شرح أبيات سيبويه

ترخيم (اثالة) في غير النداء
قال سيبويه في الترخيم: قال ابن أحمر:

(1/333)


وأيةَ ليلةٍ تأتيكَ سَهْواً ... فتصبحَ لا ترى منهمْ خَيالا
(أبو حَنَشِ يُؤرّقنا وطَلْقٌ ... وعبّادٌ وآونةً أثالا)
ذكر ابن أحمر جماعة من قومه لحقوا بالشام وأقاموا بها. والسهوة: اللينة الساكنة. يقول: إذا أتى أول الليلة بالسكون والطمأنينة، رأيت خيالهم في آخرها فأزعجني تذكرهم، وحزنت على مفارقتهم. وذكر منهم جماعة فقال: أبو حنش يؤرقنا، أي يمنع تذكره من النوم.
وذكر سيبويه أن اثالا ترخيم اثالة.
والشاهد على ترخيم (اُثل) في غير النداء. وروى الرواة أن اسم الرجل كان اثالا، وأنه غير مرخم ونصبه على إضمار فعل، كأنه: وآونة نتذكر أثالا.

النصب المنادى إذ بدا من قبيل الشبيه بالمضاف
قال سيبويه في النداء: قال ذو الرمة:
أداراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فماءُ الهوَى يَرْفَضُّ أو يترقْرَقُ)
الشاهد فيه إنه نصب (دارا) لأنها منادى منكور.
وحزوى مكان بعينه و (بحزوى) وصف لـ (دار) وبرفض: يتفرق

(1/334)


ويجيء شيئا بعد شيء، ويترقرق: يجري ويسيل. وأراد بماء الهوى: الدموع التي تجري من عين من في قلبه هوى. والمعنى واضح.

(ابن ماء) وأشباهه نكرة
قال سيبويه قال ذو الرمة:
وماءٍ قديمِ العهدِ بالناسِ آجنٍ ... كأنَّ الدَّبا ماَء الغَضا فيه يَبْصٌقُ
(وردْتُ اعتسافا والثُرَيّا كأنّها ... على قِمةِ الرأس ابنُ ماءٍ مُحَلَّقُ)
الآجن: الماء المتغير، قديم العهد بالناس: لم ينزل عليه أحد لأنه في موضع من الفلاة لا يسلك كثيرا. والدبا: من الجراد الذي لم تنبت أجنحته، والغضا: شجر معروف. و (ماء الغضا) منصوب بـ (يبصق) يقول: كأن الدبا أكل الغضا، ثم يصق في هذا الماء، وبصاقه أسود شبه ما يبصقه الدبا بما يخرج من الغضا، والذي يخرج منه قطران أو شبيه بالقطران.
وردت هذه الماء اعتسافا، أي على غير هداية. يقال اعتسف الطريق: إذا ركبه على غير هداية. والجملة التي بعد قوله: (اعتسافا) في موضع الحال من التاء. أي وردت في هذه الحال. و (الثريا) مبتدأة والجملة التي بعدها خبرها.
وقمة الرأس: أعلاه، ابن ماء: طائر من طير الماء، ومحلق: مرتفع في الجو يريد إنه ورد هذا الماء والثريا قد توسطت السماء.
والشاهد في البيت الثاني على إنه أتى بـ (ابن ماء) نكرة.

(1/335)


في الإضافة غير المحضة
قال سيبويه قال ذو الرمة:
ألا خَيَّلَتْ خَرقاءُ بالبين بعدما ... مضى الليلُ إلا خَطَّ أبلقَ جاشِرٍ
(سرَتْ تخبطُ الظلماَء مِن جانبي قَسا ... وحُبَّ بها من خابطِ الليلِ زائرِ)
خرقاء: امرأة، وخيلت: من التخييل. أراد أنها أرته خيالها في النوم والبين: القطعة من الأرض، وقيل: البين ملتقى كل ارضين، وأراد بالأبلق ضوء الفجر، والجاشر: المضيء، يقال: جثر الصبح إذا أضاء. وأراد بالاستثناء إنه مضى الليل إلا مقدارا منه قد لاح فيه ضوء الفجر، فجعل (إلا خط ابلق) بمنزلة قوله: إلا بقية فيها خط أبلق.
وتصحيح لفظه إنه في تقدير استثناء متصل، كأنه قال: مضى الليل إلا بقية خط أبلق، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وسرت: سارت بالليل، يعني خيالها، وحب بها: أصله حبب بها ثم أدغم، يريد ما احبها إلي، وقسا موضع بعينه، وتخبط الظلماء: تأتي على غير هداية، و (خابط) مضاف إلى الليل والليل معرفة، ولم يتعرف خابط بإضافته إلى الليل. و (زائر) نعت لـ (خابط) ولو كان (خابط) معرفة لم ينعت بـ (زائر) وهو نكرة.

