شرح أبيات سيبويه

في ضرورة الشعر - إظهار التضعيف
وقال سيبويه في باب ضرورة الشعر: قال قعنب ابن أم صاحب:

(1/208)


(مهلاً أعاذلَ قد جَرَّبْتِ من خُلُقي ... أني أجودُ لأقوام وإنْ ضنِنوا)
الشاهد في إظهار التضعيف في (ضننوا) أراد ضنوا فاضطر إلى إظهار التضعيف. و (مهلا) منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: أمهلي يا عاذلة ولا
تبادري باللوم، ومهلا في موضع إمهالا، يقول: أمهلي. و (أعاذل) نداء.
أراد، يا عاذلة قد جربت من خلقي؛ أني أجود على من يبخل علي، ولا التمس منه المكافأة. و (إن ضننوا) شرط محذوف الجواب، كأنه قال: وإن ضنوا لم أضين.

النصب بإضمار فعل، أو نصبه بما فعله -
المعنى
قال سيبويه في المنصوبات: قال العجاج:
ينضو الهماليجَ وينضو الزُّفَّفَا
ناجٍ طَواهُ الأيْنُ مما وَجَفَا
طيَّ الليالي زُلقاً فزُلفا
(سماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوقَفَا)
الشاهد في نصب (سماوة) بإضمار فعل، كأنه قال: جعل الأين الجمل مثل سماوة الهلال. وصف جملا. وقوله: ينضو الهكاليج، يريد إنه يسرع حتى يقدمها ويكون أمامها، والهماليج: التي تسير هماجة، وهو سير سريع مع وطاء

(1/209)


وترفيه للراكب. والزفف: جمع زاف، وهو من زف يزف زفيفا إذا أسرع. والناجي: الذي ينجو أي يسرع، والأين: الإعياء والتعب، ووجف: أسرع أيضا، والوجيف: ضرب من العدو فيه إسراع، والزلف جمع زلفة وهو أن يفعل الفعل شيئا بعد شيء.
يريد أن الليالي طوت القمر، أي أخذت من استدارته شيئا بعد شيء؛ تأخذ في كل ليلة جزءا، وسماوة الهلال: اعلاه، واحقوا قف: اعوج. وكان ينبغي أن يقول: طي الليالي سماوة القمر، وعبر عنه بالحال التي يصير إليها إذا طوي.
ومثله:
والسَّبُّ تَخْريقُ الأديمِ الألْخَنِ
وإنما يلخن بالسب.
ومثله:
والشَّوْقُ شاجٍ للعيون الحُذَّلِ
وإنما تحذل من البكاء للشوق.
وذكر النحويون أن سيبويه ينصب (سماوة الهلال) بإضمار فعل وأنه أتى بالبيت شاهدا على هذا. ورده عليه أبو عثمان، وأبو العباس، وأبو إسحاق، وليس يدل كلام سيبويه على إنه أراد أن (سماوة الهلال) ينتصب بإضمار فعل.
والذي يوجه ظاهر كلامه أن (طي الليالي) منصوب على المصدر وأنه لا ينتصب على الحال لأنه مضاف إلى الليالي وهي معرفة. كأنه قال: ومثله - وهو يريد: ومثل تضميرك السابق - في إنه مصدر مصاف إلى معرفة ولا يكون حالا. وإذا تأملت كلامه لم تجده يدل على أكثر من هذا.

(1/210)


قال سيبويه: وقد يكون على غير الحال أي: وقد يكون المصدر ينتصب على غير الحال: فمها لا يكون حالا ويكون على الفعل المضمر، قول رؤبة:
لوَّحَ منه بعد بُدْنٍ وسَنَقْ
من بعدِ تَعْداءِ الرّبيعِ في الأنَقْ
(تلويحَك الضّامرَ يُطوى للسبَقْ)
قودٌ ثَمانٍ مثل امراسِ الأبَقْ
الشاهد فيه أن (تلويحك) مصدر مضاف إلى معرفة، لا يصلح أن يكون حالا.
ذكر رؤبة عير وحش، ولوح منه: غيره وهزله، بعد بدن: أي بعد سمن، والسنق: الإكثار من الأكل، من بعد تعداء الربيع: من بعد تعدائه، يريد تعداء الحمار في الربيع أي في وقت الربيع، في الانق: أي في مرعى يعجبه لكثرته وحسنه، تلويحك الضامر: أي مثل تلويحك الفرس الضامر؛ وتلويحه إضماره، يطوى: أي
يضمر ليسابق به. قود ثمان:

(1/211)


قود: جمع قوداء وهي الأتان الطويلة على الأرض، والامراس: الحبال والأبق: القنب.
و (قود) رفع لأنها فاعلة. يريد أن اتنه لوحن منه أي غيرته؛ لغيرته عليهن واهتمامه بحفظهن وسوقهن إلى الماء وطلب المرعى لهن.
قال سيبويه: وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد: له صوت.
يريد إنه قد يجوز أن ينصب (طي الليالي) بفعل آخر غير (طواه). كأنه قال بعد: طواه الاين مما وجفا: طواه طي الليالي.
وقوله: كما أضمرت بعد (له صوت)؛ يريد أن (صوت حمار) بعد قولك (له صوت) منصوب بإضمار فعل، لأنه لا فعل قبله، فأمره في الإضمار واضح.
وجعل سيبويه المصادر التي قبلها أفعالها المأخوذة منها نحو: ضربت زيدا ضربا، بمنزلة المصادر التي لا أفعال قبلها في أنها يجوز أن تنصب بإضمار فعل غير الفعل المتقدم لها، فتقول: ضربت زيدا ضربك. يجوز في (ضربك) النصب بالفعل الذي قبله، ويجوز نصبه بإضمار فعل مثل الفعل الذي قبله.
ثم قال: يدلك على ذاك أي على جواز إضمار فعل بعد الفعل الذي المصدر الملفوظ به مصدره: أنك إذا أظهرت فعلا، وجئت بمصدر لا يكون مصدرا لذلك الفعل؛ صار بمنزلة: له صوت في احتياجه إلى فعل يضمر له، لأنه ليس بمصدر الفعل المتقدم.
يقول: إذا جاز أن تأتي بمصدر ليس

