شرح أبيات سيبويه

في أعمال صيغة المبالغة (فعل)
قال سيبويه قال الشاعر:
(حَذِرٌ أموراً لا تَضيرُ وآمنٌ ... ما ليس مُنْجِيَهُ من الأقدارِ)
الشاهد فيه إنه أعمل (حذر) وهو على (فعل) عمل الفعل.
لا تضير: لا تؤذي ولا تخاف لها عاقبة، وآمن من الأقدار ما ليس ينجيه، يقول: الإنسان لقلة علمه وضعفه في نفسه يحذر ما لا يضيره، ويأمن ما لا ينجو منه.
و (حذر) مرفوع على كلام متقدم و (آمن) معطوف عليه و (ما) بمعنى الذي. وقد زعم قوم أن أبا يحيى اللاحقي حكى أن سيبويه سأله عن شاهد في أعمال (فعل) فعمل له البيت.
وإذا حكى أبو يحيى مثل هذا عن نفسه، ورضي أن يخبر إنه قليل الأمانة، وأنه أؤتمن على الرواية الصحيحة فخان، لم يكن مثله يقبل قوله ويعترض به على ما قد أثبته سيبويه. وهذا الرج أحب أن يتجمل بأن سيبويه سأله عن شيء، فخبر عن نفسه بأنه فعل ما يبطل الجمال، ويثبت عليه عار الأبد. ومن كانت هذه صورته؛
بعد في النفوس أن يسأله سيبويه عن شيء.

(1/270)


النصب على المعنى بإضمار فعل
قال سيبويه قال الشاعر:
(يذهَبْنَ في نجدٍ وغَوْراً غائرا)
الشاهد في نصب (غورا غائرا) بإضمار فعل، كأنه قال: يذهبن في نجد ويسلكن غورا غائرا. تهامة وما يليها، ونجد: هو من نحو فيد إلى الكوفة وإلى البصرة وما يلي ذلك. يعنى بذلك قصائد قد سارت في الغور وتهامة، أو أفعالا يفتخر بها، أو حروبا قد غار ذكرها وأنجد.

الجر بـ (حتى) على الغاية
قال سيبويه قال الشاعر:
(ألقى الصحيفة كي يخففَ رَحْلَه ... والزادَ حتى نعلِهِ ألقاها)
الشاهد فيه على جر (نعله) على الغاية، كأنه قال: ألقى الصحيفة والزاد وما معه من المتاع وغيره حتى انتهى الإلقاء إلى نعله. ويكون قوله (ألقاها) تكريرا للفعل على طريق التوكيد. ويجوز نصب (نعله) على أن (حتى) بمنزلة الواو، كأنه قال: ألقى الصحيفة حتى نعله، يريد ونعله، كما تقول: أكلت السمكة حتى رأسها بنصب (رأسها) وتقديره: أكلت

(1/271)


السمكة ورأسها، ويكون (ألقاها) مكررا توكيدا.
ويجوز أن ينصب بإضمار فعل يفسره (ألقاها) كأنه قال: والزاد حتى ألقى نعله ألقاها، كما يقال في الواو وغيرها من حروف العطف. كأنك قلت: وألقى نعله ألقاها.
ويجوز رفع (نعله) بالابتداء، ويكون (ألقاها) في موضع الخبر، وتكون الجملة معطوفة على الجملة المتقدمة.
والصحيفة: الكتاب. يريد إنه ألقى ما على رحله وكل شيء حتى ألقى زاده ونعله. ويجوز أن يكون فعل ذلك لأنه خشي عطب راحلته فخفف عنها.

إعمال صيغة المبالغة (فعول)
قال سيبويه قال الشاعر:
(بَكَيْتُ أخا الّلأْواءِ يُحْمَدُ يومُه ... كريمٌ رؤوسَ الدارعين ضروبُ)
الشاهد في إنه نصب (رؤوس الدارعين) بـ (ضروب).
واللأواء: الشدة، وقوله: بكيت أخا اللأواء يريد أنك بكيت رجلا، وهو يعني بكيت عليه وعلى فقده، كان يعطي في أوقات الشدة وعدم الازواد وامتناع الناس من الجود. وأخو الأواء كقولك: أخو الشدة والجهد. يراد به الذي يجود ويعطي في الشدة وجهد الناس. وقوله: يحمد يومه، أي كل يوم له فيه فعل محمود.

