شرح أبيات سيبويه في تكرار (لا)
قال سيبويه: واعلم إنه ثبيح أن تقول: مررت برجل لا فارس، حتى تقول: لا
فارس ولا شجاع. . . وذلك إنه جواب لمن قال - أو لمن تجعله ممن قال -
أبرجل شجاع مررت أم بفارس؟.
ذكر سيبويه أن النعت والحال والخبر - في هذا الباب - لا يأتي إلا على
التكرير لأنه عندهم جواب كلام فيه تكرير، وأن تكلموا به ولم يتقدمه
كلام يكون هذا الكلام جوابا له، فهو على تقدير جواب متكلم تكلم به وإن
لم يكن ثم متكلم. وهو معنى قول سيبويه: وذلك إنه جواب لمن قال وهو
المتكلم - أو لمن تجعله من قال - أي تقدره، كأنه يتكلم بكلام فيه
تكرير، فجعلت هذا جوابه.
ثم قال سيبويه: وقد يجوز على ضعفه. يريد إنه يجوز أن يأتي بغير تكرير.
قال الرقاشي:
(1/362)
وأنت امرؤ منا خلقتَ لغيرنا ... حياتُك لا
نفعٌ وموتُك فاجعُ)
وأنت - على ما كان منك - ابنُ حرةٍ ... أبيٌّ، لما يَرضى به الخصمُ
مانعُ
وفيكِ خِصالٌ صالحاتٌ، يَشينُها ... لك ابنُ أخٍ، عبدُ الخليقة راضعُ
المقول فيه هذا الشعر: الحضين بن المنذر. يقول: أنت منا ولا ننتفع بك،
إنما ينتفع بك الأباعد، فنحن لا ننتفع بحياتك وأن مت فجعتنا بنفسك، لأن
لنا بك جمالا وذكرا، وأنت - على ما فيك من ترك معاملتك لنا بالجميل -
كريم تأبى أن تضام وأن ينال منك خصمك ما يرضاه. والخليقة: الطبيعة،
وعبد الخليقة يعني أن طبعه في اللؤم والخسة كطبع العبد، والراضع:
اللئم.
يقول: ابن أخيك يشينك في تقبيح أفعاله حتى يغطي ما فيك من الخصال
المحمودة فلا تذكر بها. ويروى: (حياتك لا ترجى) وليست فيه حجة على هذا
الإنشاد، والبيت في الكتاب منسوب إلى رجل من بني سلول. والذي فيه عندي
قد أثبته.
تأنيث فاعل المذكر حملا على المعنى
قال سيبويه قال الكميت بن معروف:
(1/363)
(وما زِلتُ محمولاً عليَّ ضَغينةٌ ...
ومضطَلِعَ الأضغان مذ أنا يافعُ)
إلى أن مضتْ لي أربعون وجُربَتْ ... طبيعةُ صُلبٍ حين تُبلى الطبائعُ
الشاهد فيه إنه ذكر (محمولا) وهو الذي ارتفع به (ضغينة) ولم يقل
محمولة.
والضغينة ما في قلب الرجل من العداوة والحقد، يقول: ما زلت مذ كنت صبيا
يضطغن علي الناس، وأضطغن عليهم، يعني إنه كثير الخصومة والمنازعة، ففي
قلب من يخاصمه عليه حقد، وهو مضمر عداوته وخصومته، وفي قلبه على من
يخاصمه مثل ذلك.
يعني إنه قوي، صبور على ما ينزل به من الأمور التي فيها شدة وقتا
وخصومة واليافع: الذي قد قارب البلوغ، ويبلى: يختبر، وأراد بالصلب
نفسه: يريد إنه قد جرب وعرفت جلادته وقوته وصبره.
التعريف بالنداء
قال سيبويه في النداء، قال الحارث بن خالد المخزومي:
(يا دار حسّرَها البِلى تحسيرا ... وسَفَتْ عليها الريحُ بعدكِ مورا)
دقَّ التُرابِ تُجيلُه: فمخيمٌ ... بِعراصِها، ومسيرٌ تسييرا
(1/364)
الشاهد فيه إنه نادى دارا بينها فصارت
معرفة، وبناها على الضم لما قصد قصدها وليست بنكرة. ثم أتى بعدها
بقوله: حسرها البلى، والفعل لا ينعت به إلا
النكرة. أراد سيبويه أن (حسرها) ليس بنعت لـ (الدار) إنما استأنف خبرا،
كأنه بعد أن ناداها أخذ في الإخبار عنها فقال: حسرها البلى.
ومعنى حسرها: أزال ما كان فيها من الأطلال، وسفت الرياح على رسومها
التراب فدرست معالمها، وأمحى أثرها. والمور: الغبار والتراب.
و (دق التراب) منصوب بدل من (مورا) ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل مثل
الفعل المتقدم، كأنه قال: سفت عليها دق التراب.
تجيله: تذهب به وتجيء، والمخيم: المقيم الذي أتخذ خيمة، وأراد بالمخيم
التراب الذي سفته الريح فأقام في الدار، ولم تحمله الريح إلى موضع آخر.
والمسير: الذي حملته الريح من موضع إلى آخر. أراد أن بعض التراب الذي
أجالته الريح لم يبرح من الدار، وبعضه حملته إلى موضع آخر.
في جعل (عسى) مثل (لعل)
قال سيبويه في باب الضمير، قال عمران بن حطان:
ومن يقصِدْ لأهل الحق منهمْ ... فإني أتقيه بما لأتقاني
علي بذاك أن أحميه حقا ... وأرعاه بذاك كما رعاني
(ولي نفس أقول لها إذا ما ... تُنازعني لعليّ أو عساني)
(1/365)
يقول: من قصد لأهل الحق - الذي يزعم عمران
إنه حق - يعني إنه من قصد الخوارج وخالفها، فإني أدافعه وأتقيه
وأحاربه، وأرعى حقه كما رعى حقي، ولي نفس إذا ما أنازعها - يقول: إذا
نازعتها حتى أحملها على ما هو أصلح لها - سوفتني وقالت: لعلي لأفعل هذا
الذي تدعوني إليه أو عساني أفعله.