(1/336)


في لغة (أكلوني البراغيث)
قال سيبويه: واعلم أن من العرب من يقول؛ ضربوني قومك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التي يظهرونها في: قالت فلانة. . . وهي قليلة. قال الفرزدق:
ستعلمُ يا عمرو بنَ عَفْرا من الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقِبُهْ
نَهيتُ عَفْرا أن يُعفر أمَّه ... بحَجْر السَّلا إذْ عَفَّرَتْهُ ثعالِبُهْ
فلو كنتَ ضَبياً صفحْتُ ولو سرَتْ ... على قدمي حيّاتُهُ وعقارِبُهْ
(ولكنْ دِيافي أبوه وأمه ... بحَورانَ يعصِرْنَ السَّليطَ أقاربه)
الشاهد فيه إنه قال (يعصرن) فأتى بالحرف الذي يكون ضميرا، علامة للجمع على حد قولهم: أكلوني البراغيث، والفاعل هو (أقاربه) فأتى بعلامة الجمع.

(1/337)


وقوله: غبت عواقبه، أي إذا أتتك مكافأتي بالهجاء بعد وقت. والسلا: الجلدة التي تخرج على الولد من بطن أمه، وعفرته: جرته في التراب حتى يلتزق به، والعفر: التراب، ودياف: قرية بالشام فيها قوم أشباه النبط، وحوران مدينة من مدن الشام؛ والسليط: الزيت.
وسبب هذا الشعر أن عمرو بن عفرا قال لعبد الله بن مسلم الباهلي وقد أعطى الفرزدق خلعة؛ وحمله على دابة، وأمر له بألف درهم، فقال له عمرو بن عفرا الضبي: ما يصنع الفرزدق بهذا الذي أعطيته. إنما يكفي الفرزدق ثلاثون درهما: يزني بعشرة، ويأكل بعشرة، ويشرب بعشرة. فهجاه الفرزدق.
قال سيبويه: قال الفرزدق:
وما زالَ باني العز منا وبَيْتِه ... وفي الناس باني بيت عِزّ وهادِمُهْ
(قديما ورثناه على عهدِ تُبَّعٍ ... طويلاً سواريهِ شَديداً دعائِمُهْ)
الشاهد فيه على تذكير (طويل) والفاعل له السواري، وكذا قوله (شديد دعائمه) ذكر ولم يقل شديدة.
فخر الفرزدق بقومه. يقول: ليس كل الناس يبني عزا مثل ما نبني

(1/338)


نحن، وأراد أن العز حاصل لهم وفيهم؛ منذ الوقت الذي كان تتبع فيه ملكا. والسواري: الأساطين؛ الواحدة سارية، والدعائم: واحدتها دعامة وهو ما يدعم به الشيء أي
يسند. يريد أن بيت العز فيهم ثابت عظيم الشأن؛ مثل البيت الذي فيه سوار عوال ودعائم تسنده.
وهذا الشعر في قصيدة يهجو بها بني نهشل ورئيسهم يزيد بن مسعود.

(من) اسم نكرة بدليل وصفه بنكرة
قال سيبويه قال الفرزدق:
(إني وإياك إذْ بَلَّغْنَ أرحلَنا ... كم بِواديه بعد المحل ممطورِ)
وفي يمينك سيف الله قد نصرتْ ... على العدو، ورزقٌ غيرُ محظورِ
الشاهد فيه على إنه جعل (من) اسما نكرة موصوفا بـ (ممطور) وليست له صلة و (إياك) ضمير المخاطب وهو يزيد بن عبد الملك، وكان الفرزدق قد مدحه بهذه القصيدة. والنون في (بلغن) ضمير الرواحل.
المعنى: إني إذا سارت الرواحل، وحملت أرحلنا حتى بلغنا إليك، كرجل كان واديه محلا فمطر بعد ذلك، وظهر نباته، وحسنت حاله. يريد أن ما نالوا من خيره بعد الحال التي كانوا فيها؛ كحال من كان محله جدبا غير ممطور، ثم مطر فأخصب.

(1/339)


و (بعد المحل) منصوب بـ (ممطور) والباء التي في قولك (بواديه) متصلة بـ (ممطور) أيضا. أراد كإنسان ممطور بواديه بهد المحل. وقوله (وإياك) اسم معطوف على الضمير المنصوب بـ (إن)، وهو ضمير: يزيد عبد الملك الممدوح، وليس في بقية البيت ما يعود إلى إياك). والكاف في قولك (كم) وما اتصل بها خبر لضمير المتكلم. وقد جاء مثل هذا. قال الشاعر:
فمَنْ يَكُ سائلاً عني فإني ... وجِروةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ
لم يخبر عن نفسه وأخبر عن حروة.
ويقدر في مثل هذا ما يعود إلى الاسم الآخر، كأنه قال: كإنسان مطر بخيرك وجودك. فإن قال قائل: ففي الكلام ضمير محذوف يعود إلى (إياك) وهو قوله: إذ
بلغن أرحلنا، معناه: إذ بلغنك أرحلنا؛ قيل له: (إذ) وما اتصل بها لا يصلح أن يكون خبرا لـ (إياك). فإن قال: لست أخبر عن (إياك) بإذ وما اتصل بها؛ ولكني أجعل (إذ) ظرفا منصوبا بـ (كمن) فتكون الكاف وصلتها خبرا عنهما، ويكون العائد إلى (إياك) الضمير المحذوف المنصوب بـ (بلغن) - كان في هذا القول نظر.