(1/272)


الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف
قال سيبويه قال الشاعر:
(وقائلةٍ: خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ ... وأكْرومَةُ الحيَّيْينِ خِلْوٌ كما هيا)
الشاهد فيه إنه رفع (حولان) وتقدير الكلام: هذه خولان فانكح فتاتهم. وقد ذكر سيبويه السبب الذي من اجله لم يجز أن يكون قوله (فانكح فتاتهم) في موضع خبر (خولان). وخولان: قبيلة من قبائل اليمن

(1/273)


ومساكنهم بالشام وما والاه، واكرومة الحيين: يريد الفتاة التي هي كريمة الحيين - يريد حيين من خولان - خيلو لم تتزوج بعد، وهي كما هي، كما عهدتها أيما فتزوجها.
قال سيبويه قال عدي بن زيد:
(أرَوَاحٌ مودعٌ أم بُكورُ ... أنتَ، فانظر لأيّ ذاك تصيرُ)

(1/274)


الشاهد فيه إنه أتى بـ (أنت) وهو مرفوع بالابتداء، وجعل خبره شيئا محذوفا
تقديره: أنت الهالك ولا يجوز أن يجعل (فانظر) خبرا لـ (أنت). وقد ذكر سيبويه السبب الذي منع من ذلك.

(1/275)


ويروى:
أرواح مودع أم بكور ... لك فاعمد لأي حال تصير
وقوله: أرواح مودع؛ الفعل للروح، يقول: لأرواح يودعك، أي يكون آخر الأوقات التي تنتهي حياتك إليها. فالرواح ترد عليه لأنك تفارق أوقات الدنيا بعده؛ أم بكور يودعك.
يقول: أنت هالك لا شيك فيه ولا مرية، ولابد من أن تنتهي حياتك إلى وما بينهما، فقرب من أحدهما فهو في حكمه.
يعظ عدي بن زيد بهذا النعمان بن المنذر ويقول: أن الموت لابد من نزوله، فاعمل لآخرتك فإنك منته إلى أن تفارق الدنيا وتحصل على عملك.
وفي إعراب هذا البيت وجوه تذكر أن شاء الله.

(1/276)


حذف الياء بغير تنوين - ضرورة
قال سيبويه في ضرورة الشعر، قال الشاعر:
كنواحِ ريشِ حمامةٍ نجديةٍ ... ومسحْت بالثَتَيْنِ عَصْفَ الاثمدِ)
الشاهد فيه على حذف الياء من (نواحي) وهو جمع ناحية مثل شارية وشوار وجارية وجوار، وحذف الياء في الاضافة، وحذفها في غير الإضافة أسهل.
والحمامة: يعني به قمرية أو ما أشبهها من الحمام ذوات الأطواق. ونواح ريشها: أطرافه وجوانبه. وعندي إنه ذكر حمامة نجدية، ونسبها إلى نجد وهو يعني الفاختة لأن الفاختة لا تسكن الغور وتهامة وما والاها، وإنما تسكن في نواحي نجد.
والعصف: ورق الزرع، والاثمد: هذا الكحل المعروف، والكحل حجارة تؤخ من معدن من المعادن وليس بشيء ينبت فيكون له ورق، ولم يكن الأثمد من الأشياء
التي تكون في بلاد العرب فهم لا يقفون على حقيقته. ومثل ذلك قول أبي نخيلة:
بَريّةٌ لم تأكلِ المُرَقَّقَا
ولم تَذُقْ من البقولِ الفُستُقا
وقوله: ومسحت باللثتين عصف الاثمد، اراد: مسحت اللثتين بعصف الأثمد فقلب، لأن الكلام لا يدخله لبس، وكانت النساء تتزين بأن تسود اللحم

(1/277)


الذي في أصول الأسنان واللثات بالنوءور وهو دخان الشحم أو الاثمد، وكانوا يستحسنون ذلك.
شبه سواد لثة هذه المرأة بسواد أطراف ريش الحمامة، وهم لا يقصدون بذلك أن يكون سواد اللثات حالكا، وإنما يريدون أن يضرب إلى السواد.
وهذا البيت منسوب إلى خفاف بن ندبة في الكتاب، وزعم قوم إنه لابن المقفع، وليس الأمر كما قالوا، وجميع ما ينسب إلى ابن المقفع مقطوعتان أوثلاث، بعضها في الحماسة. وليس له مقطوعة على هذا الوزن ولا على هذا الروي.
فأما نسبته إلى الخفاف فليس من عمل سيبويه؛ وقد ذكرنا ذلك، ولا يمتنع أن يكون لخفاف كما ذكر من نسبه إليه. وأن كان لم يقع في ديوانه. كما ينسب إلى زهير.

تشديد لام (أفعل) ضرورة
قال سيبويه في ضرورة الشعر: قال رؤبة:
ثُمَّتَ جئتُ حيةً أصمّا
(ضخماً بحب الخلقَ الأضْخَمّا)
الشاهد فيه على إنه شدد الميم من (الأضخم) وهو على أفعل من الأحسن والأكرم، ثم وصل الميم بالألف التي للإطلاق. وهذه الميم لا تشدد إلا في الوقف إذا كانت منتهى الكلمة.
والخلق الأضخم: الأكبر الأعظم.