(1/212)


بمصدر الفعل المتقدم، وتنصبه بإضمار فعل مثل الفعل المتقدم.
فإن قال لنا قائل: إنما احتجتم إلى إضمار فعل في المصدر المخالف لما قبله، لأنه ليس من لفظ الفعل المتقدم فينتصب به، وإذا كان قبل الفعل نقل هذا المصدر مصدره، لم يجز أن تضمر فعلا.
قيل له: إذا جاز أن تأتي بمصدر يخالف الفعل الذي قبله في اللفظ، ويقاربه في المعنى، وتنصبه بإضمار فعل يدل عليه الفعل المتقدم، وساغ هذا لأجل موافقة الفعل للمصدر من طريق المعنى؛ جاز أن تضمر فعلا للمصدر الموافق للفعل الذي قبله لأنه يدل على هذا المصدر من طريق اللفظ، ومن طريق المعنى، فما كان دلالته من وجهين أولى. فإن قال: لسنا ننكر أن يكون الفعل الموافق للمصدر يدل عليه من طريق الفظ ومن طريق المعنى، ولكنا نقول: إنه لا يحتاج إلى إضمار فعل معه، لأنه يجوز أن يعمل في المصدر. وفي المصدر المخالف نحن محتاجون إلى إضمار فعل ينتصب المصدر عنه، لأن الفعل الذي قبله ليس منه.
قيل ما: نحن لم نقل إنه واجب أن يضمر للمصدر الموافق فعلا، وإنما قلنا هو جائز: ينتصب بالأول، وأن يضمر له فعل، كما جاز أن يضمر للمخاف، ولا يكون أسوأ حالا من المصدر الذي قبله ما يخالف لفظه.
قال سيبويه وذلك قوله: وهو لأبي كبير.

(1/213)


(ما أن يَمسُّ الأرضَ إلا جانبٌ ... منه وحرفُ طِيّض المِحْمَلِ)
الشاهد فيه أن (طي المحمل) ينتصب بإضمار فعل، كأنه قال: طوي طيا مثل طي المحمل. ولا ينتصب (طي المحمل) بـ (يمس).
والمحمل: أراد به حمالة السيف. وصف صاحبا كان هو في سفر، ويقال أن ذلك الصاحب هو تأبط شرا، وصفه بالتفاف الجسم والضمر، لاشتغاله عن الأكل بالغزو والأسفار.
يقول: إذا نام على جنبه لم يمس الأرض إلا منكبه وجانب ساقه. وجعله مثل حمالة السيف في ضمره ودقته.

اختيار الرفع على الابتداء - إذ شغل الفعل
بضميره
قال سيبويه: وإذا قلت: كنت زيد مررت به، فقد صار هذا في موضع (أخاك) ومنع الفعل أن يعمل، وحسبتني عبد الله مررت به.
ذكر سيبويه أن الجملة التي في أولها اسم قد شغل الفعل بضميره، إذا وقعت في موضع خبر كان، أو موضع المفعول الثاني لـ (ظننت وحسبت) وكذلك خبر (إن) وخبر الابتداء؛ اختير فيها أن يرفع الاسم بالابتداء، ولا يجري مجرى

(1/214)


الجملة التي تعطف على جملة قبلها. فيختار في الاسم أن ينصب بإضمار فعل، لأن الجملة التي قبله مبنية على فعل. نحو: ضربت زيدا وعمرا كلمته.
وجعل الجمل التي تكون في موضع الإخبار بمنزلة الجمل التي لا شيء قبلها، لأنها من تمام الكلام، ولم يجز فيها النصب لأنه لم يتم الكلام الذي قبلها، وليست فيها حروف العطف كما يكون في الجمل المعطوفة.
ثم ساق كلامه في هذا المعنى، واحتج لصحة ما ذكر بحجج واضحة، ثم ذكر دخول لام الابتداء في قولهم: قد علمت لعبد الله تضربه ليبين أن الجمل قد تقع في مواقع المفعولات، وتكون في حكم الكلام الذي لم يتقدمه شيء، لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على كلام لا يتعلق بما قبله، ويكون بمنزلة ما ليس قبله شيء.
ثم قال: (وإن شاء نصب ويريد) وإن شاء نصب في جميع هذا الذي اختير فيه الرفع، فأضمر له فعلا، كما يفعل إذا ابتدأ الكلام فقال: زيدا ضربته. يريد إنه يجوز أن تقول: كنت زيدا مررت به، وحسبتك عمرا لقيته. فكذا يفعل في (أن) فتقول: أني خالدا لقيته.
قال المرار الاسدي - كذا وجدته في الكتاب، ورأيت الشعر لعبد الله ابن الزبير الاسدي -:
أَبلِغْ يزيدَ ابنَ الخليفة أنني ... لقِيتُ من الظُلْم الأغرَّ المحجلا

(1/215)