في الجر على الجوار
قال سيبويه في باب الجر: قال الخليل: لا يقولون إلا: هذان جحرا ضب خربان، من قبل أن الضب واحد والجحر جحران، وإنما يغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكرا مثله أو مؤنثا فقال: هذه

(1/340)


جحرة ضباب خربة، لأن الضباب مؤنثة والجحرة مؤنثة والعدة واحدة.
يقول: هذا الذي تجره العرب على الجوار، إنما تجعله على بعض الأوصاف، وهو أن يكون النعت الذي يجره يوافق الاسم الذي يجاوره في: عدته وفي تذكيره وتأنيثه. فإن اختلفت العدة، أو كان أحدهما مذكرا والآخر مؤنثا، استعملوا الكلام على أصله، ولم يجروه على المجاورة.
لا يقولون: هذا وجار ضبع واسع، ر يجرون (واسع) على الجوار للضبع، لأن (واسع) مذكر والضبع مؤنثة. فلو قلت: (هذا وجار ثعلب واسع) لجاز الجر، لأن الثعلب مذكر و (واسع) مذكر، والعدة واحدة.
ولو قلت: هذا مكان ثعالب واسع؛ لم يجز الجر لاختلاف العدة. وسيبويه يخالفه، ويجيز الذي منع من جوازه. وقد احتج سيبويه لقوله بما هو بين في الكتاب. ثم انشد للعجاج ما يوضح قوله. قال العجاج:
(كأن نسجَ العنكبوتِ المُرْمَلِ)
على ذُرَى قُلاّمِهِ المُهَدَّلِ

(1/341)


سُبوبُ كَتّانٍ بأيدي الغُسلِ
الشاهد فيه على إنه جر (المرمل) على الجوار وهو مذكر، وأجراه على العنكبوت وهي مؤنثة. وهذا يشهد لصحة ما ذهب إليه سيبويه.
ذكر ماء ورده، والمرمل: المنسوج، والفلام: ضرب من النبت، وزعموا إنه الذي يعرف بالقاقلي، والذرى: الأعالي الواحدة ذروة، والمهدل: المدلى. يعني أن العنكبوت قد نسجت على القلام الذي حول هذا الماء، والسبوب: جمع سب وهو ثوب من كتان ابيض. شبه ما نسجت العنكبوت على هذا الماء بثوب رقيق من الكتان، والغسل: جمع غاسل وغاسلة.

أخوات (كم) الاستفهامية والخبرية
قال سيبويه في باب ما جرى مجرى (كم) في الاستفهام وذلك قولك: كذا وكذا درهما.
يريد أن (درهما) ينتصب بـ (كذا وكذا) كما ينتصب بـ (كم) إذا استفهمت. ثم ساق كلامه إلى أن قال: وكذلك كأين رجلا قد رأيت. يعني أن (كأين) ينصب (رجلا) كما ينصب (كم) (رجلا) في الاستفهام وأن لم يكن (كأين) استفهاما، إلا إنه مثله في إنه ينصب ما بعده.
و (كأين) في المعنى بمنزلة (كم) وقد جعلها سيبويه بمنزلة (رب) كما جعل (كم)

(1/342)


في الخبر بمنزلة (رب) في أنها تدخل على نكرة وهي نقيضتها: (كم) للتكثير و (رب) للتقليل. ثم قال: إلا أن أكثر العرب يتكلمون بها مع (من) قال الله تعالى: كأين من قرية وقال عمرو بن شأس:
ومنُ حجُرٍ قد أمكنَتْكُمْ رِماحُنا ... وقد سار حَوْلاً في مَعدٍ وأوْضَعا
(وكائِنْ رَدَدنا عنكمُ من مدججٍ ... يجيء أمامَ الخيلِ يَرْدي مُقنَّعا)
ويروى:
وكم مِن هُمامٍ قد وَطِئْنا متوجٍ ... يَجيء أمام الخَيلِ. . .
المدجج: الشاك في السلاح، والرديان: ضرب من العدو؛ يقال منه: ردى يردي. يريد أن الفرس يعدو بالمدجج الرديان، فجعل الفعل للمدجج وإنما هو لفرسه، والمقنع: الذي عليه مغفر وهو الذي ينسج من زرد يغطى به الرأس والوجه. والمتوج: الذي عليه تاج، والايضاع: سير شديد.

(1/343)


يمن عمرو بن شأس على بني أسد بما فعل رهطه من المدافعة عن بني أسد والذب عنهم، وحجر هو أبو امرئ القيس.

العطف بالرفع، ولو نصب على التعظيم لجاز
قال سيبويه قال مالك بن خالد الخناعي:
يا مَيَّ لا يُعجزُ الأيامَ ذو حِيدٍ ... في حومةِ الموتِ رزّام وفراسُ
يحمي الصريمةَ، أحْدانُ الرجالِ له ... صيدٌ، ومجترئ بالليل همّاسُ)
كذا وقع الإنشاد في كتاب سيبويه، وقد الف صدر بيت إلى عجز بيت آخر، والبيت الأول الذي انشده؛ صدره في صفة وعل، وتمامه في صفة أسد. وصحته:
يا ميَّ لن يُعجزَ الأيامَ ذو حِيدٍ ... بمُشْمَخِرّ به الظَيانُ والآسُ
وذو حيد: يريد به الوعيل، والحيد مواضع تنشأ في قرنة. ويروى: حيد بفتح الحاء. والرواية الأولى أجود وهي المختارة عند البصريين. ويروى: ذو خدم، والخدم: البياض المستدير في جوانحه، والمشمخر:

(1/344)


الجبل العالي، والظيان: ياسمين البر، والآس: قط من العسل تقع من النحل على الحجارة، فيستدلون بتلك النقط على مواضع النحل.
يقول: الآفات التي تقع في الدهر، ولا يسلم منها هذا الوعل الذي في رأس الجبل، له ما يرعاه وما يشربه. وصحة تمامه:
يا مَيَّ لن يُعجزَ الأيام مبتركٌ ... في حَوْمَةِ الموتِ رزّامٌ وفرّاسُ
أحمى الصّريمَةَ. . .
والمبترك: هو الأسد والمبترك: المعتمد، وحومة الموت: الموضع الذي يدور فيه الموت لا يبرح منه، والرزام: المصوت، يقال: رزم الأسد برزم؛ وإذا برك الأسد على فريسته رزم. وفراس: يدق ما يصيده. والصريمة: رملة فيها شجر، أحماها: منع الناس من أن يدخلها شيء من خوفه، وأحدان الرجال: الذين يقول أحدهم: أنا الذي لا نظير له في الشجاعة والبأس.
يقول: هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة. و (احدان) يروى بالرفع والنصب، فمن رفع قال: (أحدان) رفع بالابتداء، و (صيد) خبر الابتداء. ومن نصب جعله مفعول (أحمى) كأنه قال: أحمى الصريمة من احدان الرجال، أي منعهم من الدخول إليها، و (صيد) يرتفع على هذا الوجه بالابتداء و (له) خبره و (مجترئ) يجوز رفعه على إنه خبر ابتداء محذوف، كأنه

(1/345)


قال: وهو مستمع ووجه آخر، وهو أن يعطف على (رزام وفراس) وهذا الوجه الذي أراده سيبويه.
والشاهد على إنه عطف. و (هماس) من الهمس وهو الصوت الخفي. يريد إنه يخفي صوت وطئه ولا يشده حتى لا يسمع فيشعر به.

إبدال الجزء من الكل
قال سيبويه قال ذو الرمة:
(ترى خَلْقَها نِصفْاً قناةً قويموً ... ونِصْفاً نَقاً يرتَجُّ أو يتمرمَرُ)
الشاهد على إنه أبدل (نصفا) من (خلقها).
وقناة: في معنى منتصبة، فجعلها وصفا. وقويمة: مقومة، ونقا: بمعنى مستدير ضخم أملس، يرتج: يتحرك إذا مس، يتمرمر: أي يترجرج يذهب ويجيء لرطوبته.
ويروى: نصف قناة قويمة. على الابتداء والخبر (نصف) مبتدأ و (قناة) خبره،
وكذلك (ونصف نقا) وصف امرأة، وجعل نصفها الأعلى مستويا معتدلا لا يخرج بعضه عن

(1/346)


بعض. يريد أن بطنها ضامر فهو بمنزلة القناة وليست بضخمة والنصف الأسفل بمنزلة نقا، وهو يريد عجزها.

أعربت الصفة حالا؛ لتقدمها على صاحبها
وقال سيبويه في باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف يما بعده، ويبني على ما قاله: وذلك قولك: هذا قائما رجل، وفيها قائما رجل. يعني أن قائما) لا يجوز أن يكون وصفا للاسم المتأخر وهو (رجل)، ولا يجوز أن يكون (قائم) مبتدأ و (هذا) خبره. . . لأنه لا يحسن أن نقوم الصفة مقام الموصوف في كل حال.
ولا يجوز أن يكون (رجل) نعتا لـ (قائم)، فلما قبحت هذه الوجوه - وقد جاز عندهم أن يكون (قائم) الذي هو وصف النكرة حالا منها، في الموضع الذي يحسن فيه - فإذا تقدم الوصف وبطل أن يكون نعتا بعد تقدمه؛ ألزموه الحالة التي كانت، فيجوز فيه وهو متأخر.
ثم ساق سيبويه كلامه في هذا المعنى حتى انتهى إلى قول ذي الرمة. قال ذو الرمة:
فأصبحنَ قد نَكبْنَ حُزْوى وقابلتْ ... من الرملِ ثَبْجاءُ الجماهير عاقرُ
(وتَحتَ العوالي في القَنا مستطِلَّةً ... ظباءٌ أعارتْها العيونَ الجآذِرُ)
الشاهد نصب (مستظلة) على الحال لما تقدم، ولو تأخر كان نعتا لـ (ظباء).
وصف ظعنا سارت، وحزوى: مكام بعينه، نكبن: عدلن عنه،

(1/347)


والجماهير: جمع جمهور، وهو رمل يشرف ويعظم، والبج: الوسط، والاثج: العظيم البكن، ورملة ثبجاء الجماهير أي جماهيرها عظام. يريد أن الظعن قابلتهم من الرمل (رملة ثبجاء الجماهير)، والعاقر: الرملة التي لا تنبت شيئا، والعوالي عوالي الهوادج، في القنا: يريد القنا الذي يعطف على الهزادج، أو يريد الخشب الذي يجعل كهيئة القبة
في الهودج؛ شبه خشبة بالقنا، والجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية، شبه النساء بالظباء، وجعل عيونهن كعيون أولاد البقر الوحشية.