(1/278)


النصب على نزع الخافض
قال سيبويه قال الشاعر:
(استغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحصِيهُ ... ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ)
الشاهد فيه على حذف حرف الجر من (ذنب) والأصل: استغفر الله من ذنب، ولكنه حذف الحرف. وقوله: استغفر الله ذنبا، أراد به جميع ذنوبه، فلفظ بالواحد وهو يريد الجمع، ويدل عليه قوله: لست محصية، أي أنا لا أضبط عدد ذنوبي التي اذنبتها، وأنا استغفر الله من جميعها، (رب العباد) وصف الله عز وجل.
وقوله: إليه الوجه والعمل، أي إليه التوجه في الدعاء والطلب والمسألة والعبادة، والعمل له، يريد: هو المستحق للطاعة.

ضمير الشأن في (ليس)
قال سيبويه قال هشام أخو ذي الرمة:
(هي الشفاءُ لدائي لو ظفِرْتُ بها ... وليس منها شِفاءُ الداء مبذولُ)
الشاهد فيه إنه جعل في (ليس) ضمير الأمر والشأن، والجملة التي بعده في موضع خبره. و (شفاء الداء) مبتدأ و (مبذول) خبره (ومنها) في صلة (مبذول) أصله: وليس شفاء الداء مبذول منها.

(1/279)


ويجوز أن يكون (منها) منصوبا بإضمار فعل، كأنه قال: أعني منها، أو أريد منها. والضمير المؤنث يعود إلى المرأة.
يقول: هي الشفاء لدائي لو ظفرت برؤيتها والاجتماع معها، وليست تبذل ليس شفاء أستشفي به من نظرة أو سلام أو إيماء. يعني إنه قد قطع طمعه من إنها تنيله شيئا مما يحبه، فبليته عظيمة ومحنته شديدة ليأسه منها.

اختلاس صلة الضمير الغائب - ضرورة
قال سيبويه في ضرورة الشعر: قال رجل من باهلة:
(أَو مُعْبَرُ الظهر يُبْني عن وليتِه ... ما حجَّ رُّبه في الدنيا ولا اعْتَمَرا)
الشاهد فيه على اضطرار الشاعر لما حذف صلة ضمير الغائب، وهي الواو التي تتبع الضمير (الهاء) أراد: ربهو، فحذف الواو.
والمعبر من الإبل: الذي يترك وبره لا يجز سنين، و (الولية) البرذعة التي تقع على ظهره، وينبي: يرفع. وأراد أن يقول: ينبي وليته، فلم يستقم له فال: عن وليته. وإذا كثف الوبر على سنامه وعظم نبت وليته وارتفعت. وقوله: ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا: يريد أن صاحبه لو كان حج أو اعتمر لاحتاج إلى النظر في إصلاح بعيره والقيام عليه وجز وبره، حتى تقع الولية عليه والرحل وقوعا جيدا متمكنا، فيتمكن الراكب عليه.

(1/280)


قال سيبويه في ضرورة الشعر: قال الشاعر:
(بَيْناهُ في دارِ صِدْقٍ قد أقام بها ... حينا يعللُنا وما نُعللُهُ)
الشاهد فيه إنه حذف الواو من (هو) الذي هو ضمير المذكر في الانفصال، والواو من نفس الضمير. والأصل: بيننا هو في دار صدق.
ودار صدق: هي الدار التي يحمد المقام فيها، ولا يلحق المقيم بها أذى من شيء يكون، ولا عيب يعاب به لجلالتها. والتعليل: أن يتعهدهم بما يحبون في الوقت بعد الوقت، وأنا قوله: ما نعلله، فإنه يحتمل أمرين.
أحدهما أن تكون (ما) حرف نفي، كأنه قال: هو يعللنا لغناه وسعة ماله وجوده، ونحن لا نعلله لأنه لا أموال لنا ولا يمكننا تعليله.
الوجه الآخر أن تكون (ما) بمعنى الذي، وتكون (نعلله) صلة لها، وموضعها من الإعراب نصب وهي معطوفة على الضمير المتصل بـ (يعللنا). والمعنى؛ أن الرجل الممدوح يعللنا ويعلل ما يجب علينا أن نعلله من أهلنا وأموالنا. يعني إنه
يتعهدهم ويتعهد أهلهم وأموالهم وما يحتاجون إليه.
(ولا يَنطِقُ الفحشاَء مَنْ كان منهمُ ... إذا جلسوا منّا ولا مِنْ سِوائِنا)

(1/281)


الشاهد فيه على إنه جر (سوائنا) ومكنه وهو غير متمكن.
يمدح جماعة من قومه. وقوله: إذا جلسوا منا، أي لا ينطقون بالفحش إذا جلسوا عندنا وفي مجالسنا، ولا ينطقون بالفحش أيضا إذا جلسوا عند قوم غير قومهم. وقد كتبت خبر هذا البيت في موضع آخر.