(فلو أنها إياك عضَّتْك مثلها ... جررْتُ على ما شئتَ نحرا وكلكلا)
وكنت أخاك الحقَّ في كل مَشْهَدٍ ... ألمَّ ولو أغْلَوْا بلحميَ مِرْجَلا
الشاهد فيه إنه أتى بجملة في موضع خبر (أن) وخبرها مثل خبر (كنت) ومثل المفعول الثاني في (حسبت) وخبر الابتداء.
والاختيار أن يرفع الاسم في أول الجملة كما ذكر فيما تقدم، فأتى به الشاعر منصوبا، ولو رفع لقال: (فلو أنها ا، ت عضتك) فأتى بـ (إياك) ونصبها بإضمار (عضت) وجعل (عضتك) مفسرا للفعل المحذوف العامل في (إياك)، والموضع الذي يقدر فيه المحذوف بعد (إياك) كأنه قال: فلو أنها إياك عضت عضتك. والضمير في (أنها) يحتمل أمرين:
أحدهما أن يكون ضمير الأمر والشأن.
والوجه الآخر أن يكون ضمير المظلمة، لأنه قدم قوله: (لقيت من الظلم الأغر المحجلا). ومعنى قوله: (لقيت من الظلم الأغر المحجلا) أي لقيت ظلما واضحا مشهورا، لا يشك أحد إنه ظلم. فلو أنها إياك عضتك مثلها: (مثلها) رفع لأنه فاعل (عضتك)، وأنت الفعل وهو لـ (مثل) لأنه أراد بالمثل مؤنثا، كأنه قال: فلو أنها إياك عضتك بلية مثلها أو محنة أو مظلمة أو ما أشبه ذلك، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مكانه. ومثله قولك: كلمتك مثل هند. يريد: كلمتك امرأة مثل هند.
يقول: لو وقعت بك مثل هذه المظلمة، جررت على ما تريد

(1/216)


مني من النصرة والمعونة نحري وكلكلي. والتاء من (جررت) مضمونة وهي للمتكلم، والتاء من (شئت) مفتوحة.
يقول: كنت أحمل نفسي على ما تحب مني، حتى تبلغ ما تحب، ويزول عنك ما يؤذيك. وفي الكتاب: التاء من (جررت) مفتوحة. والمعنى على ما ذكرت لك.
ورأيت أيضا في شعره (حززت) بزايين وبحاء غير معجمة. أي قطعت نحري
وكلكلي فيما تحبه وتهواه. وكلا القولين له وجه: (جررت) بجيم وراءين و (حززت) بحاء وزايين.
وكنت أخاك: أي أنصرك كنصر الأخ لأخيه. و (الحق) وصف الأخ و (ألم) أي: قرب، و (ألم) وصف لـ (مشهد) ولو أغلوا بلحمي مرجلا: أي لو قطعوا لحمي وطبخوه لما قعدت عن معونتك ونصرتك.

صيغة (فواعل) تعمل عمل (فاعلة)
قال سيبويه: ومما يجري مجرى فاعل من أسماء الفاعلين (فواعل) اجروها مجرى (فاعلة) حيث كان جمعه، وكسروه عليه.
يريد أن جمع (فاعلة) يعمل في المفعول كعمل (فاعلة). ثم قال: فمن ذلك قولهم: هن حواج بيت الله بنصب (بيت) بحواج جمع حاجة.
وقال أبو كبير:
ولقد سرْيتُ على الظلامِ بمغْشَمٍ ... جَلْدٍ من الفِتيان غيرِ مُثَقَّلِ

(1/217)


(ممن حَمَلْنَ به وهن عواقِدٌ ... حُبُكَ النطاقِ فعاشَ غيرَ مُهَبَّلِ)
الشاهد في نصبه (حبك النطاق) بـ (عواقد) وهو جمع عاقدة.
قوله: سريت على الظلام أي في الظلام، والسرى: سير الليل، بمغشم: يعني بفتى مغشم، يغشم الناس: يظلمهم لجرأته وشجاعته، وقيل هو الذي لا يتحرج عن شيء عمله، والمثقل: الكثير اللحم، والحبك: الخيط الذي تشد به المرأة نطاقها.
وأراد أن أمه حملت به وهي مشدودة الثياب لم تهيأ للنكاح، فكأنها نكحت وهي لا تريد. وزعموا أنها إذا نكحت مكرهة جاءت بالولد لا يطاق.
والنطاق: ما تشد به المرأة وسطها، وقيل: الحبك: الذي تأتزر به المرأة، وقيل: الحبكة: حجزة الإزار. يعني أنها حملت به وهي عاقدة ثيابها للعمل في بيتها وإصلاحه. والمهبل: العظيم الضخم.
والضمير في (حملن) ليس يعود إلى مذكور، وهو ضمير النساء، ولم يحتج إلى تقدم ذكرهن لأن المعنى معروف. يريد: من الذين حملت النساء بهم وهن مكرهات.

حذف الواو من (هو) في ضرورة الشعر
وأنشد أبو الحسن الأخفش في باب ضرورة الشعر: قال العجير السلولي:

(1/218)


فباتَتْ هُمومُ الصَّدرِ شَتّى يَعُدْنَهُ ... كما عِيدَ شِلْوٌ بالعَراءِ قتيلُ
(فَبَيْناهُ يَشْري رَحْلَه قالَ فائلٌ ... لِمنْ جملٌ رِخوُ المِلاطِ طويلُ)
مُحَلَّى بأطواقٍ عِتاقٍ كأنها ... بقايا لُجَيْنٍ جَرْسُهنّ صليلُ
الشاهد فيه إنه حذف الواو من (هو) وهو ضمير منفصل. أراد (فبيناهو)
الشلو: العضو المقطوع، ويقال لجسد الإنسان شلو. وصف رجلا ضل منه جمله، وذهبت عنه صحابته، ووصف - قبل وصفه الرجل الذي ضل عنه بعيره - حاله في هوى امرأة يحبها وشدة وجده بها؛ بوجد هذا الرجل الذي ضل بعيره، وفارقه اصحابه، فباتت هموم نفس هذا الرجل شتى متفرقة، يذهب عنه منها شيء، ويجيئه شيء.
ويعدنه: يأتينه كما تأتي العوائد إلى المريض وإلى القتيل ينظرنه، والعراء. الفضاء من الأرض. يريد أن الهموم يأتينه كما تأتي النساء إلى قتيل ينظرن إليه.
فبينا هو يشري رحل جملة الذي ضل عنه - أي يبيعه - سمع هاتفا ينشد الجمل، يعرفه. ورخو الملاط ورسل الملاط: سهل

(1/219)


الجنب أملسه. والأطواق: جمع طوق، عتاق: حسان، واللجين: الفضة، والجرس: الصوت، والصليل: صوت فيه شدة مثل صوت الحديد والفضة وما أشبه ذلك.
وقد أنشده أبو الحسن: (رخو الملاط نجيب) بالباء. وانشد أيضا في كتابه في (القوافي) هذا البيت بالباء، وأنشد معه بيتا بالراء وهو قوله (والعاقبات تدور)
وأنشد أيضا بيتا منها بالميم وهو قوله: (إذا قام يبتاع القرص ذميم). وجميع الأبيات في القصيدة باللام، وكرهت الإطالة بذكرها.