الشاهد فيه إنه جعل (عسى) كـ (لعل)، فنصب بها الاسم فقال: (عساني) كما
يقول لعلني.
تخفيف (كأن) وإضمار اسمها
قال سيبويه في باب إن: قال أرقم بن علباء اليشكري.
(فيوماً تُوافينا بوجهٍ مُقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تعطو إلى وارقِ
السَّلَمْ)
ويوما تريدُ ما لَنا مَعَ مالِها ... فإنْ لم نُنِلْها لم تُنِمْنا ولم
تَنَمْ
الشاهد فيه على حذف إحدى النونين من (كأن) وحذف اسمها، واسمها ضمير
يعود إلى المرأة التي تقدم ذكرها، يريد: كأنها ظبية، فحذف الاسم وخفف.
والوجه المقسم: المحسن، والقسام: الحسن، تعطو: تمد يدها إلى
(1/366)
أغصان الشجر فتميلها وتأكل منها، والسلم:
شجر معروف، ووارقه: الذي فيه ورق. وقوله: فيوما توافينا بوجه مقسم،
يريد إنه يستمتع بحسنها يوما، وتشغله يوما آخر بطلب ماله، فإن منعها
آذته وكلمته بكلام منعه من الروم.
التعريف بالنداء
قال سيبويه في النداء، قال عمرو بن قعاس المرادي:
(ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حُبُّ اهلكَ ما اتيتُ)
ألا يا بيتُ أهلُكَ أوعدَوني ... كأني كلَّ ذنبِهِمِ جنيتُ
الشاهد فيه إنه نادى بيتا بعينه، وبناه على الضم، ثم أقبل يحدثه فقال:
بالعلياء بيت غيرك، ولولا أني أحب من فيك ما أتيتك. وقوله: كأني كل
ذنبهم جنيت: يريد: كأن كل ذنب أذنبته إليهم مذنب أنا فعلته. يقول:
غضبهم علي غضب من جنى عليهم كل جناية.
وخطابه للبيت والمعنى لمن فيه.
الترخيم في غير النداء - ضرورة
قال سيبويه في الترخيم، قال المغيرة بن حبناء:
(إنّ ابنَ حارِثَ أن أشتَقْ لرؤيته ... أو أمتَدحْهُ، فإنّ الناسَ قد
علموا)
(1/367)
أن الأريبَ من الأقوام قد علموا ...
والمستنيرُ الذي تُجلى به البُهَمُ
في الكتاب (إن ابن حارث) وفي شعره (إن المهلب). والبهم الأمور
المستبهمة التي لا يتجه لها، ولا يعلم كيف تدفع.
قال سيبويه في الترخيم، قال مالك بن الريب:
(عليَّ دماءُ البُدنِ أن لم تفارقي ... أبا حَرْدَب يوما وأصحابَ
حردبِ)
الشاهد فيه إنه رخم (حردبة) في غير النداء، وأبو حردبة هذا من اللصوص،
وكان يقطع الطريق هو ومالك بن الريب وجماعة معها. وفيه يقول الراجز:
الله أنجاكِ من القصيمِ
من بطنِ فَلْجٍ وبني تميمِ
ومن غُوْيثٍ فاتحِ العُكومِ
ومن أبي حَردبةَ الأثيمِ
ومالكٍ وسيفه المسمومِ
(1/368)
وقوله: (وأصحاب حردب) وهو يريد: وأصحاب أبي
حردبة. وقوله: (علي دماء البدن) قسم بإيجاب بدن تنحر بمكة أن لم يفعل
ما أقسم عليه.
والذي عندي إنه عنى بقوله: (إن لم تفارقي) راحلته، أراد إنه يفارق
أصحابه. ويجوز أن يريد إبلا كانوا أخذوها، فأراد مالك أن يأخذها منهم.
النصب بإضمار فعل - للمعنى
قال سيبويه قال عبد الرحمن بن جهيم أحد بني الحارث بن سعد من بني أسد:
يا راكبا إما عرْضتَ فبلغَنْ ... بني عمنا من عبد شمس وهاشم
أمِن عَمَلِ الجرافِ أمسِ وظُلْمِهِ ... وعدوانه اعتبْتمُونا براسمِ
(أَميري عَداءٍ أن حَبَسنا عليهما ... بَهائمَ مالٍ أوْدَيا
بالبَهائِم)
الشاهد فيه إنه نصب (أميري عداء) بإضمار فعل، ولم يجزأن يكون (أميري
عداء) بدلا من (الجراف) ومن (راسم) لأن الذي عمل في (الجراف) غير الذي
عمل في (راسم)، كأنه قال: أعرف أميري عداء، أو أذكر أميري عداء.
وكان الجراف ولي صدقات هؤلاء القوم فآذاهم، فشكوا منه، فعزل عنهم وولي
راسم مكانه، فعمل كما عمل الجراف أو أعظم، فشكوا منه.
والعداء: الظلم والتعدي، واعتبتمونا: أرضيتمونا بأن وليتم علينا راسما.
يريد أنهما أميرا ظلم، أن حسبنا عليهما الماشية حتى يأخذا منها الصدقة،
تركاها محبوسة ولم يأخذا ما يجب لهما، ولم يتركاها ترعى، فإذا طال
حبسها، بذل لهما أصحابها ما يرضيهما حتى يخليا عنها.
وقوله: (إما عرضت) يريد أن عرضت، وهي (إن) التي للشرط. يريد أن تعرضت
للقاء بني عمنا من عبد شمس وهاشم، فبلغهم عنا ما صنع بنا هؤلاء الولاة
علينا. وبنو أسد بنو عم قريش، لأن قريشا هم ولد النضر بن كنانة بن
خزيمة، وأسد هو أسد بن خزيمة. فأسد عم النضر، وأولاده بنو عم أولاد
النضر.