النصب على نزع الخافض
قال سيبويه قال الفرزدق:
(منا الذي اخْتِيرَ الرجالَ سماحةً ... وَجُوداً إذا هبَّ الرياحُ الزعازعُ)
ومنّا الذي قادَ الجيادَ على الَجَا ... بنجرانَ، حتى صبَّحَتْها النزائعُ
الشاهد فيه إنه حذف حرف الجر في قوله: منا الذي اختير الرجال سماحة، يريد اختير من الرجال فحذف (من)، و (سماحة وجودا) مصدران يحتملان أمرين:
أحدهما أن يكونا منتصبين على طريق التمييز.
والوجه الآخر أن يكونا منصبين على الحال، كأنه قال: اختير من الرجال سمحا جوادا. أي اختير في حال سماحته وجوده.
والزعازع: جمع زعزع وهي الريح التي تهب بشدة. وعنى بذلك الشتاء، وفيه تقل الألبان، وتعدم الأزواد، ويضن الجواد، فيقول: هو جواد في مثل هذا الوقت الذي يقل الجود فيه.
وعندي إنه يعني بهذا المدح أباه غالب بن صعصعة وكان جوادا.
والذي

(1/282)


قاد الجياد على الوجا، يقال: إنه عمرو بن حدير من بني نهشل، ويقال: الأضبط بن قريع من بني سعد، ويقال: الأقرع بن حابس. وهذا أشبه بالشعر.
والوجا: الحفا، يريد إنه أبعد الغزاة حتى حفيت خيله إلى أن أتى نجران فسبى
وغنم. والنزائغ: الخيل الكرام، قيل: التي انتزعت من أيدي الأعداء، وقيل: التي تنزع إلى أوطانها.
قال سيبويه قال الشاعر.
(نُبئتُ عبدَ اللهِ بالجَوَّ أصبحتْ ... كِراماً مَواليا لِئاماً صَميمُها)
الشاهد فيه إنه حذف حرف الجر، وكان الأصل عنده: نبئت عن عبد الله بالجو أنها أصبحت. وجو: قصبة اليمامة، والجو: بطن الوادي وكل بطن واد جوّ. وقوله: أصبحت كراما مواليها، يهزأ بهم، يقول: موالي هذه القبيلة كرام وهم لئام. والصميم: خالص القوم ومن لا يشك في نسبه منهم.

العدول عن العطف، إلى النصب بإضمار فعل -
للمعنى
قال سيبويه في المنصوبات قال الشاعر:
(وجَدْنا الصالحين لهم جزاءٌ ... وجنّاتٍ وعيناً سَلْسَبيلا)

(1/283)


الشاهد فيه إنه نصب (جنات) بإضمار فعل تقديره: ووجدنا لهم جنات وعينا سلسبيلا، ويكون الفعل الأول قد دل على الفعل الثاني فحسن حذفه. وعطف ما بعد (جنات) عليها. و (وجدنا) في البيت بمعنى علمنا، وهو يتعدى إلى مفعولين. و (الصالحين) المفعول الأول و (لهم جزاء) مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني. مثلما تقول: وجدت زيدا له علم، ووجدت أخاك له مال وما أشبهه.
وأراد بقوله: وعينا سلسبيلا أي عينا ماؤها سلسبيل، والسلسبيل: السهل النزول.
قال سيبويه في المنصوبات: قال ابن أبي ربيعة أو غيره من الحجازيين:
(فَواعديه سرحَتَيْ مالكٍ ... أو الربا بينهما أَسْهلا)
الشاهد فيه إنه نصب (سهلا) بإضمار فعل، كأنه قال بعد قوله: فواعديه. . . أو
الربا بينهما: إيت مكانا أسهل.
يجوز أن تعني: مكانا أسهل مما حوله، ويجوز أن تعني: مكانا سهلا، وتجعل (أسهل) في موضع سهل كما أتوا بأوجل في معنى وجل، ولهذا قالوا: أحمق وحمق ولها نظائر.
والربا: جمع ربوة، وهو المكان الذي ارتفع عما حوله، وكانت الربا

(1/284)


بين السرحتين، والسرح: ضرب من ضروب الشجر يعظم ويكبر، الواحدة سرحة. والمعنى أنها قالت لرسوله أو لأمها: واعديه الليلة أن يقصد السرحتين، ويلتمس مكانا سهلا يقرب من ذلك الموضع، لأنهما إذا علوا الربا عرف مكانهما. واتسع فجعل (سرحتي مالك) ظرفا. والتقدير: فواعديه المكان الذي فيه سرحتا مالك.

