أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك

ج / 4 ص -262-        باب الحكاية1:
هذا باب الحكاية:
[حكاية الجملة بعد القول]:
حكاية الجمل مطردة بعد القول2؛ نحو:
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}3، ويجوز حكايتها على المعنى4؛ فتقول في حكاية "زيد قائم": "قال عمرو قائم زيد"؛ فإن كانت الجملة ملحونة؛ تعين المعنى على الأصح5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناها لغة: المماثلة والمشابهة، أما في اصطلاح النحاة؛ فهي: ذكر اللفظ المسموع، وإعادة نطقه أو كتابته، على هيئة، من غير تغيير شيء من حروفه أو حركاته؛ وهي ثلاثة أنوع: حكاية جملة، وحكاية مفرد، وحكاية حال المفرد وصفته، وسيذكرها المصنف على هذا الترتيب.
التصريح: 2/ 281.
2 المراد: القول وما تصرف منه من فعل، أو وصف بأنواعه. وكذلك تطرد بعد السماع، وبعد الكتابة، والقراءة. ولا تقع الحكاية بعد غير ذلك إلا سماعًا.
3 سورة مريم [الآية: 30].
موطن الشاهد:
{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}.
وجه الاستشهاد: وقوع جملة "إني عبد الله": مقول القول في محل نصب.
ومثل هذه الآية قوله تعالى:
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ}، و{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ}.
4 يراد بالمعنى: ما قابل لفظ المحكي عنه بهيئته وترتيبه؛ فيشمل تقديم بعض ألفاظ المحكي، وتأخيرها، أو تغيير إعرابها.
5 وذلك ابتعادًا عن اللحن. وصونًا للسان عنه، وينبه عليه؛ لئلا يتوهم: أن اللحن نشأ من الحاكي؛ فإذا قال شخص: حضر محمد بجر محمد؛ وأريد حكاية قوله؛ قيل: قال فلان: "حضر محمد؛ لكنه جر "محمدًا". ومثال حكاية الجملة المكتوبة: كتبت:
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُم} وقول من قرأ خاتم النبي: قرأت على فصه محمد رسول الله. ضياء السالك: 4/ 49.

 

ج / 4 ص -263-        [حكاية المفرد]:
وحكاية المفرد في غير الاستفهام شاذة1؛ كقول بعضهم: "ليس بقرشيًا"؛ ردًا على من قال: "إن في الدار قرشيًا"2.
وأما في الاستفهام3؛ فإن كان المسؤول عنه نكرة4؛ والسؤال بأي، أو بمن حكي في لفظ "أي"، وفي لفظ "من" ما ثبت لتلك النكرة المسؤول عنها؛ من رفع، ونصب، وجر، وتذكير، وتأنيث، وإفراد، وتثنية وجمع5.
تقول لمن قال: "رأيت رجلًا، وامرأة، وغلامين، وجاريتين، وبنين، وبنات"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محل الشذوذ: إذا كان الحكم على معنى اللفظ المحكي؛ فإن قصد اللفظ؛ فلا.
تنبيه: إذا حكم على لفظ اعبتار كونه لفظًا؛ جاز إعرابه بحسب العوامل؛ وجازت حكايته على أصله مع تقدير إعرابه؛ واللفظ الذي على حرفين؛ إن حكي لم يغير مطلقًا، وإن أعرب، وثانيه لين؛ وجب تضعيفه "كلوا" و "في"؛ قال الشاعر:

الأم على "لو" ولو كنت عالمًا                      بأذناب لو لم تفتني أوائله

وفي الحديث: "إياكم واللو فإن اللو تفتح عمل الشيطان". ويقلب الحرف المضاعف همزة في "ما" و"لا" للساكنين؛ تقول: ماء ولاء.
2 ومثله قول بعض العب -وقد قيل له: هاتان تمرتان-: دعنا من تمرتان؛ فتمرتان مجرور بياء مقدرة منع من ظهورها حرف الحكاية. وقرشيًا مجرور كذلك بكسرة مقدرة منع مع ظهورها حركة الحكاية، وهي الفتحة والتنوين.
3 هذا هو النوع الثالث، وهو حكاية حال المفرد، وتكون بأداتي الاستفهام: "أي" و"من" ويسمى الاستثبات بأي أو من؛ أي: طلب الإثبات بهما.
4 احترز به عن المعرفة؛ لأنها لا تحكي بأي، ويجب أن تكون النكرات مذكورة؛ قال الدنوشري: أو معلومة، كما إذا قيل: هل ضربت رجلًا؟ فقال المخاطب: ضربت، فتقول مريدًا لتعيين الحاكي: "أيا"؛ فقد حكيت ما فيها مع الحذف.
حاشية يس على التصريح: 2/ 282.
5 سواء كان كل من التثنية والجمع حقيقًا؛ بأن كان موجودًا في المسؤول عنه -كما مثل المؤلف- أو يكون صالحًا؛ لأن يوصف به؛ نحو: رأيت كاتبًا وخطيبًا، وقابلت رجالًا ونساء؛ فإنك تحكيمها بـ "أيِّين، وأيات" مع أن الأولين؛ ليسا بمثنيين صناعة، ولكن يوصفان بالمثني؛ تقول: جالسين مثلًا؛ والآخرين: ليسا بجمعي تصحيح؛ ولكن يوصفان به؛ تقول: صالحين وصالحات ويقاس على ذلك حكاية المرفوع بالفاعلية، والمجرور.

