شرح أبيات سيبويه

الفصل بين المتضايفين بالجار والمجرور
قال سيبويه في الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الشعر: وقالت درنى بنت عبعبة من بني قيس بن ثعلبة. والذي وجدته: وقالت درنى بنت سيار بن صبرة
بن حطان بن سيار بن عمرو بن ربيعة:
وقد زَعَموا أني جَزِعْتُ عليهما ... وهل جَزَعٌ أن قلتُ وابأ باهما
(هما أخو - في الحرب - من لا أخا له ... إذا خافَ يوما نَبْوَةً فدعاهما)
الشاهد فيه أنها فصلت بين (أخوا) وبين (من) بقولها (في الحرب). والأصل: هما في الحرب أخوا من لا أخا له.
ترثي بذلك أخويها، تعني أنهما يتعطفان في الحرب على من أرهقه الموت، وغشيه أعداؤه، ودعا ناصر فلم يجدهم. تقول: هما يبذلان أنفسهما إذا استغيث بهما في الشدائد. والنبوة: المحنة والبلية

(1/149)


تنزل بالإنسان. وقولها: وقد زعموا أني جزعت عليهما، تريد أنهم زعموا أنها جزعت على فقدهما جزعا يقبح مثله، فردت عليهم وقال: إنما قلت: يا بأ باهما، وليس بقبيح.

في البدل
قال سيبويه في باب من البدل: صرفت وجوهها أولها، ومالي علم بهم أمرهم. يعني أن (أولهما) مجرور لأنه بدل من الضمير المضاف إليه (الوجوه) وكذا (أمرهم) هو بدل من الضمير في (بهم).
وقول جرير:
طرقَتْ سَواهِمَ قد أضَرَّبها السُّرَى ... نَزَحَتْ بأَذرُعِها تنائفَ زُورا
(مشَقَ الهواجرُ لحمَهُنَّ مع السُّرَى ... حتى ذّهَبْن كَلا وصدورا)
فإنما هو على: ذهب قدما وذهب أخرا.
يريد أن (كلاكلا

(1/150)


وصدورا) ليسا ببدل من (لحمهن) كالذي ذكر في قوله: صرفت وجوهها أولها - وجعل (أولها) بدلا من الضمير الذي أضيفت الوجوه إليه - وإنما انتصب (كلا كلا وصدورا) على الحال.
وقال سيبويه: هو بمنزلة قولك ذهب قدما أي متقدما، وذهب أخرا:
أي متأخرا. فإن قال قائل: لم يجعل سيبويه (كلاكلا وصدورا) بدلا من (لحمهن) ويكون التقدير: ألهو أجر مع الشرى كلا كلا وصورا، وجعلهما منصوبين على الحال؟ قيل له:
نحن إذا جعلناهما بدلا، جعلنا العامل فيها (مشق) وإذا نصبناهما على الحال جعلنا العامل (ذهبن)، وإعمال الفعل الأقرب أولى إذ كان لإعماله وجه جيد.
ومع هذا، أن النكرة إذا جعلت بدلا من المعرفة - في بدل الشيء من الشيء وهو بعضه - جعلت مضافة إلى ضمير المبدل منه، كقولك: ضربت زيدا يده، وضربت عمرا ظهره، هذا هو الأكثر، ولا يمتنع أن يبدل البعض وهو غير مضاف، إلا أن الأكثر ما قلت لك، وحمله على الأكثر أولى.
ولم يقل سيبويه أن البدل لا يجوز على وجه، إنما جعله من غير جنس البدل وجعله منصوبا على الحال، كأنه قال: حتى ذهبن ناحلات. والجواهر قد تقع أحوالا على تأويل يسوغ فيها.
وزعم بعض النحويين أن (كلاكلآ وصدورا) منصوبان على التمييز، وبعض رواة الشعر يجعل (كلاكلآ وصدورا) منصوبين على البدل من (لحمهن).
وفي (طرقت) ضمير يعود إلى امرأة ذكرها. يعني أنها طرقتهم وهم مسافرون نياما، فرأوا خيالها، وأراد: طرقت أصحاب إبل سواهم والسواهم:

(1/151)


جمع ساهم وساهمة وهو المتغير المهزول، والسرى: سير الليل، نزحت بأذرعها: يعني أنها أنفدت طول الفلاة بسيرها كما ينفد ماء البئر بالنزع. والتنائف: جمع تنوفة وهي القفر من الأرض، وقيل أن الزور التي لا يهتدى لها. وعندي إنه أراد بالزور: التي لا يسير فيها: القوم على قصد واحد، يأخذون فيها يمنة ويسرة، ومشق: أذهب لحمهن، والهواجر: جمع هاجرة وهي نصف النهار في الحر، وأراد: مشق سير الهواجر لحمهن مع السرى - وهي سير الليل - حتى نحلت كلا كلهن
وصدورهن. والكلاكل والصدور شيء واحد، وإنما جاء بهما لاختلاف اللفظين.
سويروى: كواهلا وصورا. والكاهل: أعلى الصدر.

أسلوب الإغراء والتحذير
قال سيبويه في باب الفعل المستعمل إظهاره:
وإن شاء أظهر الفعل فقال: خل الطريق أو تنح عن الطريق. قال جرير:

(1/152)


(خَلَّ الطريقَ لِمَنْ يبني المنارَ به ... وابْرزْ بَبرزةَ اضطَرَّك القَدَرُ)
يخاطب عمر بن لجأ التيمي يقول: خل طريق المعالي والشرف، واتركه على من يفعل أفعالا مشهورة كأنها الأعلام التي تنصب على الطريق وتبنى من حجارة ليهتدي بها. وبرزة أم عمر بن لجأ يقول: ابرز بها عن جملة الناس، وصر إلى موضع يمكنك أن تكون فيه كما قضي عليك.