إيثار النصب مفعولا معه دون العطف للمعنى
قال سيبويه قال الشاعر:
(فكونوا أنتمُ وبني أبيكمْ ... مكانَ الكُلْيتين من الطحالِ)
الشاهد فيه إنه نصب (وبني أبيكم) ولم يعطه على الضمير الذي هو فاعل (كونوا) وإنما انتصب لأنه مفعول معه، والناصب له (كونوا).
وقوله: مكان الكليتين من الطحال، يقول: اقربوا من بني أبيكم وعاضدوهم، وليكن مكانكم من مكانهم كمكان الكليتين من الطحال.

(1/285)


قال سيبويه قال الشاعر:
(وكانَ وإياها كحَرّانَ لم يُفِقْ ... عن الماء إذ لاقاه حتى تَقَدَّدا)
الشاهد فيه إنه نصب (وإياها) على إنه مفعول معه، وفي (كان) ضمير هو اسمها.
والحران: الشديد العطش، لم يفق: لم يقلع عن شرب الماء لما وصل إليه، حتى تقددا: يريد حتى كاد يتشقق جوفه من كثرة الشرب، وقددت الشيء إذا شققته طولا، وانقد هو إذا انشق.
يعني لما رأى هذا المرأة واجتمع معها؛ كان كالعطشان الشديد العطش حين رأى الماء، فلم يقلع عن شربه. يريد إنه لم يبرح من عندها ينظر إليها ويستمتع بها.

العطف بالرفع، مع إمكان النصب بفعل محذوف
قال سيبويه قال الشاعر:
(وكنتَ هناك أنت كريمَ قَيْسٍ ... فما القَيْسيُّ بعدك والفَخارُ)
الشاهد فيه إنه رفع (الفخار) وعطفه على (القيسي) ولم يضمر له فعلا فينصبه. والتاء اسم كان و (أنت) توكيد أو فصل و (كريم قيس) خبر كان

(1/286)


و (هناك) ظرف والعامل (كريم قيس)، ومن أجاز من أصحابنا أن يعمل (كان) في الظروف أعملها في (هناك).
والمعنى أن المكارم التي كانت تفخر بها قيس كانت مجتمعة فيك، فلما فقدومك لم يكن لهم طريق إلى الفخر بإنسان منهم، لأنه لم يكن لواحد منهم خصلة من خصال الكرم التي حويتها.

إلغاء الظرف والجار والمجرور - بجعل الخبر
غيرهما
قال سيبويه: وتقول: أن زيدا لفيها قائما، وإن شئت ألغيت (لفيها) كأنك قلت: أن زيدا لقائم فيها. ويدلك على أن (لفيها) تلغى أنك تقول: أن زيدا لبك مأخوذ.
قال أبو زبيد الطائي:
أن امرءاً خصّني عمدا مودته ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ)
أرعَى وأرْوَى وأدناني وأظهرني ... على العدو بنصرٍ غيرِ تعذيرِ
ذكر سيبويه في الفصل الذي قبل البيت أن (إن) إذا وقع بعد اسمها ظرف تام
يصلح أن يكون خبرا لها، أو حرف جر يجري مجرى الظرف، ومع الظرف اسم فاعل يصلح أن يكون خبرا لها، أو غيره مما يكون خبرا - كنت مخيرا في أن تجعل أيهما شئت الخبر.
فإن جعلت الظرف خبرا، نصبت الاسم الذي بعده على الحال، وكان العامل في الظرف محذوفا كما يحذف في قولنا: أن زيدا خلفك.
وإن جعلت اسم الفاعل الخبر جعلته عاملا في الظرف

(1/287)