المصدر الميمي بدل مصدر الفعل
قال سيبويه في المنصوبات: قال ابن أحمر:
لَدُنْ غُدوةً حتى كرَرْنَ عشيةً ... وقَربْنَ حتى ما يَجدنَ مُقرّبا
(تدارَكْنَ حيا من نُمير بن عامرٍ ... أسارى تُسام الذلَّ قتلا ومَحْرَبا)
الشاهد فيه إنه أتى بـ (المحرب) مصدرا لـ (حربته) في موضع (حربا).
وقربن: عدون، يعني حتى لم يبق عندهن تقريب، أي انقضى عدوهن واخرجن جميع ما عندهن من العدو، وقد تداركن قوما من حي بني نمير قد قتل بعضهم وأسر بعضهم وأخذ مال بعضهم. وتداركن: يعني الخيل. اللفظ للخيل والمعنى لفرسانها.

إضافة اسم الفاعل إلى معموله
قال سيبويه قال الفرزدق:
(أتاني على القَعْساءِ عادلَ وَطْبِهِ ... بِرجِلي لئيمٍ واسْتِ عبدٍ يُعادلهْ)

(1/220)


فقلت له رُدَّ الحمارَ فإنه ... أبوك لئيمٌ رأسُه وجحافِلُهْ
الشاهد في إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، يريد: عادلا وطبه، ثم أضاف.
يهجو الفرزدق بهذا جرير، يقول: أتاني وهو على أتان قعساء، والقعس: خروج الصدر ودخول الظهر. والوطب: زق اللبن. يعني إنه راعي غنم، قد حلبها في المرعى، وحمل لبنها على أتان حتى يأتي أهله. وراعي الغنم يكون معه حمار يركبه. وراعي الإبل لا يحتاج إلى حمار، لأنه إذا أراد أن يأتي أهله ركب قعودا وجاءهم بما يلتمسون.
وقوله: عادل وطبه، يعني إنه يعدل وطبه على الأتان حتى لا تميل في أحد الجانبين، وأراد أن خلقه كخلق العبيد الرعاء، وقوله: فقلت له رد الحمار، وقبله: أتاني على القعساء، وهي أتان؛ وجهه عندي إنه رجع إلى الجنس، لأنه قبل النبيين، يقال: حمار، على لفظ الذكر يراد به الجنس، وإذا علم أنها أنثى قيل: أتان. ويجوز أن يكون أراد حمارا غير الأتان التي كان راكبها، والجحافل من ذوات الحافر بمنزلة الشفاه من الناس.

نصب المضارع بإضمار (أن)
قال سيبويه: قال عامر بن جوين الطائي:
ألم تركَمْ بالجزْع من مَلِكات ... وكم بالصعيد من هجانٍ مُؤبَّلَهْ

(1/221)


(ولم أرَ مثلها خُباسَةَ واحِدٍ ... ونَهْنَهْتُ نفسي بعد ما كِدْتُ أفعلهْ)
الشاهد فيه إنه نصب (افعله) بإضمار (أن) أراد: بعد ما كدت (أن أفعله).
والجزع: منعطف الوادي، وملكات جمع ملكة، والصعيد: وجه الأرض، والهجان: مرائم الإبل، والمؤبلة: الكثيرة، يقال إبل مؤبلة أي كثيرة. ولم أر مثلها: مثل الغنيمة التي أراد أخذها، ونهنهت نفسي عن أخذ هذه الغنيمة بعد ما كدت أن آخذها. والهاء المنصوبة بـ (أفعله) ضمير المصدر، يريد بعد ما كدت أفعل الفعل، ويجوز أن يكون ضمير الغدر، لأنه أراد أن يغدر، يريد بعد ما كدت أفعل الغدر.
وأتى بعروض البيت الأول وهو من الطويل على (فعولن) وبعضهم يرويه: (من ملكانه)، وعلى هذه الرواية تكون العروض (مفاعلن)، وعلى هذا الوزن ينبغي أن يكون.
سبب هذا الشعر أن امرأ القيس بن حجر، كان جاور غير واحد من طيء، فمعن جاور، عامر بن جوين، وكان جاره قبل عامر خالد بن أصمع،

(1/222)


فلما صار في
جوار عامر بن جوين، ورأى عامر بن جوين كثرة مال امرئ القيس وابليه وكثرة خدمه؛ هم أن يغدر به. فلما هم بذلك، هبط واديا ثم نادى بأعلى صوته: ألا أن عامر بن جوين قد هم بالغدر، فأجابه الصدى. فقال: ما أقبح هاتا. ثم نادى: ألا أن عامر بن جوين قد وفى، فأجابه الصدى، فقال: ما أحسن هاتا. ثم قال هذا الشعر. يريد إنه منع نفسه من أخذ مال امرئ القيس ونسائه بعد ما كاد يفعل.