في إعراب أي
قال سيبويه في باب تعليق الفعل: وتقول: قد عرفت أي يوم الجمعة، تنصب على إنه ظرف لا على (عرفت). وإن لم تجعله ظرفا رفعت.
أما نصبه فعلى تقدير: في أي الأوقات الجمعة؟ كما تقول: في أي

(1/153)


الأوقات الاجتماع للصلاة. ورفعه جيد، كأنه قال: أي الأيام يوم الجمعة؟
ثم قال سيبويه: وبعض العرب يقول:
لقد علمتُ أيَّ حينٍ عُقبَتي
أنشده أيضا بالرفع. وهذا بيت شعر قد خلط في الكتاب بالكلام.
قال الراجز:
أأنتِ يا بُسَيْطَهُ التي التي
هيَّبنيكِ في المَقيلِ صُحبتي
(لقد علمْتُ أيَّ حينٍ عُقْبَتي)
هي التي عند الهجير والتي
إذا النجوم في السماء ولَّتِ
الشاهد على نصب (أي حين). و (عقبتي) مبتدأ و (أي حين) خبره، وهو منصوب على الظرف. كأنه قال: في أي الأحيان اعتقابي، يريد: ركوب

(1/154)


عقبته، ورفعه جائز على ما قدمته.
والبسيطة الأرض المنبسطة الممتدة، هيبنيك صحبتي: أي هيبوني من ركوبك والسير فيك، والهجير: الهاجرة، وولت النجوم: يعني النجوم التي كانت في أول الليل مرتفعة، وولت: انحطت لتغيب. يعني أن له عقبتين: عقبة بالليل وعقبة بالنهار.

حذف خبر الأول لدلالة خبر الثاني عليه
قال سيبويه في باب أعمال أحد الفعلين: ومثله قول الفرزدق:

(1/155)


(إني ضَمِنْتُ لَمِنْ أتاني ما جَنَى ... وأبي، فكان وكنتُ غيرَ غَدورِ)
الشاهد فيه على إنه أخبر عن أحدهما، واكتفى بالخبر عنه عن الخبر عن الآخر لاتفاق خبريهما في المعنى، وتقديره: فكان غير غدور وكنت غير غدور. فاكتفى بالخبر عن الثاني عن الخبر عن الأول.
و (أبي) معطوف على الضمير الذي هو فاعل (ضمنت)، ولم يؤكد حين عطف عليه، لأنه جعل الذي بينهما عوضا من التوكيد.
والمعنى إنه يقول: إني ضمنت لمن أتاني جانبا أن أجيزه، وأمنع منه، وأغرم عنه ما وجب عليه بجنايته.

الأخبار بالمعرفة عن النكرة - ضرورة
قال سيبويه في باب كان: قال ثروان بن فزارة بن عبد يغوث:
فإنكَ لا تُبالي بعدَ حَوْلٍ ... أظَبْيٌ كانَ أمكَ أم حمارُ)
فقد لَحِقَ الأَسافِلُ بالأعالي ... وماجَ اللؤمُ واختلط النجارُ

(1/156)


الشاهد فيه إنه جعل النكرة اسم كان والمعرفة خبرها.
والذي في الكتاب: أطبي كان أمك أم حمار. والذي في شعره: أظبي كان خالك أم حمار.
والنجار: الأصل، وماج اللؤم: كثر أهله، وخالطوا الناس، وصارو أكثر من الأجواد، وتغيرت أخلاق الناس، فصاروا لا يرجع كل قوم منهم إلى نجارهم واصلهم وما كان عليه أوائلهم، واكتسبوا أخلاق اللئام، وذهب السؤدد حتى أنهم - إن بقوا سنة على هذا الوصف - لا يبالي إنسان منهم اهيجينا كان أم غير هجين، ولا يفكر من ولده من الناس.

(1/157)


نصب (ويل) نكرة بإضمار فعل
قال سيبويه قال جرير:
كسا اللؤم تَيْما خضرة في جلودِها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخُضْرِ)
الشاهد فيه إنه نصب (فويلا لتيم).
والخضرة: يريد بها في هذا الموضع السواد، يعني أن ألوانهم سود. والسرابيل: القمص، جعل جلودهم عليهم بمنزلة القمص السود. ومن الخضرة بمعنى السواد قول اللهيبي:
وأنا الأخضرُ مَن يعرفُني ... أخضرُ الجلدةِ من بيتِ العَرَبْ

ورفع المصدر على الخبرية - إغناء للمعنى
قال سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر بإضمار فعل: وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ ثم يبنى عليه. وزعم يونس أن بعض

(1/158)


العرب - وهو رؤبة بن العجاج - كان ينشد هذا البيت رفعا. قال الزرافة الباهلي:
هل في القضية أن استغنم ... وأمِنْتُمُ فأنا البعيدُ الأجنبُ
وإذا تكونُ طريهةٌ أدْعَى لها ... وإذا يُحاسُ يُدْعَى جُنْدَبُ
هذا لَعَمْرُكُمُ الصَّغارُ بعينِهِ ... لا أم لي أن كان ذاكَ ولا أبُ
(عَجَبٌ لتلكَ قضيةً وإقامتي ... فيكُمْ على تلك القضيةِ أعجبُ)

(1/159)


