الكتاب لسيبويه

باب حروف الإضافة إلى المحلوف به وسقوطها
وللقسم والمقسم به أدواتٌ في حروف الجر، وأكثرها الواو، ثمَّ الباء، يدخلان على كلِّ محلوف به. ثمَّ التاء، ولا تدخل إلا في واحد وذلك قولك: والله لأفعلن: وبالله لأفعلنّ، وتالله لأكيدنَّ أصنامكم.

(3/496)


وقال الخليل: إنّما تجيْ بهذه الحروف؛ لأنَّك تضيف حلفك إلى المحلوف به كما تضيف مررت به بالباء، إلا أنَّ الفعل يجيء مضمراً في هذا الباب، والحلف توكيد.
وقد تقول: تالله! وفيها معنى التعجب.
وبعض العرب يقول في هذا المعنى: لله، فيجيء باللام، ولا تجيء إلا أن يكون فيها، معنى التعجب. قال أمية بن أبي عائذٍ:
لِله يَبْقَى على الأيام ذو حيدٍ ... بمشمخرٍّ به الظَّيان والآسُ
واعلم أنك إذا حذفت من المحلوف به حرف الجر نصبته، كما تنصب حقا إذا قلت: إنك ذاهب حقّاً. فاالمحلوف به مؤكَّد به الحديث كما تؤكَّده بالحقِّ، ويجرُّ بحروف الإضافة كما يجر حقٌّ إذا قلت: إنك ذاهبٌ بحقٍّ، وذلك قولك: الله لأفعلنَّ. وقال ذو الرمة:

(3/497)


ألا ربَّ مَنْ قَلْبِي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن قَلْبُه لي في الظِّباء السوانحِ
وقال الآخر:
إذَا ما الخُبْزُ تأْدِمُه بلحمٍ ... فذَاكَ أَمانةَ اللهِ الثَّريد
فأمَّا تالله فلا تحذف منه التاء إذا أردت معنى التعجب. ولله مثلها إذا تعجبت ليس إلا.
ومن العرب من يقول: الله لأفعلنَّ، وذلك أنه أراد حرف الجر، وإياه نوى، فجاز حيث كثر في كلامهم، وحذفوه تخفيفا وهم ينوونه، كما حذف ربَّ في قوله:
وجدَّاء ما يُرْجَى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يخشى السُّماة رَبيبُها
إنَّما يريدون: ربَّ جدَّاء، وحذفوا الواو كما حذفوا اللامين، من قولهم: لاه أبوك، حذفوا لام الإضافة واللام الأخرى، ليخففِّوا الحرف على اللسان، وذلك ينوون.
وقال بعضهم: لهى أبوك، فقلب العين وجعل اللام ساكنة، إذ صارت مكان العين كما كانت العين ساكنة، وتركوا آخر الاسم مفتوحا كما تركوا آخر أين مفتوحا. وإنَّما فعلوا ذلك به حيث غيَّروه لكثرته في كلامهم فغيَّروا إعرابه كما غيَّروه.

(3/498)


واعلم أنَّ من العرب من يقول: من ربيِّ لأفعلنَّ ذلك، ومن ربيِّ إنَّك لأشرٌ، يجعلها في هذا الموضع بمنزلة الواو والباء، في قوله: والله لأفعلنَّ. ولا يدخلونها في غير ربيِّ، كما لا يدخلون التاء في غير الله، ولكن الواو لازمةٌ لكل اسم يقسم به والباء. وقد يقول بعض العرب: لله لأفعلنَّ، كما تقول: تالله لأفعلنَّ. ولا تدخل الضمة في من إلا ههنا، كما لا تدخل الفتحة في لدن إلا مع غدوةٍ حين تقول: لدن غدوةً إلى العشي.

باب ما يكون ما قبل المحلوف به عوضا
من اللفظ بالواو وذلك قولك: إي هاالله ذا، نثبت ألف لأنَّ الذي بعدها مدغم. ومن العرب من يقول: إي هلله ذا، فيحذف الألف التي بعد الهاء. ولا يكون في المقسم ههنا إلا الجر؛ لأنَّ قولهم: ها صار عوضاً من اللفظ بالواو، فحذفت تخفيفا على اللسان. ألا ترى أنَّ الواو لا تظهر ههنا كما تظهر في قولك: والله، فتركهم الواو ههنا البتَّة يدلُّك على أنها ذهبت من هنا تخفيفاً على اللسان، وعوضت منها ها. ولو كانت تذهب من هنا كما كانت تذهب من قولهم: الله لأفعلنَّ، إذن لأدخلت الواو.
وأمَّا قولهم: ذا، فزعم الخليل أنه المحلوف عليه، كأنه قال: إي والله للأمر هذا، فحذف الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم؛ وقدم ها، كما قدَّم

(3/499)


ها في قولهم ها هوذا: وها أناذا. وهذا قول الخليل، وقال زهير:
تعلَّمن ها لعمر الله ذا قسما ... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك
ومثل قولهم: آلله لأفعلن، صارت الألف ههنا بمنزلة ها ثم. ألا ترى أنك لا تقول: أو الله، كما لا تقول: ها والله، فصارت الألف ههنا وهما يعاقبان الواو، ولا يثبتان جميعا.
وقد تعاقب ألف اللام حرف القسم كما عاقبته ألف الاستفهام وها، فتظهر في ذلك الموضع الذي يسقط في جميع ما هو مثله للمعاقبة، وذلك قوم: أفألله لتفعلنَّ. ألا ترى أنك إن قلت: أفو الله، لم تثبت.
وتقول: نعم الله لأفعلن، وإي الله لأفعلن، لأنهما ليسا ببدل.

(3/500)


ألا ترى أنك تقول: إي والله ونعم والله. وقال الخليل في قوله عز وجلَّ: " والليل إذا يغشى. والنَّهار إذا تجلى. وما خلق الذَّكر والأنثى ": الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيدٍ وعمروٍ، والأولى بمنزلة الباء والتاء. ألا ترى أنَّك تقول: والله لأفعلنَّ ووالله لأفعلن، فتدخل واو العطف عليها كما تدخلها على الباء والتاء.
قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنَّما أقسم بهذه الأشياء على شيء واحد، ولوكان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر فيكون، كقولك: بالله لأفعلن، بالله لأخرجنّ اليوم، ولا ييقوى أن تقول: وحقِّك وحقِّ زيد لأفعلن، والواو الآخرة واو قسمٍ، لا يجوز إلا مستكرها، لأنَّه لا يجوز هذا في محلوفٍ عليه إلا أن تضم الآخر إلى الأول وتحلف بهما على المحلوف عليه.
وتقول: وحياتي ثمَّ حياتك لأفعلن، فثمَّ ههنا بمنزلة الواو. وتقول: والله ثم الله لأفعلنّ، وبالله ذم الله لأفعلن، وتالله ثمَّ الله لأفعلنَّ. وإن قلت: والله لآتينك ثم الله لأضربنك، فإن شئت قطعت فنصبت، كأنَّك قلت: بالله لآتينك، والله لأضربنَّك، فجعلت هذه الواو بمنزلة الواو التي في قولك: مررت بزيد وعمرو خارج، وإذا لم تقطع وجررت فقلت:

(3/501)


والله لآتينك، ثم والله لأضربنك، صارت بمنزلة قولك: مررت بزيد ثم بعمروٍ.
وإذا قلت: والله لآتينك ثم لأضربنك الله فأخرته، لم يكن إلا النصب؛ لأنه ضم الفعل إلى الفعل، ثم جاء بالقسم له على حدته ولم يحمله على الأول.
وإذا قلت: والله لآتينك ثم الله، فإنَّما أحد الاسمين مضموم إلى الآخر وإن كان قد أخر أحدهما، ولا يجوز في هذا إلا الجر؛ لأنَّ الآخر معلَّق بالأول؛ لأنه ليس بعده محلوف عليه.
ويدلك على أنه إذا قال: والله لأضربنك ثم لأقتلنك الله، فإنه لا ينبغي فيها إلا النصب: أنه لو قال: مررت بزيدٍ أول من أمس وأمس عمروٍ كان قبيحاً خبيثا؛ لأنه فصل بين المجرور والحرف الذي يشركه وهو الواو في الجار، كما أنَّه لو فصل بين الجار والمجرور كان قبيحاً، فكذلك الحروف التي تدخله في الجار، لأنه صار كأنَّ بعده حرف جر، فكأنك قلت: وبكذا.
ولو قال: وحقِّك وحقِّ زيد على وجه النِّسيان والغلط جاز. ولو قال: وحقِّك وحقِّ، على التوكيد جاز، وكانت الواو واو الجر.

باب ما عمل بعضه في بعض
وفيه معنى القسم وذلك قولك: لعمر الله لأفعلنَّ، وأيم الله لأفعلن. وبعض العرب يقول: أيمن الكعبة لأفعلنَّ، كأنه قال: لعمر الله المقسم به، وكذلك

(3/502)


أيم الله وأيمن الله، إلا أن ذا أكثر في كلامهم، فحذفوه كما حذفوا غيره، وهو أكثر من أن أصفه لك.
ومثل أيم الله وأيمن: لاها الله ذا، إذا حذفوا ما هذا مبنيٌ عليه. فهذه الأشياء فيها معنى القسم، ومعناها كمعنى الاسم المجرور بالواو، وتصديق هذا قول العرب: عليَّ عهد الله لأفعلن. فعهد مرتفعة وعليَّ مستقر لها. وفيها معنى اليمين.
وزعم يونس أنَّ ألف أيم موصولة. وكذلك تفعل بها العرب، وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرَّجل، وكذلك أيمن. قال الشاعر:
فقال فريقُ القوم لمَّا نشدتهم ... نعم وفريق ليمن الله ما نَدْرِي
سمعناه هكذا من العرب. وسمعنا فصحاء العرب يقولون في بيت امرىء القيس:

(3/503)


فقلتُ يَمينُ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولو قَطَعوا رأسي لَدَيْكِ وأَوْصاليِ
جعلوه بمنزلة أيمن الكعبة وأيم الله، وفيه المعنى الذي فيه. وكذلك أمانة الله.
ومثل ذلك يعلم الله لأفعلن، وعلم الله لأفعلن؛ فإعرابه كإعراب يذهب زيدٌ، وذهب زيدٌ، والمعنى: والله لأفعلن، وذا بمنزلة يرحمك الله وفيه معنى الدعاء، وبمنزلة اتقى الله امرؤٌ وعمل خيراً، إعرابه إعراب فعل، ومعناه ليفعل وليعمل.