الفصل بالمجرور بين (كم) الخبرية ومجرورها
قال سيبويه في باب كم: قال الفرزدق يمدح خندف وقبائلها:
كم فيهِمِ مَلِكٍ أغَرَّ وسُوقَةٍ ... حَكَمٍ بأردية المكارمِ مُحتبي
وإذا عَدَدْتَ وجدتَني لنجيبةٍ ... غَرّاَء قد أدَّتْ لِفَحْلٍ مُنجِبِ
الشاهد إنه فصل بين (كم) وبين (ملك) بـ (فيهم).
وفي شعره: كم في ملك، يريد: كم في حيي وقومي. والأغر: المشهور الظاهر الذي لا يخفى أمره على الناس، والسوقة: من ليس هو بملك، والحكم: الذي يقنع بقوله ويرجح إليه، بأردية المكارم محتبي: أي إذا جلس مع القوم في مجلس واحتبى تكرم وأعطى وجاد، فصار - لأجل فعله للمكارم - بمنزلة من احتبى بثياب المكارم. وأردية المكارم: أفعاله الكريمة التي تظهر منه كظهور ردائه عليه. والمعنى واضح.

(1/348)


الرفع إغناء للمعنى - دون البدل مما قبله
قال سيبويه: وقد يكون: مررت بعبد الله أخوك، كأنه قيل له: من هو؟ أو قيل: من عبد الله؟ فقال: أخوك. وأنشد:
(ورِثْتُ أبي أخلاقَهُ عاجَل القِرى ... وعَبْطَ المَهاري كومها وشَنونُها)
استشهد به في رفع (كومها وشنونها) ولم يجعلهما بدلا من (المهاري)، والقصيدة مرفوعة، وقد وضع البيت في الكتاب وضعا ليس بصحيح، ولعل الذين نقلوه غيروا إنشاده، فمن تغييره: إنشادهم (كومها وشنونها) والقصيدة بائية وليست بنونية. وهي للفرزدق.
قال:
رأيتُ بني مروانَ إذ شُقَّت العصا ... وهَرَّ من الحَرْبِ العَوانِ كَليبُها
شَفَوا ثائرَ المظلوم واستمسكتْ بهم ... أكُفُّ رجالٍ رَدَّ قَسْراً شَعوبُها
ورِثْتَ إلى أخلاقِه عاجلَ القِرَى ... وضَرْبَ عراقيب المَتالي شَبوبُها

(1/349)


الممدوح: هشام بن الملك، وقوله: ورثت هو خطاب لهشام. وإنشاده في الكتاب بضم التاء على إنه للمتكلم. يريد: ورثت إلى أخلاق أبيك عاجل القرى ونحر الإبل المهاري، والعبط: نحر لم يهرم منها، نحو الحقاق والثنى والربع.
والمتالي: الإبل التي تتلوها أولادها، والشبوب السيف، ويكون (شبوبها) مرفوعا بالمصدر الذي هو (ضرب)، ولا يكون في البيت شاهد على رفع الشيء الذي يجوز أمن يكون بدلا مما قبله، والكوم: العظام الاسمنة، والشنون: التي فيها شيء من سمن.

(مرو) ترخيم مروان
قال سيبويه في الترخيم. قال الفرزدق:
(يا مَرْوَ أن مطيَّتي محبوسةٌ ... ترجو الحِباَء وربها لم يَبْأسِ)
وأثبْتَني بصحيفة مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النقْرِسِ
كان مروان بن الحكم لما جاءه الفرزدق - وهو عامل المدينة - تقدم إليه أن لا يهجو أحدا، فخالفه، فكتب له كتابا إلى بعض عماله، وتقدم إليه بأنه إذا ورد عليه الفرزدق ضربه وحبسه، وختم مروان الصحيفة. فلما أخذها الفرزدق خشي أن يكون فيها ما يكره، فلم يمض إلى الذي كتب له إليه، وقال مروان للفرزدق:
قُلْ للفرزدقِ والتفاهةُ كاسْمها ... أن كنتَ تاركَ ما أمرتُكَ فاجْلِسِ

(1/350)


يقول: أن كنت لم تحمل صحيفتي إلى الموضع الذي كتبت لك إليه، وسلمت مما فيها، فلا تجاورني بالحجاز، واذهب إلى نجد. ويقال لمن أتى نجدا: قد جلس.
فقال له الفرزدق:
يا مَرْوَ أن مطيتي محبوسةٌ. . .
يقول: أنا أرجو أن كتبت الكتاب، أن تعطف علي وتحبوني. وقوله: ترجو الحباء يريد: يرجو صاحبها حباءك، لم ييأس منه.

