شرح أبيات سيبويه في الاستثناء
المنقطع
قال سيبويه في الاستثناء، قال النابغة الجعدي:
لولا ابنُ عفانَ الإمامُ لقد ... أغضيتَ من شتمي على رَغْمِ
(2/154)
ودعوتَ لهْفكَ بعد فاقرةٍ ... تبدي
محارفُها عن العَظمِ
كانتْ فريضةَ ما تقولُ كما ... كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
(إلا كمُعْرِضٍ المُحَسِّرِ بَكْرَيْهِ ... يسبِّبني على الظلمِ)
الشاهد فيه أنه استثنى استثناء منقطعاً، لأن (معرضاً) لم يجر قبله ما
يستثنى منه، ولكن هذا الاستثناء بمعنى لكنْ، وليس من الأول في شيء.
والكاف زائدة، أراد: إلا معرضاً.
وإنشاد البيت الأول في الكتاب على صحة وزن، وهو من العروض الثانية من
الكامل، والبيت الثاني يخرج من العروض الأولى من الكامل. وقد أنشد مع
البيتين من القصيدة ما يوضح المعنىْ والوزن.
وأغضيتَ: أسبلت جفنك على عينك - لما قد أصابك من الغلبةْ والقهر - من
أجل شتمي لك، وأنك لا تستطيع أن تقول مثل شعري. والرغم: الإذلال،
ودعوتَ لهْفكَ: استغثتْ وتلهفت على ناصر ينصرك فلم تجد.
والفاقرة: ما ينزل به فيكسر فقار صلبه، والمَحارف: جمع محراف وهو الميل
الذي تقدر به الشَّجَةْ والجرح. يريد أنه كان يهجوه هجاء يجري مجرى ما
يكسر فقار صلبه. (كانت فريضة ما تقول): في (كانت) ضمير الفاقرة. يريد:
كانت الفاقرة فريضة ما تقول فيّ من القبيح،
(2/155)
أي جزاء ما تقول، كما كان الرجم عقوبة
الزنا.
وهذا من المقلوب، جعل الزنا عقوبة الرجم، وهذا اتساع لأجل الضرورة،
وأنه ليس يقع في الكلام لَبْس.
والمعنى أنه يقول لسوار القشيري: لولا الإمام ابن عفان - وأني أخشى
عقوبته - لعملت بك الفاقرة، لكنّ معرِضاً يدور الأحياء يشتمني.
ومعرض ليس بسوارْ ولا مستثنى منه، فهو استثناء بمعنى لكنْ. وقوله:
المحسِّر بَكْرَيْه: يريد يحسرهما: يحملهما على الإعياءْ والكَلال من
شدة سيرهْ وطوفه في الناس يكذب عليّ ويُعِين سوّاراً.
وبَكْرَيْه: تثنية بكر، والبكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس. وقوله:
يسبِّبني على الظلمِ: يحتمل أمرين:
أحدهما أنه بمعنى يسبني، فجعله على يسبّب، أراد أنه يشتمهْ وهو ظالم
له.
ويجوز أن يريد بهذا، أنه إذا ابتدأه بفعل القبيح من غير جناية - وشكاهْ
وطاف في
الناس يسبه - أنه يهجوهْ ويهجو قومهْ وآباءه، ويشتم من لم يكن له في
فعل مُعرض ذنب، فيكون حاملاً له على شتم من لم يكن له في هذا الأمر
سبب، وهذا الشتم ظلم.
قال سيبويه في باب الاستثناء المنقطع، قال الجعدي:
(فتى كمُلتْ خيراته غير أنه ... جوادُ فما يُبْقي من المال باقيا)
(2/156)
يرثى بذلك أخاه وَحْوحَاً. والشاهد فيه نصب
(غير) على الاستثناء المنقطع، و (غير أنه جواد) ليس بشيء مستثنى من
الأول. أراد: ولكنه مع ما ذكرته لك جوادُ لا يبقي من ماله شيئاً.
والمعنى واضح.
إدخال الكاف على الضمير - ضرورة
قال سيبويه في أبواب الضمير. قال رؤبة:
تحسَبُه إذا استتبّ دائلا
كأنما يُنحي هِجاراً مائلا
فلا ترى بعلاًْ ولا حلائلا
(كَهُ ولا كَهُنّ إلا حاظلا)
الشاهد فيه أنه أدخل الكاف على ضمير، وهذا استجيز للضرورة. والضمير
المنصوب بـ (تحسَبُه) يعود إلى عَيْر وحش.
واستتب: جدّ في عدوه، والدائل: من الدَألان - بدال غير معجمة - وهو عدو
النشيط، يأخذ مرة في شقْ ومرة في شق آخر. والهِجار: حبل يشد به وظيف
البعير، وينحي: يُميل، يريد أنه لعدوه في شق كأنه مشدود بهجار.