باب ما يذهب التنوين فيه
من الأسماء لغير الإضافة ولا دخول الألف واللام، ولا لأنَّه لا ينصرف وكان القياس أن يثبت التنوين فيه وذلك كلُّ اسمٍ غالبٍ وصف بابنٍ، ثم أضيف إلى اسم غالب، أو كنية، أو أمٍ. وذلك قولك: هذا زيد بن عمروٍ. وإنَّما حذفوا التنوين من هذا النَّحو حيث كثر في كلامهم؛ لأنَّ التنوين حرفٌ ساكن وقع بعده حرفٌ ساكن، ومن كلامهم أن يحذفوا الأول إذا التقى ساكنان، وذلك

(3/504)


قولك: اضرب ابن زيد، وأنت تريد الخفيفة. وقولهم: لد الصَّلاة في لدن حيث كثر في كلامهم.
وما يذهب منه الأول أكثر من ذلك، نحو: قل، وخف.
وسائر تنوين الأسماء يحرَّك إذا كانت بعده ألف موصولة؛ لأنَّهما ساكنان يلتقيان فيحرك الأول كما يحرك المسكَّن في الأمر والنهي.
وذلك قولك: هذه هندٌ امرأة زيدٍ، وهذا زيدٌ امرؤ عمروٍ وهذا عمر الطويل، إلاَّ أن الأول حذف منه التنوين لما ذكرت لك. وهم ممَّا يحذفون الأكثر في كلامهم.
وإذا اضطرَّ الشاعر في الأوَّل أيضاً أجراه على القياس. سمعنا فصحاء العرب أنشدوا هذا البيت:
هي ابنتُكم وأختُكُمُ زَعمتمْ لِثَعْلَبَة بِنْ نوفلٍ ابْنِ جَسْرِ
وقال الأغلب:

(3/505)


جاريةٌ من قيسٍ ابْنِ ثَعْلَبَهْ
وتقول: هذا أبو عمرو بن العلاء؛ لأنَّ الكنية كالاسم الغالب. ألا ترى أنَّك تقول: هذا زيد بن أبي عمروٍ، فتذهب التنوين كما تذهبه في قولك: هذا زيد بن عمروٍ؛ لأنَّه اسمٌ غالب. وتصديق ذلك قول العرب: هذا رجل من بني أبي بكرٍ بن كلابٍ. وقال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلْتُ أُغلِقُ أبوابا وأفتَحُها ... حتَّى أتيتُ أبا عَمْرِو بنَ عَمّارِ
وقال:
فلم أَجْبُنْ ولم أَنْكُلْ ولكنْ ... يَمَمْتُ بها أبا صَخْرِ بن عمر
وقال يونس: من صرف هنداً قال: هذه هندٌ بنت زيدٍ، فنون هنداً؛ لأن هذا موضع لا يتغيَّر فيه الساكن، ولم تدركه علة. وهكذا سمعنا من العرب.
وكان أبو عمرو يقول: هذه هند بنت عبد الله فيمن صرف، ويقول: ولمَّا كثر في كلامهم حذفوه كما حذفوا لا أدر، ولم يك، ولم أبل، وخذ وكل، وأشباه ذلك، وهو كثير.

(3/506)


وينبغي لمن قال: بقول أبي عمرو أن يقول: هذا فلان بن فلانٍ؛ لأنه كناية عن الأسماء التي هي علاماتٌ غالبة؛ فأجريت مجراها.
وأما طامر بن طاكر فهو كقولك: زيد بن زيدٍ؛ أنه معرفة كأم عامرٍ وأبي الحارث، للأسد وللضبَّع، فجعل علماً. فإذا كنيت إن غير الآدميين قلت: الفلان والفلانة؛ والهن والهنة، جعلوه كنايةً عن النَّاقة التي تسمى بكذا، والفرس الذي يسمَّى بكذا، ليفرقوا بين الآدميين والبهائم.

باب ما يحرَّك فيه التنوين
في الأسماء الغالبة وذلك قولك: هذا زيدٌ ابن أخيك، وهذا زيدٌ ابن أخي عمروٍ، وهذا زيدٌ الطويل، وهذا عمروٌ الظريف، إلا أن يكون شيءٌ من ذا يغلب عليه فيعرف به، كالصَّعق وأشباهه، فإذا كان ذلك كذلك لم ينوَّن.
ٍوتقول: هذا زيدٌ ابن عمرك، إلا أن يكون ابن عمرك غالباً، كابن كراع وابن الزُّبير، وأشباه ذلك.
وتقول: هذا زيد بن أبي عمروٍ، إذا كانت الكنية أبا عمروٍ.
وأمَّا زيدٌ ابن زيدك، فقال الخليل: هذا زيدٌ ابن زيدك، وهو القياس وهو بمنزلة: هذا زيدٌ ابن أخيك؛ لأنَّ زيداً إنَّما صار ههنا معرفةً بالضمير الذي فيه، كما صار الأخ معرفةً به. ألا ترى أنَّك لو قلت: هذا زيد رجلٍ صار

(3/507)


نكرةً، فليس بالعلم الغالب؛ لأنَّ ما بعده غيَّره، وصار يكون معرفةً ونكرةً به. وأما يونس فلا ينون.
وتقول: مررت بزيدٍ ابن عمروٍ، إذا لم تجعل الابن وصفاً، ولكنَّك تجعله بدلاً أو تكريرا كأجمعين.
وتقول: هذا أخو زيدٍ ابن عمروٍ، إذا جعلت ابن صفةً للأخ، لأنَّ أخا زيدٍ ليس بغالبٍ، فلا تدع التنوين فيه فيما يكون اسماً غالباً أو تضيفه إليه.
وإنما ألزمت التنوين والقياس هذه الأشياء؛ لأنَّهم لها أقل استعمالا. ومثل ذلك: هذا رجلٍ، ابن رجل وهذا زيد رجلٍ كريمٍ.
وتقول: هذا زيدٌ بني عمروٍ، في قول أبي عمرو ويونس، لأنَّه لا يلتقي ساكنان: وليس بالكثير في الكلام ككثرة ابن في هذا الموضع، وليس كلُّ شيء بكثير في كلامهم يحمل الشاذ. ولكنه يجرى على بابه حتَّى تعلم أنَّ العرب قد قالت غير ذلك. وكذلك تقول العرب، ينوّنون. وجيع التنوين يثبت في الأسماء إلا ما ذكرت لك.

باب النون الثقيلة والخفيفة
اعلم أنَّ كل شيء دخلته الخفيفة فقد تدخله الثقيلة. كما أن كلَّ شيء تدخله الثقيلة تدخله الخفيفة.

(3/508)


وزعم الخليل أنَّهما توكيد كما التي تكون فضلاً. فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشدُّ توكيدا.
ولها مواضع سأبينها إن شاء الله ومواضعها في الفعل.
فمن مواضعها الفعل الذي للأمر والنهي، وذلك قولك: لا تفعلنَّ ذاك واضربنَّ زيدا. فهذه الثقيلة. وإن خففت قلت: ذاك ولا تضربن زيدا.
ومن مواضعها الفعل الذي لم يجب، الذي دخلته لام القسم، فذلك لا تفارقه الخفيفة أو الثقيلة، لزمه ذلك كما لزمته اللام في القسم. وقد بينا ذلك في بابه.
فأما الأمر والنَّهي فإن شئت أدخلت فيه النون وإن شئت لم تدخل؛ لأنه ليس فيهما ما في ذا. وذلك قولك: لتفعلنَّ ذاك ولتفعلان ذاك ولتفعلن ذاك. فهذه الثقيلة. وإن خففت قلت: لتفعلن ذاك ولتفعلن ذاك.
فما جاء فيه النون في كتاب الله عز وجل: " ولا تتَّبعان سبيل الذين لا يعلمون "، " ولا تقولن لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غداً " وقوله تعالى: " ولآمرنهم فليبنِّكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيَّر خلق الله ". و " وليسجنّن وليكونن من الصاغرين "، وليكونن خفيفة.

(3/509)


وأما الخفيفة فقوله تعالى: " لنسفعن بالنَّاصية " وقال الأعشى:
فإيّاكَ والمَيتْاتِ لا تَقْرَبَنّها ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ واللهَ فاعْبُدَا
فالأولى ثقيلةٌ، والأخرى خفيفة. وقال زهير:
تعلَّمن ها لعمر الله ذا قسماً ... فاقصد بذراعك وانَظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
فهذه الخفيفة. وقال الأعشى:
أبا ثابِتٍ لا تَعْلَقَنْك رِماحُنا ... أبا ثابِتٍ فاقعد وعِرْضُك سالِمُ
فهذه الخفيفة. وقال النابغة الذبياني:

(3/510)


لا أَعْرِفَنْ رَبْرَباً حُوراً مَدامعُها ... كأنَّ أبْكارَها نِعاجُ دُوَارِ
وقال النابغة أيضا:
فَلْتأَتيَنكَ قَصائدٌ ولْيَدْفَعَنْ ... جيشٌ إليك قَوادِمَ الأكْوارِ
والدعاء بمنزلة الأمر والنهي، قال ابن رواحة:
فأنْزِلَنْ سَكينةً علينا

(3/511)


وقال لبيد:
فلَتَصْلِقَنّ بنَيِ ضَبينةَ صَلْقة ... تُلْصِقْنَهُمْ بخَوالِفِ الأطْنابِ
هذه الثقيلة، وهو أكثر من أن يحصى. وقالت ليلى الأخيلية:
تُساوِرُ سَوّاراً إلى المجد والعُلاَ ... وفي ذِمّتي لئن فعلتَ لَيفّعَلاَ
وقال النابغة الجعدي:
فمن يَكُ لم يثْأَرِ بأَعْراضِ قومِه ... فإِنّيِ وربِّ الراقِصاتِ لأَثْأَرَا
فهذه الخفيفة خففت كما تثقَّل إذا قلت: لأثأرن.

(3/512)


ومن مواضعها الأفعال غير الواجبة التي تكون بعد حروف الاستفهام وذلك لأنك تريد أعلمني إذا استفهمت، وهي أفعال غير واجبة فصارت بمنزلة أفعال الأمر والنهي فإن شئت أقحمت النون وإن شئت تركت، كما فعلت ذلك في الأمر والنهي. وذلك قولك: هل تقولن؟ وأتقولن ذاك؟ وكم تمكثن؟ وانظر ماذا تفعلن؟ وكذلك جميع حروف الاستفهام. وقال الأعشى:
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د مِن حَذَرِ الموتِ أن يأتِيَنْ
وقال:
وأقْبِلْ على رَهْطِي ورهطِك نَبْتَحِثْ ... مَساعِيَنا حتَّى ترى كيف نفعلا

(3/513)


وقال مقنع:
أَفَبعْدَ كِنْدةَ تمدحنَّ قَبيلاَ
وقال:
هل تحلفن يا نُعْمَ لا تَدينُهَا
فهذه الخفيفة. وزعم يونس أنك تقول: هلاَّ تقولنَّ، وألاَّ تقولنَّ. وهذا أقرب من لأنك تعرض، فكأنَّك قلت: افعل، لأنه استفهام فيه معنى العرض.
ومثل ذلك: لولا تقولنَّ، لأنك تعرض.
وقد بينا حروف الاستفهام وموافقتها الأمر والنهي في باب الجزاء وغيره، وهذا مما وافقتها فيه، وترك تفسيرهن ههنا للذي فسرنا فيما مضى.
ومن مواضعها حروف الجزاء إذا وقعت بينها وبين الفعل ما للتوكيد؛

(3/514)


وذلك لأنَهم شبهوا ما باللام التي في لتفعلن، لمَّا وقع التوكيد قبل الفعل ألزموا النون آخره كما ألزموا هذه اللام. وإن شئت لم تقحم النون كما أنَّك إن شئت لم تجيء بها. فأما اللام فهي لازمةٌ في اليمين، فشبّهوا ما هذه إذ جاءت توكيداً قبل الفعل بهذه اللام التي جاءت لإثبات النون. فمن ذلك قولك: إما تأتيني آتك، وأيُّهم ما يقولنَّ ذاك تجزه. وتصديق ذلك قوله عز وجل: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربك "، وقال عز وجل: " فإما ترين من البشر أحدا ".
وقد تدخل النون بغير ما في الجزاء، وذلك قليلٌ في الشعر، شبهوه بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب. وقال الشاعر:
نَبَتُّمْ نَباتَ الخيزرانيِّ في الثَّرى ... حَديثاً متى ما يَأْتِك الخيرُ يَنْفَعَا
وقال ابن الخرع:
فَمهْما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعْطِكمْ ... ومَهْما تَشَأْ منه فزارةُ تمنعا

(3/515)


وقال:
من يثقفن منهم فليس بآثبٍ ... أبداً وقَتْلُ بني قُتيبةَ شافيِ
وقال:
يَحْسَبُه الجاهِلُ ما لم يَعْلَمَا ... شَيْخاً على كُرْسِيِه معمَّما
شبهه بالجزاء حيث كان مجزوما وكان غير واجب، وهذا لا يجوز إلاَّ في اضطرار، وهي في الجزاء أقوى.
وقد يقولون: أقسمت لمَّا لم تفعلنَّ؛ لأن ذا طلبٌ فصار كقولك: لا تفعلنَّ كما أن قولك أتخبرني، فيه معنى افعل، وهو كالأمر في الاستغناء والجواب.
ومن مواضعها أفعال غير الواجب التي في قولك: بجهدٍ ما تبلغنَّ،

