَّا بنيِ أبناءِ سَلْمَى بنِ جندلٍ ... تهدُّدكم إيَّاي وَسْطَ
المجالس
(3/135)
فزعم الخليل: أنَّ التهدّدها هنا بمنزلة
الرحيل بعد غدٍ، وأنَّ أن بمنزلته، وموضعه كموضعه.
ونظير: أحقاً أنَّك ذاهبٌ من أشعار العرب قول العبدي:
أحَقَّا أنَّ جيرتَنا استَقّلوا ... فنيَّتنا ونيَّتهم فَريِقُ
قال: فريق، كما تقول للجماعة: هم صديق. وقال الَّله تعالى جدَّه: " عن
اليمين وعن الشَّمال قعيد ". وقال عمر بن أبي ربيعة:
أألحقَّ أنْ دارُ الرَّباب تبَاعدتْ ... أوِ أنبتَّ حَبْلٌ أنَّ قلبكَ
طائر
(3/136)
وقال النابغة الجعدي
أَلا أبلغْ بني خلفٍ رسولاً ... أَحقّاً أنّ أَخْطَلَكم هَجانِي
فكلُّ هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا.
والرفع في جميع ذا حيّد قوي، وذلك أنَّك إن شئت قلت: أحقُّ أنَّك
ذاهبٌ، وأأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، تجعل الآخر هو الأول.
وأما قولهم: لا محالة أنَّك ذاهبٌ، فإنما حملوا أن على أنَّ فيه إضمار
من، على قوله: لا محالة من أنَّك ذاهبٌ كما تقول لا بد أنك ذاهبٌ كأنك
قلت لا بد من أنك ذاهبٌ حين لم يجز أن يحملوا الكلام على القلب.
وسألته عن قولهم: أما حقاً فإنك ذاهبٌ، فقال: هذا جيد، وهذا الموضع من
مواضع إنَّ. ألا ترى أنَّك تقول: أما يوم الجمعة فإنَّك ذاهبٌ وأما
فيها فإنَّك داخلٌ. فإنما جاز هذا في أماَّ لأنَّ فيها معنى يوم الجمعة
مهما يكن من شيء فإنَّك ذاهبٌ.
(3/137)
وأما قوله عز وجل: " لا جرم أنَّ لهم النار
" فأنَّ جرم عملت فيها لأنَّها فعلٌ، ومعناها: لقد حقَّ أن لهم النار.
ولقد استحق أن لهم النار وقول المفسَّرين: معناها: حقاً أنَّ لهم
النار، يدلُّك أنَّها بمنزلة هذا الفعل إذا مثَّلت، فجرم بعد عملت في
أنَّ عملها في قول الفزاري:
ولقد طَعنتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمتْ فزارةَ بعدها أنْ
يَغْضَبُوا
أي: أحقت فزارة.
وزعم الخليل: أنَّ لا جرم إنَّما تكون جواباً لما قبلها من الكلام،
يقول الرجل كان كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا فتقول: لا جرم أنَّهم
سيندمون أو أنَّه سيكون كذا وكذا.
(3/138)
وتقول: أمّا جهذ رأيي فأنَّك ذاهبٌ؛ لأنَّك
لم تصطَّرَّ إلى أن تجعله ظرفاً كما اضطررت في الأول. وهذا من مواضع
إنَّ، لأنَّك تقول: أما في رأيي فإنَّك ذاهب، أي فأنت ذاهب، وإن شئت
قلت فأنَّك. وهو ضعيف؛ لأنَّك إذا قلت: أما جهد رأيي فإنك عالمٌ لم
تضطر إلى أن تجعل الجهد ظرفاً للقصة، لأنَّ ابتداء إنَّ يحسن ها هنا.
وتقول: أما في الدار فإنك قائمُ، لا يجوز فيه إلاَّ إنَّ، تجعل الكلام
قصةً وحديثاً، ولم ترد أن تخبر أن في الدار حديثه، ولكنَّك أردت أن
تقول: أما في الدار فأنت قائمٌ فمن ثم لم يعمل في أي شيء أردت أن تقول.
أما في الدار فحديثك وخبرك قلت: أما في الدار فأنك منطلقٌ، أي هذه
القصَّة.
ويقول الرجل: ما اليوم؟ فتقول: اليوم أنَّك مرتحلٌ، كأنَّه قال: في
اليوم رحلتك. وعلى هذا الحد تقول: أما اليوم فأنَّك مرتحلٌ.