النصب، ولم يحتج إلى إضمار شيء.
ومعنى قوله: وإن شئت ألغيت الظرف، أي لم تجعله خبرا. وهذا الذي ذكر من التخيير - بين أن يجعل الظرف خبرا أو الاسم الذي بعده - إنما يصح إذا تقدم الظرف على اسم الفاعل، لأن الظرف لا يعمل في الحال عنده حتى يكون مقدما على الحال، ولا يجوز أن يعمل الظرف في الحال وهي متقدمة عليه.
واستشهد قبل إنشاد البيت على أن الظرف قد يجوز أن يلغى ولا يجعل خبرا في مثل هذا الموضع، لأنهم يقولون: أن زيدا بك مأخوذ. و (بك) ظرف ناقص لا يجوز أن يكون خبرا، ولابد أن يكون ملغى.
فإذا جاءوا بظرف تام يصلح أن يكون خبرا، جاز أن يلغوه، كما وجب في الناقص أن يكون ملغى، ولا بد من أن يكون خبرا لم يجز أن يقع في موقعه الظرف الناقص الذي لا يكون خبرا.
والشاهد في بيت أبي زبيد إنه ألغى (عندي) وجعل (غير مكفور) الخبر.
يمدح أبو زبيد بهذا الشعر الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكانت بنو تغلب قد أخذت إبلا لأبي زبيد، فأخذ له الوليد بحقه من بني تغلب وارتجع إبله.
يقول: خصني بمودته، وأخذ لي بحقي، ولم يكن بيننا سبب يوجب ذلك. والتنائي: البعد، وزعم إنه لا يكفر إنعامه عليه، وقوله: أرعى، أي جعل لإبله ما ترعاه،
وأروى: أرواها من الماء ومن

(1/288)


غيره، وأظهرني: جعلني ظاهرا عليهم قاهرا لهم، والتعذير: أن يفعل الشيء ولا يبالغ فيه فإذا بالغ فيه فهو غير معذر. يريد إنه نصره نصرا بالغ فيه ولم يقصر.

جواز تذكير الفعل مع المؤنث المجازي
قال سيبويه قال أبو زبيد الطائي:
وسما بالمطي والذُّبَّل الصُّم ... - مِ لعمياءِ في مفاريطِ بيدِ
(مُستَحِنٍ بها الرياحُ فما يَجْ ... - تابُها في الظلام كلُّ هَجودِ)
ذكر هذان البيتان في قصيدة يرثي فيها أبو زبيد ابن اخته اللجلاج بن اوس.
وسما: علا وارتفع، وفي (سما) ضمير يعود إلى المرثي، والمطي: جمع مطية وهي الراحلة، والذبل: الرماح، والصم: الصلاب، العمياء: يريد لأرض عمياء لا علم فيها ولا منار. يريد إنه سير القوم في فلاة لا يهتدى فيها لجرأته وقوة نفسه. والبيد: جمع بيداء وهي الفلاة الواسعة، ومفاريطها: ما تقطع منها ولم يتصل. يريد أن بين كل فلاتين من هذه الفلوات مكانا ينقطع فيه الأثر فلا يدرى كيف يتوجه فيه.
(مستحسن) مجرور، يصلح أن يكون نعتا لـ (عمياء) ويصلح أن يكون نعتا لـ (مفاريط) ويجوز أن يكون نعتا لـ (زبيد) والمستحسنة: التي صوتها كأنه حنين الناقة، والهجود: الكثير النوم، ويجتاب ويجوب: يقطع. يقول: هذه البيد لا يقطعها كل رجل نؤوم.
ويروى: يجتازها من الجواز، يريد يجوزها.

(1/289)


ترخيم الاسم بحذف حرفين
قال أبو زبيد:
(يا اسْمَ صبرا على ما كان من حدَثٍ ... أن الحوادثَ مَلْقِيٌّ ومُنْتَظَرُ)
كم من أخٍ لي كعِدْلٍ الموتِ مَهْاِكُهُ ... أودى فكان نصيبي بعده الذِكَرُ
يرثي أبو زبيد بهذا الشعر عبيد الله بن عمر بن الخطاب رحمه الله، وقتل بصفين:
يقول: الحوادث والمصائب لا نخلو منها، فبعضها قد نزل بنا في هذا الوقت وهو الملقي، وبعضها نتوقعه فيما بقي من أعمارنا وهو المنتظر. ثم قال: كم من أخ لي، يريد إنه قد فارق جماعة من أهل مودته واخوته، كان يموت كل واحد منهم عنده بمنزلة موته وهلاك نفسه. وأودى: هلك، فكان نصيبي منه أن أحزن عليه إذا ذكرته. والذكر: جمع ذكرة.

المضاف إلى النكرة
قال سيبويه: هذا كل متاع عندك موضوع.
جعل (هذا) مبتدأ و (كل) خبره و (موضوع) وصفا لـ (كل) لأن كلا نكرة لأنها مضافة إلى نكرة، وإذا كانت نكرة وصفت بنكرة، ثم ذكر سيبويه أشياء نكرات مضافات إلى ما بعدها هي نظائر لـ (كل).