إثبات الياء في المضارع المجزوم - ضرورة
قال سيبويه في باب ضرورة الشعر: قال قيس ابن زهير العبسي:
(ألمْ يأتيكَ والأنباءُ تَنْمي ... بما لاقتْ لَبونُ بني زِياد)
ومَحْبِسَها على القُرَشي تُشْرَى ... بأدراعٍ وأسياف حِدادِ

(1/223)


الشاهد فيه إنه أثبت الياء في (يأتيك) وهو مجزوم. وكأنه بمنزلة من اضطر إلى تحريك الياء بالضم في حال الرفع، فلما جزم حذف الحركة التي كانت على الياء.
والأنباء: جمع نبأ وهو الخبر، تنمي: تنشر ويحملها بعض الناس إلى بعض. واللبون: التي لها لبن، وبنو زياد: الربيع بن زياد العبسي واخوته.
وفاعل (يأتيك) يجوز أن يكون مضمرا في (يأتيك). يدل عليه قوله: والأنباء تنمي، فكأنه قال: ألم يأتك النبأ والأنباء تنمي؟ وقوله (والأنباء تنمي) جملة، هي اعتراض بين قوله (يأتيك) وبين قوله (بما لاقت) وتقديره: ألم يأتك الخبر بما لاقت لبون بني زياد.
وهذا البيت أول الأبيات، فليس يقدر أن الضمير الذي فيه يعود إلى مذكور، والباء وما بعدها في موضع نصب بـ (يأتيك). ويجوز أن يقال: (لبون) فاعل يأتيك. كأنه قال: ألم يأتيك لبون بني زياد؟ يريد: ألم يأتيك خبر لبون بني زياد وما صنع بها. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويكون في (لاقت) ضمير يعود إلى (اللبون) ويكون (لبون) في نية التقديم كأنه قال: ألم يأتيك خبر لبون بني زياد
بما لاقت.
ويجوز أن يقال: أن الباء في قوله (بما لاقت) زائدة، وكأنه قال: ألم يأتيك ما لاقت لبون بني زياد؟ ويكون كقوله عز وجل: (وكفى بالله شهيدا).
و (محبسها)

(1/224)


معطوف على فاعل (يأتيك) واللبون: أراد بها جماعة الإبل التي لها لبن، والقرشي: عبد الله بن جدعان التيمي، وتشرى: تباع ويؤخذ بثمنها دروع وسيوف.
وسبب هذا الشعر أن الربيع بن زياد طلب من قيس بن زهير درعا، فبينا هو يخاطبه والدرع مع قيس إذ أخذها الربيع وذهب بها، فلقي قيس أم الربيع وهي فاطمة بنت الخرشب فأسرها، وأراد أن يرتهنها حتى يريد عليه درعه الربيع. فقالت له: يا قيس أين عزب عنك حلمك، أترى بني زياد مصالحيك وقد أخذت أمهم فذهبت بها، وقد قال الناس ما قالوا؟ ويكفيك من شر سماعه. . . فخلى عنها. وأخذ إبل الربيع فحملها إلى مكة وباعها، واشترى من عبد الله بن جدعان بها سلاحا.

النصب على المصدر بإضمار فعل
قال سيبويه في المنصوبات: قال الشماخ:
(أو أعَدْتَني ما لا أحاولُ نَفْعَه ... مواعيدَ عُرقوبٍ أخاه بيَتْرَبِ)
الشاهد في نصب (مواعيد) بإضمار فعل. وقولهم: مواعيد عرقوب، هو مثل مقول قبل أن ينظمه الشماخ. وشاهد سيبويه في انهم نصبوه في المثل،

(1/225)


ثم ضم الشماخ إليه بقية البيت. (مواعيد) في بيت الشماخ منصوب (بأوعدتني) يريد: أوعدتني مواعيد مثل مواعيد عرقوب أخاه.
وعرقوب هذا هو عرقوب بن صخر من العماليق، وعد رجلا من العرب نخلة يطعمه طلعها، فلما اطلعت أتاه يلتمس ما وعده فقال له: اتركها حتى تصير بلحا
فتركها. فلما أبلحت أتاه، فقال: اتركها حتى تصير بسرا. فلما ابسرت أتاه، فقال: اتركها حتى ترطب. فلما أرطبت أتاه، فقال: اتركها حتى تصير تمرا. فلما أتموت عمد إليها عرقوب فجها بالليل. فجاء الرجل ورآها لا شيء فيها، فضربت العرب بعرقوب المثل.
و (يترب) موضع على مثال (يرمع) وهو غير يثرب.

(1/226)


إضمار (كان) مع اسمها بعد (أن)
قال سيبويه في المنصوبات: قالت ليلى الاخليلية:
أن الخليعَ ورهطَه من عامرٍ ... كالقَلْبِ ألبِسَ جؤجؤاً وحزيما
(لا تَقْرَبَنَّ الدهرَ آلَ مطرفٍ ... أن ظالما فيهم وإنْ مظلوما)
الشاهد فيه إنه أضمر فعل الشرط بعد (إنْ)، ونصب به (ظالما)، كأنه قال: أن كنت ظالما وإن كنت مظلوما.
تمدح بذلك همام بن مطرف، وهو من ولد الخليع. والجؤجؤ؛ الصدر، وأرادت به وسطه. والحزيم: الصدر، وأرادت به ما حول الجؤجؤ تعني

(1/227)


أن الخليع وولده من بني عامر بمنزلة القلب في البدن لا يوصل اليه، وحوله ما يحفظه. وأرادت أن آل مطرف لا يقدر عليهم من أراد ظلمهم، ولا ينتصف منهم من ظلموه لعزتهم وقوتهم.

نصب المصدر على الظرفية
قال سيبويه في المنصوبات: قال حميد بن ثور:
(وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ ... مُغارَ ابنِ همّامٍ على حي خَثْعَما)
الشاهد فيه إنه نصب (مغار ابن هشام) على الظرف.
والإزار: المئزر، والعلقة الشوذر. يريد أنها كانت في وقت إغارة ابن همام على
خشعم. وابن همام: هو عمرو بن همام بن مطرف، من الخلعاء، كانت خشعم قتلت أباه همام بن مطرف، فأتى نجدة بن عامر الحروري، فأظهر له إنه على رأيه، وسأله أن يبعث معه ناسا من اصحابه، فأرسل معه نجدة خيلا. فأغار على خشعم، فأصاب فيهم، وأدرك بثأر أبيه، وصار رأسا في الخوارج. فلما قضى حاجته رجع إلى قومه فنزل فيهم، ثم وضع السيف في النجدية.
وقد رد على سيبويه جعله (مغار ابن همام) ظرفا من الزمان، وقيل: إنه لو كان ظرفا ما اتصل به (على حي خثعم) لأن أسماء الزمان والمكان المشتقة من