والحلائل: جمع حليلةْ وهي امرأة الرجل، جعل الأنُن حلائل الحمار،
والحاظل: المانع.
يقول: فلا ترى بعلاً كهذا الحمار، ولا حلائل كهذه الأنُن إلا مانعاً
لها من أن
يقرب منها غيرهُ من الفحول.
(2/157)
نصب اسم (عسى)
بمنزلة (لعل)
قال سيبويه قال رؤبة:
تقول بنتي قد أنَى أناكا ... (يا أبتا علك أو عساكا)
وفي شعره: فاستعزِم اللهَْ ودع عساكا
الشاهد فيه أنه جعل (عسى) مثل (لعلّ) ونصب بها الاسمْ وهو الكاف.
وقوله: (قد أنى أناكا) أي قد حان وقت رحيلك إلى من تلتمس منه مالاً
تنفقه. وقولها: (يا أبتا علك) أي لعلك إنْ سافرت أصبت ما تحتاج إليه.
ووجه الرواية في قوله: فاستعزم الله أي استخره في العزم على الرحيل
والسفر، ودع عساي لا أحظى بشيء إذا سافرت، ويحصل بيدي التعب.
نصب المضارع بعد فاء السببية
قال سيبويه: (وتقول: ألا ماءَ فأشربَهْ وليته عندنا فيحدثَنا). هذا
جواب التمني. وقال أمية بن أبي صلت:
(إلا رسولَ لنا منا فيخبرَنا ... ما بُعْدُ غايتِنا من رأس مُجرانا)
(2/158)
بينا يرِببُنا أولادُنا هلكوا ... وبينما
نقتني الأولادَ أبلانا
قال سيبويه بعد إنشاد البيت: (وهذا لا يكون فيه إلا النصب). يعني
البيتْ وما قدم قبله من التمني. لأنه ليس في الكلام فعل فيُعطف الفعل
الذي بعد الفاء عليه، وإذا نصبته فهو في تقدير اسم يُعطف على ما قبله.
عنى أمية أن يأتيه رسول يخبره إلى أي شيء يصير في الآخرة، إلى جنة أم
إلى نار. والغاية: منتهى ما يصيرون إليه، والمُجرى: ابتداء عملهمْ
وتكليفهم في الدنيا،
وهو مأخوذ من الموضع الذي يبتدئ فيه الفرس الجري إذا سابق، والغاية:
منتهى الموضع الذي يعدو إليه.
والتربيتْ والتربيةْ والتربيب بمعنى واحد. وقيل: إن في (أبلانا) ضميراً
يعود إلى (الدهر، وعندي أن فيه ضميراً يعود إلى) الله عز وجل، والبيت
الأول يشير إلى هذا، لأنه مقر بأمر الآخرة.
(2/159)
في اقتران خبر
(يوشك) بأن
قال سيبويه في باب من أبواب (أنْ) (وتقول يوشك أن يجيءَ، فـ (أنْ) في
موضع نصب كأنك قلت: قاربتَ أنْ تفعل. وقد يجوز: يوشك يجيءُ).
ففي (يوشك) ضمير هو الفاعل، ويجيء في موضع جاءٍ كأنه قال: يوشك جائياً،
إلا أنه لا يُستعمل الاسم في هذا الموضع. ومثله: (عسى يفعل) لا يقع
الاسم في موقع الفعل فنقول: عسى فاعلاً.
ويجري (عسىْ ويوشك) مجرى (كان) في وقوع الفعل في موضع مفعولها، إلا أن
(كان) يقع الاسمْ والفعل جميعاً في موضع خبرها، و (عسىْ ويوشك) ليسا
كذلك. وقد جاء عنهم: عسى الغوير أبْؤساً ولا يتجاوز به هذا الموضع.
قال أمية بن أبي الصلت:
(يوشك مَن فَرَّ من منيّتهِ ... في بعضِ غِرّاتِهِ يوافقها)
(2/160)
من لم يَمُتْ عَبْطةً يمت هَرَماً ...
للموتِ كأسُ والمرءُ ذائقها
(مَن) فاعل (يوشك)، (يوافقها) في موضع مفعول (يوشك)، و (في بعضِ
غِرّاتِهِ) في صلة (يوافقها). أصله: يوافقها في بعض غراته، أي في بعض
الأحوال التي هو فيها غافل عن الموت يقع به. ومن لم يمت عبطة: أيْ وهو
شاب صحيح. يقال: اعتبط فلان: إذا مات صحيحاً جَلداً أو شاباً.