وأما قولهم: أما بعد فإنّ الَّله قال في كتابة، فإنه منزلة قولك: أما
اليوم فإنَّك، ولا تكون بعد أبداً مبنياً عليها إذا لم تكن مضافةً ولا
مبنية على شيء، إنَّما تكون لغوا.
وسألته عن شدَّ ما أنَّك ذاهٌب، وعزَّ ما أنَّك ذاهبٌ، فقال: هذا
بمنزلة حقاً أنك ذاهٌب، كما تقول: أما أنك ذاهبٌ، بمنزلة حقاً أنَّك
ذاهبٌ. ولو بمنزلة لولا، ولا تبتدأ بعدها الأسماء سوى أنَّ، نحو لو أنك
ذاهبٌ. ولولا تبتدأ
(3/139)
بعدها الأسماء، ولو بمنزلة لولا، وإن لم
يجز فيها ما يجوز فيما يشبهها. تقول: لو أنه ذهب لفعلت. وقال عز وجل: "
لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربيّ ". وإن شئت جعلت شدَّما وعزَّما كنعم
ما، كأنك قلت: نعم العمل أنك تقول الحقَّ.
وسألته عن قوله: كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الَّله عنه، وهذا حقُّ كما
أنّك ها هنا، فزعم أن العاملة في أنَّ الكاف وما لغو، إلا أن ما لا
تحذف من ها هنا كراهية أن يجيء لفظها مثل لفظ كأنَّ، كما ألزموا النون
لأفعلنَّ، واللام قولهم إن كان ليفعل، كراهية أن يلتبس اللفظان.
ويدلّلك على أن الكاف هي العاملة قولهم: هذا حقُّ مثل ما أنّك ها هنا.
وبعض العرب يرفع فيما حدَّثنا يونس، وزعم أنه يقول أيضاً: " إنَّه
لحقُّ مثل ما أنَّكم تنطقون "، فلولا أنَّ ما لغوٌ لم يرتفع مثل، وإن
نصبت مثل فما أيضاً لغوٌ، لأنَّك تقول: مثل أنك ها هنا. وإن جاءت ما
مسقطةً من الكاف في الشعر جاز، كما قال النابغة الجعدي:
(3/140)
قرومٍ تَسامَى عند بابٍ دفِاعُهُ ... كَأنْ
يُؤْخّذُ المرء الكريم فيقتلا
فما لا تحذف ها هنا كما لا تحذف في الكلام من أنَّ، ولكنه جاز في
الشعر، كما حذفت ماالتي في إما كقوله:
وإن من خريف فلن يعدما
(3/141)
هذا بابٌ من أبواب إنَّ
تقول: قال عمرو إن زيداًُ خيرٌ منك، وذلك لأنك أردت أن تحكي قوله، ولا
يجوز أن تعمل قال في إنَّ كما لا يجوز لك أن تعملها في زيد وأشباهه إذا
قلت: قال زيدٌ عمروٌ خير الناس، فأنَّ لا تعمل فيها قال كما لا تعمل
قال فيما تعمل فيه أنَّ؛ لأن أنَّ تجعل الكلام شأنا، وأنت لا تقول قال
الشأن متفاقماً، كما تقول: زعم الشأن متفاقماً. فهذه الأشياء بعد قال
حكايةٌ.
ومثل ذلك: " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " وقال
أيضا: " قال الَّله إني منزَّلها عليكم ". وكذلك جميع ما جاء من ذا في
القرآن.
وسألت يونس عن قوله: متى تقول أنه منطلقٌ؟ فقال: إذا لم ترد الحكاية
وجعلت تقول مثل تظنُّ، قلت: متى تقول أنَّك ذاهبٌ. وإن أردت الحكاية
قلت: متى تقول إنك ذاهبٌ. كما أنَّه يجوز لك أن تحكي فتقول: متى تقول
زيدٌ منطلقٌ، وتقول: قال عمروٌ إنه منطلقٌ. فإن جعلت الهاء عمراً أو
غيره فلا تعمل قال، كما لا تعمل إذا قلت قال عمروٌ هو منطلقٌ. فقال: لم
تعمل ها هنا شيئاً وإن كانت الهاء هي القائل،
(3/142)
كما لا تعمل شيئاً إذا قلت قال وأظهرت هو.
فقال لا تغّيَّر الكلام عن حاله قبل أن تكون فيه قال، فيما ذكرناه.