وأراد بقوله: (بني عمنا من عبد شمس) بني أمية هو أمية بن عبد شمس.
(أوديا بالبهائم: أهلكاها.
في حركة لام الاستغاثة
قال سيبويه في النداء، قال ابن ذريح:
تكَنّفني الوشاةُ فأزعَجوني ... فيا للناس للواشي المُطاعِ
الشاهد فيه على أن اللام الداخلة على (الناس) لام استغاثة وهي مفتوحة،
واللام التي بعدها هي اللام التي تدخل على المفعول. وهذه اللام
المكسورة هي في صلة فعل مجذوف، كأنه قال: يا للناس اعجبوا للواشي، أي
اعجبوا من أجل ما ترونه منه.
والوشاة: جمع واش، وهو الساعي في النمائم والإغراء والإفساد بين الناس
وتكنفني الوشاة: أتوني من كل ناحية، واستداروا حولي، يسعون فيما بينه
وبين التي كان يهواها بالفساد.
وقوله: (فيا للناس للواشي المطاع) أراد أنها تطيعهم إذا حملوها على
هجره والبعد عنه، وأراد أنهم يكنفونه ويخبرونه بأنها قد صرمته، وقطعت
ما بينها وبينه. فإذا أخبروه أنزعج وقلق وشق عليه ما يحدثونه به.
في الإضافة غير المحضة
وقال سيبويه في باب الصفة، قال ابن ميادة:
فارْتَشْنَ حين أردْن أن يَرْمِيننا ... نَبْلاً مقذَّذَةً بغير قِداحِ
ونظَرْنَ من حَلَلِ السُّورِ بأعينٍ ... مَرْضَى مُخالِطِها السَّقامُ
صِحاحِ
الشاهد فيه إنه جعل (مخالطها) صفة لـ (أعين)، والفعل للسقام، فأضاف اسم
الفاعل وأجراه صفة للأول والفعل لسبب الموصوف لا للموصوف.
وارتشن: اتخذن ريشا لسهامهن، وهذا على طريق المثل، جعل أعينهن إذا نظرت
بمنزلة السهام التي يرمى بها، و (نبلا) منصوبة على أحد وجهين: أما أن
تكون منصوبة بـ (ارتشن) كأنه جعل ارتشن في موضع رشن، وهو كقولك: ورشن
نبلا. والوجه الآخر أن تكون منصوبة بإضمار فعل، كأنه
(1/369)
قال بعد قوله: ارتشن، فرشن نبلا. تقديره:
اتخذن ريشا فرشن به نبلا.
والمقذذة: السهام التي عليها قذذ. والقذذ: ريش السهم، الواحد قذة،
والقداح: السهام التي لم تركب عليها النصال ولم تصلح بعد. يريد أن
السهام التي رمين بها وأصلحنها ليست بسهام من خشب؛ إنما هي في أعينهن
إذا نظرن بها إلى انسان، وخلل الستور: الفرج التي بينها، والمرضى:
العيون التي في طرفها فتور. وجعل ذلك الفتور والضعف الذي في نظرها
بمنزلة السقام فيها، وهي صحاح في
انفسها، وإنما يفتر النظر من رطوبة الجسم والنعمة والترف.
ومثله:
أن العيونَ التي في طَرْفِها مرضٌ
مجيء (من) بمنزلة (إنسان) وليست موصولة
قال سيبويه: وقال الخليل: أن شئت جعلت (من) بمنزلة إنسان وجعلت (ما)
بمنزلة شيء نكرتين، ويصير (منطلق) صفة لـ (من) و (مهين) صفة لـ (ما).
وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك. قال كعب بن مالك:
نَصروا نبيهمُ بنصرِ وليَّهِ ... فالله - عزَّ - بنصره سمانا
(فكفى بنا فَضْلاً على من غيرناِ ... حبُّ النبي محمدٍ أيانا)
(1/370)
الشاهد فيه إنه جعل (غيرنا) نعتا لـ (من)
ولم يجعل (من) موصولة.
يعني أن الله عز وجل سماهم الأنصار لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه
وسلم ونصروا من يتولاه. وقوله: فكفى بنا فضلا على من غيرنا، يريد كفانا
فضلا على الناس حب النبي إيانا. و (بنا) في موضع المفعول، و (حب النبي)
فاعل (كفى).
العدول بالاسم عن البدل مما قبله إلى الرفع
بتقدير مبتدأ
قال سيبويه قال العجيز السلولي:
(فلا تَجْعلي ضَيْفَيَّ ضيفٌ مقربٌ ... وآخر معزولٌ عن البيت جانِبُ)
ولا تجعلي لي خادماً لا أحِبُّه ... فتأخذني من ذاك حُمى وصالبُ
الشاهد فيه إنه قال: (ضيف مقرب وآخر معزول) ولم يبدل من (ضيفي)، ورفع
وقدر الكلام تقدير جملة. كأنه قال: أحدهما ضيف مقرب، والآخر معزول عن
البيت جانب. وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني لـ (تجعلي) وتجعلي
يتعدى إلى مفعولين:
(1/373)
المفعول منهما (ضيفي) تثنية ضيف، وهو مضاف
إلى ضمير المتكلم، والمفعول الثاني في موضعه الجملة. وتجعلي: تصيري،
وهو كقولك: قد جعل فلان زيدا أميرا، أي وصفه بالإمرة، وحكم بها له.
يريد: لا ترتبي أضيافي فتكرمي بعضهم وتهيني بعضهم، بل اكرمي جماعتهم
ولا تحقري واحدا منهم. والجانب يقع على الجنب الذي هو الغريب، والجانب:
المتنحي إلى جانب الشيء، وهو معنى ما في البيت عندي. ويقول: لا تجعلي
أكرم موضع في البيت لبعضهم، وتجعلي بعضهم مطرحا يجلس ناحية من البيت.