الشاهد فيه إنه رفع (عجب) بالابتداء، وجعل (لتلك) خبره.
يقول لهم: هل في القضية العادلة أن أدعى إذا نزلت بكم نازلة حتى أدافع عنكم، فإذا تخلصتم منها وأمنتم وكان لكم خير؛ دعي جندب إليه، وتركت أنا وخيبت؛ ويحاس الحيس: يصلح، والصغار: الهوان والتحقير.
وقوله: لا أم لي أن كان ذاك ولا أب، و (ذاك) اسم كان، و (كان) هنا تامة و (ذاك) إشارة إلى الفعل الذي جرت عادتهم أن يفعلوه.
يقول: لا أم لي أن حدث مثل ذاك منكم فصبرت عليه. ثم عجب من جعلهم حظه منهم أن يستعان به في الشدة، ويطرح في الرخاء. و (قضية) منصوب على الحال.
قال سيبويه في المنصوبات: قال منذر بن درهم الكلبي:
وأحدث عهدٍ من أميْنَةَ نظرةٌ ... على جانبِ العلياء إذ أنا واقفُ

(1/160)


(يقول حنانٌ ما أتى بك هاهنا ... أذو نَسبٍ أم أنتَ بالحي عارفُ
الشاهد فيه إنه رفع (حنان) أي: ما لك عندنا، أو أمرنا حنان، وهو خبر ابتداء محذوف، و (ما) بمنزلة أي شيء، تقديره: أي شيء أتى بك هاهنا؟ أذو نسب، معناه: أأنت ذو نسب في الحي؟ أم أنت عارف بهم فتقصد إليهم؟.

رفع الظرف على المجاز اتساعا، لبلاغة المعنى
قال سيبويه في ما اتسع من الظروف وجعل اسما: قال الجرنفش بن يزيد بن عبدة الطائي:
أيلغْ بني ثُعَلٍ عني مُغَلْغَلةً ... فقد أنى لك من نَيء وإنضاجِ
حتى متى أنا بالأغلالِ مُكْتَبَلٌ ... لا مستريحٌ من الدنيا ولا ناجِ
(أما النهارُ ففي قَيْدٍ وسلسلة ... والليلُ في جَوفِ منحوتٍ من السَّاجِ)
الشاهد فيه إنه جعل النهار في قيد وسلسلة، وهو يريد إنه مقيد في النهار ومسلسل، وهو في الليل في جوف تابوت معمول من الساج.

(1/161)


وكان الجرنفش أسرته الديلم، وكانوا يجعلونه بالليل في تابوت ويقيدونه بالنهار، فبعث إلى قومه بهذه الأبيات.
والمغلغلة: الرسالة، فقد أتى لك: أي حان لك، ويحتمل أن تكسر الكاف من (لك) كأنه يخاطب القبيلة، ويجوز أن تفتح إذا أراد الحي. أراد إنه قد حان لكم أن تسعوا في أمري حتى تخلصوني مما أنا فيه.
وكأن تركهم له في طول هذه المدة بمنزلة ترك اللحم نيئا، وسعيهم في خلاصة بمنزلة إنضاج اللحم. والمكتبل: المغلول.

العطف على خبر ليس
قال سيبويه: ومثل ذلك قول الأعور الشنسي:
هونْ عليك فإنَّ الأمورَ ... بكَف الإلهِ مقاديرها
(فليس بآتيك مَنْهِيّها ... ولا قاصرٌ عنك مأموُرها)
(منهيها) مضاف إلى ضمير (الأمور) و (مأمورها) مضاف إلى ضمير (الأمور) و (منهيها) رفع لأنه اسم (ليس) و (بآتيك) خبر ليس. وفي قوله: ولا قاصر عنك
مأمورها وجوه ثلاثة:
أحدها أن ترفع (مأمورها) بالابتداء و (قاصر) مرفوع لأنه خير الابتداء، والجملة معطوفة على الجملة المتقدمة. كما تقول: ليس زيد قائما ولا عمرو منطلق، فتعطف قولك: ولا عمرو منطلق وهو جملة؛ على الجملة المبنية على (ليس)، وليس يتعلق إعراب إحدى الجملتين بإعراب الأخرى.
والوجه الثاني أن تنصب (قاصرا) وتعطف (مأمورها) على اسم ليس و (قتصرا) على موضع الباء في قولك (بآتيك). فالعطف في هذا هو عطف اسمين على

(1/162)


اسمين، والعامل في الاسمين الأولين وفي الاسمين المعطوفين عامل واحد وهو (ليس)، كما تقول: ليس زيد قائما ولا عمرو منطلقا. وتقديم الخبر على الاسم في (ليس) سائغ حسن.
فإن أنشد هذا بالجر أعني قوله (ولا قاصر عنك مأمورها) فبعض الناس يجيزه وبعضهم يأباه، والذين يجيزونه طائفتان:
إحداهما تزعم أن العطف على عاملين جائز، وتقول: هذا مثل قول القائل: زيد في القصر والدار عمرو. فتعطف عمرو على زيد، والدار على القصر.
وطائفة تجيزه ولا تجعله من باب العطف على عاملين، وتجعله من نحو قولنا: ليس أمة الله بذاهبة ولا قائم أخوها. تعطف (قائم) على (ذاهبة) وتكون قد أخبرت على أمة الله بأنها ذاهبة، وبأنها قائم أخوها. فتكون قد عطف خبرا على خبر، و (أبوها) رفع بقائم. وإلى هذا الوجه ذهب سيبويه.
فقيل: لم أجاز هذا الوجه مع أن اسم ليس في هذا البيت هو (منهيها) والخبر (بآتيك). وإن جررتم فقلتم (ولا قاصر عنك مأمورها) وجعلتم (قاصر) مجرورا على (آتيك) لم يجز؛ لأن التقدير يكون: فليس منهي الأمور بآتيك ولا قاصر عنك مأمور الأمور، ولا يجوز أن تقول: ليس منهي الأمور بقاصر عنك مأمورها، لأن
(المأمور) مضاف إلى ضمير الأمور وليس بمضاف إلى ضمير المنهي، ولا يجوز أن يخبر عن الشيء بما ليس من فعله ولا فعل سببه؛ فكيف يجوز أن يجعل (قاصرا) خبرا عن (المنهي) وليس قاصر هو المنهي ولا هو فعل السبب المنهي، إنما هو فعل المأمور الذي هو مضاف إلى ضمير الأمور.