نصب على المدح، ولم يبدل مما قبله
قال سيبويه وقال الفرزدق:
ولولا بنو هندٍ لنالت عقوبتي ... قُدامةَ أوْلَى ذا الفَمِ المتثلمِ
ولكنّني استبقيتُ إعراضَ مازنٍ ... وأيامها من مستنبرٍ ومظْلمِ
أناساً بثغرٍ لا تَزالُ رماحُهُمْ ... شَوارعَ من غير العشيرةِ في الدَّمِ)
كان رجل من بني مازن يسمى ديسما، نهى عن سقي إبل الفرزدق، اولى: وعيد وتهدد، ذا الفم: أراد يا ذا الفم، المتثلم: المتكسر الاسنان، ولكنني استبقيت إعراض مازن: يريد أبقيت عليها لم اهجها، لأنها إعراض قوم كرام، ولهم أيام وآثار بينة، والمستنير: المضيء.
وقوله: أناسا بثغر: يريد أن دار بني مازن تلي دار بكر بن وائل، فهم في ثغر بني تميم، يمنعون عنهم بكر بن وائل، والرماح الشوارع: التي ترد إلى الدماء،

(1/351)


يعني تدخل في الأبدان، والشوارع: الدواب الداخلة في الماء، يريد: هم يطعنون أعداء عشيرتهم ولا يقاتلون بني تميم وأهلهم.
والشاهد فيه نصب (أناسا) بإضمار فعل. وقد روي (أناس) بالرفع على تقدير: هم أناس.

النصب على التمييز
قال سيبويه قال عباس بن مرداس:
ومارسَ زيدٌ ثم أقْصِدَ مُهرُه ... وحُقَّ في مِثلها أن يمارسا
(ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبددوا ... ويطعنهم شَزْرا، فأبرحتَ فارسا)
في الكتاب: ومرة يحميهم. وفي شعره: وقرة، وهو قرة بن مالك بن قنفذ، بطن من بني سليم.
وقال عباس هذا الشعر يذكر وقعة كانت بينهم وبين بني زبيد: يحميهم: يريد أنه يحمي من تبدد من قومه ويطعن أعداءه شزرا. وأبرحت: أتيت بالبرح وهو العجب، يعني إنه أتى بالعجب في قتاله، قاتل قتالا عجب الناس منه.
والشاهد فيه إنه نصب (فارسا) على التمييز.

النصب بإضمار فعل دون العطف أو الاستئناف
- للمعنى
قال سيبويه قال الاخطل:

(1/352)


لقد حَمَلَتْ قيسَ عيلانَ حربُنا ... على مستَقِلٍ للنوائبِ والحربِ
(أخاها إذا كانت غِضابا سَمالها ... على كل من ذَلولٍ ومن صَعْبِ)
يريد أن قيس بن عيلان حاربت من يخف عليه أمر الحرب، ولا يثقل عليه ما ينزل به من نائبة أو عظيمة.
يريد أنها حملت حربها على بني تغلب.
يقول: حاربت بني تغلب وهم يستقلون ما ينزل عليهم، وسمالها: ارتفع، والذلول: الجمل المنقاد، والصعب: الذي لا ينقاد، وجعل الأمر الذي ينال بسهولة بمنزلة الذلول، والأمر الذي يصعب بمنزلة الجمل الصعب الذي يؤذي ركوبه.
وقد أنشدت هذا الشعر على ما وجدته في الكتاب، وفي شعره ترتيب يخالف هذا. قال:
إليكَ أميرَ المؤمنين رحلْتُها ... على الطائرِ الميمون والمنزل الرْحبِ
إلى مؤمنٍ تجلو صفيحةُ وجهِهِ ... بلابلَ تَغْشَى من هُمومِ ومن كَرْبِ

(1/353)


مُناخِ ذوي الحاجات يستمطرونه ... عطاءً جزيلا من أسارَى ومن نَهْبِ
ترى الحلَقَ الماذِي تجري فضولُه ... على مستقلٍ بالنوائب والحْربِ
أخوها إذا كانت عُضالا سمالها ... على كل حال من ذَلول ومن صَعْبِ
إمام يقودا الخيلَ حتى تقلقلَتْ ... قلائدُ في أعناقِ مُعْمَلَةٍ حُدْبِ
فهذا الترتيب يبعد منه إنشاد الكتاب. يريد بالمستقل الممدوح، والمستقل بالشيْ: الذي ينهض به.
يريد إنه ينهض بالقيام بما ينوء به وبمحاربة من حاربه. أخوها: يريد أخو النوائب والحرب، والعضال: التي لا يهتدى لدفها والتخلص منها، والمعملة: التي تعمل في السير، يسار بها سيرا متتابعا، حدب: التي قد هزلت وتقوست أصلابها.

الرفع على الحكاية
قال سيبويه في باب ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة: وأما قول الأخطل:
(ولقد أبيتُ من الفَتاةِ بمَنْزلٍ ... فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ)

(1/354)


ويروى: ولقد أكون. . .
وقوله: لقد أكون يريد: ولقد كنت، وجعل المستقبل في موضع الماضي. وكذا: ولقد أبيت يريد: ولقد بت. والذي يريد: أن يخبر عن حاله فيما مضى.
ومثله لجرير:
. . . ولقد يكون على الشباب نضيرا
يعني: ولقد كان
والفتاة الجارية الحديثة السن، يريد إنه كان في شبابه تحبه الفتيات ويبيت عندهن،
بمنزل يعني بمنزلة جميلة، والحرج: المضيق عليه. يقول: أن موضعه لم يكن ضيقا به، ولا هو محروم من جهتها ما يريده.
ومذهب سيبويه أن رفع (لا حرج ولا محروم) بمنزلة:
. . . فأنا أبن قيسٍ لا بَراحُ
ويجعل (لا) بمنزلة (ليس)، ويرفعه بها ويحذف الخبر. وقد شرح الأقوال التي فيه، وحكى ذكر ما يطعن به عليها.