(3/516)


وأشباهه. وإنما كان ذلك لمكان ما. وتصديق ذلك قولهم في مثل:
في عضَةٍ مَّا ينبتنَّ شَكيرُهَا
وقال أيضا في مثل آخر: بألمٍ مَّا تختننَّه، وقالوا: بعين مَّا أريتك. فما ههنا بمنزلتها في الجزاء.
ويجوز للمضطر أنت تفعلنّ ذلك، شبهوه بالتي بعد حروف الاستفهام، لأنها ليست مجزومة والتي في القسم مرتفعة، فأشبهتها في هذه الأشياء، فجعلت بمنزلتها حين اضطروا. وقال الشاعر، جذيمة الأبرش:

(3/517)


رُبَّما أَوْفَيْتُ في علمٍ ... تَرْفَعَنْ ثَوْبي شَمالاتُ
وزعم يونس أنهم يقولون ربَّما تقولنَّ ذاك وكثر ما تقولنَّ ذاك، لأنه فعلٌ غير واجب، ولا يقع بعد هذه الحروف إلا وما له لازمة، فأشبهت عندهم لام القسم.
وإن شئت لم تقحم النون في هذا النحو، فهو أكثر وأجود، وليس بمنزلته في القسم؛ لأن اللام إنما ألزمت اليمين كما ألزمت النون اللام وليست مع المقسم به بمنزلة حرف واحد وليست كالتي في بألم ما تختتنه لأنها ليست مع ما قبلها بمنزلة حرف واحد. ولو لم تلزم اللام التبس بالنفي إذا حلف أنه لا يفعل، فما تجيء لتسهل الفعل بعد ربِّ. ولا يشبه ذا القسم.
ومثل ذلك: حيثما تكونن آتك؛ لأنها سهلت الفعل أن يكون مجازاة. وإنما كان ترك النون في هذا أجود؛ لأنَّ ما وربَّ بمنزلة حرف واحد، نحو قد وسوف، وما حيث بمنزلة أين، واللام ليست مع المقسم به بمنزلة حرف واحد، ولأن اللام لا تسقط كما تسقط ما من هذا إن شئت.

باب أحوال الحروف التي قبل النون
الخفيفة والثقيلة
اعلم أن فعل الواحد إذا كان مجزوماً فلحقته الخفيفة والثقيلة حركت المجزوم وهو الحرف الذي أسكنت للجزم لأن الخفيفة ساكنة والثقيلة

(3/518)


نونان الأولى منهما ساكنة. والحركة فتحةٌ ولم يكسروا فيلتبس المذكر بالمؤنث، ولم يضموا فيلتبس الواحد بالجميع. وذلك قولك: اعلمن ذلك وأكرمن زيدا، وإما تكرمنه أكرمه.
وإذا كان فعل الواحد مرفوعا ثم لحقته النون صيرت الحرف المرفوع مفتوحا لئلا يلتبس الواحد بالجميع، وذلك قولك: هل تفعلن ذاك، وهل تخرجن يا زيد.
وإذا كان فعل الاثنين مرفوعا وأدخلت النون الثقيلة حذفت نون الاثنين لاجتماع النونات، ولم تحذف الألف لسكون النون، لأن الألف تكون قبل الساكن المدغم، ولو أذهبتها لم يعلم أنك تريد الاثنين، ولم تكن الخفيفة ههنا لأنها ساكنة ليست مدغمة فلا تثبت مع الألف، ولا يجوز حذف الألف فيلتبس بالواحد.
وإذا كان فعل الجميع مرفوعاً ثم أدخلت فيه النون الخفيفة أو الثقيلة حذفت نون الرفع، ذلك قولك: لتفعلنَّ ذاك ولتذهبنَّ، لأنَّه اجتمعت فيه ثلاث نونات فحذفوها استثقالا. وتقول: هل تفعلنَّ ذاك، تحذف نون الرفع لأنَّك ضاعفت النون، وهم يستثقلون التضعيف، فحذفوها إذ كانت تحذف، وهم في ذا الموضع أشد استثقالاً للنونات، وقد حذفوها فيما هو أشد من ذا. بلغنا أن بعض القراء قرأ أتحاجوني وكان يقرأ فبم تبشِّرون،

(3/519)


وهي قراءة أهل المدينة؛ وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف.
وقال عمرو بن معد يكرب:
تَراه كالثَّغام يعلُّ مِسْكاً ... يَسوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنيِ
يريد: فلينني.
واعلم أنَّ الخفيفة والثقيلة إذا جاءت بعد علامة إضمار تسقط إذا كانت بعدها ألف خفيفة أو ألف ولام، فإنَّها تسقط أيضاً مع النون الخفيفة والثقيلة، وإنَّما سقطت لأنَّها لم تحرَّك فإذا لم تحرك حذفت، فإذا حذفت، فتحذف لئلا يلتقي ساكنان، وذلك قولك للمرأة: اضربنَّ زيدا وأكرمنَّ عمر، تحذف الياء لما ذكرت لك، ولتضربنَّ زيدا ولتكرمنَّ عمرا؛ لأنَّ نون الرفع تذهب فتبقى ياء كالياء التي في اضربي وأكرمي. ومن ذلك قولهم للجميع: اضربنَّ زيدا وأكرمن عمراً، ولتكرمن بشرا؛ لأن نون الرفع تذهب فتبقى واو هي كواو ضربوا وأكرموا.
فإذا جاءت بعد علامة مضمرٍ تتحرك للألف الخفيفة أو للألف واللام

(3/520)


حركت لها وكانت الحركة هي الحركة التي تكون إذا جاءت الألف الخفيفة أو الألف واللام؛ لأن علّة حركتها ههنا العلة التي ذكرتها ثم، والعلة التقاء الساكنين، وذلك قولك: ارضونَّ زيدا، تريد الجميع، واخشون زيدا واخشينَّ زيدا، وارضينَّ زيدا، فصار التحريك هو التحريك الذي يكون إذا جاءت الألف واللام أو الألف الخفيفة.

باب الوقف عند النون الخفيفة
اعلم أنَّه إذا كان الحرف الذي قبلها مفتوحا ثم وقفت جعلت مكانها ألفا كما فعلت ذلك في الأسماء المنصرفة حين وقفت؛ وذلك لأنَّ النون الخفيفة والتنوين من موضعٍ واحد، وهما حرفان زائدان، والنون الخفيفة ساكنة كما أنَّ التنوين ساكن، وهي علامة توكيد كما أنَّ التنوين علامة المتمكن، فلمَّا كانت كذلك أجريت مجراها في الوقف، وذلك قولك: اضربا: إذا أمرت الواحد وأردت الخفيفة، وهذا تفسير الخليل.
وإذا وقفت عندها وقد أذهبت علامة الإضمار التي تذهب إذا كان بعدها ألفٌ خفيفة أو ألف ولام رددتها الألف التي في هذا: هذا مثنًّنى

(3/521)


كما ترى إذا سكتَّ، وذلك قولك للمرأة وأنت تريد الخفيفة: اضربي وللجميع: اضربوا وارموا، وللمرأة: ارمي واعزي. فهذا تفسير الخليل، وهو قول العرب ويونس.
وقال الخليل: إذا كان ما قبلها مكسوراً أو مضموماً ثم وقفت عندها لم تجعل مكانها ياء ولا واوا، وذلك قولك للمرأة وأنت تريد الخفيفة: اخشي، وللجميع وأنت تريد النون الخفيفة: اخشوا. وقال: هو بمنزلة التنوين إذا كان ما قبله مجرورا أو مرفوعا.
وأما يونس فيقول: اخشيي واخشووا، يزيد الياء والواو بدلاً من النون الخفيفة من أجل الضمة والكسرة.
فقال الخليل: لا أرى ذاك إلاَّ على قول من قال: هذا عمرو، ومررت بعمري. وقول العرب على قول الخليل.
وإذا وقفت عند النون الخفيفة في فعل مرتفع لجميع رددت النون التي تثبت في الرفع، وذلك قولك وأنت تريد الخفيفة: هل تضربين، وهل تضربون، وهل تضربان. ولا تقول: هل تضربونا، فتجريها مجرى التي تثبت مع الخفيفة التي في الصلة.

(3/522)


وينبغي لمن قال بقول يونس في اخشيي واخشووا إذا أردت أراد الخفيفة أن ييقول: هل تضربوا، يجعل الواو مكان الخفيفة كما فعل ذلك في اخشيي؛ لأنَّ ما قبلها في الوصل مرتفع إذا كان الفعل للجمع ومنكسر إذا كان للمؤنث، ولا يرد النون مع ما هو بدل من الخفيفة كما لم تثبت في الصلة، فإنما ينبغي لمن قال بذا أن يجريها مجراها في المجزوم؛ لأنَّ نون الجميع ذاهبةٌ في الوصل كما تذهب في المجزوم، وفعل الاثنين المرتفع بمنزلة فعل الجميع المرتفع.
فأما الثقيلة فلا تتغير في الوقف لأنها لا تشبه التنوين.
وإذا كان بعد الخفيفة ألف ولام، أو ألف الوصل، ذهبتكما تذهب واو يقل لالتقاء الساكنين. ولم يجعلوها كالتنوين هنا، فرقوا بين الاسم والفعل، وكان في الاسم أقوى لأن الاسم أقوى من الفعل وأشد تمكناً.
هذا باب النون الثقيلة والخفيفة في فعل الاثنين وفعل جميع النساء فإذا أدخلت الثقيلة في فعل الاثنين ثبتت الألف التي قبلها، وذلك قولك لا تفعلان ذلك، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون.
وتقول: افعلانِّ ذلك، وهل تفعلانِّ ذلك. فنون الرفع تذهب ها هنا

(3/523)


كما ذهبت في فعل الجميع وإنما تثبت الألف ههنا في كلامهم؛ لأنه قد يكون بعد الألف حرف ساكن إذا كان مدغما في حرف من موضعه وكان الآخر لازما للأول، ولم يكن لحاق الآخر بعد استقرار الأول في الكلام، وذلك نحو قولك: رادٌ، وأراد. فالدال الآخرة لم تلحق الأولى ولم تكن الأولى في شيء يكون كلاماً بها والآخرة ليست بعدها ولكنهما يقعان جميعا وكذلك الثقيلة هما نونان تقعان معاً ليست تلحق الآخرة الأولى بعدما يستقر كلاماً. فالخفيفة في الكلام على حدةٍ. والثقيلة على حدةٍ، ولأن تكون الخفيفة حذف عنها المتحرَّك أشبه؛ لأنَّ الثقيلة في الكلام أكثر، ولكنَّا جعلناها على حدةٍ لأنَّها في الوقف كالتنوين، وتذهب إذا كان بعدها ألف خفيفة

(3/524)


أو ألف ولام، كما تذهب لالتقاء الساكنين ما لم يحذف عنه شيء. ولو كانت بمنزلة نون لكن وأن وكأن التي حذفت عنها المتحركة لكانت مثلها في الوقف. والألف الخفيفة والألف واللام، فإنما النون الثقيلة بمنزلة باء قبَّ وطاء قطُّ.
وليس حرفٌ ساكن في هذه الصِّفة إلا بعد ألفٍ أو حرف لين كالألف، وذلك نحو: تمودَّ الثوب وتضربيني، تريد المرأة. وتكون في ياء أصيمَّ، وليس مثل هذه الواو والياء لأنَّ حركة ما قبلهنّ منهن، كما أ، َّ ما قبل الألف مفتوح. وقد أجازوه في مثل ياء أصيم لأنه حرف لين.
وقال الخليل: إذا أردت الخفيفة في فعل الاثنين كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعل الاثنين، في الوصل والوقف؛ لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكنٌ ليس بمدغم. ولا تحذف الألف، فيلتبس فعل الواحد والاثنين. وذلك قولك: اضربا وأنت تريد النون، وكذلك لو قلت: اضرباني واضربا نعمان لا تردَّن الخفيفة. ولا تقل ذا موضع إدغام فأردَّها؛ لأنَّها قد تثبت مدغمة. والردُّ خطأ ههنا إذا كان محذوفا في الوصل والوقف إذا لم تتبعه كلاما. وكيف ترده وأنت لو جمعت هذه النون إلى نون ثانية لاعتلَّت وأدغمت، وخذفت في قول بعض العرب، فإذا كفوا مؤنثها لم يكونوا ليردوها إلى ما يستثقلون.
ولو قلت ذا لقلت: اضربا نُّعمان؛ لأنَّ النون تدغم في النون.