(1/163)


وذكر سيبويه - قبل إنشاده - مسألة فقال: وتقول: ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها. فرفع (مقيمة)، ولا يجوز أن تنصب (مقيمة) وتعطفه على خبر (ما) وتجعله خبرا عن (الأب) لأن (الأم) مضافة إلى ضمير زينب، وليس (أمها) من سبب (الأب).
ثم أتى بالبيت، وهو في ضمير الظاهر، ونظير المسألة، لأن (مأمورها) ليس بمضاف إلى ضمير المنهي، إنما هو مضاف إلى ضمير الاسم الذي أضيف إليه (المنهي) فهو بمنزلة إضافة (الأم) إلى ضمير (زينب) ولم يضف إلى ضمير (الأب)، فكذلك هذا.
ولو قلت: فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها، لساغ من طريق اللفظ، ولكن المعنى يبطله والشعر يرده.
والمعنى أن منهي الأمور هي التي قد أراد الله عز وجل أن لا تكون فهي لا تكون ولا يمكن أحدا أن ينالها، وجعلها منهية لأنها في تقدير ما قد نهي عن فعله، ومنع من إيقاعه، ومأمورها: ما قال الله تعالى له: كن فكان. فيقول: هون عليك الأمور، ولا تحزن لشيء يفوتك من أمر الدنيا، فما أراد الله تعالى أن يرزقك إياه فهو آتيك، لا يدفعه عنك دافع. وما منعك من أن تناله، لا يمكن أحدا أن ينيلك إياه، فما لحزنك وجه. وقاصر عنك: مقصر عن أن يبلغك ويأتيك.
والوجه الثاني من وجهي الجر، وهو وجه أجازه سيبويه في هذا البيت على ضرب من التأويل، وجعل اللفظ بمنهيها كاللفظ بالمأمور، وكأنه حين

(1/164)


قال: فليس
بآتيك منهيها قد قال: تأتيك الأمور، ولو قال: ليس بآتيك الأمور لجاز أن يقول: ولا قاصر عنك مأمورها، ويكون (المأمور) مضافا إلى ضمير الأمور.
وعند سيبويه وغيره أن المضاف إلى الشيء؛ إذا كان بعضا له جاز أن يجعل الخبر عن بعضه على لفظ الخبر عن جميعه. فمن ذلك قولهم: قد ذهبت بعض أصابعه، جعلوا اللفظ على الخبر عن الأصابع.
ومثل هذا فعل في البيت، كأنه لما كان المنهي بعض الأمور، جعل الخبر عن الأمور، وإن كان يريد المنهي. ولو قال: ليست بآتيتك الأمور وهو يريد المنهي لجاز.
قال سيبويه قال الجعدي:
وتُنْكر يومَ الرَّوْعِ ألوانَ خيلِنا ... من الطَّعْنِ حتى تحسَبَ الجَوْنَ أشْقرا
(فليس بمعروفٍ لنَا أن نردَّها ... صِحاحاً ولا مستنكَراً أن تُعَقَّرا)
هذا نظير بيت الأعور الشني. والشاهد فيه إنه جعل (مستنكرا) في البيت مثل (قاصر) في بيت الأعور.
يجوز فيه الرفع على ما ذكره في بيت الأعور، ويكون الكلام جملتين. والنصب يجوز أيضا، ويكون الكلام جملة واحدة، ويكون (مستنكرا) معطوفا على موضع الباء، و (أن تعقرا) معطوف

(1/165)


على (أن نردها).
والجر فيه من وجهين: أحدهما العطف على عاملين، والوجه الآخر: أن الضمير المنصوب بـ (نرد) يعود إلى الخيل وليس يعود إلى ارد، كما كان الضمير المضاف إليه (الأمور) يعود إلى (الأمور) ولا يعود إلى المنهي، وجعل من طريق التأويل الخبر عن رد الخيل، وإذا جعلنا تقدير الكلام كأنه قال: فليس بمعروفة لنا الخيل؛ حسن معه (ولا مستنكر عقرها) ويكون الضمير يعود إلى الخيل، فجعل رد الخيل كأنه الخيل. وما قدمت في بيت الأعور يوضح هذا التأويل.
وكان أبو العباس المبرد يرد الجر في البيتين، الأعور وبيت الجعدي.

اختلاس الحركة في ضرورة الشعر
قال سيبويه وقال مالك بن حريم الهمداني:
ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زخرت قدري به حين ودعا
فأن يك غثا أو سينما فإنني ... سأعجل عينيه لنفسه مقنعا

(1/166)


الشاهد فيه إنه حذف الياء التي هي صلة الضمير المجرور الذي أضيفت إليه النفس.
والضيف: الذي ينزل بهم، والغريب: الذي لا يعرفونه، ينزل بهم في الشتاء عند عدم الازواد، فينحرون له ويطبخون. وزخرت القدر: غلت وارتفع ما فيها من شدة الغلي.
يعني أن الضيف لا يسأل بعد مفارقته لهم: أي شيء طبخوا في قدرهم؟ لأنهم لا يسترون عنه شيئا من طعام، ولا يستأثرون عليه، فهو يعرف ما أصلحوا كما يعرفونه، فلا يحتاج إلى المسألة عنه.
والباء في قوله (بما) في صلة (زخرت) و (ما) استفهام. يريد بأي شيء زخرت؟ فإن يك غثا أو سمينا فإنني سأريه إياه، حتى يشاهده فيقتنع بما رأى عن أن يستخبر.