النصب على التمييز بتعجب مضمر
قال سيبويه قال الاخطل:
وقد أراها شَعبُ الحَيَّ مجْتَمِعٌ ... وأنت صَبٌّ بمن عُلقْتَ مُعتَمدُ

(1/355)


(أيامَ جُمْلٌ خليلاً لو يَخاف لها ... صَرْماً، لخولِطَ منه العقلُ والجَسدُ)
الشاهد فيه إنه نصب (خليلا) بفعل مضمر، وذلك الفعل هو فعل التعجب، كأنه قال: أيام جمل أكرم بها خليلا، والظرف معلق بالبيت.
وشعب الحي: اجتماعه، والشعب: الاجتماع، وهو أيضا الافتراق وهو من الأضداد، يريد أنه رآها قبل أن يتفرق قومها وقومه، والمعتمد: الذي عمده الحزن: أثر فيه، فهو عميد ومعمود، لو يخاف لها صرما لفسد عقله وجسمه.
وفي شعره: أيام جمل خليل. . . (جمل) مبتدأ و (خليل) خبره، وأضاف (الأيام) إلى جملة الكلام.

في الإضافة غير المحضة (اللفظية)
قال سيبويه في باب ما جرى عليه صفة ما كان من سببه. قال الاخطل:
تَفادى من الحادي الكَميشِ وقَوَّمَتْ ... سوالفَها الركبانُ والحَلَقُ الصفْرُ
(حَمَيْنَ العراقيبَ العصا فتركْنَه ... به نَفَسٌ عالٍ مُخالطُهُ بُهرُ)

(1/356)


الشاهد فيه إنه أضاف (مخالطه) وأجراه نعتا للأول، وليس بفعل للموصوف إنما فعل سببه، ولم ينصبه على الحال، لأن المخالطة فاعلها البهر و (مخالطه) مرفوع صفة لـ (نفس).
والكميش: السريع الجاد في العمل، وفي (تفادى) ضمير يعود إلى الإبل التي ذكرها. ومعنى تفادى: يفتدي بعضها ببعض من أن يضربها السائق، والسوالف: جوانب الأعناق، والركبان: راكبوها، قومت الركبان رؤوسها ومنعتها من أن تميلها يمنة ويسرة، والحلق: يريد بها الحلق التي فيها آنفها وهي البرى.
و (الصفر) بدل من (الحلق) أن أراد بالصفر النحاس، يعني الحلق المعمولة من صفر. ويجوز أن يريد أن ألوانها صفر فذكر لونها، وقوله: حمين العراقيب العصا، يعني أنهن سرن سيرا شديدا ففتن السائق فحمين عراقيبهن أن يلحقها فيضربها، وعدا خلفها حتى يلحقها فأخذه البهر، وهو شدة النفس من التعب.

(ابن مخاض) نكرة
قال سيبويه قال الفرزدق:
(وجدْنا نهشلاً فَضَلتْ فُقَيْماً ... كفضل ابنِ المَخاضِ على الفَصيلِ
إذا حلّوا لَصافِ بَنَوْا عليها ... بيوتَ اللؤم والذل الطويلِ

(1/357)


نهشل وفقيم: ابنا دارم، هجاهما الفرزدق وجعلهما في غاية الضعف والحقارة، وأن كان أحدهما فوق الآخر. والفصيل: الذي له سبعة أشهر ونحوها، وابن المخاض: الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، وكلاهما ضعيف لا نفع فيه، وجعل نهشلا أفضل من فقيم بقدر ما بين ابن المخاض والفصيل. ولصاف: موضع معروف وهي مؤنثة مبنية، ويجوز أن يعرب، ولا يصرف.
الشاهد فيه عانى أن ابن المخاض نكرة، والدليل على إنه نكرة، إنه أدخل عليه الألف واللام وعرفه، ولو كان معرفة كابن عرس وما أشبهه، لم تدخلا عليه، كما
لا تقول ابن العرس.

العدول عن النصب على الاختصاص لضعف
الشهرة
قال سيبويه قال لبيد:
(نحن بنو أم البنينَ الأربعهْ)
ونحن خيرُ عامر بنِ صعصعهْ
المطعمون الجفنةَ المُدَعْدَعَهْ
والضاربون الهامَ تحت الخَيْضَعَهْ
أم البنين: هي امرأة مالك بن جعفر بن كلاب، ولدت له خمسة بنين: معاوية بن مالك ويقال له معود الحكماء، وعامر بن مالك ملاعب الأسنة، وسلمى ابن مالك نزال المضيق، وربيعة بن مالك ربيع المقترين وهو أبو لبيد، وطفيل ابن مالك فارس قرزل. فاحتاج لبيد لأجل الشعر فقال: أم البنين الأربعة وهم خمسة.

(1/358)


الشاهد في رفعه (بنو أم البنين) ولم يجعل هذا من الاختصاص في شيء، لأن هؤلاء لا يعرفون بأنهم بنو أم البنين الأربعة، كما يعرف بنو منقر وبنو دارم ببني منقر وبني دارم. وإنما تنصب الأسماء في الاختصاص إذا شهرت وعرفت.
ومن زعم أن هؤلاء قد عرفوا بالفضل، فصار بمنزلة بني منقر، قلنا له: اعمل على أن الأمر على ما ذكرت في أنهم معروفون بالفضل؛ إلا أنهم لم يشهروا بأن يخبر عنهم أنهم بنو أم البنين، ولا يجوز أن ينصب في الاختصاص إلا المشهور.
ومع هذا فلو شهروا بأم البنين، لكانوا يشهرون ببني أم البنين الخمسة، وإذا غيره في الشعر عما كان عليه في الكلام، ذهبت شهرته، فلو نصب لم يكن بعده ما يكون خبرا.