ولا يجوز أن ينصب على طريق البدل، لأجل القافية.
ولا تجعلي لي خادما لا أحب خدمته، فيأخذني من كراهتي لخدمته حمى،
والصالب: الصداع فيما زعم بعض الرواة، وقال بعضهم: الصالب: الحمى مع
الصداع، ويعبر عن الحمى الحارة بصالب. ويقال: صلبت عليه الحمى تصلب
عليه.
(فيأخذني) منصوب، جواب (فلا تجعلي).
في الإضافة غير المحضة
قال سيبويه:: اعلم أن كل مضاف إلى معرفة وكان للنكرة صفة، فإنه إذا كان
موصوفا أو وصفا أو خبرا أو مبتدأ - بمنزلة النكرة المفردة. يريد أن
المضاف إضافة غير محضة، هو في تقدير الانفصال نحو أسماء الفاعلين إذا
أريد بها الحال أو الاستقبال، ونحو إضافة (حسن الوجه) وما أشبه ذلك
بمنزلة نكرة غير مضافة إلى شيء. والنكرة المفردة غير المضافة توصف
بنكرة، وتقع صفة لنكرة، وتقع خبرا عن معرفة ونكرة، وتقع مبتدأة.
(1/374)
كقولك: له عندي درهم.
والنكرة المضافة التي لم تتعرف تقع في جميع هذه المواقع، قال جرير:
(ظَلِلْنا بُمسْتَنَّ الحرورٍ كأننا ... لدى فَرَسٍ مستقبلِ الريح
صائمِ)
أغر من البُلْقِ العِتاقِ يَشُفه ... أذى البَقّ إلا ما احتمى
بالقوائمِ
الشاهد فيه على إنه وصف (مستقبل الريح) بـ (صائم) و (مستقبل الريح)
مضاف إلى معرفة لم يتعرف بها فهو في حكم نكرة غير مضافة، ولذلك نعت بـ
(صائم).
ومستن الحرور: الموضع الذي تجري فيه الريح الحارة، والحرور: الريح
الحارة، والصائم: الواقف. وأراد أنهم ظلوا نازلين نصف النهار في يوم
شديد الحر في فلاة، وأنهم حين نزلوا مدوا ثوبا وشدوه بسيوفهم وقسبهم،
وجلسوا تحته يستظلون به، فكلما دخلت الريح فيه تحرك واضطرب. فكأنه فرس
قائم، كلما قرصه البق رفع قوائمه ليذب عن نفسه ويطير البق، ويسفه:
يؤذيه.
شبه تحرك الثياب التي شدوها، ويتحرك الفرس الذاب عن نفسه البق وهو
قائم. واحتمى: امتنع، و (أغر) وصف للفرس. وإنما جعله ابلق؛ لأن الثياب
التي نصبوها وشدوها هي ألوان، فلذلك جعل الفرس أبلق.
قال سيبويه في الباب المتقدم، قال جرير:
(1/375)
(يا رُب غابطنا لو كان يطلبُكُمْ ... لاقَى
مباعدةً منكم وحِرمانا)
الشاهد فيه على أن (غابطنا) بمنزلة نكرة مفردة، وأن هذه الإضافة لم
تعرفه، يريد يا رب غابط لنا.
يقول: يا رب إنسان يغبطني على محبتي لك، ويظن أنك تجازينني بها، ولو
كان مكاني للاقى كما لاقيته من المباعدة وحرمان ما يلتمسه. والمعنى
واضح.
وقال أبو محجن:
(يا ربَّ مثلكِ في النساء غريرةٍ ... بيضاَء قد متَّعْتُها بطَلاقِ)
الشاهد إنه جعل (مثلك) - وهو مضاف إلى معرفة - في معنى نكرة مفردة،
وجعله بمنزلة المضاف الذي فيه معنى الانفصال فأدخل عليه (رب).
والغريرة: التي هي في غرة من العيش، لم تلق بؤسا ولا شدة في عيشها، قد
متعهابطلاق: جعلت تمتيعي لها الطلاق لأني لم ارض خلقها وطريقها، فلم
اصبر على قبح فعلها وأن كانت حسنة الوجه.
(1/376)
في تعدد وجوه
الإعراب
قال سيبويه: ومثل ما يجيء في هذا الباب: على الابتداء، وعلى الصفة،
وعلى البدل، وقوله عز وجل: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل
في سبيل الله وأخرى كافرة). يريد إنه يرفع على ابتداء محذو، كأن
التقدير: إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله، وفئة أخرى كافرة. والجملة
وصف لـ (فئتين).
ثم قال:: ومن الناس من يجر. يريد إنه يجر (فئة تقاتل في سبيل الله
وأخرى كافرة) قال: والجر على وجهين: على الصفة، وعلى البدل. يريد أن
(فئة) بدل من (فئتين) والصفة كما تقول: مررت برجلين قاعد وقائم. وإنما
جعل (فئة) صفة لـ (فئتين) لأن (فئة) موصوفة، فكان اعتماد الصفة في
(فئتين) على صفة (فئة). كما تقول: مررت برجلين: رجل صادق ورجل كاذب.
وقال كثير عزة:
فليتَ قَلوصي عند عزَّةَ قُيدَتْ ... بحبلٍ ضعيفٍ غرَّ منها فضَلتِ
وغودِرَ في الحي المقيمين رَحْهُا ... وكان لها باغٍ سوايَ فبلتِ
(وكنت كذي رِجلَيْنِ: رِجْلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزمانُ
فشَلَّتِ)
(1/377)
يقول: ليت قلوصي التي رحلت عليها إلى عزة -
لما نزلت عندها، وشددت قلوصي بحبل قيدتها به - كان الحبل الذي شددتها
به ضعيفا، حتى ينقطع وتذهب وتضل، فلا يكون لي ما اركبه وأعود عليه إلى
أهلي، فأبقى مقيما عند عزة،
استمتع بها وبحديثها.