خبر كان جملة اسمية
قال سيبويه قال قيس بن ذريح:
(تُبَكّي على لُبْنَى وأَنتَ تركْتَها ... وكنتَ عليها بالملا أنت أقدرُ)
فإن تكنِ الدنيا بلُبنى تقلبتْ ... فللدهرِ والدنيا بُطونٌ وأظْهُرُ
الشاهد فيه إنه جعل (أنت) مرفوعا بالابتداء و (أقدر) خبره، والجملة خبر كان.
والملا: اسم موضع، والملا الفضاء المتسع من الأرض. وقوله: فللدهر والدنيا بطون وأظهر، يريد أن الدنيا لا يطلع الإنسان فيها إلا على ظواهر الأمور، ولا يعرف ما في عواقبها وما ستر عنه من أحوالها، وجعل غوامض

(1/167)


الأمور وعواقبها وما تؤول إليه بمنزلة البطون، وجعل ما انكشف من أحوالها حتى عرف بمنزلة الظهور.

أحوال النصب في الأمكنة المختصة
قال سيبويه قال عامر بن الطفيل:
قالوا لها إنا طرْدنا خيله ... قَلحَ الكلاب وكنتُ غيرَ مطَرَّدِ
(فَلا بْغِيَنَّكُمُ قَنا وعُوارضاً ... ولا قْبِلَنَّ الخيلَ لابةَ ضَرْغَدِ)
الشاهد فيه إنه نصب (قنا وعوارضا) وهما مكانان بأعيانهما، وجعلهما مفعولين على السعة. وقوله: قالوا لها: يعني لامرأة كان يهواها من بني فزارة يقال لها اسماء، يعني أن بني فزارة ذكروا لها أنهم هزموه وطردوه، وكانت بين بني فزارة وبني عامر وقعة كانت على بني عامر، وقتل فيها جماعة منهم.
وقوله (قلح) أراد به عندي السب لهم، وهو منصوب بإضمار فعل والقلح: الصفرة التي تركب الأسنان، وكنت غير مطرد: أي لم تكن عادتي أن اطرد، فلأبغينكم: يريد لأغزونكم في هذين المكانين، ولأقبلن خيلي لابة ضرغد. وضرغد: مكان معروف، ولابته: الحرة التي في.
ويروى: فلأبغينكم الملا وعوارضا. وزعموا أن الملا فلاة في بلاد كلب.

(1/168)


الاكتفاء بخير أحد الفعلين الناقصين
قال سيبويه قال ابن أحمر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوى رماني
الشاهد فيه إنه جعل (بريئا) الخبر عن أحدهما، واكتفى به عن خبر الآخر، ولم يقل بريئين.
ووجدت الشعر في الكتاب منسوبا إلى ابن أحمر، والذي روت الرواة أنه: تنازع ناس من بني باهلة من بني فراص، وناس من بني فرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير، حتى صاروا إلى السلطان. فقال بعض القشيريين للسلطان: أن الأزرق بن طرفة - وهو من بني باهلة - لص بن لص، ليغروه به. فقال قصيدة، فيها:
رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي ... بريئاً ومن أجْلِ الطَّوى رماني
دعاني لِصا من لصوصٍ وما دعا ... بها والدي فيما مضى رَجُلان
وزعم قوم من مفسري الشعر إنه ينبغي أن ينشد: ومن جول الطوى رماني. ومعناه إنه رماني بأمر عاد عليه قبيحه، كما أن الذي يرمى من البئر يعود

(1/169)


ما رمى به عليه. والخبر يدل على صحة قوله: ومن أجل الطوى، لأن الخصومة كانت في بئر.

النصب على نزع الخافض
قال سيبويه في باب المنصوبات، قال خفاف بن ندية، ويقال: عباس بن مرداس:
فقال لي قولَ ذي رأي ومَقْدِرة ... مجربٍ عاقلٍ نَزْهٍ عن الريبِ
(أمرتُكَ الخيرَ فافعلْ ما أمِرْتَ به ... فقد جعلتكَ ذا مالٍ وذا نشَبِ)

(1/170)


الشاهد فيه على حذف حرف الجر، وتعدية الفعل إلى (الخير) بنفسه، وأصله أمرتك بالخير.
والنزه مخفف، وأصله النزه. وهو كقولك في: كتف. وفي رجل: رجل. والريب: الأفعال التي يرتاب بها، أي تستقبح. وقوله: ذا مال أي ذا إبل وماشية. والنشب: العين والورق والمتاع.

تمام كان
قال سيبويه في باب كان. قال مقاس العائذي:
فدى لبني ذُهْلٍ بن شيبانَ ناقتي ... إذا كان يومٌ ذو كواكبَ أشهبُ)
أشاصَتْ بنا كلبٌ شصوصا وواجَهَتْ ... على رافدينا بالجزيرة تغلبُ
(كان) في هذا البيت بمعنى حدق ووقع، وهي تامة لا تحتاج إلى خبر.
وأراد بقوله: ذو كواكب، أي قد أظلم فبدت كواكبه، وإنما أظلم لأن شمسه كسفت وارتفع الغبار في الحرب، فكسفت الشمس فبدت الكواكب. وجعله أشهب لأجل لون الغبار.
وكانت كلب شكت إلى يزيد بن معاوية أن رجلا من بني شيبان - وكان نازلا على بعض المياه - إذا مر به قوم مسافرون

(1/171)


منعهم من الماء. فكتب فيه إلى ابن زياد، وجرت بين بني شيبان وبعض حروب جرها هذا الأمر.
وقوله: أشاصت بنا كلب، أي رفعت امرنا إلى السلطان. وقوله: وواجهت على رافدينا، الرافدون: المعينون والناصرون، واجهت: أي واجهت من ينصرنا بالعداوة وخذلت الناس عنا.