وكان عيسى يقرأ هذا الحرف: " فدعا ربَّه أني مغلوبٌ فانتصر أراد أن
يحكي، كما قال عز وجل: " والذَّين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم "
كأنه قال والَّله أعلم: قالوا ما نعبدهم. ويزعمون أنَّها في قراءة ابن
مسعود كذا. ومثل ذلك كثيرٌ في القرآن.
وتقول: أول ما أقول أني أحمد الَّله، كأنك قلت: أول ما أقول الحمد
لَّله، وأنَّ في موضعه. وإن أردت الحكاية قلت: أول ما أقول إني أحمد
الله.
هذا بابٌ آخر من أبواب إن
وذلك قولك: قد قاله القوم حتى إنَّ زيدا يقوله، وانطلق القوم حتى إن
زيداً لمنطلق. فحتَّى ها هنا معلَّقة لا تعمل شيئاً في إنَّّ، كما لا
تعمل إذا قلت: حتى زيدٌ ذاهبٌ، فهذا موضع ابتداء وحتَّى بمنزلة إذا.
ولو أردت أن تقول حتّى أن تقول حتى أن في ذا الموضع كنت محيلا، لأنَّ
أنَّ وصلتها بمنزلة
(3/143)
الانطلاق، ولو قلت: انطلق القوم حتى
الانطلاق أو حتى الخبر كان محالا لأنَّ أنَّ تصيَّر الكلام خبراً، فلما
لم يجز ذا حمل على الابتداء.
وكذلك إذا قلت: مررت فإذا إنه يقول أنَّ زيدا خير منك.
وسمعت رجلا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به:
وكنتُ أَرْىَ زيداً كما قيل سَيْدّاً ... إذا إنّه عبدُ القَفَا
والَّلهازم
فحال إذا هاهنا كما لهل إذا قلت: إذا هو عبد القفا واللازم وإنما جاءت
إن ها هنا لأنَّك هذا المعنى أردت، كما أردت في حتَّى معنى حتى هو
منطلقٌ.
ولو قلت: مررت فإذا أنه عبدٌ، تريد مررت به فإذا أمره العبوديّة
واللؤم، كأنَّك قلت: مررت فإذا العبودية واللؤم، ثم وضعت أنَّ في هذا
الموضع جاز.
وتقول: قد عرفت أمورك حتَّى أنك أحمق، كأنك قلت عرفت أمورك حتى حمقك،
ثم وضعت أنَّ في هذا الموضع. هذا قول الخليل.
(3/144)
وسألته هل يجوز: كما أنك ههنا على حد قوله:
كما أنت هاهنا، فقال: لا؛ لأن إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع، ألا ترى
أنك لا تقول: يوم الجمعة إنك ذاهبٌ، ولا كيف إنك صانعٌ. فكما بتلك
المنزلة.
هذا بابٌ آخر من أبواب إنِّ
تقول: ما قدم علينا أميرٌ إِّلا إنه مكرمٌ لي؛ لأنَّه ليس ههنا شيءٌ
يعمل في إنَّ. ولا يجوز أن تكون عليه أنَّ، وإنَّما تريد أن تقول: ما
قدم علينا أميرٌ إَّلا هو مكرمٌ لي، فكما لا تعمل في ذا لا تعمل في
إنّ.
ودخول اللام ههنا يدلّك على أنه موضع ابتداء. وقال سبحانه: " وما
أرسلنا قبلك من المرسلين إَّلا إنَّهم ليأكلون الطَّعام ". ومثل ذلك
قول كثير:
ما أعْطَياني ولا سأَلتُهما ... إلاّ وإنِّي لَحاجزِيِ كَرَمِي
(3/145)
وكذلك لو قال: إَّلا وإنِّي حاجزي كرمي.
وتقول: ما غضبت عليك إلا أنك فاسقٌ، كأنك قلت: إلا لأنَّك فاسقٌ.
وأما قوله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إَّلا أنهم كفروا
بالله "، فإنما حمله على منعهم.
وتقول إذا أردت معنى اليمين: أعطيته ما إنَّ شرَّه خيرٌ من جيِّد ما
معك، وهؤلاء الذين إَّن أجنبهم لأشجع من شجعائكم. وقال الله عز وجل: "
وآتيناه من الكنوز ما إَّن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوَّة؛ فإن
صلةٌ لما، كأنك قلت: ما والله إن شرَّه خير من جيد ما معك.
هذا باب آخر من أبواب إَّن
تقول: أشهد إنه لمنطلقٌ، فأشهد بمنزلة قوله: والله إنه لذاهب. وإَّن
غير عاملة فيها أشهد، لأن هذه اللام لا تلحق أبداً إلا في الابتداء.