(3/525)


ولو قلت ذا لقلت: اضربان ابا كما في قول من لم يهمز؛ لأنَّ ذا موضعٌ لم يمتنع فيه الساكن من التحريك، فتردها إذا وثقت بالتحريك كما رددتها حيث وثقت بالإدغام، فلا ترد في شيء من هذا، لأنك جئت به إلى شيء قد لزمه الحذف. ألا ترى أنكَّ لو لم تخف اللبس فحذفت الألف لم تردها، فكذلك لا ترد النون. ولو قلت ذا لقلت جيثونيِّ في قولك: جيؤنى؛ لأنَّ الواو قد ئبتت وبعدها ساكن مدغم، ولقلت: جيؤو نعمَّان. والنون لا ترد ههنا، كما لا ترد في الوصل والوقف هذه الواو في نحو ما ذكرنا. وذلك انكَّ تقول للجميع: جيؤنَّ زيداً، تريد الثقيلة، ولا تردها في الوقف ولا في الوصل.
وإن أردت الخفيفة في فعل الاثنين المرتفع قلت: هل تضربان زيداً، لأنكَّ قد أمنت النونّ الخفية وإنمَّا أذهبت النون لأنها لا تثبت مع النون الرفع، فإذا بقيت نون الرفع لم تثبت بعدها النون الخفيفة فلماَّ أمنوها ثبتت نون الرفع في الصلة كما ثبتت نون الرفع في فعل جميع في الوقف ورددت نون الجميع كما رددت ياء اضرب وواو اضربوا حين أمنت البدل من الخفيفة في الوقت. وإذا أدخلت الثقيلة في فعل جميع النساء قلت: اضربنانَِّ يا نسوة، وهل تضربنانِّ ولتضربنانِّ، فإنمَّا ألحقت هذه الألف كراهية النونات، فأرادوا أن يفصلوا لالتقائها كما حذفوا نون الجميع للنوَّنات ولم يحذفوا نون النِّساء كراهية أن يلتبس فعلهن وفعل الواحد. وكسرت الثقيلة ههنا لأنهَّا بعد

(3/526)


ألفٍ زائدة فجعلت بمنزلة نون الاثنين حيث كانت كذلك. وهي في ما سوى ذلك مفتوحة؛ لأنهَّما حرفان الأوّل منهم ساكن، ففتحت كما فتحت نون أين.
وإذا أردت الخفيفة في فعل جميع النساء قلت في الوقف والوصل: اضربن زيدا، ولضربن زيداً، ويكون بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة، وتحذف الألف التي في قولك: اضربنانِّ لأنِّها ليست باسم كألف اضربا، وإنمَّا جئت بها كراهية النونات، فلمِّا أمنت النون لم تحتج إليها فتركتها كما أثبِّت نون الاثبين في الرفع إذا أمنت النون، وذلك لأنهَّا لم تكن لتثبت مع نون الجميع التقائهما، ولا بعد الألف، كما لم تثبت في الاثنين، فلمَّا استغنوا عنها تركوها.
وأما يونس وناسٌ من النحويين فيقولون: اضربان زيدا واضربنان زيداً.
فهذا لم تقله العرب، وليس له نظيرا في كلامها. ولا يقع بعد الألف ساكنٌ إلا أن يدغم.
ويقولون في الوقف: اضربا واضربنا فيمدون، وهو القياس قولهم، لأنهَّا تصير ألفاً، فإذا اجتمعت ألفان مد الحرف، وإذا وقع بعدها ألف ولام أو ألف موصلة جعلوها همزة مخففَّة وفتحوها، وإنمَّا القياس في قولهم أن يقولوا اضرب الرَّجل، كما تقول بغير الخفيفة إذا كان بعدها ألف وصلٍ أو ألف

(3/527)


ولام ذهبت، فينبغي لهم أن يذهبوها لذا، ثم تذهب الألف كما تذهب الألف وأنت تريد النون في الواحد إذا وقفت فقلت: اضربا ثم قلت: اضرب الرجل؛ لأنَّهم إذا قالوا: اضربان زيدا فقد جعلوها بمنزلتها في اضربن زيدا، فينبغي لهم أن يجرؤا عليها هناك ما يجري عليها في الواحد.

باب ثبات الخفيفة والثقيلة
في بنات الياء والواو التي الواوات والياءات لا ماتهن اعلم أن الياء التي هي لام، والواو التي هي بمنزلتها، إذا حذفنا في الجزم ثم ألحقت الخفيفة أو الثقيلة، أخرجتها كما تخرجها إذا جئت بالألف للاثنين؛ لأنَّ الحرف يبنى عليها كما يبنى على تلك الألف وما قبلها مفتوح كما يفتح ما قبل الألف. وذلك قولك: ارمينَّ زيدا، واخشينَّ، واغزونَّ.
قال الشاعر:
استْقَدِرِ اللهَ خيراً وأرضينَّ به ... فبينما العسر إذا دارَتْ مَياسيرُ
وإن كانت الواو والياء غير محذوفين ساكنتين، ثم ألحقت الخفيفة أو الثقيلة حركتها كما تحركها لألف الاثنين، والتفسير في ذلك كالتفسير في المحذوف. وذلك قولك: لأدعونَّ ولأرضينَّ ولأرمينَّ، وهل ترضينَّ أو ترمينَّ، وهل تدعون.

(3/528)


وكذلك كلُّ ياءٍ أجريت مجرى الياء من نفس الحرف وكانت في الحرف، نحو ياء سلقيت وتجعبيت. جعباه أي صرعه، وتجعبي: انصرع.

باب مالا تجوز فيه نون خفيفة ولا ثقيلة
وذلك الحروف التي للأمر والنهي وليست بفعل، وذلك نحو: إيهٍ وصه ومه وأشباهها. وهلَّم في لغة أهل الحجاز كذلك. ألا تراهم جعلوها للواحد والاثنين والجميع والذَّكر والأنثى سواء. وزعم أنها لمَّ ألحقتها هاء التنبيه في اللغتين.
وقد تدخل الخفيفة والثقيلة في هلَّم في لغة بني تميم لأنَّها عندهم بمنزلة ردًّ وردّاً وردِّي وارددن، كما تقولك هلمَّ وهلمَّا وهلمِّي وهلممن والهاء فضلٌ، إنَّما هي ها التي للتنبيه، ولكنهم حذفوا الألف لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.

باب مضاعف الفعل واختلاف العرب فيه
والتضعيف أن يكون آخر الفعل حرفان من موضعٍ واحد، ونحو ذلك:

(3/529)


رددت ووددت، واجتررت، وانقددت، واستعددت، وضاررت، وتراددنا، واحمررت واحماررت، واطمأننت. فإذا تحرَّك الحرف الآخر فالعرب مجمعون على الإدغام، وذلك فيما زعم الخليل أولى به؛ لأنه لما كانا من موضع واحد ثقل عليهم أن يرفعوا ألسنتهم من موضع ثم يعيدوها إلى ذلك الموضع للحرف الآخر، فلما ثقل عليهم ذلك أرادوا أن يرفعوا رفعةً واحدة.
وذلك قولهم: ردِّي واجترّاَ وانقدوا واستعدى وضارى زيدا، وهما يرادان واحمر واحمارَّ، وهو يطمئنُّ. فإذا كان حرفٌ من هذه الحروف في موصع تسكن فيه لام الفعل فإنَّ أهل الحجاز يضاعفون؛ لأنَّهم أسكنوا الآخر، فلم يكن بدٌّ من تحريك الذي قبله؛ لأنه لا يلتقي ساكنان. وذلك قولك: اردد واجترر، وإن تضار أضارر، وإن تستعدد أستعدد وكذلك جميع هذه الحروف ويقولون اردد الرجل وإن تستعدد اليوم أستعدد، يدعونه على حاله ولا يدغمون؛ لأنَّ هذا التحريك ليس بلازم لها، إنما حركوا في هذا الموضع لالتقاء الساكنين، وليس الساكن الذي بعده في الفعل مبنيَّاً عليه كالنون الثقيلة والخفيفة.
وأما بنو تميم فيدغمون المجزوم كما أدغموا، إذ كان الحرفان متحركين لما ذكرنا من المتحركين، فيسكنون الأول ويحرِّكون الآخر، لأنَّهما لا يسكنان جميعا، وهو قول غيرهم من العرب، وهم كثير.

(3/530)


فإذا كان الحرف الذي قبل الحرف الأول من الحرفين ساكنا ألقيت حركة الأول عليه: إن كان مكسورا فاكسره، وإن كان مضموما فضمَّه، وإن كان مفتوحا فافتحه. وإن كان قبل الذي تلقى عليه الحركة ألف وصل حذفتها؛ لأنَّه قد استغني عنها حيث حرك، وإنَّما احتيج إليها لسكون ما بعدها. وذلك قولك: ردَّ وفلاَّ وعضَّ، وإن تردَّأ ردَّ، ألقيت حركة الأول منهما على الساكن الذي قبله وحذفت الألف، كما فعلت ذلك في غير الجزم، وذلك قولك ردا وردَّوا.
وإن كان الساكن الذي قبل الأوَّل بينه وبين الألف حاجز ألقيت عليه حركة الأول؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما يتحولَّ في حال صاحبه عن الأصل، كما فعلت ذلك في ردَّ وفرَّ وعضَّ، ولا تحذف الألف لأنَّ الحرف الذي بعد ألف الوصل ساكن؛ وذلك قولك: اطمأنَّ واقشعرَّ، وإن تشمئزَّ أشمئز فصارت الألف في الإدغام والجزم مثلها في الخبر. وذلك قولك: اطمئنوا واطمئنا، ومثل ذلك استعدَّ.
وإن كان الذي قبل الأول متحركا وكان في الحرف ألف وصل لم تغيِّره الحركة عن حاله؛ لأنه لم يكن حرفا يضطر إلى تحريكه، ولا تذهب الألف لأنَّ الذي بعدها لم يحرَّك وذلك قولك: اجترَّ واحمرَّ وانقدَّ، وإن تنقدَّ أنقدَّ، فصار الإدغام وثبات الألف مثله في غير الجزم.
وإذا كان قبل الأوَّل ألف لم تغيَّر؛ لأنَّ الألف قد يكون بعدها الساكن المدغم فيحتمل ذلك وتكون ألف الوصل في هذا الحرف؛ لأنَّ

(3/531)


الساكن الذي بعدها لا يحرَّك. وذلك احمارَّ واشهابَّ. وإن تدهامَّ أدهامَّ، فصار في الإدغام وثبات الألف مثله في غير الجزم.
وإن كان قبل الأول ألف ولم يكن في ذلك الحرف حرف وصلٍ لم يتغيِّر عن بنائه وعن الإدغام في غير الجزم، وذلك قولك: مادَّ ولا تضارَّ، ولا تجار. وكذلك ما كانت ألفه مقطوعة نحو: أمدَّ وأعدَّ.