يقول: من لم يمتْ وهو شاب، ماتْ وهو هرم، والموت لابد أن يقع به
قال سيبويه في أبواب (إنْْ وأنْ)، قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان:
وإذا تذوكرتِ المَواعدُ مرةً ... في مجلسٍ أنتم به فتقنعوا
(إني رأيتُ - من المكارم - حسبَكم ... أنْ تلبَسوا حُرَّ الثيابْ
وتشبعوا)
الشاهد فيه أنه جعل (أنْ تلبَسوا) أحد مفعولي (رأيتّ) و (حسبَكم)
المفعول الآخر.
(2/161)
يهجو سعيد بهذا الشعر بني أمية بن عمرو بن
سعيد بن العاصيْ واخوته، وكانوا زوجوا أختهم من سليمان بن عبد الملك،
وحملوها إليهْ ومضوا إلى الشام إلى سليمان بن عبد الملك، فصحبهم سعيد،
وكانوا ضمنوا له أن يقوموا بحوائجه، فلما وردوا الشام قصّروا في أمره،
فهجاهم.
يقول: إذا ذُكرت المواعيد الصادقة فغطوا وجوهكم، لأنكم وعدتموني بشيء
لم تفوا به، وأخلف ظني فيكم، وقد رأيت أن الذي تلتمسون هو أن تنالوا من
الطعامْ والكسوة حاجتكم، وأنكم لا ترغبون في فعل المكارم.
نصب المضارع بعد (أو)
قال سيبويه في الجواب بـ (أو) قال الشاعر:
(وكنتُ إذا غمزتُ قناةَ قومٍ ... كسرتُ كعوبَها أو تستقيما)
كذا أنشده سيبويه بالنصب، والشعر لزيادٍ الأعجم في أبيات غير منصوبة.
قال زياد يهجو المغيرة بن حَبْناء:
ألم تر أنني وترتُ قوسي ... لأبقعَ من كلابِ بني تميمِ
عَوَى فرميته بسهام موتٍ ... كذاك تردُّدُ الحَمقِ اللئيمِ
وكنتُ إذا غمزتُ قناةَ قومٍ ... كسرْتُ كعوبَها أو تستقيمُ
(2/162)
استشهد به سيبويه على (نصب) تستقيما.
والمعنى أنه إذا هجا قوماً أبادهم بالهجاءْ وأهلكهم، إلا أن يتركوا
سبهْ وهجاءه. وكان يهاجي المغيرةَ بن حبناء. والكعوب: جمع كعبْ وهو
الناتئ في أصل كل
أنبوب من أنابيب القناة.
فإن قال: قائل: أنشد سيبويه هذا البيت منصوباً، قيل له: سمعه ممن
يُستشهد به منصوباً.
ومع هذا قد وجدنا أبياتاً تنشد على الوقفْ وهي مطلقة، ولو أطلقت لوقع
بعضها منصوباً وبعضها مجروراً. ومن ذلك ما أنشده أبو عمرو:
سَقياً لعهد خليلٍ كان يأدِمُ لي ... زاديْ ويُذهبُ عن زوجاتي الغَضَبْ
كانَ الخليلَ فأمسى قد تخوّنه ... رَيْبُ الزمانِْ وتطعاني به الثقبُ
يا صاحِ بلغْ ذوي الحاجات كلهمُ ... أنْ ليس وصلُ إذا انحلتْ عُرا
الذنبْ
إذا أُنشد بيت واحد من هذه القطعة، أُنشد على حقه من الإعراب، وإن أنشد
جميعها أنشد على الوقف، والإنشاد على الوقف مذهب لبعض العرب.
(2/163)
في الاستثناء
المنقطع
قال سيبويه في باب الاستثناء المنقطع: (ومثل ذلك قول عِتْر بن دجاجة)
وربما وقع في النسخ عَنْز بن دجاجة، والرواية الأولى أشهر، ونسبهُ في
شعره دِجاجة بن العِتْر. ويروى لمعاوية بن كاسر المازني:
يا ليلتي ما ليلتي بالبلدةِ ... ضُربّتْ عليّ نجوُمها فارتدّتِ
والهمُّ مُحتضرُ الوِسادِ كأنه ... خصمُ ينازعُ خُطةً فاشتدَتِ
مَن كان أسرَعَ في تَفَرُّقِ فالجٍ ... فلبوُنه جَرِيَتْ معاًْ وأغدَتِ
(إلا كنا شرةَ الذي ضيَّعْتمُ ... كالغصنِ في غُلوائِه المتنبّتِ)
الشاهد فيه أنه استثنى (ناشرةّ) وقبله ذكر (فالجُ) وفالج رجل بعينه،
وناشرة رجل آخر، فهو بمنزلة قولهم: ما جاءني زيدُ إلا عمراً.