ألا ترى أنك تقول: أشهد لعبد الله خيرٌ من زيد، كأنك قلت: والله لعبد
الله خيرٌ من زيد، فصارت إنَّ مبتدأة حين ذكرت اللام هنا، كما كان عبد
الله مبتدأ حين أدخلت فيه اللام. فإذا ذكرت اللام ههنا لم تكن إلا
مكسورةً، كما أن
(3/146)
عبد الله لا يجوز هنا إَّلا مبتدأ. ولو جاز
أن تقول: أشهد أنك لذاهبٌ، لقلت أشهد بلذاك. فهذه اللام لا تكون إلاَّ
في الابتداء، وتكون أشهد بمنزلة والله.
ونظير ذلك قول الله عز وجلَّ: " والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون "
وقال عز وجلَّ: " فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن
الصَّادقين "؛ لأن هذا توكيدُ كأنه قال: يحلف بالله إنه لمن الصادقين.
.وقال الخليل: أشهد بأنك لذاهبُ غير جائز، من قبل أنَّ حروف الجر لا
تعَّلق. وقال: أقول أشهد إنه لذاهبٌ وإنه لمنطلقٌ، أتبع آخره أوله. وإن
قلت: أشهد أنه ذاهبُ، وإنه لمنطلقُ،. لم يجز إلاَّ الكسر في الثاني،
لأن اللام لا تدخل أبداً على أنَّ، وأن محمولةُ على ما قبلها ولا تكون
إلا مبتدأة باللام.
ومن ذلك أيضاً قولك: قد علمت إنه لخيرٌ منك. فإنَّ ههنا مبتدأةُ وعلمت
ههنا بمنزلتها في قولك: لقد علمت أيهم أفضل، معلقةَّ في الموضعين
جميعا.
(3/147)
وهذه اللام تصرف إنَّ إلى لابتداء، كما
تصرف عبد الله إلى الابتداء إذا قلت قد علمت لعبد الله خيرُ منك، فعبد
الله هنا بمنزلة إنَّ في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنه لخيرُ منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك،
ورأيت لعبد الله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أنَّ ولا عبد الله
إلاَّ وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عز وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلاقٍ "، فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إنَّ مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: " ولقد علمت الجنةَّ
إنَّهم لمحضرون " وقال أيضاً: " هل ندلكم على رجلٍ ينبئِّكم إذا مزقتم
كلَّ ممزَّقٍ إنَّكم لفي خلق جديد "، فإنكم ههنا بمنزلة أيهم إذا قلت:
ينبئهم أيهم أفضل.
وقال الخليل مثله: إنَّ الله يعلم ما تدعون من دونه من شيءٍ فما ههنا
بمنزلة أيهم، ويعلم معلقة.
(3/148)
قال الشاعر:
ألم تر إنّيِ وابنَ أَسْوَدَ ليلةً ... لَنَسْرِي إلى نارينِ يَعلْو
سَناهُمَا
سمعناه ممن ينشده من العرب.
وسألت الخليل عن قوله: أحقاً إنَّك لذاهبٌ، فقال: لا يجوز، كما لا
يجوز: يوم الجمعة إنه لذاهبٌ.
وزعم الخليل ويونس أنه لا تلحق هذه اللام مع كل فعل. ألا ترى أنك لا
تقول: وعدتك إنك لخارجٌ، إنما يجوز هذا في العلم والظن ونحوه، كما
يبتدأ بعدهن أيهم. فإن لم تذكر اللام قلت: قد علمت أنه منطلقٌ، لا
تبتدئه وتحمله على الفعل، لأنه لم يجيء ما يضطرك إلى الابتداء، وإنما
ابتدأت إنَّ حين كان غير جائز أن تحمله على الفعل، فإذا حسن أن تحمله
على الفعل لم تخطَّ الفعل إلى غيره.
ونظير ذلك قوله: إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌّ، حملته على الفعل حين
لم يجز أن تبتدىء بعد إن الأسماء، وكما قال: أما أنت منطلقاً
(3/149)
انطلقت معك، حين لم يجز إن تبتدىء الكلام
بعد أمَّا، فاضطررت في هذا الموضع إلى أن تحمل الكلام على الفعل. فإذا
قلت: إن زيداً منطلقٌ لم يكن في إنَّ إلا الكسر لأنَّك لم تضطر إلى
شيء. ولذلك تقول: أشهد أنك ذاهبٌ، إذا لم تذكر اللام. وهذا نظير هذا.