باب اختلاف العرب في تحريك الآخر
لأنه لا يستقيم أن يسكن هو والأول، من غير أهل الحجاز اعلم أن منهم من يحرك الآخر كتحريك ما قبله، فإن كان مفتوحا فتحوه، وإن كان مضموما ضمَّوه، وإن كان مكسوراً كسروه، وذلك قولك: ردُّ وعضَّ وفرَّ يا فتى، واقشعرَّ واطمئنِّ واستعدِّ، واجترَّ واحمرَّ وضارَّ؛ لأن قبلها فتحة وألفاً؛ فهي أجدر أن تفتح وردُّنا ولا يشلِّكم الله، وعضَّنا ومدَّني إليك ولا يشلِّك الله وليعضُّكم. فإن جاءت الهاء والألف فتحوا أبداً.
وسألت الخليل لم ذاك؟ فقال: لأنَّ الهاء خفيَّة، ردَّا وأمدَّا غلاَّ، إذا قالوا: ردَّها وغلَّها وأمدَّها. فإذا كانت الهاء مضمومة ضمرا، كأنهم قالوا: مدُّوا وعضُّوا، إذا قالوا: مدُّه وعضُّه. فإن جئت بالألف واللام وبالألف الخفية كسرت الأول كله، لأنَّه كان في الأصل مجزوما؛ لأن الفعل إذا كان مجزوماً فحرك لالتقاء الساكنين كسر. وذلك قول: اضرب

(3/532)


الرَّجل واضرب ابنك، فلما جاءت الألف واللام والألف الخفيفة رددته إلى أصله، لأن أصله أن يكون مسكَّنا على لغة الحجاز، كما أنَّ نظائره من غير المضعف على ذلك جرى.
ومثل ذلك مذوذهبتم فيمن أسكن، تقول: مذ اليوم، وذهبتم اليوم؛ لأنك لم تبن الميم على أصله السكون، ولكنه حذف كياء قاضٍ ونحوها.
ومنهم من يفتح إذا التقى ساكنان على كل حال، إلا في الألف واللام والألف الخفيفة. فزعم الخليل أنهم شبهوه بأين وكيف وسوف وأشباه ذلك، وفعلوا به إذ جاءوا بالألف واللام والألف الخفيفة ما فعل الأولون، وهم بنو أسدٍ وغيرهم من بني تميم. وسمعناه ممن ترضى عربيته. ولم يبتغوا الآخر الأول كما قالوا: امرؤ وامرىءٍ وامرأ فأتبعوا الآخر الأول، وكما قالوا: ابم وابنمٌ وابنما.
ومنهم من يدعه إذا جاء بالألف واللام على حاله مفتوحاً، يجعله في جميع الأشياء كأين. وزعم يونس أنه سمعهم يقولون:
غضَّ الطَّرف إنك من نميرٍ

(3/533)


ولا يكسر هلَّم البتة من قال: هلمَّا وهلمَّي، ولكن يجعلها في الفعل تجري مجراها في لغة أهل الحجاز بمنزلة رويد.
ومن العرب من يكسر ذا أجمع على كل حال، فيجعله بمنزلة اضرب الرجل وأن لم تجىء بالألف واللام لأنه فعل حرك لالتقاء الساكنين وكذلك اضرب ابنك واضرب واضرب ابنك واضرب الرجل. ولا يقولها في هلَّم، لا يقول: هلمِّ يا فتى من يقول: هلُّموا، فيجعلها بمنزلة رويد. ولا يكسر هلَّم أحد؛ لأنها تصرَّف تصرُّف الفعل ولم تقوقوَّته ومن يكسر كعبٌ وغنيٌ.
وأهل الحجاز وغيرهم، مجتمعون على أنهم يقولون للنساء: ارددن، وذك لأن الدال لم تسكن ههنا لأمر ولا نهيٍ. وكذلك كل حرف قبل نون النساء لا يسكن لأمر ولا لحرفٍ يجزم. ألا ترى أن السكون لازمٌ له في حال النصب والرفع، وذلك قولك: رددن، وهن يرددن، علىَّ أن يرددن وكذلك يجري غير المضاعف قبل نون النساء، لا يحرك في حال. وذلك قولك: ضربن ويضربن ويذهبن. فلما كان هذا الحرف يلزمه السكون في كل موضع وكان السكون حاجزاً عنه ما سواه من الإعراب وتمكن فيه ما لم يتمكن في غيره من الفعل، كرهوا أن يجعلوه بمنزلة ما يجزم لأمر أو لحرف الجزم، فلم يلزمه السكون كلزوم هذا الذي هو غير مضاعف.
ومثل ذلك قولهم: رددت ومددت؛ لأن الحرف بني على هذه التاء

(3/534)


كم بني على النون وصار السكون فيه بمنزلته فيما نون النساء. يدلك على ذلك أنه في موضح فتح.
وزعم الخليل أنَّ ناساً من بكر بن وائل يقولون: ردَّن ومدَّن وردَّت، جعلوه بمنزلة ردَّ ومدَّ. وكذلك جميع المضاعف يجري كم ذكرت لك في لغة أهل الحجاز وغيرهم والبكريين. وأما ردَّد ويردد فلم يدغموه؛ لأنه لا يجوز أن يسكن حرفان فيلتقيا، ولم يكونوا ليحركوا العين الأولى لأنَّهم لو فعلوا ذلك لم ينجوا من أ، يرفعوا ألسنتهم مرتين، فلما كان ذلك لا ينجيهم أجروه على الأصل ولم يجز غيره.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا إلى ما يجتمع أهل الحجاز وغيرهم على إدغامه أجروه على الأصل، قال الشاعر، وهو قعنب بن أم صاحب:
مهلا أعاذل قد جرَّبت من خُلُقيِ ... أنّيِ أجُودُ لأَقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا
وقال:
تَشْكُو الوَجَى مِنْ أظْلَلٍ وأظْلَلِ
وهذا النحو في الشعر كثير.

(3/535)


باب لمقصور والممدود
وهما في بنات الياء والواو التي هي لامات وما كانت الياء في آخره وأجريت مجرى تلك التي من نفس الحرف.
فالمنقوص كل حرف من بنات الياء والواو وقعت ياؤه أو واوه بعد حرف مفتوح، وإنما نقصانه أن تبدل الألف مكان الياء والواو، ولا يدخلها نصبٌ ولا رفع ولا جر.
وأشياء يعلم أنها منقوصة لأن نظائرها من غير المعتل إنما تقع أواخرهن بعد حرف مفتوح، وذلك نحو: وذلك نحو: معطىً ومشترىً وأشباه ذلك لأن معطىً مفعلٌ، وهو مثل مخرجٍ، فالياء بمنزلة الجيم والراء بمنزلة الطاء، فنظائر ذا تدلك على أنه منقوص. وكذلك مشترىً، إنَّما هو مفتعل، هو مثل معتركٍ، فالراء بمنزلة الراء، والياء بمنزلة الكاف.
ومثل ذلك: هذا مغزىً وملهىً إنَّما هما مفعلٌ، وإنمَّا هما بمنزلة مخرجٍ، فإنما هي واوٌ وقعت بعد مفتوح، كما أن الجيم وقعت بعد مفتوح، وهما لامان، فأنت تستدل بذا على نقصانه.
ومثل ذلك المفعول من سلقيته، وذلك قولك: مسلقىً ومسلنقىً.
والدليل على ذلك أنهَّ لو كان بدل هذه الياء التي في سلقيت حرفُ غير الياء لم تقع إلا بعد مفتوح، فكذلك هذا وأشباهه.

(3/536)


ومما تعلم أنهَّ منقوص كل شيء كان مصدراً لفعل يفعل، وكان الاسم على أفعل؛ لأنَّ ذلك في غير بنات الياء والواو إنمَّا يجيء على مثال فعلٍ، وذلك قولك للأحول: به حولٌ، وللأعور: به عورٌ، ولأدر به أدرٌ، وللأشتر: به شترٌ، وللأقرع: به قرعٌ، وللأصلع: به صلعٌ. وهذا أكثر من أن أحصيه لك.
فهذا يدلكَّ على أن الذي من بنات الياء والواو منقوص لأنهَّ فعلٌ، وذلك قولك للأعشى: به عشىً وللأعمى: به عمىً، وللأقنى: به قنىً.
فهذا يدلك على أنه منقوص، كما يدلك على أنَّ نظير كل شيء وقعت جيمه بعد فتحة من أخرجت منقوص من أعطيت؛ لأنهَّا أفعلت، ولكل شيء من أخرجت نظيرٌ من أعطيت.
ومما تعلم أنه منقوص أن ترى الفعل فعل يفعل والاسم منه فعلٌ، فإذا كان الشيء كذلك عرفت أنَّ مصدره منقوص لأنهَّ فعلٌ، يدلك على ذلك نظائره من غير المعتل، وذلك قولك: فرق يفرق فرقاً وهو فرقٌ، وبطر يبطر بطراً وهو بطرٌ، وكسل يكسل كسلاً وهو كسلٌ، ولحج يلحج لحجاً وهو لحجٌ، وأشر يأشر أشراً وهو أشرٌ، وذلك أكثر من أن أذكره لك.
فمصدر ذا من بنات الياء والواو على مثال فعلٍ، وإذا كان فعلٌ فهو ياء أو واو وقعت بعد فتحة، وذلك قولك: هوى يهوى هوىً وهو هوٍ، ورديت تردى ردىً وهو ردٍ، وهو الرَّدى، وصديت تصدى صدىً وهو صدٍ وهو

(3/537)


الصدى، وهو العطش، ولوى يلوى لوىً وهو لوٍ وهو اللَّوي، وكريت تكرى كرىً وهو النعُّاس، وغوى الصبيُّ يغوى غوىً وهو غوٍ وهو الغوى.
وإذا كان فعل يفعل والاسم فعلان فهو أيضاً منقوص. ألا ترى أنَّ نظائره من غير المعتل تكون فعلاً. وذلك قولك للعطشان: عطش يعطش عطشاً وهو عطشان، وغرث يغرث غرثاً وهو غرثان، وظمىء يظمأ ظمأً وهو ظمآن. فكذلك مصدر نظير ذا من بنات والواو ولأنه فعل لما أن ذا فعلٌ حيث كان فعلان له فعلى، وكان فعل يفعل، وذلك قولك: طوى يطوى طوىً، وصدى يصدى صدىً وهو صديان. وقالوا: غرى يغرى غرىً وهو غرٍ. والغراء شاذٌّ ممدود كما قالوا الظماء. وقالوا: رضى يرضى وهو راضٍ وهو الرِّضا، ونظيره سخط يسخط سخطاً وهو ساخطٌ، وكسروا الراء كما قالوا: الشَّبه فلم يجيئوا به على نظائره، وذا لا يجسر عليه إلاَّ بسماعٍ، وسوف نبين ذلك إن شاء الله. وأما الغراء فشاذٌ.

(3/538)


وقالوا: بدا له يبدو له بداً، ونظيره حلب يحلب حلباً. وهذا يسمع ولا يجسر عليه، ولكن يجاء بنظائره بعد السمع.
ومن الكلام ما لا يدرى أنَّه منقوص حتى تعلم أن العرب تكلَّم به، فإذا تكلموا به منقوصاً علمت أنها ياء وقعت بعد فتحة أو واو، لا تستطيع أن تقول ذا لكذا، كما لا تستطيع أن تقول قالوا: قدمٌ لكذا، ولا قالوا: جملٌ لكذا، فكذلك نحوهما. فمن ذلك قفاً ورحى ورجا البئر، وأشباه ذلك، لا يفرق بينها وبين سماء كما لا يفرق بين قدمٍ وقذالٍ؛ إلا أنك إذا سمعت قلتك هذا فعلٌ وهذا فعالٌ.
وأما الممدود فكلُّ شيء وقعت ياؤه أو واو بعد ألف.
فأشياء يعلم أنَّها ممدودة، وذلك نحو الاستسقاء لأن استسقيت استفعلت مثل استخرجت، فإذا أردت المصدر علمت أنَّه لا بد من أن تقع ياؤه بعد ألف كما أنه لا بد للجيم من أن تجيء في المصدر بعد ألف، فأنت تستدل على الممدود كما يستدل على المنقوص بنظيره من غير المعتل، حيث علمت أنه لا بد لآخره من أن يقع بعد مفتوح، كما أنَّه لا بد لآخر نظيره من أن يقع بعد مفتوح.
ومثل ذلك الاشتراء؛ لأنَّ اشتريت افتعلت بمنزلة احتقرت، فلا بد من أن تقع الياء بعد ألف، كما أن الرَّاء لا بدّ لها من أ، تقع بعد ألف إذا أردت المصدر.