وغر منها: يريد غر الحبل صاحبه من القلوص، توهم أن الحبل جديد لا
ينقطع، فغفل عن القلوص فقطعته وذهبت. وغودر: ترك في الحي المقيمين
رحلها وكان للناقة باغ يطلبها سوى كثير، فبلت ذهبت لا توجد. وكنت كذي
رجلين: إحداهما قد شلت، فلا يمكنني أن أبرح من عند عزة، لأن قلوصي قد
ذهبت، ورجلي قد شلت، فلا يمكنني العود راكبا ولا راجلا.
تمنى أن رجله قد شلت لما حصل عندها، وان قلوصه ضلت، حتى تكون إقامته
عندها بحجة.
وقوله: رمى فيها الزمان: أي أصابها ببلية.
في إلغاء شبه الجملة
قال سيبويه: ومما جاء في الشعر أيضا مرفوعا يريد ما جاء مثل (في
أنيابها السم ناقع) (وعندي البر مكنوز) يريد في
(1/378)
جعل الصفة خبرا وإلغاء الظرف قول ابن مقبل:
(لا سافِرُ النَّيَّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العِظام عليه الوَدْعُ
منظومُ)
الني: الشحم، والمدخول: الذي قد دخله سقم، والمهج المورم، وسافر النبي،
قد سفر عنه الني، ذهب شحمه، يصف ظبيا.
وقد وقع في الإنشاد اضطراب. وفي شعره:
كأنها مارِنُ العِرنين مفتصَلُ ... من الظباء عليه الوَدْعُ منظومٌ
مقلدٌ قُضُبَ الرَّيْحان ذو جُدَدٍ ... في جَوزِهِ من نِحارِ الأدْمِ
توشيمُ
مما تَتَبنى عذارَى الحي آنسهُ ... مسحُ الآكُف والباسُ وتوسيمُ
(1/379)
من بعد ما نَزَّ تُزْجيه موشَّحَةٌ ...
أخلى تِياسٌ عليها والبَراعيمُ
لا سافِرُ النَّي مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... كاسي العظام لطيفُ الكَشْحِ
مَهضومُ
كأنها: يعني المرأة، ظبي مارن العرنين: لين الأنف، مفصل عن أمه: يريد
إنه أخذ وهو صغير فرباه الناس، وعنوا به، وعمل عليه قلائد من ودع يركب
في عنقه، وقلدوه: جعلوا له قلائد من الرياحين، والجدد: الطرائق التي في
جلده تخالف لونه، والجوز: الوسط، والنجار: يريد به اللون فيما زعموا
والادم: الظباء البيض، والتوشيم: خطوط مثل الوشم في اليد، ويروى
(توسيم) أي علامة والسيما: العلامة.
وتبنى عذارى الحي: جعلنه كالابن لهن يمسحنه ويطعمنه، ونز نزا ونشط،
تزجيه: تسوقه، موشحة وهي أمه. يريد إنه مشى مع أمه وهي الظبية. يريد
إنه أخذ وربي بعد ما مشى مع أمه. والموشحة: التي في لونها خطوط
كالوشاح، وتياس موضع بعينه وقيل جبل، والبراعيم جبل، أخلى لها: أي لم
يكن فيه شيء من الوحش ولا غيره يرعى سواها، لا سافر الني: يريد الظبي،
وقد تقدم تفسيره، والمهضوم: الاهضم الكشح الضامر الجنب.
المضاف على نية الانفصال في الإضافة غير
المحضة
قال سيبويه: في النداء، قال عبيد:
(1/380)
(يا ذا المُخوفُنا بمقتل شَيْخِه ...
حُجْرٍ، تَمَنيَ صاحبِ الأحلامٍ)
لا تَبْكِنا سَفَهاً ولا ساداتِنا ... واجعلْ بكاَءك لابنِ أم قَطامِ
الشاهد فيه إنه جعل (المخوفنا) وصفا لـ (ذا) وقد عمل في المفعول. ولم
يكن لما عمل في المفعول من تمامه بمنزلة النعت المضاف إذا قلت: يا زيد
غلام عمرو. جعلوا المفعول لما كان من صلته - كأن الصلة بما يتم الموصول
- اسما بمنزلة بعض حروفه، فلم ينصبوه المضاف لما كان نعتا للمنادى.
و (ذا) من قوله (يا ذا) اسم إشارة و (المخوفنا) مرفوع وأن كان قد عمل
في المفعول، وصار طويلا بنصبه المفعول، وأراد: يا هذا الذي خوفنا بأن
يعاقبنا لأجل قتلنا شيخه. وعنى بشيخه أباه، والمنادى: امرؤ القيس بن
حجر، وكانت بنو أسد قتلت حجرا أبا امرئ القيس، فتوعدهم امرؤ القيس بأن
يقتلهم.
وقوله (تمني صاحب الأحلام) يريد تتمنى أن تقتلنا وأنت لا تقدر على
قتلنا، وتمنيك يجري ما يراه صاحب الأحلام في منامه. و (تمني) منصوب
بإضمار: تتمنى تمنيا مثل تمني صاحب الأحلام، وهو من باب قولهم: شربت
شرب الإبل. لا تبكنا أي لا تطلب بدمائنا أن قتلتنا، ولا تندبنا. وهذا
على طريق التهكم بامرئ القيس، أي أنت لا تقدر على قتلنا، فاجعل بكاءك
على أبيك حجر، وحجر هو ابن أم قطام.
(1/381)
النصب على الحال
المؤكدة
قال سيبويه في باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف: وهو الحق بينا ومعلوما،
لأن ذا مما يوضح ويؤكد به الحق، و (بيتا ومعلوما) ينتصبان على الحال،
وهذه الحال هي حال مؤكدة. يريد أنها تؤكد معنى الكلام، لأن قولنا (هو
الحق) فيه إعلام وتبيين أن الذين أخبرنا عنه بأنه الحق واضح بين معلوم،
فقد أكدنا أخبارنا عنه بأنه الحق بقولنا (بيتا ومعلوما) يريد كونه حقا
معلوم.