وهذه كلمةٌ تكلم بها العرب في حال اليمين، وليس كلُّ العرب تتكلم بها،
تقول: لهنَّك لرجل صدق، فهي إنَّ ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف
كقوله: هرقت، ولحقت هذه اللام إنَّ كما لحقت ما حين قلت: إن زيدا لما
لينطلقنَّ، فلحقت إنَّ اللام في اليمين كما لحقت ما فاللام الأولى في
لهنك لام اليمين، والثانية لام إنَّ. وفي لما لينطلقنَّ اللام الأولى
لإن، والثانية لليمين. والدليل على ذلك النون التي معها كما أنَّ اللام
الثانية في قولك: إن زيدا لما ليفعلنَّ لام اليمن، وقد يجوز في الشعر:
أشهد إن زيدا ذاهبٌ، يشبهها بقوله: واّلله إنه ذاهبٌ؛ لأن معناها معنى
اليمين، كما أنه
(3/150)
لو قال: أشهد أنت ذاهبٌ ولم يذكر اللام
إلاَّ ابتداء، وهو قبيح ضعيف إلا باللام.
ومثل ذلك في الضعف: علمت إنَّ زيدا ذاهبٌ، كما أنَّه ضعيف: قد علمت
عمروٌ خيرٌ منك، ولكنَّه على إرادة اللام، كما قال عز وجل: " قد أفلح
من زكَّاها "، وهو على اليمين. وكان في هذا حسناً حين طال الكلام.
وسألت الخليل عن كأنَّ، فزعم أنهَّا إنَّ، لحقتها الكاف للتشبيه،
ولكنهَّا صارت مع إنَّ بمنزلة كلمة واحدة، وهي نحو كأيٍّ رجلاً، ونحو
له كذا وكذا درهماً.
وأما قول العرب في الجواب إنَّه، فهو بمنزلة أجل. وإذا وصلت قلت إنَّ
يا فتى، وهي التي بمنزلة أجل.
قال الشاعر:
بكر العواذل في الصَّبو ... ح يلمنني وألومهنهَّ
ويلقن شيبٌ قد علا ... ك وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّه
؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هذا باب أن وإن
فإن مفتوحةً تكون على وجوه:
(3/151)
فأحدها أن تكون فيه أن وما تعمل فيه من
الأفعال بمنزلة مصادرها، والآخر: أن تكون فيه بمنزلة أي. ووجهٌ آخر
تكون فيه لغواً. ووجهٌ آخر هي فيه مخففةَ من الثقيلة. فأما الوجه الذي
تكون فيه لغواً فنحو قولك: لمَّا أن جاءوا ذهبت، وأما والله أن لو فعلت
لأكرمتك.
وأما إن فتكون للمجازاة، وتكون أن يبتدأ ما بعدها في معنى اليمين، وفي
اليمين، كما قال الله عز وجل: " إن كل نفسٍ لما عليها حافظٌ " " وإن كل
لما جميع لدينا محضرون ".
وحدثني من لا أتهم، عن رجل من أهل المدينة موثوق به، أنه سمع عربياً
يتكلم بمثل قولك: إن زيدٌ لذاهبٌ، وهي التي في قوله جل ذكره: " وإن
كانوا ليقولون. لو أنَّ عندنا ذكرا من الأوَّلين " وهذه إنَّ محذوفةٌ.
وتكون في معنى ما. قال الله عز وجل: " إن الكافرون إلاَّ في غرورٍ "،
أي: ما الكافرون إلا في غرور.
(3/152)
وتصرف الكلام إلى الابتداء، كما صرفتها ما
إلى الابتداء في قولك: إنمَّا، وذلك قولك: ما إن زيدٌ ذاهبٌ. وقال فروة
بن مسيك:
وما إنْ طِبُّنا جبنٌ ولكنْ ... منَايانا ودَوْلةٌ آخريِنَا
هذا بابٌ من أبواب أن
التي تكون والفعل بمنزلة مصدر
تقول: أن تأتيني خيرٌ لك، كأنك قلت: الإتيان خيرٌ لك. ومثل ذلك قوله
تبارك وتعالى: " وأن تصوموا خيرٌ لكم "، يعني الصوم خيرٌ لكم.
وقال الشاعر، عبد الرحمن بن حسان:
إنّي رأيتُ من المكارمِ حَسْبَكم ... أنْ تَلْبَسوا حرَّ الثياب
وتشبعوا
(3/153)
كأنه قال: رأيت حسبكم لبس الثياب.