(1/228)


الفعل؛ لا تتعدى إلى المفعول المنصوب، وإلى المفعول الذي يتعدى بحرف جر.
وحجة سيبويه أن المصادر التي جعلها ظروفا مضاف إليها اسم الزمان، ثم يحذف اسم الزمان، فتنوب المصادر عنه. ويروى:
وما هي إلا ذاتُ إتبٍ مُفرجٍ

إضافة اسم الفاعل إلى معموله - بنية التنوين
قال سيبويه في باب اسم الفاعل: قال بشر بن أبي خازم:
كأني بين خافِيَتَيْ عُقاب ... أكَفيّها إذا ابتل العِذارُ
(تراها من بَبيس الماء شُهْباً ... مُخالطَ دِرّةٍ منها غِرارُ)
شبه فرسه بالعقاب في السرعة، والخوافي من ريش جناح الطائر: ما دون الفلية: يقول: كأني بين خوافي جناحي عقاب. يريد كأنه راكب على ظهر العقاب، وإذا كان على ظهرها فهو بين خوافيها (من جناحيها). وإذا ابتل العذار: يريد عذار اللجام من عرق الفرس، واكفيها أضعها مرة نحو اليمين ومرة نحو الشمال وإنما يعني الحبل، من يبيس الماء: ويبيس الماء هو العرق الذي قد جف، وإذا جف العرق عليها ابيض، والدرة: ما يدر من عرقها، والغرار: انقطاع خروج العرق ونقصانه.
يعني أنها لا تعرق عرقا كثيرا

(1/229)


فتضعف، ولا ينقطع العرق منها فلا يخرج، وانقطاعه مذموم، وكذلك كثرته مذمومة.

في عمل (زعم)
قال سيبويه في باب ظننت: قال أبو ذؤيب:
(فإنْ تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكُمُ ... فإني شَرَيْتُ الحِلْمَ لعدَكِ بالجهلِ)
وقال ضحابي: قد غُبنْتَ فخِلْتُني ... غَبَنْتُ، فما أدري أشَكْلُهُمُ شكلي
الشاهد فيه إنه جعل (تزعم) بمنزلة (تظن) وعداه إلى ضمير المتكلم، وجعل الجملة التي بعده في موضع المفعول الثاني، ويعود إلى المفعول الأول وهو ضمير المتكلم - من الجملة التي في موضع المفعول الثاني - التاء التي هي الاسم في (كنت).
وشريت: في هذا الموضع بمعنى اشتريت. ويروى (فإني اشتريت). يقول لها: أن كنت تزعميني أني كنت جاهلا باتباعك ومحبتك؛ فقد اشتريت الحلم بصبري عنك، وبعت الجهل. وجعل استبداله الصبر والحلم بدل الهوى والغزل بمنزلة استبدال الشيء المشترى بدل الثمن المدفوع عوضا منه.

(1/230)


وقال صحابي قد غبنت في تركك اتباعها، واستبدالك به الصبر عنها. وزعم أن الذي عنده خلاف الذي عندهم وقوله: أشكلهم شكلي أي أطريقتهم طريقتي؟ يريد أنهم كانوا معه في حال طلبه للعب والجهل، ثم تركهم هو وقال: ما ادري، أشكلهم شكلي الآن في تركهم الغزل واللعب؛ أم هم مقيمون على ما كانوا عليه؟. . .

إضمار (كان) مع اسمها
قال سيبويه في المنصوبات: قال النعمان بن المنذر:
فما انتفاؤك منه بعد ما جَزَعَتْ ... هوجُ المطيَّ به أبْراقَ شِمليلا
(قد قيل ذلك أن حقا وإن كذبا ... فما اعتذاركَ من شيء إذا قيلا)
الشاهد فيه أنه نصب (حقا وكذبا) بفعل محذوف بعد (إن) وحذف الفعل بعدها وهو فعل الشرط.
وهوج المطي: اللاتي فيها شبه الهوج من سرعتها ونشاطها إذا سارت، وأبراق جمع برق وبرق: جمع برقة، والبرقة: المكان الذي فيه رمل وحصى. وجزعت: قطعت، وشمليل مكان.

(1/231)


وسبب هذا الشعر أن الربيع بن زياد العبسي كان نديم النعمان بن المنذر، فوفدت بنو عامر إلى النعمان وأقاموا عنده لبعض حوائجهم، فكان الربيع يقع فيهم ويحقرهم عند الملك، وكان لبيد يومئذ غلاما قد أخذوه معهم.
فأخذت بنو عامر لبيدا معهم في بعض الأيام ودخلوا على النعمان. وشرح حديثهم فيه طول. فرجز لبيد بالربيع بن زياد، وقال يخاطب الملك:
مهلا أبيْتَ اللعنَ لا تأكُلْ مَعَهْ
أن استَهُ من بَرَصٍ مُلمَّعَهْ
وإنه يولجُ فيها إصْبَعَهْ
يُدْخِلُها حتى يواري أشْجَعَهْ
إنما يطلب شيئا ضيَّعَهْ
فترك النعمان مؤاكلته وقال له: عد إلى قومك، ولك عندي ما تريد من الحوائج. فمضى الربيع إلى قبته، وتجرد، وأحضر من شاهد بدنه وانه ليس فيه سوء. فأخبروا النعمان بذلك فقال له: قد قيل ذلك. أي أنك أبرص أن كان الذي قيل حقا وإن كان كذبا؛ فما اعتذارك منه وأنت لا يمكنك أن تمنع الناس من الحديث، ولا تضبطه بعد انتشاره. فلا وجه لتعنيك بالاعتذار وهو لا ينفعك.

حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
قال سيبويه قال النابغة الجعدي:
(وكيف تُصاحبُ مَن أصبحتْ ... خِلالته كأبي مرحبِ)

(1/232)


وبعض الأخِلاءِ عند البلا ... ءِ والرزءِ أوغُ من ثعلبِ
أبو مرحب: الذي يقول لك أهلا ومرحبا إذا لقيك، ليس عنده غير ذلك، وإذا أردت منه شيئا تلتمسه؛ لم تجده.