والعامل في الحال: فعل يدل عليه معنى الجملة، كأنه قال: أعرفه بينا
وأتبينه معلوما وما أشبه ذلك، وإذا قال: هو الحق معناه: أعرف أن الذي
أخبرتك به حق ومعلوم ومعروف.
وقال سالم بن دارة:
(أنا ابنُ دارةَ معروفاً له نسبي ... وهل بدارةَ يا لَلناسِ من عارٍ)
من جِذم قيسٍ وأخوالي بنو أسدٍ ... أكارمُ الناسِ زَنْدي منهمُ واري
الشاهد في نصب (معروفا) يريد: انتبه لي معروفا نسبي.
(1/382)
والجذم: الأصل وقوله: زندي منهم واري هو
على طريق المثل، والزند الواري: السريع الإخراج للنار. يعني تنه أن
أراد تعديد مفاخرهم وأيامهم لم يتعب ووجدها مشهورة واضحة، ووجد شرفهم
معروفا عند الناس.
ودارة جد سالم، وهو سالم بن مسافع بن سريح بن يربوع بن كعب ابن عدي بن
جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان. ويربوع بن كعب هو دارة،
وإنما سمي دارة: أن رجلا من بني الصادر بن مرة يقال له كعب قتل ابن عم
ليربوع بن كعب يقال له درص، فقتل يربوع كعبا بابن عمه، واخذ بنت كعب ثم
أرسلها. فلما أتت قومها نعت أباها كعبا، فقالوا لها: من قتله؟ قالت:
علام من بني جشم بن عوف بن بهثة كأن وجهه دارة القمر. فسمي لذلك دارة.
ترخيم (مي) في غير النداء
قال سيبويه في باب النداء، قال ذو الرمة:
(ديارُ مَيْةَ إذْ مَيّ تساعِفنا ... ولا يَرَى مِثلَها عُجْمٌ ولا
عَربُ)
الشاهد فيه إنه قال (إذمي) فرخم في غير النداء.
وحكي إنه كان يسميها مرة ميا ومرة مية. وتساعفنا: تدانينا وتقاربنا
وتنيلنا.
(1/383)
جواز ندب الاسم بترك
علامة الندبة
قال سيبويه في الندبة: وزعم إنه يجوز في الندبة (واغلاميه) يعني إنه
يجوز أن اترك علامة الندبة ولا أدخلها على المندوب، وأندبه على اللفظ
الذي هو له من قبل الندبة.
وقال سيبويه بعد ذلك: ومن قبل إنه قد يجوز أن أقول (واغلامي) فأبين
الياء كما أبينها في غير النداء. يعني إنه يجوز فتح الياء التي للمتكلم
قبل أن تنادي الاسم
المضاف إليك، فإذا ناديته جاز فيه فتح الياء ما كان يجوز فيه من قبل
النداء.
وكأن الذي يفتحونها إذا وقفوا عليها ألحقوها هاء ليبينوا حركة الياء،
فنقول في الوقف: هذا غلاميه وهذا صاحبيه. وقال الله تعالى: (اقرأوا
كتابيه).
ثم قال سيبويه: بينت الياء في النداء - يعني حركتها - كما بينتها في
غير النداء، فإن حركتها جاز فيها الوقف على الهاء (في النداء) كما جاز
فيها إذا كانت غير نداء.
وقال ابن قيس الرقيات:
أن الحوادثَ بالمدينة قد ... وجَعْنَني وقَرَعْنَ مَروتَيهْ
ثم مضى في شعره إلى أن قال:
كيف الرقادُ وكلما هَجَعَتْ ... عيني ألمَّ خيالُ إخوتَيهْ
(1/384)
(تبكيهمُ أسماءُ مُعْوِلَةً ... وتقول
سلمى: وارزِيّتِيَهْ)
الشاهد فيه إنه جعل (رزيتي) في الندبة بمنزلتها في غير الندبة، ووقف
على الهاء لأجل بيان حركة الياء، كما نقول في غير الندبة والنداء: عظمت
رزيتيه.
والحوادث التي كانت بالمدينة وقعة الحرة، وبكى ابن قيس على الذين قتلوا
بالمدينة من أهله.
إلغاء الظرف، وجعل الحال خبرا
قال سيبويه وقال المتنخل الهذلي:
(لا دَرَّ دَرّيَ أن أطعَمْتُ نازِلكمْ ... قِرْفَ الحَتي وعندي البر
مكنوزُ)
الشاهد فيه إنه جعل (مكنوز) خبر (البر)، وجعل (عندي) ظرفا ملغى.
وقوله: لا در دري دعاء على نفسه، ويقال: لا در در فلان أي لا رزق حلوبة
يدر لبنها، ونازلكم: من نزل بي منكم، والحتي: المقل، وقرفه: قشره وما
قرب منه. وكانوا يجعلون من المقل سويقا يؤكل منه.
(1/385)
وكان المتنخل نزل بقوم فجفوه؛ فقال: لا در
دري أن أطعمت نازلكما من نزل منكم سويق المقل وعندي الحنطة. يريد إنه
لا يمنع اضيافه أجود ما عنده من الطعام وأطيبه، ولا يفعل بهؤلاء القوم
الذين بهم إذا نزلوا به، مثل ما فعلوا به حين نزل بهم، وعرض بهم أنهم
قروه سويق المقل، وخبئوا البر فلم يطعموه منه شيئا.
إعرابه حالا إذا حمل على الضمير - لأن
الضمير لا يوصف
قال سيبويه في باب إجراء الصفة على الاسم في بعض المواضع أحسن. وتقول:
مررت برجل معه صقر صائد به، أن جعلته وصفا يعني أن جعلت صائدا وصفا لـ
(رجل). ثم قال: وإن لم تحمله على الرجل. يريد أن لم تجعله وصفا لـ
(رجل) وحملته على الاسم المضمر المعروف، نصبته.