واعلم أن اللام ونحوها من حروف الجر قد تحذف من أن كما حذفت من أنَّ،
جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: فعلت ذاك حذر الشرِّ، أي لحذر الشر.
ويكون مجروراً على التفسير الآخر.
ومثل ذلك قولك: إنما انقطع إليك أن تكرمه، أي: لأن تكرمه.
ومثل ذلك قولك: لا تفعل كذا وكذا أن يصيبك أمر تكرهه، كأنه قال: لأن
يصيبك أو من أجل أن يصيبك. وقال عز وجل: " أن تضلَّ إحداهما "، وقال
تعالى: " أأن كان ذا مالٍ وبنين " كأنه قال: ألأن كان ذا مال وبنين.
وقال الأعشى:
أأنْ رأت رجلا أَعْشَى أضربَّه ... ريبُ المنونِ ودهرٌ مفسدٌ خَبِلُ
فأن هاهنا حالها في حذف حرف الجر كحال أنَّ، وتفسيرها كتفسيرها، وهي مع
صلتها بمنزلة المصدر.
(3/154)
ومن ذلك أيضاً قوله: ائتني بعد أن يقع
الأمر، وأتاني بعد أن وقع الأمر، كأنَّه قال: بعد وقوع الأمر.
ومن ذلك قوله: أما أن أسير إلى الشأم فما أكرهه، وأمّا أن أقيم فإن فيه
أجراً، كأنه قال: أما السيرورة فما أكرهها، وأما الإقامة فلي فيها
أجرٌ.
وتقول: لا يلبث أن يأتيك، أي لا يلبث عن إتيانك. وقال تعالى: " فما كان
جواب قومه إلاَّ أن قالوا "، فأن محمولة على كان، كأنَّه قال: فما كان
جواب قومه إلا قول كذا وكذا. وإن شئت رفعت الجواب فكانت أن منصوبةً.
وتقول: ما منعك أن تأتينا، أراد من إتياننا. فهذا على حذف حرف الجر.
وفيه ما يجيء محمولاً على ما يرفع وينصب من الأفعال، تقول: قد خفت أن
تفعل، وسمعت عربياً يقول: أنعم أن تشدَّه، أي بالغ في أن يكون ذلك هذا
المعنى، وأن محمولة على أنعم. وقال جل ذكره: " بئسما اشتروا به أنفسهم
"، ثم قال: أن يكفروا على التفسير، كأنه قيل له ما هو؟ فقال: هو أن
يكفروا.
(3/155)
وتقول: إني مما أن أفعل ذاك، كأنه قال: إني
من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك، فوقعت ما هذا الموقع، كما تقول
العرب: بئسما له، يريدون بئس الشيء ماله.
وتقول: ائتني بعد ما تقول ذاك القول، كأنك قلت: ائتني بعد قولك ذاك
القول، كما أنك إذا قلت بعد أن تقول فإنما تريد ذاك، ولو كانت بعد مع
ما بمنزلة كلمةٍ واحدة لم تقل: ائتني من بعد ما تقول ذاك القول، ولكانت
الدال على حالٍ واحدة.
وإن شئت قلت: إني مما أفعل، فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة نحو
ربمَّا. قال أبو حيّة النميّري:
وإنّا لممَّا نَضربُ الكَبْشَ ضَربةً ... على رأسه تُلقِي اللسانَ من
الفَمِ
وتقول إذا أضفت إلى الأسماء: إنه أهل أن يفعل، ومخافة أن يفعل، وإن شئت
قلت: إنه أهلٌ أن يفعل، ومخافةً أن يفعل، كأنك قلت: إنه أهلٌ لأن يفعل،
ومخافةً لأن يفعل. وهذه الإضافة كإضافتهم بعض الأشياء إلى أن. قال:
(3/156)
تَظَلُّ الشمسُ كاسِفةً عليه ... كآبةَ
أنّها فَقَدتْ عَقيلا
وتقول: أنت أهلٌ أن تفعل، أهلٌ عاملة في أن، كأنك قلت: أنت مستحقٌ أن
تفعل. وسمعنا فصحاء العرب يقولون: لحق أنه ذاهبٌ، فيضيفون، كأنه قال:
ليقين أنه ذاهبٌ، أي ليقين ذاك أمرك. وليست في كلام كل العرب.
وتقول: إنه خليقٌ لأن يفعل، وإنه خليقٌ أن يفعل، على الحذف.