اختلاس الحركة في ضرورة الشعر
قال سيبويه في باب ضرورة الشعر قال تليد العبشمي:
شَفيْتُ الغَليلَ من سُمَيْرٍ وجَعون ... وأفلَتنا رب الصلاصِلِ عامرُ
(وأيْقَنَ أن الخيلَ أن تَلتَبِس به ... يكُنْ لفسيلِ النخل بعده آبرُ)
الشاهد في هذا البيت على إنه حذف الواو التي هي صلة الضمير في (بعده).
والشعر منسوب في الكتاب إلى حنظلة بن فاتك، وقد أثبت ما عرفته. وسبب هذا الشعر أن طوائف من بني عبد القيس أغارت على الأبناء من سعد فهزمتهم وقتلوا منهم سميرا وجعونة. وقال: (من سمير وجعون) فرخمه في غير النداء. ورب
الصلاصل: يجوز أن يكون يريد به إنه صاحب سلاح، والصلصلة: صوت الحديد، وكذا وجدته على هذا اللفظ وعلى هذا الهجاء. والله

(1/172)


أعلم بالصواب.
وقوله: وأيقن أن الخيل أن تلتبس به، يريد أن أصحاب الخيل أن ادركوه قتلوه، وأخذ أهله نخله وأبروها وأصلحوها وتركوا الطلب بثأره، فضاع دمه.

أعمال الثاني في تنازع الفعلين - خدمة للمعنى
قال سيبويه في باب أعمال أحد الفعلين: وقال رجل من باهلة:
(ولقد أرَى تَغْنى به سَيْفانَةٌ ... تُصبي الحليمَ ومثلها أصباهُ)
الشاهد فيه إنه أعمل الفعل الثاني وهو (تغنى) ورفع به (سيفانة).
والسيفانة: المشوقة الطويلة: يعني أن الحليم تحمله بحسنها وجمالها على أن يصبو إلى اللهو، ويجب الغزل وملاعبة النساء. ومن كان مثلها من النساء أصبى الحليم.
والبيت في الكتاب منسوب إلى رجل من باهلة، وهو فيما ذكر بعض الرواة لوعلة الجرمي. قال وعلة:
يا صاحبيَّ ترَفَّقا بمُتَيمٍ ... وقفَ المطيَّ بمنزلٍ أبكاهُ

(1/173)


لعِب القِطارُ به وكُلُّ مُرِنَّةٍ ... هَيْفٍ تُغَرْبِلُ تُرْبَه وحَصاهُ
ولقد أرَى تَغْنَى به سَيْفانَةٌ ... تُصبي الحليمَ ومثلها أصباهُ
والذي في شعره:
كانت نَحُلُّ عِراصَهُ مَمْكورةٌ
ولا شاهد فيه على هذا الوجه. والممكورة: الممتلئة الأعضاء من الشحم واللحم.

إعمال الصفة المشبهة - في حالة الجمع
قال سيبويه في باب الحسن الوجه: قال الحارث ابن ظالم المري:
(وما قومي بثعلبة بنِ سعد ... ولا بفزارةَ الشّعْرِ الرقابا)
وقومي - إن سألت - فهم ْ قريشٌ ... بمكةَ علموا مُضَرَ الضرابا
الشاهد فيه إنه نصب (الرقابا) بـ (الشعر) واصله: بفرازة الشعر رقابهم، ثم نقل الضمير إلى الأول.
والحارث: هو من بني سعد بن ذبيان. وقال بعض أصحاب النسب: هو مرة بن لؤي بن غالب من قريش، ولدته أمه عند سعد بن ذبيان فنسب إليه.
وإنما قال الحارث هذا الشعر لأنه قتل خالد بن جعفر بن كلاب، وهو

(1/174)


في جوار النعمان بن المنذر، وكان خالد والحارث ينتدمان النعمان، فكلم خالد الحارث بكلمة حقدها عليه. ودخل إلى قبة خالد بالليل فقتله وهرب.
ولما فعل هذا أتى غطفان، فقالت له غطفان: ليس لك نجاة، جمعت علينا حرب النعمان وحرب بني عامر. فمضى الحارث إلى مكة وأتى عبد الله بن جدعان التيمي وانتسب إلى قريش ليعصموه ويمنعوا منه، وذم بني فزارة بكثرة شعر رقابهم.
مثل هذا قول هدبة:
فلا تَنْكِحي أن فرَّق الدهرُ بيننا ... أغَمَّ القَنا والوجهِ ليس بأنزعا

إعراب فاهالفيك
قال سيبويه في باب المنصوبات: قال أبو سدرة الأسدي.
تحسبض هَوَّاسٌ وأَقبلَ أنني ... بها مُفْتَدٍ من صاحب لا أغامرهْ
(فقلتُ له: فَآهَا لِفيك فإنها ... قلوصُ امرئ قاريك ما أنت حاذِرُهْ)

(1/175)


في الكتاب: ابو سدرة الأسدي، وزعم بعضهم إنه هجيمي من بني الهجيم.
والشاهد فيه إنه نصب (فاهالفيك) وقال: وأراد فا الداهية، ونصبه باضمار: الزم الله فاهالفيك. والهواس: الأسد، قيل فيه: الهواس المدلاج، وقيل: الهواس يطأ وطئا خفيا حتى لا يشعر به.
و (أنني) منصوب بـ (تحسب) وحسب بمعنى واحد. وتقدير الكلام: تحسب هواس أنني مفتد بها من صاحب لا أغامره وأقبل. والضمير المجرور بالباء يعود إلى ناقته، يقول: حسب الأسد أنني أفتدي منه لئلا يأكلني، فإني أترك له ناقتي ولا أغامره ولا أخالطه ولا ألقاه.
وقوله: من واحد، أراد مفتد بما يقيني من خوف واحد لا يمكنني أن القاه، فقلت له أي للأسد: فالداهية لفيك، أي وقعت بك الداهية، فإن هذه القلوص قلوص امرئ يجعل قراك ما تحاذره من القتل، بدل لحم القلوص تبتغيه.
وقيل في تفسير فاهالفيك: إنه لما غشيه ضربه ضربة واحدة فعض بالتراب فقال له، فاهالفيك، يعني الأرض، وعنى بفيها فم الأرض.