(الحكاية) إذا نوديت لا ترخم
قال سيبويه في باب الترخيم، في باب الأسماء التي كل اسم منها من اسمين: واعلم أن الحكاية لا ترخم، لأنك لا تريد أن ترخم غير منادى، وليس مما يغيره النداء، وذلك نحو: تأبط شرا، وبرق نحره.
يعني أن الحكاية إذا نوديت لم ترخم، لأنها إذا نوديت فهي على اللفظ الذي تكون عليه في غير النداء، ولا يحدث فيها تغيير إذا نوديت، وإنما يرخم ما يتغير في النداء عما كان عليه، والذي يتغير في النداء هو الشيء الذي تقصد إليه بعينه فتدعوه، وإذا قصدت واحدا بعينه بنيته فتغير عن حال

(1/359)


الإعراب إلى البناء، فجرأهم هذا التغير على ترخيمه.
قال سيبويه: لو رخمت هذا - يعني الحكاية - لرخمت رجلا يسمى: قول عنترة:
(يا دارَ عبلةَ بالجِواء تكلّمي)
الزم سيبويه من أجاز الترخيم في الحكاية - (إذا كانت الحكاية) بجملة - هي كلمتان، نحو: تأبط شرا، وبرق نحره، فيحذف الكلمة الثانية ويدع الأولى، فيقول: يا تأبط أقبل ويا برق هلم، فإذا سمي بحكاية هي كلمات: (أن يجيز الترخيم) وإن كانت الحكاية نصف بيت أو بيتا تاما، وهذا لا يركبه أحد وتمام البيت:
يا دارَ عبلةَ بالجواء تكلمي ... وعِمي صباحا دار عبلةَ واسْلَمي
والجواد موضع بعينه يقال له الجواد، وهو الذي عناه عنترة. والجواد ايضا: جمع جو وهو البطن من الأرض الواسع، تكلمي: أخبري عن أهلك والذين كانوا قاطنين بك، ما فعلوا. . . وعمي صباحا: أنعمي واسلمي من الآفات في صباحك.
و (صباحا) منصوب على الظرف، و (عمي) محذوف من (انعمي) على طريق التخفيف لكثرة استعماله، وقيل: إنه من وعم يعم مثل وعد يمد، فقوله: عمي مثل عدي، إلا إنه لا يستعمل منه إلا هذا الفعل الذي هو دعاء وهو على لفظ الأمر.
وقد حكي عن بعض أصحابنا المتقدمين إنه قتال: هو من قولهم: عمت السماء تعمي، ومعنى عمت: سال مطرها. والقول الأول أعجب

(1/360)


إلي. وقد رأيناهم حذفوا من بعض الأفعال التي يكثر استعمالها ما لا يوجب القياس حذفه، لكثرة الاستعمال. نحو: لم أبل، ولم يك، ولم نرهم استعملوا وعم يعم، ولا عمى يعمي في هذا الباب.

الاسم المكرر خبر ابتداء محذوف - للمعنى
قال سيبويه في باب الاختصاص، ويقال: - يعني الخليل - في قول الشاعر:
(يا هندُ بين خِلْبٍ وكَبِدْ)
أنه أراد: أنت هند بين خلب وكبد: يجعلها نكرة، وقد يجوز أن تقول بعد - مقبلا على من تحدثه -: هند هذه بين خلب وكبد.
وجعلها نكرة أحب إلي، لأنها إذا كانت نكرة فهي مخاطبة، كأنه قال: أنت هند من الهنود بين خلب وكبد. وقوله: يا هند؛ هو نداء لها وخطاب، وبعد هذا البيت خطاب لها أيضا. وهو إذا جعلها معرفة أخرجها عن أن تكون مخاطبة وحدث غيرها عنها. وبعد هذا البيت ما يشهد لهذا وهو قوله:
أسقاكِ غَيْثٌ هزم الرعدِ بَرِدْ
من الثريا نبته غير جَحِدْ
فكل وَهْدٍ ومِتان يَطرِدْ
والخلب: حجاب القلب، أراد أن ذكرها علق بقلبه فكأنها حاصلة بين كبده وقلبه. والهزم: السحاب الذي لرعده صوت شديد. وأراد: أسقاك سحاب هرم الرعد، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والبرد: الذي فيه برد.
وقوله: من الثريا، يريد: من المطر الذي يأتي عند سقوط الثريا، وهو

(1/361)


نوء الثريا. والجحد: القصير الذي لا يطول. أراد أن النبت الذي يكون عن هذا المطر غير
جحد أي غير قصير. والوهد: منخفض من الأرض وجمعه وهاد، والمتان: جمع متن وهو ما علا من الأرض. يعني أن المطر كثر حتى ملأ الوهاد، والمتان يطرد الماء عليه. يريد أن الماء غطى الأرض وهادها ومتانها.