وتقول: عسيت أن تفعل، فأن هاهنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل، أي:
قاربت ذاك، وبمنزلة: دنوت أن تفعل.
واخلو لقت السماء أن تمطر، أي: لأن تمطر. وعسيت بمنزلة اخلولقت السماء.
(3/157)
ولا يستعملون المصدر هنا كما لم يستعملوا
الاسم الذي الفعل في موضعه كقولك: اذهب بذي تسلم، ولا يقولون: عسيت
الفعل، ولا عسيت للفعل.
وتقول: عسى أن يفعل، وعسى أن يفعلوا، وعسى أن يفعلا وعسى محمولة عليها
أن، كما تقول: دنا أن يفعلوا، وكما قالوا: اخلولقت السماء أن تمطر،
وكلَّ ذلك تكلَّم به عامة العرب.
وكينونة عسى للواحد والجميع والمؤنثَّ تدلك على ذلك. ومن العرب من
يقول: عسى وعسيا وعسوا، وعست وعستا وعسين. فمن قال ذلك كانت أن فيهن
بمنزلتها في أنَّها منصوبة.
واعلم أنَّهم لم يستعملوا عسى فعلك، استغنوا بأن تفعل عن ذلك، كما
استغنى أكثر العرب بعسى عن أن يقولوا: عسيا وعسوا، وبلو أنه ذاهبٌ عن
لو ذهابه. ومع هذا أنَّهم لم يستعملوا المصدر في هذا الباب، كما لم
يستعملوا الاسم الذي في موضعه يفعل في عسى وكاد، فترك هذا لأنَّ من
كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء.
واعلم أن من العرب من يقول: عسى يفعل، يشبهها بكاد يفعل، فيفعل حينئذ
في موضع الاسم المنصوب في قوله: عسى الغوير أبؤساً. فهذا مثل من أمثال
العرب أجروا فيه عسى محرى كان. قال هدبة:
(3/158)
عَسَى الكَرْبُ الذي أمسيَتُ فيه ...
يكَونُ وراءه فرجٌ قريب
وقال:
عسى اّلله يغنى بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرَّباب سكوب
وقال:
فأمّا كيَّسٌ فنَجا ولكنْ ... عَسَى يَغْتَرُّ بي حمقٌ لَئيمُ
وأما كاد فإنَّهم لا يذكرون فيها أن، وكذلك كرب يفعل، ومعناهما واحد.
يقولون: كرب يفعل، وكاد يفعل ولا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال
لما ذكرت لك في الكراسة التي تليها.
(3/159)
ومثله: جعل يقول، لا تذكر الاسم ههنا.
ومثله أخذ يقول، فالفعل ههنا بمنزلة الفعل في كان إذا قلت: كان يقول،
وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثمَّ، وهو ثمَّ خبرٌ كما أنه ههنا خبر،
إلاَّ أنَّك لا تستعمل الاسم، فأخلصوا هذه الحروف للأفعال كما خلصت
حروف الاستفهام للأفعال نحو: هلاَّ وألاَّ.
وقد جاء في الشعر كاد أن يفعل، شبهوه بعسى. قال رؤبة:
قد كادَ مِن طُولِ البِلىَ أنْ يَمْصَحَا
والمحص مثله.
وقد يجوز في الشعر أيضاً لعلِّى أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل.
وتقول: يوشك أن تجيء، وأن محمولة على يوشك. وتقول: توشك أن تجيء، فأن
في موضع نصب، كأنك قلت: قاربت أن تفعل.
وقد يجوز يوشك يجيء، بمنزلة عسى يجيء، وقال أمية بن أبي الصَّلت:
(3/160)
يوشِكُ مَن فرَّ من مَنيّتِه ... في بعض
غِرّاتِه يُوافِقُهَا
وهذه الحروف التي هي لتقريب الأمور شبيهةٌ بعضها ببعض، ولها نحوٌ ليس
لغيرها من الأفعال.
وسألته عن معنى قوله: أريد لأن أفعل، إنَّما يريد أن يقول إرادتي لهذا،
كما قال عزَّ وجلَّ: " وأمرت لأن أكون أوَّل المسلمين " إنما هو أمرت
لهذا.
وسألت الخليل عن قول الفرزدق:
أَتَغَضبُ إنْ أُذْنَا قُتَيْبَة حزَّتا ... جِهاراً ولم تَغْضَبِ
لقَتْلِ ابن خازِمِ
فقال: لأنه قبيح أن تفصل بين أن والفعل، كما قبح أن تفصل بين كي
(3/161)
والفعل، فلما قبح ذلك ولم يجز حمل على إن،
لأنَّه قد تقدم فيها الأسماء قبل الأفعال.