أراد بالمضمر ضمير الرجل الذي دخلت عليه (مع) وهو الهاء من (معه) وجعله
عليه: أن يجعل حالا منه، لأن المضمر لا يوصف. وجعل هذه المسألة
ونظائرها يقع على وجهين:
إن شئت أجريت الصفة على الاسم النكرة المتقدم فجعلتها وصفا له، وإن شئت
حملتها على الضمير الذي يعود إلى الاسم النكرة فجعلتها حالا منه.
ثم ذكر سيبويه مسائل هي نظيرة قوله: مررت برجل معه صقر صائد به صائدا
به، حتى انتهى إلى أن قال: وأما قولهم، فهذا لا يكون فيه وصف ولا يكون
إلا خبرا فهو باطل. يعني أن قوما من النحويين يزعمون
(1/386)
أن الوجه أن تقول: مررت برجل معه صقر صائدا
به، فتنصب (صائدا) على الحال ولا تجعل (صائدا) وصفا لـ (رجل).
وقالوا: الوصف يمتنع، لأنا لو قلبنا فقدمنا (صائدا) قبل قولنا (معه
صقر) لم يصلح أن نقول: مررت برجل صائد به معه صقر، نقدم الإضمار قبل
الذكر. يريدون: إضمار صقر قبل جري ذكره.
ويحتج لمذهبهم فيقال: (معه صقر) وصف لـ (رجل) و (صائد به) وصف آخر.
والموصوف إذا كانت له صفتان، فليست إحداهما بالتقديم أولى من الأخرى،
فنحن أن أجزنا الجر في (صائد) على الوصف لـ (رجل) فالصفتان إذا
اجتمعتا، جاز أن تتقدم كل واحدة منهما صاحبتها.
فجائز على هذا أن تقدم (صائد) على (معه صقر) وإذا قدمنا فسد الكلام
الإضمار قبل الذكر.
فأراهم سيبويه إنه قد ثبت في الكلام نظائر لما أنكروا، من ذلك أنهم
يقولون: مررت برجل حسن الوجه جميله ولا يقال: مررت برجل جميله حسن
الوجه.
ومضى في الاحتجاج عليهم إلى أن قال: فأما القلب فباطل. يريد اعتبارهم
في الوصف الثاني أن يكون مما يجوز فيه القلب والتقديم على الأول. ثم
قال: وسمعناهم يقولون: هذه شاة ذات حمل مثقلة به: فرفعوا (مثقلة)
وجعلوه وصفا لـ (شاة)، والضمير المجرور المتصل بالباء يعود إلى
(1/387)
(الحمل) ولا يجوز أن يقال فيه: هذه شاة
مثقلة به ذات حمل. وقد سمع منهم الرفع.
ثن انشد بيت حسان:
(ظننتُمْ بأنْ يَخْفَى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبي عنده الوحيُ
واضِعُهْ)
الشاهد فيه أن (واضعه) وصف لـ (نبي) وهو مضاف إلى ضمير (الوحي)، وقوله
(عنده الوحي) وصف لـ (نبي) و (واضعه) وصف آخر ولو قدمه فقال: وفينا نبي
واضعه عنده الوحي، لم يجز، ولم يجز. وقد أتى وصفا مرفوعا غير معتبر فيه
القلب، فدل هذا على صحة ما ذهب إليه وفساد ما ذهب إليه أصحاب
القلب.
وزعم أبو العباس أن الضمير المضاف إليه (واضع) يعود إلى (الذي) وليس
يعود إلى (الوحي)، و (أبو العباس لا يرى أن اعتبار القلب صحيح، وإنما
رد الاستشهاد بالبيت لأن عنده؛ أن الضمير لا يجوز أن يعود إلى الوحي)
لأن النبي عليه السلام لا يجوز أن يضع الوحي وإنما يضع ما صنع القوم،
أي يخبر به وبينه.
والمعنى الذي أنكره على سيبويه قد فعل هو مثله، لأنه إذا جاز أن يقال:
وضعت فيكم ما صنع القوم - أي أخبرتكم به - جاز أن يقال: وضمت فيكم
الوحي على معنى أخبرتكم، وليس يراد الوضع الذي هو ابتداء عمل الكلام؛
وإنما يريد وضع العلم بذلك الشيء في قلوبهم والإخبار عن صحته.
وسبب ذلك أن طعمة بن ابيرق سرق درعين في عهد رسول الله صلى
(1/388)
الله عليه وسلم فأقبل رجال من الأنصار
فعذروه عند النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا له، فسمع، فأنزل الله عز
وجل: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانا
أثيما) وكان ابن ابيرق طرح الدرعين في بيت يهودي ليبرأ منهما ويؤخذ
بهما اليهودي. فلما أنزل الله سبحانه هذه الآية، فر من النبي صلى الله
عليه وسلم أن يقيم عليه الحد، ولحق بمكة.
يقول: ظننتم بأن يخفى سرقكم، وفينا نبي ينزل عليه الوحي، بصحة ما يذكره
الصادق، وبطلان ما يقوله الكاذب.
جعل الشتم من طريق المعنى فلم ينصب
قال سيبويه وأما قول حسان:
حاربنَ كعبٍ ألا أحلامَ تزجُرُكُمْ ... عني وأنتم من الجوفِ الجماخيرِ
(لا عيبَ بالقوم من طول ومن عِظَمٍ ... جسمُ البِغالِ وأحلامُ
العصافير)
وقال بعد الإنشاد: فلم يرد أن يجعله شتما.
ذكر سيبويه هذا الشعر بعد أبيات انشدها، وذكر فيها أسماء قد نصبت
(1/389)
على طريق الشتم والتحقير. وأنشد هذا الشعر،
ورفع قوله (جسم البغال وأحلام العصافير).