(1/290)


ثم انتهى إلى إنشاد بيت الشماخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسهِ ... لوصْل خليل صارمٌ أو مُعارِزُ)
الهضم: الظلم ونقصان الحق. يقال: هضمت الرجل أهضمه هضما إذا ظلمته أو نقصته من حقه، وتهضمته مثله. والمعارز: المجانب المباين، يقال: عارزه يعارزه معازرة، إذا جانبه وباينه. و (كل) رفع بالابتداء و (غير) وصف لكل.
والشاهد في البيت إنه جعل (غير) وصفا لـ (كل) و (صارم) خبر (كل) و (كعارز) معطوف عليه.
والمعنى أن كل خليل لا يصبر لخليله على أشياء يكرهها، ويحتمل الهضم والنقصان من خليله؛ فإن خلتهما لا تدوم، وسيصرمه خليله أن كان لا يصبر على بعض ما يكرهه من جهته.
يريد أن المودة والاخوة والصداقة لا تثبت وتدوم بين نفسين؛ إلا أن يكون كل واحد منهما يتحمل من صاحبه أشياء لا توافقه، ويصبر له عليها. فإذا كان هذا الأمر من شأنهما دامت مودتهما.
وهو نحو قوله:
فلستَ بِمُسْتَبقٍ أخا لا تَلُمّهُ ... على شَعثٍ، أي الرجالِ المهذبُ

(1/291)


اختلاس صلة الضمير في الشعر - ضرورة
قال سيبويه قال الشماخ:
أقب كأنَّ مَنْخِرَهُ إذا ما ... أرَنَّ على تَواليهنَّ كِيرُ
(له زَجلٌ كأنه صوتُ حادٍ ... إذا طلبَ الوسيقةَ أو زَميرُ)
الشاهد في البيت على إنه حذف الواو التي هي صلة الضمير واكتفى بالضمة منها.
والاقب: يريد به عير الوحش، والاقب: الضامر البطن، وارن: صوت، وتواليهن: متأخراتهن، وضمير جماعة الإناث يعود إلى الأتن، والكبر: الزق، زق الحداد، شبه صوت تنفسه إذا تنفس بصوت زق الحداد إذا خرج منه الريح.
والعير يضم بعض اتنه إلى بعض ويجمعها، وإذا تقدم أمامها اتبعه، والزجل: الصوت، يريد إنه يصوت حتى تجمع له، وكأن صوته صوت حاد والوسيقة: الإبل التي تطرد وتؤخذ من أصحابها، فحاديها يسرع بها لئلا يلحق. والزمير: الزمر.

ترخيم (فلان) في غير النداء - ضرورة
قال سيبويه: وأما فلان فإنما هو كناية عن اسم سمي به

(1/292)


المحدث عنه خاص غالب، وقد اضطر الشاعر فبناه على حرفين، قال أبو النجم:
تُثير أيديها عجاجَ القسطلِ
إذا عَصَبَتْ بالعطَنِ المُغربلِ
تَدافُعَ الشَّيبِ ولم تِقِتلِ
(في لَجَّةٍ أَمسِكْ فلانا عن فُلِ)
الشاهد في البيت الأخير إنه جعل (فلا) في موضع فلان في غير النداء، في النداء، فإن اضطر شاعر استعمله في غير النداء.
وصف إبلا. والقسطل: الغبار، والعجاج، ما ارتفع من الغبار، وعصبت: اجتمعت، والعطن: مبرك الإبل قرب الماء، وإنما تبرك قرب الماء إذا شربت الشربة الأولى وهي النهل، لتعاد إلى الماء فتشرب مرة أخرى، والشربة الثانية هي العلل. والمغربل: المنخول في هذا الموضع. أراد أن تراب العطن كأنه منخول، والمغربل في موضع غير هذا المنتفخ.
وقوله: تدافع الشيب، وهو جمع أشيب يعني الشوخ. يريد أن الإبل تتدافع تدافعا مثل تدافع الشيوخ، لأنهم أصحاب حلم يتدافعون ولا يقتتلون. ويريد إنه ليس بتدافع شديد، لأنها قد شربت الشربة الأولى، فقد سكنت بعض السكون، إنما تدافع لأنها ديدت عن الماء وليس تدافعها لقتال.

(1/293)


وقيل: إنه أراد بتدافع الشيب أن الذادة يتدافعون، فشبه أصواتهم بأصوات شيوخ يحجزون بين قوم وقع بينهم شر.
و (تقتل) أصله تقتتل، فأدغمت التاء الأولى في الثانية، وكسرت القاف لسكونها وسكون التاء الأولى، وكسرت التاء اتباعا لكسرة القاف. واللجة: اختلاط الأصوات، وأراد باللجة اختلاط أصوات الذادة؛ إذا اقتتل منهم اثنان صاح الباقون: أمسك فلانا عن فل أن لا يخاصمه.
وقد روي:
أمسِكْ فُلانُ عن فُلِ
وكلا الوجهين جيد، فإن كان الذي نودي مأمورا بالإمساك في نفسه فينبغي أن يقال: أمسك فلان، لأنه منادى. وإن كان المنادى مأمورا بأن يحجز بين اثنين ويمنع أحدهما من خصومة الآخر؛ فينبغي أن يقال: أمسك فلانا، لأنه مفعول (أمسك) وليس بمنادى والمنادى غيره، وهو الذي أمر بأن يمسك فلانا ويمنعه من خصومة غيره، و (في لجة) في صلة (تدافع).