العطف على المحل
قال سيبويه في المنصوبات: قال كعب بن جميل:
ألا حيَّ نَدْماني عميرَ بنَ عامرٍ ... إذا ما تلاقَيْنا من اليوم أو غدا)
صحا القلبُ عن حيَّيْن شتتْ نَواهُما ... بخَيْبَرَ في البلقاءِ فيمن تَمَعْددا
الشاهد فيه إنه نصب (أو غدا) وعطفه على موضع (من اليوم) كأنه قال: تلاقينا اليوم أو غدا.
وشئت نواهما: يريد أنهم فارقوا قومهم وبعدوا عنهم، وصار بعضهم بالبلقاء من أرض الشام وبعضهم بموضع آخر. وتمعدد الرجل: إذا ذهب في الأرض وأبعد. كما قال معن بن اوس:
. . . وإنْ كان مِن ذي وُدَّنا قد تمعددا

(1/233)


النصب بإضمار فعل يقصده المعنى
قال سيبويه: في المنصوبات، قال كعب بن جعيل:
أعنيّ أميرَ المؤمنين بنائل ... أعِنْكَ وأشْهَدْ من لقائِكَ مَشْهَدا
أعِنّي بخَوّار العِنان تخالُهُ ... إذا راح يَرْدي بالمدجج أحْرَدا
(وأبيضَ مصقولَ السَّطامِ مُهَنَّدا ... وذا حَلَقٍ من نَسْجِ داودَ مُسْرَدا)
كذا إنشاد البيت الأخير في كتاب سيبويه. والشاهد فيه إنه نصب (أبيض) بإضمار فعل كأنه قال: وأعطني أبيض. . .
والبيت في شعره واقع على غير هذا الإنشاد، وإنشاده:
وإني لُمسْتكسِكَ حَوْكاً يمانيا ... وذا حَلَقٍ من نسْجِ داودَ مُؤْبِدا
والخوار العنان: الفرس اللين العنان، الذي لا يتعب يد راكبه ولا يؤذيه. والمدجج: الذي قد لبس السلاح، والاحود: الذي يرجم بقوائمه الأرض، كما يفعل البعير الأحرد إذا ضرب بأخفافه الأرض. يريد أنك تحسبه أحرد. والحرد: داء يكون في القوائم، إذا أصاب البعير خبط بيديه. وإنما يفعل الفرس هذا من النشاط والمرح.
ويردي بالمدجج: يعدو به، والأبيض: السيف، والمصقول السطام: يريد المصقول الحدين والجانبين،

(1/234)


والمهند: المنسوب إلى الهند: وذا حلق: يريد به الدرع، ودرع الحديد مؤنثة، وإنما ذكر على تأويل القميص واللباس. وقد قيل: إنه يذكر وقد قال الشاعر.
مقلصا بالدّرعِ ذي التغضنِ
والحوك: ما نسج باليمين، يعني به بردا يمانيا.

مجيء الواو بمعنى (مع)
قال سيبويه في المنصوبات: قال شداد بن معاوية العبسي أبو عنترة:
فمَنْ يَكُ سائلا عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ)
مقربَةُ الشتاءِ ولا تراها ... أمام الحيَّ يتبعُها المِهارُ
لها بالصيف آصرةٌ وجُلٌّ ... وسِتٌّ من كرائِمها غِزارُ
جروة: اسم فرس شداد، لا ترود: لا تذهب وتجيء، يريد: إنها لا تخلى وتترك تذهب تجيء مع الخيل، ولا تعار لمن التمس إعارتها ضنا بها. مقربة الشتاء: يعني أنها تشد عند بيتنا الشتاء لنتولى نحن وأهلنا القيام عليها وخدمتها، ولا يترك
فحل ينزو عليها فتلد مهارا، لأنه محتاج إلى ركوبها إذا غزي قومه أو غزا قوما.
أراد أن حاجته إليها دائمة. لها بالصيف

(1/235)


آصرة: جمع إصار وهو كساء يجمع فيه ما قطع من العشب والحشيش، وجل تغطى به، وست من الإبل أفردت لها لتسقى ألبانها.

النصب على الحال وهو يحتمل التمييز
قال سيبويه في المنصوبات: قال عمرو بن عمار النهدي، ويروى لامرئ القيس:
وغيثٍ من الوْسميّ جُنَّت تِلاعُه ... وابرزَ عن نور كاوشِيةِ الرُّقْمِ
عدوتُ عليه من قَرار مَسيلَةٍ ... بأَجْرَدَ كالتمثال معتدلٍ فَعْمِ
(طويلٍ متلَّ العُنْق أشْرفَ كاهلا ... أشَقَّ رحيبِ الجوف معتدلِ الجِرْمِ)
الشاهد فيه إنه نصب (كاهلا) على الحال.
جنت تلاعه: علا نبتها وطال، وأبرز عن نور: يعني ظهر نوره ألوانا، فيه
أبيض وأحمر وأصفر، والأوشية: جمع على غير قياس، كأنه جمع وشاء، ووشاء: جمع وشيء، إلا أن وشاء لا أعلم إنه سمع، الرقم: الدارات ونحوها، والقرار: الموضع الذي يستقر فيه الماء وتنبت حوله الرياض،

(1/236)


والأجرد فرس، كالتمثال: يريد إنه كصورة مصورة في الحسن معتدل الخلق، فعم: ممتلئ ليس بمتغضن الجلد، والمتل: والكاهل: ما بين كتفيه، والأشق: الطويل، رحيب الجوف: واسعه، وهذا محوود في الخيل، والجرم: الجسد.