وقوله: ولم يرد أن يجعله شتما يريد إنه لم يجعله شتما من طريق اللفظ،
وإنما هو شتم من طريق المعنى، وهو اغلظ من كثير من الشتم.
يهجو بني الحارث بن كعب، من أجل أن النجاشي الحارثي هجا عبد الرحمن ابن
حسان. وحار ترخيم.
يقول: أما لكم أحلام تنهاكم عن سبي والتعرض لي. والجوف: جمع أجوف وهو
الفارغ الجوف، يريد أنهم فارغون من العقل والحلم. والجماخير: الضعاف
المسترخون، الواحد جمخور.
وقوله: لا عيب بالقوم من طول ومن عظم، يريد أن أجسامهم لا تعاب، هي
عظيمة طويلة، ولكنها كأجسام البغال التي لا حلوم معها. وقوله: وأحلام
العصافير، أي أحلامهم حقيرة وأجسامهم عظيمة، ويجوز أن يريد أنهم لا
أحلام لهم كما أن العصفور ليس له حلم.
لا يصح هنا غير النصب بإضمار فعل - للمعنى
قال سيبويه وأما قول جرير:
(يا صاحبيَّ دنا الرّواحُ فسيرا ... لا كالعشيةٍ زائراً ومَزُورا)
فلا يكون إلا نصبا، من قبل أن العشية ليست بالزائر.
ذكر سيبويه هذا البيت بعد ذكره: لا مثله أحد ولا كزيد
(1/390)
أحد. وأجاز في (أحد) النصب والرفع أما
الرفع فعلى إنه جعل (أحد) صفة لأت (مثل) على الموضع، لأن قوله (لا
مثله) في موضع ابتداء فنعته على الموضع.
وأما النصب فلأنه تعت لـ (مثل) على لفظه. وقوله: لا كزيد أحد، هذه
الكاف حرف، وهي في موضع نعت لـ (شيء) محذوف، كأنه قال: لا شيء كزيد،
فحذف المنعوت وأقام النعت مقامه وأتى بـ (أحد) على إنه نعت لذلك
المحذوف المقدر. وجاز في نعته الوجهان، كما جاز في قولنا: لا مثله أحد.
ثم قال في بيت جرير: لا يكون ألا نصبا. وهذا الذي ذكره واضح.
لأنا إذا قلنا: لا مثله أحد، فـ (أحد) هو المثل، كما تقول: لا رجل أضل
منك، وكذا قولنا لا كزيد أحد، يريد به، ولا شيء مثل زيد أحد. فـ (أحد)
هو الشيء و (الشيء) المثل، ولو قدرنا مثل هذا في قوله (لا كالعشية)
لصار: لا كالعشية عشية زائر، فجعلنا (زائر) وصفا لـ (عشية) لم يصلح،
لأن العشية ليست بزائر ولا مزور، فهذا مردود من طريق المعنى، ولا يصلح
أن يكون (زائرا ومزورا) وصفا لـ (عشية) لا على اللفظ ولا على المعنى،
لأنه فاسد أن نتعت العشية بما لا يجوز أن يكون نعتا لها، وإنما نصب
(زائرا ومزورا) بإضمار فعل مقدر بعد (لا) كأنه قال: لا أرى كزائر في
هذه العشية زائرا.
ذكر الفعل وضميره يعود على مؤنث - لإرادة
معنى المذكر
قال سيبويه في أسماء الفاعلين:
(1/391)
وجارية من نباتِ الملو ... كِ قعقعْتُ
بالخيلِ خَلخالَها
كَكِرْ فيةِ الغيثِ ذاتِ الصَّبيرِ ... تأتَّى السَّحابَ وتأتالَها
فلا مُونةٌ ودَقَتْ ودْقَها ... ولا أرضَ أبقلَ ابقالَها)
الشاهد فيه إنه ذكر (ابقل) وفيه ضمير يعود إلى (الأرض) والأرض مؤنثة.
أراد: ورب جارية من بنات الملوك قعقعت خلخالها، يعني إنه لما أغار
عليهم هربت وعدت، فسمع صوت خلخالها، ولم تكن قبل ذلك تعدو. والقعقعة:
الصوت الصلب نحو الحديد وما أشبهه.
وقوله: قعقعت بالخيل أي بإرسال الخيل عليهم، والكرفئة السحابة
المتراكمة، والصبير: السحاب الأبيض، يعني أنها كالسحابة الكثيفة
البيضاء، وكأنه قال: ككرفئة الغيث ذات السحاب الأبيض. يريد أنها من
السحاب الأبيض. ويجوز أن تجعل الصبير في معنى اببياض، كأنه قال: ككرفئة
الغيث ذات لون الصبير.
تأتى السحاب: تقصد إلى جملة السحاب، تسير إلى السحاب برفق وتؤدة.
(1/392)
وتأتال: تصلح السحاب بانضمامها إليها، وتأتال من آل الشيء يؤوله إذا
أصلحه وقومه وسواه، ويقال: آل القوم يؤؤلهم: إذا ساسهم وأصلح أمورهم.
ونصب (تأتالها) جعله على الجواب بالواو، والمزنة: السحابة البيضاء،
وقيل: أنها لا تكون مزنة حتى يكون فيها ماء، وقيل: المزن: السحاب
الواحدة مزنة، ولم يشرط فيه أن يكون فيه ماء ولم يوصف بشيء.
والودق: المطر يقال: ودقت السماء تدق إذا نزل منها المطر، يقول: فلا
مزنة مطرت مثل مطر هذه السحابة التي شبه الجارية بها، ولا أرض أخرجت
بقلا مثل الأرض التي أصابها مطر هذه السحابة، ومنهم من يرويه: (ولا أرض
ابقلت ابقالها) على تخفيف الهمزة من (ابقالها) وإلقاء حركتها على التاء
من (ابقلت) ولا شاهد فيه على هذه الرواية. وهذه الرواية من إصلاح بعض
الرواة، والذي أنشده الرواة هو الموجود في الكتب القديمة. |