استعمال (مائتين) كالفاظ العقود - ضرورة
قال سيبويه في باب الحسن الوجه: قال الراجز:
أنعتُ عَيْرا من حمير خَنْزَرَهْ
(في كل عَيْر مائتانِ كَمَرهْ)

(1/176)


الشاهد فيه إنه أثبت النون في (مائتان) ونصب (كمرة).
وخنزرة فيما أرى موضع. والرجز منسوب إلى الأعور بن براء الكلبي، أم زاجر وهما من بني كلاب.
أنْعَتُ أعيارا وردْنَ أحمِرَهْ
وكلُّ عَيْرٍ مُبْطَنٌ بعشَرَهْ
في كل عَيْرٍ أربعون كَمَرَهْ
(لا قَيْنَ أمَّ زاجرٍ بالمَزْدَرَهْ)
وبعده شعر فاحش. وفي شعره: موضع (مائتان كمرة) أربعون كمرة، والكمرة معروفة، والمزدرة: هي المصدرة، جعل الصاد زايا. والمصدرة: هي الطرق من
الماء صادرة، وهي مصادر الناس.

في تقديم معمول خبر (ما دام)
قال سيبويه: وجميع ما ذكرت من التقديم والتأخير، والإلغاء والاستقرار عربي جيد. يريد تقديم الظرف الذي بعد كان على اسمها، وتأخيره إلى آخر الكلام، والإلغاء أن لا تجعل الظرف خبرا لكان، والاستقرار أن تجعله خبرا لكان. وذكر قول الله عز وجل: ولم يكن له كفوا أحد ثم أنشد قول ابن ميادة:
لتَقْرَبِنَّ قَرَباً جُلْذِيّا
(ما دام فيهنَّ فَصيلٌ حيّا)
فقد دجا الليلُ فهّيا هيّا

(1/177)


الشاهد في تقديم (فيهن) وهو ظرف ملغى، على الاسم.
يخاطب ناقته. والقرب: السير في الليلة التي يصبح صبيحتها الماء، والجلذي: السير الشديد، ما دام فيهن: أي في هذه الإبل فصيل حيا. ودجا الليل: أظلم، وهيا هيا: زجر بها وتصويت حتى تسير.

النصب على المصدر - بإضمار فعل
قال سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل: ومن ذلك أيضا قولك: تعسا وتبا وجدعا وجوعا وبوعا. ونحو ذلك قول الشاعر:
لعمْري لئنْ أمسَيْتِ يا أمَّ جَحْدَرٍ ... نَأيتِ لقد أبليت في طلب عذرا
تفاقدَ قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍ بَهْراً لهم بعدها بَهْراً)
الشاهد فيه إنه نصب (بهرا) بإضمار فعل، ومعنى بهرا له: خيبة له. وقيل: البهر: التعس، كأنه قال: تعسا له، وقيل: بهرا له: دعاء عليه، أي أصابه شر، ومنه قول الشاعر لمن يبغيك شرا: بهرا. وقيل: بهرا له: عجبا له. ومنه قول ابن
أبي ربيعة:

(1/178)


ثم قالوا تُحبُّها قلتُ بَهْراً ... عددَ الرملِ والحَصَى والتُرابِ
وقال بعضهم: بهرا له، كما تقول: سقيا له. تقول: بهرا له ما أكرمه وما أسمحه! ويقال: بهره إذا غلبه، وبهرا في البيت مصدر ليس له فعل يستعمل في معناه. وأما البهر الذي هو مصدر بهر إذا غلب؛ ففعله مستعمل، يقال: بهر يبهر بهرا.
ومنه قول ذي الرمة:
وقد بَهَرْتَ فما تَخْفَى على أحدِ. . .
وما كان في هذا الباب من المصادر التي لا أفعال لها؛ فإنها بمنزلة المصادر التي أفعالها مستعملة، وكأنه قد ذكر الفعل الذي هذا مصدره، ونصبها بإضمار: ألزمه الله كذا أو ما كان في معناه من الأفعال.
وقوله: لئن أمسيت يا أم جحدر نأيت، بعدت عنا، لقد أبليت عذرا في طلبي إياك: أي اجتهدت أن تقرب داري من دارك.
تفاقد قومي: أي فقد بعضهم بعضا، إذ يبيعون مهجتي بجارية. دعا عليهم لأنهم منعوه من هذه الجارية، وجعل منعهم إياها بمنزلة تعريضه للموت والتسليم له كما يتسلم المبيع. بعدها: بعدها: أي بعد هذه الفعلة.