نصب (أي) على الظرفية
قال سيبويه في المنصوبات: قال حريث بن جبلة العذري:
(حتى كأنْ لم يكُنْ إلا تذكرُهُ ... والدهرُ ايتما حالٍ دهاريرُ)
الشاهد فيه إنه نصب (ايتما حال) على الظرف و (دهارير) مبتدأ، و (أيتما حال)
خبره و (يكن) في البيت هي من (كان التامة) كأنه قال: حتى كان الإنسان لم يوجد في الدنيا أو لم يحدث إلا تذكره. وفي (يكن) ضمير المرء، وتقدير الكلام: حتى كأن الإنسان لم يوجد إلا ذكره، يريد أن الإنسان قصير العمر، وما مضى من عمره إذا مات كأنه لم يوجد.
ويحكى أن عبيد بن سارية الجرهمي قدم على معاوية - وكان عبيد من المعمرين، قيل إنه عمر ثلاثمائة سنة، وقيل إنه عمر مائتين وعشرين سنة - فسأله معاوية عن أشياء كثيرة حتى قال له: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته؟ قال: أعجب شيء رأيته أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له: حريث بن جبلة، فخرجت معهم، حتى إذا وأروه انتبذت

(1/237)


جانبا عن القوم وعيناي تذرفان، ثم تمثلت بأبيات شعر كنت لآويتها قبل ذلك. وهي:
يا قلب إنك في أسماء مغرور ... أذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك إطلاقا محاضير
تبغي أمورا فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر ايتما حال دهارير

(1/238)


المحاضير: السراع الواحد محضير، والإطلاق: جمع طلق، وهي التي لا تعقل ولا تقيد.
قال عبيد بن سارية الجرهمي: فقال رجل إلى جنبي يسمع ما أقول: يا عبد الله، من قائل هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به ما أدري، قد رويتها منذ زمان. قال: قائلها هذا الذي دفنا آنفا، وإن هذا ذو قرابته أسر الناس بموته، وإنك الغريب الذي
وصف يبكي عليه. فعجبت لما ذكر في شعره والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره! فقلت: أن البلاء موكل بالمنطق.
وقد أنشد سيبويه بيتا من جملة هذه الأبيات في باب النونين الخلفية والثقلية.

عطف الظاهر على الضمير بالرفع
قال سيبويه في المنصوبات: قال المخبل السعدي:
يا زبرقان أخا بني خلف ... ما أنت - ويب أبيك - والفخر
هل أنت إلا في بني خلف ... كالإستكين علاهما البظر

(1/239)


الشاهد فيه إنه رفع (الفخر) وعطفه على (أنت).
و (ويب) بمعنى ويل، وبنو خلف: قوم الزبرقان، والأسكتان بفتح الهمزة وكسرها: جانبا الفرج. يقول للزبرقان: مثلك لا يفخر، ومن ساد مثل قومك فلا فخر له بسيادتهم. وشبههم إذا اجتمعوا حوله وأطافوا به بالبظر الذي بين الاسكتين.
وأراد أن يقول: هل أنت في بني خلف إلا كالاسكتين، تقدم.

أعمال صيغة المبالغة (فعال) عمل الفعل
قال سيبويه في باب ما يعمل من أسماء الفاعلين: وقال الفلاخ بن حزن التميمي في رده على سوار بن حنان المنقري:
فإن تكُ فاتَتْكَ السماءُ فأنني ... بأرفعِ ما حولي من الأرض أطولا
وأدنَى فروعا للسماء أعالياً ... وأمنعهُ حوضا إذا الورد أثعلا
(أخا الحرب لبّاسا إليها جِلالَها ... ولست بولاّج الخوالف أعقلا)
الشاهد فيه على أعمال (لباسا) عمل الفعل.
وأثعل الورد: دنا وقرب، وقالوا: تتابع وزاد؟ وقوله: فإنني بأرفع ما حولي من الأرض أطولا، أي: أنا أشرف من جميع من يناسبني، وأكرم

(1/240)


وأعلى ذكرا،
و (بأرفع) خبر إني و (أطول) منصوب على الحال. وأراد: أطول من كل شيء، فحذف.
يقول: أنا بأرفع الأمكنة التي حولي طائلا كل شيء. و (أدنى) معطوف على (أطول) و (أعاليا) وصف لـ (فروع). وامنعه حوضا: يريد إنه منيع لا يرومه أحد ولا يجترئ أحد على الإقدام على ما يكرهه.
وجلال الحرب: الدروع والبيض والسلاح، والخوالف: جمع خالفة وهي عمود من أعمدة البيت، والولاج: الإدخال.
يقول: إذا حضر البأس والخوف لم ألج البيت مستترا، با أظهر وأجاهر وأحارب. واعقلا: الذي تضطرب رجلاه من وجع او فزع أو خوف. يريد إنه قوي النفس، ثابت القدم في مواضع الزلل.

وقوع الفعل المتأخر صفة للاسم قبله
قال سيبويه قال الحارث بن كلدة:
ألا أبلغْ معاتبتي وقولي ... بني عَمْروٍ فقد حسن العِتابُ
وسَلْ هل كان لي ذَنْبٌ إليهم ... هُم منه فأعتِبَهمْ غِضابُ
كتبتُ إليهمُ كتُبا مْراراً ... فلم يرجِعْ إليَّ لهمْ جوابْ
(فما أدري أغيّرهمْ تَناءٍ ... وطولُ العهدِ أم مالُ أصابوا)
الشاهد إنه رفع (مال) وجعل (أصابوا) وصفا له، ولم يجز أن يعمل فيه (أصابوا) وهو وصف له.

(1/241)


يريد: ما أدري أغيرهم بعد حتى تركوا مودتي ومحبتي وتعهدي؟ تناء: أي بعدهم عنا وطول المدة التي لم نجتمع فيها؛ أم مال وقع في أيديهم وحصل لهم، فشغلوا بالسرور به عني. ويرى: أم مالا أصابوا، يعني أم أصابوا مالا، وتكون (أم) منقطعة. ورواية سيبويه أجود وتكون (أم) على روايته متصلة بما قبلها ويجوز أن
تكون منقطعة.