 

ج / 4 ص -264-        أي، وأية، وأيين، وأيتين، وأيين، وأيات1؛ وكذلك تقول في "من" إلا أن بينهما فرقًا من أربعة أوجه:
أحدها: أن أيا عامة في السؤال؛ فيسأل بها عن العاقل كما مثلنا وعن غيره؛ كقول القالئل: "رأيت حمارًا" أو "حمارين" و"من" خاصة بالعاقل.
الثاني: أن الحكاية في "أي" عامة في الوقف والوصل. يقال: "جاءني رجلان"، فتقول: "أيان"، أو "إيان يا هذا"؛ والحكاية في "من" خاصة بالوقف؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأمثلة جميعها استفهامية معربة؛ وفي إعرابها خلاف؛ فقيل: هي معربة بما فيها من حركات وحروف على حسب العوامل؛ فـ "أي": مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة؛ وخبرها: محذوف مؤخر عنها؛ لصدارتا؛ تقديره في مثل "جاء رجل": أي جاء؟. و"أيا": مفعول بفعل محذوف مؤخر -أيضًا-؛ تقديره في مثل "أكرمت رجلا": أيا أكرمت؟.
و"أي" مجرورة بحرف جر محذوف مع متعلقه؛ تقديره في مثل "مررت برجل": بأي مررت. و"أيان" مرفوع بالألف؛ و"أين" مجرور بالياء... إلخ.
ويلزم -على هذا القول- حذف الجار وإلقاء عمله في حالة الجر. وقيل: هي معربة بحركات مقدرة؛ لأنها لحكاية اللفظ المسموع؛ فحركتها وحروفها الزائدة في التثنية والجمع للحكاية، وليست علامات إعراب؛ وعلى هذا يقال: "أي": مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة، منع منها علامة التثنية؛ التي جيء بها للحكاية...إلخ.
والخبر: محذوف؛ تقديره أي هو، أو هما مثلا. وقيل: الحركة والحرف؛ في حالة الرفع: إعراب، وفي حالتي؛ النصب والجر: حكاية هذا، وحكاية ما للمنكور من إعراب، وتذكير، وإفراد، وفروعهما؛ هي اللغة الفصحى. وهناك لغة أخرى، يحكى بها ما له من إعراب، وتذكير، وتأنيث فقط، ولا يثنى، ولا يجمع لفظ "أي"؛ فنقول: "أيا" لمن قال: رأيت رجلًا، أو رجلين، أو رجالًا، و"أية"؛ لمن قال: رأيت امرأة، أو أمرأتين أو نساء؛ وفي الحكاية بـ "أي"، يقول الناظم:

احك بـ "أي" ما لمنكور سئل                 عنه بها في الوقف أو حين تصل

والمعنى: إذا سئل بـ "أي" عن منكور، في كلام سابق؛ حكي في "أي" ما لذلك المنكور، من إعراب، وتذكير، وإفراد، وفروعهما؛ سواء في ذلك حالة الوقف، أو الوصل.
ضياء السالك 4/ 51. وحاشية الصبان: 4/ 88-89. والتصريح: 2/ 282-283.

 

ج / 4 ص -265-        تقول: "منان" بالوقف والإسكان. وإن وصلت قلت: "من يا هذا"، وبطلت الحكاية؛ فأما قوله1: [الوافر]

531- أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القائل هو: شمر بن الحارث الضبي؛ وقيل: جذع بن سنان الغساني، وقيل تأبط شرًَا.
2 تخريج الشاهد: هذا صدر بيت، وعجزه قوله:

فقالوا: الجن! قلت: عموا ظلامًا!