(3/539)


وكذلك الإعطاء؛ لأنَّ أعطيت أفعلت، كما أنَّك إذا أردت المصدر من أخرجت لم يكن بدُّ للجيم من أن تجيْ بعد ألف إذا أردت المصدر فعلى هذا فقس هذا النحو.
ومن ذلك أيضاً الاحبنطاء، لا يقال إلا احبنطيت، والاسلنقاء؛ لأنك لو أوقعت مكان في مكان الياء حرفاً سوى الياء لأوقعته بعد ألف، فكذلك جاءت الياء بعد ألف، فإنما تجيء على مثال الاستفعال.
ومما تعلم به أنه ممدود أن تجد المصدر مضموم الأول يكون للصوت، نحو: العواء والدُّعاء والزُّقاء، وكذلك نظيره من غير المعتل نحو: الصراخ والنُّباح، والبغام.
ومن ذلك أيضاً البكاء وقال الخليل: الذين قصروه جعلوه كالحزن.
ويكون العلاج كذلك، نحو: النزاء. ونظيره من غير المعتل القماص، وقلَّما يكون ما ضم أوله من المصدر منقوصاً؛ لأن فعلاً لا تكاد تراه مصدراً من غير بنات الياء والواو.
ومن الكلام ما لا يقال له: مدَّ لكذا، كما أنك لا تقول: جرابٌ وغرابٌ لكذا، وإنَّما تعرفه بالسَّمع، فإذا سمعته علمت أنَّها ياء أو واو وقعت بعد ألف، نحو: السَّماء والرِّشاء والآلاء والمقلاء.
ومما يعرف به الممدود الجمع الذي يكون عل مثال أفعلةٍ، فواحده ممدود

(3/540)


أبداً نحو: أقبيةٍ واحدها قباءٌ، وأرشيةٍ واحدها رشاءٌ. وقالوا: ندىً وأنديةٌ. فهذا شاذ.
وكل جماعة واحدها قعلة أو فعلةٌ فهي مقصورة نحو: عروةٍ وعرىً، وفريةٍ وفرىً.

هذا باب الهمز
اعلم أن الهمزة تكون فيها ثلاثة أشياء: التحقيق، والتخفيف، والبدل.
فالتحقيق قولك: قرأت، ورأس، وسأل، ولؤم، وبئس، وأشباه ذلك.
وأما التخفيف فتصير الهمزة فيه بين بين وتبدل، وتحذف، وسأبين ذلك إن شاء الله.
اعلم أن كل همزةٍ مفتوحة كانت قبلها فتحةٌ فإنَّك تجعلها إذا أردت تخفيفها بين الهمزة والألف الساكنة وتكون بزنتها محققَّةً، غير أنَّك تضعف

(3/541)


الصوت ولا تتمه وتخفي؛ لأنك تقربها من هذه الألف. وذلك قولك: سأل في لغة أهل الحجاز إذا لم تحقَّق كما يحقِّق بنو تميم، وقد قرأ قبل، بين بين.
وإذا كانت الهمزة منكسرة وقبلها فتحة صارت بين الهمزة والياء الساكنة كما كانت المفتوحة بين الهمزة والألف الساكنة. ألا ترى أنك لا تتم الصوت ههنا وتضعِّفه لأنَّك تقرِّبها من الساكن، ولولا ذلك لم يدخل الحرف وهن، وذلك قولك: يئس وسئم، وإذ قال إبراهيم وكذلك أشباه هذا.
وإذا كانت الهمزة مضمومة وقبلها فتحة صارت بين الهمزة والواو الساكنة. والمضمومة قصتها وقصة الواو قصة المكسورة والياء، فكل همزة تقرَّب من الحرف الذي حركتها منه فإنما جعلت هذه الحروف بين بين ولم تجعل ألفاتٍ ولا ياءاتٍ ولا واواتٍ؛ لأنَّ أصلها الهمز، فكرهوا أن يخففوا على غير ذلك فتحوَّل عن بابها، فجعلوها بين بين ليعلموا أنَّ أصلها عندهم الهمز.
وإذا كانت الهمزة مكسورة وقبلها كسرة أو ضمة فهذا أمرها أيضاً، وذلك قولك: من عند إبلك ومرتع إبلك.
وإذا كانت الهمزة مضمومة وقبلها ضمة أو كسرة فإنَّك تصيَّرها بين بين؛ وذلك قولك: هذا درهم أختك، ومن عند أمك، وهو قول العرب وقول الخليل.

(3/542)


واعلم أنَّ كل همزة كانت مفتوحة وكان قبلها حرف مكسور فإنك تبدل مكانها ياء التخفيف، وذلك قولك في المئر: ميرٌ، وفي يريد أن يقرئك يقريك. ومن ذلك: من غلام يبيك، إذا أردت من غلام أبيك.
وإن كانت الهمزة مفتوحة وقبلها ضمة وأردت أن تخفف أبدلت مكانها واواً كما أبدلت مكانها ياءً حيث كان ما قبلها مكسوراً، وذلك قولك: في التؤدة تودة، وفي الجؤن جونٌ، وتقول: غلام وبيك إذا إذا أردت غلام أبيك.
وإنما منعك أن تجعل الهمزة ههنا بين بين من قبل أنها مفتوحة، فلم تستطع أن تنحو بها نحو الألف وقبلها كسرة أو ضمة، كما أن الألف لا يكون ما قبلها مكسوراً ولا مضموماً، فكذلك لم يجيء ما يقرب منها في هذه الحال.
ولم يحذفوا الهمزة إذا كانت لا تحذف وما قبلها متحرِّك، فلمَّا لم تحذف وما قبلها مفتوح لم تحذف وما قبلها مضموم أو مكسور، لأنَّه متحرِّك يمنع الحذف كما منعه المفتوح.
وإذا كانت الهمزة ساكنةٌ وقبلها فتحة فأردت أن تخفِّف أبدلت مكانها ألفاً، وذلك قولك في رأسٍ وبأسٍ وقرأت: راسٌ وباسٌ وقراتٌ.
وإن كان ما قبلها مضموماً فأردت أن تخفِّف أبدلت مكانها واواً، وذلك قولك في الجؤنة والبؤس والمؤمن الجونة والبوس والمومن.

(3/543)


وإن كان ما قبلها مكسوراً أبدلت مكانها ياءً، كما أبدلت مكانها واواً إذا كان ما قبلها مضموماً، وألفاً إذا كان ما قبلها مفتوحاً، وذلك الذِّئب والمئرة: ذيبٌ وميرةٌ فإنما تبدل مكان كلِّ همزة ساكنةٍ الحرف الذي منه الحركة التي قبلها؛ لأنَّه ليس شيء أقرب منه ولا أولى به منها.
وإنما يمنعك أن تجعل هذه السواكن بين بين أنَّها حروف ميتة، وقد بلغت غايةً ليس بعدها تضعيف، ولا يوصل إلى ذلك ولا تحذف؛ لأنه لم يجيء أمرٌ تحذف له السواكن، فألزموه البدل كما ألزموا المفتوح الذي قبله كسرةٌ أو ضمةٌ البدل: وقال الراجز:
عَجِبْتَ مِن لَيْلاكَ وانتيابها ... من حيث زراتني ولم أورا بها
خفّف: ولم أورأبها، لإأبدلوا هذه الحروف التي منها الحركات لأنها أخوات، وهي أمَّهات البدل والزوائد، وليس حرف يخلو منها أو من بعضها، وبعضها حركاتها. وليس حرفٌ أقرب إلى الهمزة من الألف،

(3/544)


وهي أحدى الثلاث، والواو والياء شبيهة بها أيضاً مع شركتهما أقرب الحروف منها. وسترى ذلك إن شاء الله.
واعلم أنَّ كل همزةٍ متحركة كان قبلها حرفٌ ساكن فأردت أن تخفف حذفتها وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها. وذلك قولك: من بوك ومن مُّك وكم بلك، إذا أردت أن تخفِّف الهمزة في الأب والأم والأبل.
ومثل ذلك قولك ألحمر إذا أردت أن تخفف ألف الأحمر. ومثله قولك في المرأة: المرة، والكمأة: الكمة. وقد قالوا: الكماة والمراة ومثله قليل.
وقد قال الذين يخفِّفون: " ألا يسجدوا لله الَّذي يخرج الخب في السَّموات، حدثنا بذلك عيسى وإنَّما حذفت الهمزة ههنا لأنك لن ترد أن تتم وأردت إخفاء الصوت، فلم يكن ليلتقي ساكن وحرفٌ هذه قصته كما لم يكن ليلتقي ساكنان. ألا ترى أنَّ الهمزة إذا كانت مبتدأةً محقَّقة في كل لغة فلا تبتدىء بحرف قد أوهنته؛ لأنَّه بمنزلة الساكن، كما لا تبتدىء بساكن. وذلك قولك: أمر. فكما لم يجز أن تبتدأ فكذلك لم يجز أن تكون بعد ساكن، ولم يبدلوا لأنَّهم كرهوا أن يدخلوها في بنات الياء والواو اللتين هما لامان. فإنَّما تحتمل الهمزة أن تكون بين بين في موضع لو كان

(3/545)


مكانها ساكنٌ جاز، ألاَّ الألف وحدها فإنه يجوز ذلك بعدها، فجاز ذلك فيها. ولا تبالي إن كانت الهمزة في موضع الفاء أو العين أو اللام، فهو بهذه المنزلة إلا في موضع لو كان فيه ساكنٌ جاز.
ومما حذف في التخفيف لأن ما قبله ساكن قوله: أرى وترى ويرى ونرى، غير أنَّ كل شيء كان في أوله زائدةٌ سوى ألف الوصل من رأيت فقد اجتمعت العرب على تفيفه لكثرة استعمالهم إياه، جعلوا الهمزة تعاقب.
وحدثني أبو الخطاَّب أنه سمع من يقول: قد أرآهم، يجيء بالفعل من رأيت على الأصل، من العرب الموثوقون بهم.
وإذا أردت أن تخفِّف همزة أرأوه، تلقى حركة الهمزة على الساكن وتلقي ألف الوصل؛ لأنَّك استغنيت حين حركت الذي بعدها، لأنَّك إنما ألحقت ألف الوصل للسكون. ويدلك على ذلك: رذاك، وسل، خففوا إرأ واسال.
وإذا كانت الهمزة المتحركة بعد ألف لم تحذف؛ لأنَّك لو حذقتها ثم فعلت بالألف ما فعلت بالسواكن التي ذكرت لك لتحولت حرفاً غيرها، فكرهوا أن يبدلوا مكان الألف حرفاً ويغيروها؛ لأنَّه ليس من كلامهم أن يغيروا السَّواكن فيبدلوا مكانها إذا كان بعدها همزة فخففوا، ولو فعلوا ذلك لخرج كلامٌ كثير من حدِّ كلامهم؛ لأنه ليس من كلامهم أن

(3/546)