قلب ياء المتكلم ألفا
قال سيبويه قال أبو النجم:
يا بنْتَ عمي لا تلومي واهْجَعي
ألم يكن يبيَضُّ أن لم يَصْلَعِ
اهجعي: نامي، وقوله: ألم يكن يبيض: يعني رأسه، يريد إنه لو لم يصلع لبقي شعره أبيض.

(1/294)


وهذا البيت معلق بأول القصيدة، لأنه قال:
قد أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تدَّعي
عليَّ ذنباً كلُّه لم أصْنعِ
من أن رأتْ رأسي كرأسِ الأصْلعِ
ومضى في شعره حتى انتهى إلى ذكر هذا البيت. وأراد أن أم الخيار غضبت عليه لأجل صلعه فقال لها: لو لم أصلع لشاب رأسي. والشيب عند النساء قريب من الصلع في الكراهية.

في كسر تاء (تفعال) - ورفع اسم (لا) لتكرارها
قال سيبويه: فمها لم يتغير عن حاله قبل أن يدخل عليه (لا) قول الله تعالى: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال الراعي:
أمَّلْتُ خَيْرَكِ هل تأتي مواعدُهُ ... فاليومَ قصَّر عن تِلقائِكِ الأمَلُ)
(وما صَرَمْتُكِ حتى قلتِ معلنةَ ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جَمَلُ)
ويروى: اقصر. يخاطب امرأة، يقول: أملت أن أصل إلى ما كنت تعدينني به، فلما كثر إخلافك لي أقصر أملي، أي كف عن أن يتعلق

(1/295)


بشيء من جهتك، وتلقائك بمعنى لقائك. وقد أنشد سيبويه هذا البيت في المصادر.
وقوله: وما صرمتك حتى قلت معلنة، يريد أنها أعلنت وأظهرت ما في نفسها له من الزهد فيه، وقوله: لا ناقة لي في هذا ولا جمل: يريد أنها قالت: لا أتعلق من هذا الأمر الذي تلتمسه مني بشيء. ويقول الذي يتبرأ من الشيء: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، أي لا التبس منه بشيء قليل ولا كثير، وهو مثل.

وقوع (أيما) مبتدأ
قال سيبويه: وسألته - يعني الخليل - عن قول الراعي:
فأومأْتُ إيماءً خَفياً لِحَبْتَرٍ ... وللهِ عينا حبْتَرٍ أيما فَتى)
فقلت له: ألصِقْ بأيَبسِ ساقِها ... فإنْ تَجْبرِ العُرقوبُ لا يَرْقا النَّسا
فقال: (أيما) تكون صفة للنكرة، وحالا للمعرفة، وتكون استفهاما مبنيا عليها ومبنية على غيرها.
الشاهد في البيت إنه جعل (أيما) مبتدأ وخبرها محذوف، وتقديرها: أيما فتى هو. وكان الراعي قد نزل به رجل من بني أبي بكر بن كلاب، وكانت إبل

(1/296)


الراعي عازبة عنه فأومأ إلى حبتر أن ينحر ناقة الكلابي حتى تقريه منها، ويوسع على من يلتمس منه لحما، ففعل حبتر ما أمره به، فلما أصبح الراعي ووافت إبله، أعطى الكلابي ناقتين كل واحدة منهما خير من ناقته.
وقوله: (ولله عينا حبتر) تعجب من فهم حبتر ما أراده وأومأ إليه، وإنما مدح عينيه لأنه رأى بهما إشارة الراعي وفهمها عنه، والأيبس: عظم الساق.
وقوله: فإن تجبر العرقوب، يقول: لو جبر العرقوب ولم تقطعه الضربة لم يرقأ
النسا، ولم يكن قطع الدم منه. ويريد ألصق حد السيف بعظم الساق، أي اضربه. وقوله: فإن تجبر العرقوب - وهو لم يأمر بقطع العرقوب، إنما أمره بقطع الساق - معناه أن الأمر بقطع العرقوب، والعرقوب أسفل وظيف البعير، وهو منزلة الأمر بقطع الساق، وكل واحد منهما مثل الآخر في هذا المعنى.