ويروى بعده قوله:

فقلت إلى الطعام فقال منهم                     زعيم نحسد الإنس الطعاما

لقد فضلتم بالأكل فينا                              ولكن ذاك يعقبكم سقاما

والشاهد من شواهد: التصريح: 2/ 283، والأشموني "1147/ 3/ 642"، والعيني: 4/ 498، وسيبويه: 1/ 402، والنودر: 123، والحيوان: 1/ 176، 328، 2/ 197، والمقتضب: 2/ 307، والجمل: 320، والخصائص: 1/ 129، وشرح المفصل: 4/ 16، والمقرب: 65، والخزانة: 2/ 3، والهمع: 2/ 157، 211، والدرر: 2/ 218، 237.
المفردات الغريبة: أتوا: حضروا وجاؤوا، ناري، المراد: النار التي توقد لإرشاد السائرين، وكانت عادة كرماء العرب، إذا كانت مجاعة، أو قحط -أن يوقدوا نارا على مرتفع من الأرض، ليراها السائرون ليلًا، فيقصدونها. منون أنتم: أي من أنتم؟ عموا ظلامًا: تحية من تحيات العرب الجاهليين؛ مثل: عم صباحًا، وعم مساء.
المعنى: هذا البيت من أوهام العرب وأكاذيبهم في الجن، يقول الشراع: حضر الجن إلى ناري للاستفداء أو لغيره، فقلت لهم مستفهمًا: من أنتم؟ فقالوا: نحن الجن فقلت عند ذلك تحية لهم نعم ظلامكم.
الإعراب: أتوا: فعل ماض مبني على الضم المقدر على الواو المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين، والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والألف: للتفريق. ناري: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء: في محل جر بالإضافة. فقلت: الفاء عاطفة، قلت: فعل ماض مبني على السكون؛ والتاء: في محل رفع فاعل. منون: اسم استفهام في محل رفع مبتدأ؛ أو من: اسم استفهام مبني على السكون المقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة مناسبة الحرف الذي جلبته الحكاية، في محل رفع مبتدأ؛ والواو والنون زائدتان للحكاية؛ والمحكي: ضمير في فعل محذوف صادر من الجن، والتقدير: أتوا ناري، فقالوا: أتينا؛ فقلت: منون أنتم؟. أنتم: ضمير رفع منفصل في محل رفع خبر المبتدأ؛ فقالوا: الفاء عاطفة، قالوا: فعل ماض مبني على الضم، والواو: في محل رفع فاعل. الجن: خبر =

 

ج / 4 ص -266-        فنادر في الشعر، ولا يقاس عليه؛ خلافًا ليونس.
الثالث: أن "أيا" يحكى فيها حركات الإعراب غير مشبعة؛ فنقول "أي" و "أيا" و"أي" ويجب في "من" الإشباع؛ فتقول: "منو" و"منا" و"مني".
الرابع: أن ما قبل تاء التأنيث في أي واجب الفتح؛ تقول: "أية" و"أيتان" ويجوز الفتح والإسكان في "من"، تقول: "منة" و "منت" و "منتان"، و "منتان"؛ والأرجح الفتح في المفرد، والإسكان في التثنية.
وإن كان المسؤول عنه علمًا لمن يعقل؛ غير مقرون بتابع، وأداة السؤال "من" غير مقرونة بعاطف؛ فالحاجزيون: يجيزون حكاية إعرابه؛ فيقولون "من زيدًا" لمن قال: "رأيت زيدًا"، و"من زيد" بالخفض لمن قال: "مررت بزيد"، وتبطل الحكاية في نحو: "ومن زيد" لأجل العاطف؛ وفي نحو: "من غلام زيد"؛ لانتفاء العلمية؛ وفي نحو: "من زيد الفاضل"؛ لوجود التابع، ويستثنى من ذلك أن يكون التابع أبنًا متصلًا بلعم؛ "رأيت زيد بن عمرو"، أو علمًا معطوفًا؛ كـ "رأيت زيدًا وعمرًا"؛ فتجوز فيهما الحكاية، على خلاف في الثانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: نحن الجن؛ وجملة "نحن": مقول القول في محل نصب مفعولًا به. قلت: فعل ماض مبني على السكون والتاء: في محل رفع فاعل. عموا: فعل أمر مبني على حذف النون؛ لاتصاله بواو الجماعة، والواو: في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. ظلامًا: منصوب على الظرفية بـ "عموا".
موطن الشاهد: "منون أنتم؟".
وجه الاستشهاد: التحاق الواو والنون بـ "من" في حالة الوصل؛ وحكم هذا الإلتحاق الشذوذ؛ لأن القياس: من أنتم؟، لكون لفظ "من" -في الحكاية- لا يختلف في حالة الوصل في غفراد، ولا في تثنية، ولا في جمع؛ وفيه شذوذ آخر؛ وهو تحريك النون الأخيرة؛ والنون حين تزاد، تكون ساكنة؛ وفيه شذوذ ثالث؛ وهو حكاية الضمير المحذوف في "أتينا"؛ والضمير معرفة؛ والمعارف غير الأعلام لا تحكى.
انظر في تفصيل ذلك التصريح: 2/ 284، والدرر اللوامع: 2/ 218-219.