تثبت الياء والواو ثانيةً فصاعداً وقبلها فتحةٌ، إلاَّ أن تكون الياء أصلها السكون. وسنبين ذلك في بابه إن شاء الله.
والألف تحتمل أن يكون الحرف المهموز بعدها بين بين، لأنَّها مدٌّ، كما تحتمل أن يكون بعدها ساكن، وذلك قولك في هباءة: هباأةٌ، وفي مسائل مسايل، وفي جزاء أمِّه: جزاؤ امِّه.
وإذ1 كانت الهمزة المتحركة بعد واوٍ أو ياء زائدةٍ ساكنة لم تلحق لتلحق بناءً ببناءٍ، وكانت مدَّةً في الاسم والحركة التي قبلها منها بمنزلة الألف، أبدل مكانها واوٌ إن كانت بعد واو، وياءٌ إن كانت بعد ياء ولا تحذف فتحرِّك هذه الواو والياء فتصير بمنزلة ما هو من نفس الحرف، أو بمنزلة الزوائد التي مثل ما هو من نفس الحرف من الياءات والواوات. وكرهوا أن يجعلوا الهمزة بين بين بعد هذه الياءات والواوات إذ كانت الياء والواو الساكنة قد تحذف بعدها الهمزة المتحركة وتحرك، فلم يكن بدٌّ من الحذف أو البدل، وكرهوا الحذف لئلاَّ تصير هذه الواوات والياءات بمنزلة ما ذكرنا، وذلك قولك في خطيئةٍ خطيَّة، وفي النَّسىء النَّسيٌّ يا فتى، وفي مقروء، ومقروءةٍ: هذا مقروٌّ، وهذه مقروةٌ، وفي أفيئسٍ وهو تحقير أفؤسٍ أفيسٌ، وفي بريئةٍ بريَّة، وفي سويئلٍ وهو تحقير سائلٍ سويِّل، فياء التحقير بمنزلة ياء خطيّةٍ وواو الهدوِّ، في أنَّها لم تجيء لتلحق بناءً ببناءٍ، ولا تحرَّك أبداً بمنزلة الألف. وتقول في أبي إسحاق وأبو إسحاق: أبيسحاق وأبو سحاق. وفي أبي أيُّوب

(3/547)


وذو أمرهم: ذومرهم وأبي يُّوب، وفي قاضي أبيك: قاضي بيك، وفي يغزو أمَّه: يغزومَّه، لأنَّ هذه من نفس الحرف.
وتقول في حوأبةٍ: حوبةٌ؛ لأن هذه الواو ألحقت بنات الثلاثة ببنان الأربعة، وإنما كواو جدولٍ. ألا تراها لا تغير إذا كسرت للجمع تقول: حوائب، فإنَّما هي بمنزلة عين جعفرٍ.
وكذلك سمعنا العرب الذي يخففون يقولون: اتَّبعومره لأن هذه الواو ليست بمدَّة زائدة في حرفٍ الهمزة منه، فصارت بمنزلة واو يدعو. وتقول: اتبَّعي مره، صارت كياء يرمي حيث انفصلت ولم تكن مدَّةً في كلمة واحدةٍ مع الهمزة؛ لأنَّها إذا كانت متَّصلة ولم تكن من نفس الحرف أو بمنزلة ما هو نفس الحرف، أو تجيء لمعنىً، فإنما تجيء لمدَّةً لا لمعنىً. وواو اضربوا واتبعوا، هي لمعنى الأسماء، وليس بمنزلة الياء في خطيئةٍ تكون في الكلمة لغير معنىً. ولا تجيء الياء مع المنفصلة لتلحق بناءً ببناءٍ فيفصل بينها وبين ما لا يكون ملحقاً بناءً ببناءٍ.
فأمَّا الألف فلا تغيَّر على كلِّ حال؛ لأنها إن حرِّكت صارت غير ألف. والواو والياء تحركان ولا تغيَّران.
واعلم أنَّ الهمزة إنَّما فعل بها هذا من لم يخففها؛ لأنَّه بعد مخرجها، ولأنها نبرةٌ في الصدَّر تخرج بالجتهادٍ، وهي أبعد الحروف مخرجاً، فثقل عليهم ذلك، لأنَّه كالتهُّوع.
واعلم أنَّ الهمزتين إذا التقتا وكانت كل واحدةٍ منهما من كلمة، فإنَّ

(3/548)


أهل التحقيق يخفَّفون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما لما ذكرت لك، كما استثقل أهل الحجاز تحقيق الواحدة. فليس كم كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحققا، ومن كلام العرب تخفيف الأولى وتحقيق الآخرة، وهو قول ابي عمر. وذلك قولك: فقد جا أشراطها، ويا زكريَّا إنا نبشرك.
ومنهم من يحقِّق الأولى ويخفف الآخرة، سمعنا ذلك من العرب، وهو قولك: فقد جاء اشراطها، ويا زكريَّا إنَّا. وقال:
كلَّ غرَّاء إذا ما بَرَزَتْ ... تُرْهَبُ العيْنُ عليها والحسَدْ
سمعنا من يوثق به من العرب ينشده هكذا وكان الخليل يستحب هذا القول فقلت له: لمه؟ فقال: إنيَّ رأيتهم حين أرادوا أن يبدلوا إحدى الهمزتين اللَّتين تلتقيان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة، وذلك: جاىءٍ وآدم. ورأيت أبا عمروٍ أخذ بهنَّ في قوله عزَّ وجلَّ: " يا ويلتا أللد وأنا عجوز "، وحقق الأولى. وكلٌّ عربي. وقياس من خفف الأولى أن يقول: يا ويلتا األد.
والمخففة فيما ذكرنا بمنزلتها محققةً في الزِّنة، يدُّلك على ذلك قول الأعشى:

(3/549)


أأن رأت رجلا أعشى أضرَّبه ... ريب المنون ودَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ
فلو لم تكن بزنتها محقّقة لا نكسر البيت.
وأمَّا أهل الحجاز فيخففون الهمزتين؛ لأنه لو لم تكن إلا واحدة لخفِّفت.
وتقول: اقرا آيةً في قول من خفف الأولى؛ لأن الهمزة الساكنة أبداً إذا خففت أبدل مكانها الحرف الذي منه حركة ما قبلها. ومن حقَّق الأولى، قال: اقرآية؛ لأنك خففت همزةً متحركة قبلها حرفٌ ساكن، فحذفتها وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها. وأما أهل الحجاز فيقولون: اقرا آيةً؛ لأن أهل الحجاز يخففونهما جميعاً يجعلون همزة اقرأ ألفاً ساكنة ويخففون همزة آية. ألا ترى أن لو لم تكن إلا همزة واحدة خفَّفوها، فكأنه قال: اقرا، ثمَّ جاء بآيةٍ ونحوهما.
وتقول: أقرى باك السَّلام بلغة أهل الحجاز؛ لأنهم يخففَّونهما. فإنما قلت أقرى ثمَّ جئت بالأب فحذفت الهمزة وألقيت الحركة على الياء.
وتقول فيهما إذا خففت الأولى في فعل أبوك من قرأت: قرا أبوك، وإن خففت الثانية قلت: قرأ ابوك محققةٌ. والمخففة بونتها محققةً، ولولا ذلك لكان هذا

(3/550)


البيت منكسراً إن خففت الأولى أو الآخرة:
كلُّ غَرّاء اذا ما برزتْ
ومن العرب ناسٌ يدخلون بين ألف الاستفهام وبين الهمزة ألفاً إذا التقتا، وذلك أنهم كرهوا التقاء همزتين ففصلوا، كما قالوا: اخشينان ففصلوا بالألف كراهية التقاء هذه الحروف المضاعفة. قال ذو الرمة:
فيا ظَبْيةَ الوَعْسَاء بين جلاجلٍ ... وبين النَّقا آأنت أمْ أمُّ سالم
فهؤلاء أهل التحقيق. وأمَّا أهل الحجاز فمنهم من يقول: آأنّك وآأنت، وهي التي يختار أبو عمرو، وذلك لأنهم يخففون الهمزة والذي كما يخفف بنو تميم في اجتماع الهمزتين فكرهوا التقاء الهمزة والذي هو بين بين فأدخلوا الألف كما أدخلته بنو تميم في التحقيق.
ومنهم من يقول: إن بني تميم الذين يدخلون بين الهمزة وألف الاستفهام ألفاً، وأمَّا الذين لا يخففون الهمزة فيحققونهما جميعاً ولا يدخلون بينهما ألفاً. وإن جاءت ألف الاستفهام وليس قبلها شيءٌ لم يكن من تحقيقها بدٌّ وخفَّفوا الثانية على لغتهم.

(3/551)


واعلم أن الهمزتين إذا التقتا في كلمة واحدة لم يكن بدٌّ من بدل الآخرة، ولا تخفف لأنهما إذا كانتا في حرف واحد لزم التقاء الهمزتين الحرف.
وإذا كانت الهمزتان في كلمتين فإن كل واحدة منهما قد تجري في الكلام ولا تلزق بهمزتها همزةٌ، فلما كانتا لا تفارقان الكلمة كانتا أثقل، فأبدلوا من إحداهما ولم يجعلوها في الاسم الواحد والكلمة الواحدة بمنزلتهما في كلمتين. فمن ذلك قولك في فاعلٍ من جئت جاىءٍ، أبدلت مكانها الياء لأن ما قبلها مكسور، فأبدلت مكانها الحرف الذي منه الحركة التي قبلها، كما فعلت ذلك بالهمزة الساكنة حين خففت.
ومن ذلك أيضاً: آدم، أبدلوا مكانها الألف؛ لأن ما قبلها مفتوح وكذلك لو كانت متحركة لصيرتها ألفاً كما صيرت همزة جاىءٍ ياءً وهي متحركة للكسرة التي قبلها.
وسألت الخليل عن فعللٍ من جئت فقال: جيأىً، وتقديرها جميعاً، كما ترى.
وإذا جمعت آدم قلت: أوادم، كما إذا حقرت قلت: أويدم؛ لأن هذه الألف لما كانت ثانية ساكنة وكانت زائدة؛ لأن البدل لا يكون من أنفس الحروف، فأرادوا أن يكسِّروا هذا الاسم الذي ثبتت فيه هذه الألف - صيروا ألفه بمنزلة ألف خالد.

(3/552)


وأمَّا خطايا فكأنَّهم قلبوا ياءً أبدلت من آخر خطايا ألفاً؛ لأنَّ ما قبل آخرها مكسور، كما أبدلوا ياء مطايا ونحوها ألفاً، وأبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخر ياءً، وفتحت للألف، كما فتحوا راء مدارى، فرقوا بينها وبين الهمزة التي تكون من نفس الحرف، أو بدلاً مما هو من نفس الحرف، نحو فعالٍ من برئت إذا قلت: رأيت براءً، وما يكون بدلاً من نفس الحرف قضاءٌ، إذا قلت: رأيت قضاءً، وهو فعالٌ من قضيت، فلمَّا أبدلوا من الحرف الآخر ألفاً استثقلوا همزةً بين ألفين، لقرب الألفين من الهمزة. ألا ترى أنَّ أناساً يحقِّقون الهمزة، فإذا صارت بين ألفين خفِّفوا، وذلك قولك: كساءان، ورأيت كساءً، وأصبت هناءً، فيخففون كما يخففون إذا التقت الهمزتان؛ لأن الألف أقرب الحروف إلى الهمزة. ولا يبدلون؛ لأن الاسم قد يجري في الكلام ولا تلزق الألف الآخرة بهمزتها، فصارت كالهمزة التي تكون في الكلمة على حدة، فلمَّا كان ذا من كلامهم أبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخرة ياءً، ولم يجعلوها بين بين، لأنَّها والألفين في كلمة واحدة، ففعلوا هذا إذ كان من كلامهم، ليفرقوا بين ما فيه همزتان إحداهما بدل من الزائدة، لأنها أضعف - يعني همزة خطايا - وبين ما فيه همزتان إحداهما بدل من مما هو من نفس الحرف. إنما تقع إذا ضاعفت، وسترى ذلك في باب الفعل إن شاء الله.
واعلم أن الهمزة التي يحقِّق أمثالها أهل التحقيق من بني تمبم وأهل الحجاز

(3/553)


وتجعل في لغة أهل التخفيف بين بين، تبدل مكانها الألف إذا كان ما قبلها مفتوحاً، والياء إذا كان ما قبلها مكسوراً، والواو إذا كان ما قبلها مضموماً. وليس ذا بقياس متلئبٍّ، نحو ما ذكرنا. وإنَّما يحفظ عن العرب كما يحفظ الشيء الذي تبدل التَّاء من واوه، نحو أتلجت، فلا يجعل قياساً في كل شيءٍ من هذا الباب، وإنَّما هي بدلٌ من واو أولجت.
فمن ذلك قولهم: منساةٌ، وإنَّما أصلها منسأةٌ. وقد بجوز في ذا كله البدل حتَّى يكون قياساً متلئبا، إذا اضطر الشاعر: قال الفرزدق:
راحَتْ بَمسْلَمَة البِغَالُ عشيَّةً ... فارْعَىْ فزارةُ لا هَنَاكِ المَرْتَعُ
فأبدل الألف مكانها. ولو جعلها بين بين لانكسر البيت.
وقال حسانٌ:
سَالَتْ هُذَيْلٌ رسول الله فاحشة ... ضلَّت هذيل بما جاءت ولم تصب

(3/554)


وقال القرشي، زيد بن عمرو بن نفيل:
سَالَتا الطَّلاق أنْ رأتانِي ... قلَّ ماليِ، قد جِئْتُماني بنُكْرِ.
فهؤلاء ليس من لغتهم سلت ولا يسال.
وبلغنا أن سلت تسال لغةٌ.
وقال عبد الرحمن بن حسان:
وكُنْتَ أذلَّ منْ وتدٍ بقاعٍ ... يُشَجّجُ رَأسَه بالفِهْرِ واجِي
يريد: الواجىء وقالوا: نبيٌّ وبريّةٌ، فألزموا أهل التحقيق البدل. وليس كلُّ شيء نحوهما يفعل به ذا، إنما يؤخذ بالسمع. وقد بلغنا أنَّ قوماً من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون نبيْ وبريئةٌ، وذلك قليلٌ رديء. فالبدل ههنا كالبدل في منساةٍ وليس بدل التخفيف، وإن كان اللفظ واحداً.