إعراب المصدر المحلى بالـ بعد (أما)
قال سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر، لأنه حال صار فيه المذكور: وقد ينصب أهل الحجاز هذا الباب بالألف واللام.
يعني قولهم: أما العلم فعالم وأما النبل فنبيل، لأنهم قد يتوهمون في الباب غير

(1/179)


الحال.
يريد أن أهل الحجاز ينصبون (علما) في قولهم: أما علما فعالم، على إنه مفعول له.
وبنو تميم ينصبونه عل إنه حال، فإذا دخلت عليه الألف واللام نصبه أهل الحجاز؛ لأنه عندهم منصوب على إنه مفعول له، والمفعول له يجوز أن يكون معرفة ونكرة. ويرفعه بنو تميم لأنهم نصبوه قبل دخول الألف واللام على الحال، فإذا دخلت عليه الألف واللام لم يمكنه أن ينصبه على الحال لأنه قد صار معرفة، فرفعوه بالابتداء. ثم مضى في كلامه إلى أن قال: وعلى هذا فأجر جميع هذا الباب. يعني أن جميعه ينتصب إذا دخلت عليه الألف واللام على مذهب أهل الحجاز، ويرتفع على مذهب بني تميم. قال ابن ميادة:
ألا لا تَلُطّي الستْرَ يا أمَّ جَحْدَرٍ ... كَفَى بذُرا الأعلام من دوننا سِتْرا
ألا ليت شِعْري هل إلى أم جحدرٍ ... سبيلٌ؟ فأما الصبرَ عنها فلا صَبْرا)

(1/180)


الشاهد فيه إنه نصب (الصبر) على مذهب أهل الحجاز، ويرفع على مذهب بني تميم.
ويروى:
فيا ربّ هل تُدني نَوَى أم جحدرٍ ... ألينا، فأما الصبرَ عنها فلا صَبْرا
لا تلطي: أي لا تستري، أي لا تطرحي الستر، يريد ستر الهودج. يقول: لا تطرحيه حتى استمتع بالنظر إليك قبل الفرقة. والأعلام: الجبال، وذراها: أعاليها. يقول: كفى برؤوس الجبال حاتلا بيني وبينك إذا سرت وبعدت، والنوى: البعد.
يقول: يا رب هل تدني بعد أم جحدر، يريد هل تقربها حتى تدنو منا. وقوله: ولا صبرا، (صبرا) منصوب، ويحتمل نصبه وجهين:
أحدهما: أن ينصب بإضمار فعل، كأنه قال: فلا نصبر صبرا.
والوجه الآخر: أن يكون منصوبا بـ (لا) على وجه النفي، كما تقول: لا رجل في الدار. كأنه قال: فلا صبر لنا عنها.

النصب بإضمار فعل - حملا على المعنى
قال سيبويه في المنصوبات بعد إنشاده:
(الأفْعُوانَ والشُّجاعَ الشَّجْعَما)
فإنما نصبت (الافعوان والشجاع) لأنه أراد أن القدم هنا مسالمة، كما أنها مسالمة، فحمل الكلام على إنها مسالمة. يريد إنه نصب (الأفعوان) وما بعده بإضمار فعل محمول على معنى الكلام، وذلك أن (فاعل) إذا كان من اثنين؛ يكون كل واحد منهما فاعلا، وكل واحد منهما مفعولا.

(1/181)


نحو قولنا: ضارب زيد عمرا، فزيد فعل ضربا بعمرو، وعمرو فعل ضربا بزيد. فإن نصبت عمرا ورفعت زيدا، ونصبت زيدا ورفعت عمرا جاز، والمعنى واحد.
والمسالمة: مصدر سالم، والفعل من اثنين. فلو قلت: قد سالم الحيات منه القدم - في شعر مرفوع - جاز. والمعنى كمعنى: قد سالم الحيات منه القدما، فلما كان المعنى على هذا؛ استجازوا أن يضمر للقدم فعل يكون فاعله ضميرا يرجع إليها، كأنه قال بعد قوله: قد سالم الحيات منه القدما: سالمت القدم الافعوان والشجاع الشجعما.
قال سيبويه: ومثل هذا البيت إنشاد بعض العرب لأوس بن حجر قال:
كأنّ بجَنْبَيْهِ خِباَءين من حصى ... إذا غَدَرٌ مَرّا به مُتَصايِفُ
(تُواهِقُ رِجلاها يداها، رأْسُهُ ... لها قَتَبٌ خلفَ الحقيبةِ رادِفُ)
إنشاد الكتاب: رجلاها يداها، على أن اليدين مضافتان إلى ضمير مؤنث وهو ضمير الأتان، وفي شعره: اليدان مضافتان الى ضمير مذكر وهو ضمير الحمار.

(1/182)


والشاهد فيه إنه رفع (يداها) ولم يجعلهما مفعولين لـ (تواهق) وفي شعره (اليدان) منصوبتان بـ (تواهق). وإنشاده:
تُواهِقُ رجلاها يديه
والمعنى يوجب أن يكون اليدان مضافتين إلى ضمير مذكر وهو ضمير العير،
وذلك أن المواهقة هي المسايرة وهي المواغدة، يقدم الأتان بين يديه ثم يسير خلفها، يعني أن يديه تعملان كعمل رجلي الاتان، ورأسه، أي رأس الحمار فوق عجز الأتان كالقتب الذي يكون على ظهر البعير. والحقيبة: كناية عن الكفل فيما زعموا والحقيبة: ما يحمله الإنسان خلفه إذا كان راكبا على عجز المركوب. والرادف: الذي يكون في الموضع الذي فيه الردف.
وقوله: كأن بجنبيه خباءين من حصى، يريد إنه يثير الحصى والتراب بحولفره، فيرتفع من جانبيه ويعلو، حتى كأن الحصى المرتفع من وقع حوافره خباءان نصبا من جانبي الحمار. والغدر: المكان الذي فيه جحرة يرابيع، وقرى نمل، أو وجر ضباع. ويقال لكل ثابت في عدو أو خصومة أو غير ذلك: إنه لثبت الغدر، ومرابه: يعني العير والأتن.