باب ما تكون فيه أن بمنزلة أي
وذلك قوله عز وجل: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا " زعم الخليل
أنه بمنزلة أي، لأنك إذا قلت: انطلق بنو فلان أن امشوا، فأنت لا تريد
أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي، ومثل ذلك: ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به
أن اعبدوا الله. وهذا تفسير الخليل. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما قوله: كتبت إليه أن افعل، وأمرته أن قم، فيكون على وجهين: على أن
تكون أن التي تنصب الأفعال ووصلتها بحرف الأمر والنهي، كما تصل الذي
بتفعل إذا خاطبت حين تقول أنت الذي تفعل، فوصلت أن بقم لأنه في موضع
أمر كما وصلت الذي بتقول وأشباهها إذا خاطبت.
والدليل على أنها تكون أن التي تنصب، أنَّك تدخل الباء فتقول: أوعزت
إليه بأن افعل، فلو كانت أي لم تدخلها الباء كما تدخلها الباء كما تدخل
في الأسماء.
والوجه الآخر: أن تكون بمنزلة أي، كما كانت بمنزلة أي في الأول.
(3/162)
وأما قوله عزَّ وجلَّ: " وآخر دعواهم أن
الحمد لله رب العالمين "، وآخر قولهم أن لا إله إلا الله، فعلى قوله
أنه الحمد لله، ولا إله إلا الله. ولا تكون أن التي تنصب الفعل؛ لأن
تلك لا يبتدأ بعدها الأسماء. ولا تكون أي، لأن أي إنما تجيء بعد كلام
مستغنٍ ولا تكون في موضع المبنيِّ على المبتدإ.
ومثل ذلك: وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدَّقت الرؤيا كأنه قال جل وعز:
ناديناه أنَّك قد صدقت الرؤيا يا إبراهيم.
وقال الخليل: تكون أيضاً على أي. وإذا قلت: أرسل إليه أن ما أنت وذا؟
فهي على أي، وإن أدخلت الباء على أنَّك وأنَّه، فكأنه يقول: أرسل إليه
بأنَّك ما أنت وذا، جاز ويدلك على ذلك: أنَّ العرب قد تكلم به في ذا
الموضع مثقلاً.
ومن قال: والخامسة أن غضب الله عليها، فكأنه قال: أنَّه غضب الله
عليها، لا تخِّففها في الكلام أبداً وبعدها الأسماء إلاَّ وأنت تريد
(3/163)
الثقيلة مضمراً فيها الاسم، فلو لم يريدوا
ذلك لنصبوا كما ينصبون في الشعِّر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا، يريدون
معنى كأنَّ، ولم يريدوا الإضمار، وذلك قوله:
كأنْ وَريدَيْه رِشاءُ خُلْبِ
وهذه الكاف إنَّما هي مضافة إلى أن، فلمَّا اضطررت إلى التخفيف فلم
تضمر لم يغيِّر ذلك أن تنصب بها، كما أنَّك قد تحذف من الفعل فلا يتغير
عن عمله، ومثل ذلك قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كلُّ مَن يَحْفَى
ويَنْتَعِلُ
كأنه قال: أنَّه هالك: ٌ
(3/164)
ومثل ذلك: أول ما أقول أن بسم الله، كأنه قال: أول ما أقول أنَّه بسم
الله. وإن شئت رفعت في قول الشاعر:
كأَنْ وَريداه رِشاءُ خُلْبِ
على مثل الإضمار الذي في قوله: إنَّه من يأتها تعطه، أو يكون هذا
المضمر هو الذي ذكر، كما قال:
كأنْ ظبيةٌ تَعُطو إلى وارِقِ السَّلم
ولو أنَّهم إذ حذفوا جعلوه بمنزلة إنما كما جعلوا إن بمنزلة لكن لكان
وجهاً قوياً.
وأما قوله: أن بسم الله، فإنما يكون على الإضمار، لأنك لم تذكر مبتدأ
أو مبنياً عليه. والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار الهاء، أنك
تستقبح: قد عرفت أن يقول ذاك، حتى تقول أن لا، أو تدخل سوف أو السين أو
قد. ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعاً بعدها كما
تذكره بعد هذه الحروف، كما تقول: إنما تقول ولكن تقول |