(3/555)


واعلم أنَّ العرب منها من يقول في أو أنت: أو أنت، يبدل. ويقول: أنا أرمي باك، وأبوَّ يُّوب يريد أبا أيُّوب، وغلاميَّ بيك. وكذلك المنفصلة كلُّها إذا كانت الهمزة مفتوحة.
وإن كانت في كلمة واحدة نحو سوأةٍ وموألةٍ، حذفوا فقالوا: سوةٌ ومولةٌ. وقالوا في حوأبٍ: حوبٌ؛ لأنَّه بمنزلة ما هو من نفس الحرف. وقد قال بعض هؤلاء: سوَّة وضوٌّ، شبهوه بأونت.
فإن خففت أحلبني إبلك في قولهم، وأبو أمِّك، لم تثقل الواو كراهيةً لاجتماع الواوات والياءات والكسرات. تقول: أحلبني بلك وأبومِّك. وكذلك أرمي مَّك وادعو بلكم. يخفِّفون هذا حيث كان الكسر، والياءات مع الضم، والواوات مع الكسر. والفتح أخفُّ عليهم في الياءات والواوات. فمن ثم فعلوا ذلك.
ومن قال: سوةٌ قال: مسوٌّ وسيَّ. وهؤلاء يقولون: أنا ذونسه، حذفوا الهمزة ولم يجعلوها همزةً تحذف وهي مما تثبت.
وبعض هؤلاء يقولون: يريد أن يجييك ويسوك، وهو يجيك ويسوك يحذف الهمزة. ويكره الضمُّ مع الواو والياء، وعلى هذا تقول: هو يرم خوانه، تحذف الهمزة ولا تطرح الكسرة على الياء لما ذكرت لك، ولكن تحذف الياء لالتقاء الساكنين.

(3/556)


باب الأسماء التي توقع على عدة المؤنَّث
والمذكَّر لتبيِّن ما العدد إذا جاوز الاثنين والثِّنتين إلى أن تبلغ
تسعة عشر وتسع عشرة
اعلم أنَّ ما جاوز الاثنين إلى العشرة مما واحده مذكرٌ فإن الأسماء التي تبين بها عدته مؤنَّثة فيها الهاء التي هي علامة التأنيث. وذلك قولك: له ثلاثة بنين، وأربعة أجمالٍ، وخمسة أفراسٍ إذا كان الواحد مذكَّراً، وستَّة أحمرةٍ. وكذلك جميع هذا تثبت فيه الهاء حتى تبلغ العشرة.
وإن كان الواحد مؤنثاً فإنَّك تخرج هذه الهاءات من هذه الأسماء وتكون مؤنَّثة ليست فيها علامة التأنيث. وذلك قولك: ثلاث بناتٍ، وأربع نسوةٍ، وخمس أينقٍ، وستُّ لبنٍ، وسبع تمراتٍ، وثماني بغلاتٍ. وكذلك جميع هذا حتَّى تبلغ العشر.
فإذا جاوز المذكَّر العشرة فزاد عليها واحداً قلت: أحد عشر، كأنَّك قلت: أحد جمل. وليست في عشر ألفٌ، وهما حرفان جعلا اسماً واحداً، ضموا أحد إلى عشر ولم يغيَّروا أحد عن بنائه الذي كان عليه مفرداً حين قلت: له أحدٌ وعشرون عاماً، وجاء الآخر على غير بنائه حين كان منفرداً والعدد لم يجاوز عشرة.
وإن جاوز المؤنَّث العشر فزاد واحداً قلت: إحدى عشرة بلغة بني تميم، كأنما قلت: إحدى نبقة. وبلغة أهل الحجاز: إحدى عشرة، كأنما قلت: إحدى تمرة. وهما حرفان جعلا اسماً واحداً ضمُّوا إحدى إلى

(3/557)


عشرة ولم يغيروا إحدى عن حالها منفردةً حين قلت: له إحدى وعشرون سنةً.
فإن زاد المذكَّر واحداً على أحد عشر قلت: له اثنا عشر، وإنَّ له اثني عشر، لم تغير الاثنين عن حالهما إذا ثنيت الواحد، غير أنك حذفت النون لأنَّ عشر بمنزلة النون، والحرف الذي قبل النون في الاثنين حرف إعراب، وليس كخمسة عشر. وقد بيَّنا ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف.
وإذا زاد المؤَّنث واحدا على إحدى عشرة قلت: له ثنتا عشرة واثنتا عشرة، وإن له ثنتي عشرة واثنتي عشرة. وبلغة أهل الحجاز: عشرة. ولم تغير الثنتين عن حالهما حين ثنَّيت الواحدة، إلا أنَّ النون ذهبت، هنا كما ذهبت في الاثنين؛ لأن قصَّة المذكر والمؤنَّث سواءٌ. وبني الحرف الذي بعد إحدى وثنتين على غير بنائه والعدد لم يجاوز العشر، كما فعل ذلك بالمذكر.
وقد يكون اللفظ له بناءٌ في حالٍ فإذا انتقل عن تلك الحال تغيَّر بناؤه. فمن ذلك تغييرهم الاسم في الإضافة، قالوا في الأفق أفقيٌّ، وفي زبينة زبانيٌّ. ونحو هذا كثير في الإضافة، وقد بينَّاه في بابه.
وإذا زاد العدد واحدا على اثني عشر فإن الحرف الأول لا يتغير بناؤه عن حاله وبنائه حيث لم تجاوز العدَّة ثلاثةً، والآخر بمنزلته حيث كان بعد أحدٍ واثنين. وذلك قولك: له ثلاثة عشر عبداً، وكذلك ما بين هذا العدد إلى تسعة عشر. وإذا زاد العدد واحدا فوق ثنتي عشرة فالحرف الأول بمنزلته حيث لم تجاوز العدَّة ثلاثاً، والآخر حيث كان بعد إحدى وثنتين،

(3/558)


وذلك قولك: ثلاث عشرة جاريةً وعشرة بلغة أهل الحجاز. وكذلك ما بين هذه العدَّة إلى تسع عشرة. ففرقوا ما بين التأنيث والتذكير، في جميع ما ذكرنا من هذا الباب.

باب ذكرك الاسم الذي به تبين العدة
كم هي مع تمامها الذي هو من ذلك اللفظ فبناء الاثنين وما بعده إلى العشرة فاعلٌ، وهو مضافٌ إلى الاسم الذي به يبيَّن العدد. وذلك قولك: ثاني اثنين. قال الله عزَّ وجل: " ثاني اثنين إذ هما في الغار "، و " ثالث ثلاثةٍ "، وكذلك ما بعد هذا إلى العشرة.
وتقول في المؤنث ما تقول في المذكر، إلاَّ أنك تجيء بعلامة التأنيث في فاعلةٍ وفي ثنتين واثنتين، وتترك الهاء في ثلاثٍ وما فوقها إلى العشر.
وتقول: هذا خامس أربعةٍ؛ وذلك أنَّك تريد أن تقول: هذا الذي خمس الأربعة، كما تقول: خمستهم وريعتهم. وتقول في المؤنَّث: خامسة أربعٍ، وكذلك جميع هذا من الثلاثة إلى العشرة. إنَّما، تريد هذا الذي صيَّر أربعةً خمسةً. وقلما تريد العرب هذا وهو قياسٌ. ألا ترى أنك لا تسمع أحداً يقول: ثنيت الواحد ولا ثاني واحدٍ.

(3/559)


وإذا أردت أن تقول في أحد عشر كما قلت خامس قلت: حادي عشر، وتقول: ثاني عشر، وثالث عشر. وكذلك هذا، إلى أن تبلغ تسعة عشر. ويجري مجرى خمسة عشر في فتح الأول والآخر، وجعلا بمنزلة اسم واحد كما فعل ذلك بخمسة عشر. وعشر في هذا أجمع بمنزلته في خمسة عشر.
وتقول في المؤنث كما تقول في المذكر، إلا أنَّك تدخل في فاعلةٍ علامة التأنيث، وتكون عشرة بعدها بمنزلتها في خمس عشرة. وذلك قولك حادية عشرة وثانية عشرة وثالثة عشرة، وكذلك جميع هذا إلى أن تبلغ تسع عشرة.
ومن قال: خامس خمسةٍ قال: خامس خمسة عشر، وحادي أحد عشر. وكان القياس أن تقول: حادي عشر وخامس عشر لأن حادي عشر وخامس عشر بمنزلة خامسٍ وسادسٍ، ولكنه يعني حادي ضم إلى عشر، بمنزلة حضرموت. قال: تقول حادي عشر فتبينه وما أشبهه كما قلت: أحد عشر وما أشبهه.
فإن قلت: حادي أحد عشر فحادي وما أشبهه يرفع ويجرُّ ولا يبنى؛ لأنَّ أحد عشر وما أشبهه مبني، فإن بنيت حادي وما أشبهه معها صارت ثلاثة أشياء اسماً واحدا.
وقال بعضهم: تقول ثالث عشر ثلاثة عشر ونحوه. وهو القياس، ولكنه حذف استخفافا؛ لأنَّ ما أبقوا دليلٌ على ما ألقوا، فهو بمنزلة خامس

(3/560)


خمسة في أنَّ لفظ أحد عشلا كما أن في خامس لفظٍ خمسةٍ لما كان من كلمتين ضم أحدهما إلى الآخر، وأجرى مجرى المضاف في مواضع، صار بمنزلة قولهم حادي عشر بمنزلة خامس خمسةٍ ونحوه. وإنما حادي عشر بمنزلة خامسٍ. وليس قولهم ثالث ثلاثة عشر في الكثرة كثالث ثلاثةٍ؛ لأنهم قد يكتفون بثالث عشر.
وتقول: هذا حادي أحد عشر إذا كن عشر نسوةٍ معهن رجل؛ لأنَّ المذكر يغلب المؤنث. ومثل ذلك قولك: خامس خمسةٍ إذا كن أربع نسوةٍ فيهن رجل، كأنك قلت: هو تمام خمسةٍ.
وتقول: هو خامس اربعٍ إذا أردت أنه صير أربع نسوةٍ خمسةً. ولا تكاد العرب تكلَّم به كما ذكرت لك.
وعلى هذا تقول: رابع ثلاثة عشر، كما قلت: خامس أربعة عشر.
وأمَّا بضعة عشر فبمنزلة تسعة عشر في كل شيء، وبضع عشرة كتسع عشرة في كل شيء.