وأراد بفالج فالج بن ذكوان من بني سليم، وكان يقال: إن فالج بن ذكوان -
وهو أبو قبيلة من سليم - هو في أصل نسبه: فالج بن مازن بن مالك بن عمرو
بن
تميم، وإنهم فارقوا نسبهم في بني مازنْ وانتسبوا إلى بني سليم، وهم
فيهم إلى اليوم.
وكذا حال ناشرة، هو ناشرة بن سعد بن
(2/164)
مال من بني أسد، ويقال: إنه ناشرة بن مازن
بن مالك بن عمرو بن تميم. فهاتان قبيلتان، زعم دِجاجة بن العِتْر أنهما
كانتا من بني مازن، فانتقلت إحداهما إلى بني سُليم، والأخرى إلى بني
أسد، فدعا دِجاجة بن العتر على من كان السبب في انتقالهما من بني مازن.
دعا عليه بأن تجرب إبله. ولبونه: ما فيه لبن من إبلهْ وليس يريد
باللبون الواحدة؛ وإنما يريد الجماعة. وأغدّت: من الغُدّة، وهو شبه
الطاعون يقع بالإبل، وأراد جربتْ وأغدت معاً. وغلواؤه: طولهْ وسرعة
نباته. وزعموا أن الكاف زيادة.
ويروى: أو مثل ناشرة الذي ضيعتم.
وليس فيه شاهد على هذه الرواية.
مجيء (غير) مجردة من معنى الاستثناء
قال سيبويه في الاستثناء، قال حارثة بن بدر الغُدانيّ:
يا كعبُ ما طلعَتْ شمسُ ولا غَرَبَتْ ... إلا تُقرِبُ آجالاً لميعادِ
يا كعبُ صبراً على ما كان من حَدَثٍ ... يا كعبُ لم يبقَ منا غيرُ
أجلادِ
(2/165)
(إلا بقياتُ أنفاسٍ نحشرجها ... كراحلٍ
رائح أو باكر غادي)
الشاهد فيه أنه أبدل (بقياتُ) من (غيرّ) ولم يجعل غيراً استثناء،
وجعلها بمنزلة اسم؛ ليس فيه معنى الاستثناء، كأنه قال: لم يبق منا شيء
سوى الأجلاد إلا بقياتُ أنفاس.
ووجدت في الشعر لحسان بن بشر بن عباد:
يا بشرُ ما راحَ من قومٍْ ولا بَكروا ... إلاْ وللموتِ في آثارهم حادي
يا بشرُ ما طلعَتْ شمسُ ولا غربَتْ ... إلا تقرِبُ آجالاً لميعاد
وبعده تمام الشعر. وأراد بالميعاد: الوقت الذي ينتهي إليه أجل الإنسان،
وأجلاد الإنسان: جسمه، وهي تجاليده. ونحشرجها: نرددها بين حلوقناْ
وصدورنا، وقوله: كراحلٍ رائح أي هذه البقية من الأنفاس، بقي
(2/166)
من إقامتها عندنا كبقاء من يروح عندنا من
آخر يومناْ ويفارقنا، أو كبقاء من يبيت عندنا ليلةً ثم يغدو راحلاً من
عندنا.
وجوب نصب المستثنى لتقدمه
قال سيبويه في الاستثناء، قال حسان:
(والناسُ ألبُ علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوفَْ وأطرافَ القنا
وَزَرُ)
ولا يَهِرُّ جنابَ الحربِ مجلسُنا ... ونحن حين تَلظى نارُها سُعُرُ
يقال للقوم إذا اجتمعوا على عداوة إنسان: هم ألبُ عليه. يقول: اجتمع
الناس على عداوتنا من أجلك، يعني النبيَّ صلى الله عليهْ وسلم. يريد
أنهم اجتمعوا على عداوة الأنصار من أجل نصرتهم النبي صلى الله عليهْ
وسلم. والوَزَر: الملجأ. يقول: نحن لا نلتجئ في دفعهم عنا إلا بالطعن
بالرماح، والضرب بالسيوف.
ولا يَهِرُّ: لا يكره، وجنابَ الحرب: ناحيتها، ونحن حين تَلظى نارُها:
يريد حين تشتد، وسُعُرُ: يريد أنهم يوقدون الحرب لمن قصدهمْ وعاداهم،
ولا يجبنون عنهاْ ويكرهونها. وسُعُرُ: يجوز أن يكون جمع ساعر مثل عائذْ
وعُوذْ وشارفْ وشُرُف، ويجوز أن يكون جمع سَعورْ وهو القياس فيه.
(2/167)
إبدال المستثنى من
المستثنى منه
قال سيبويه، وتقول: (ما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، هذا وجه
الكلام). يريد أن وجه الكلام أن تجعل (زيداً) بدلاً من (أحد). ثم قال:
(وإن حملته على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحداً يقول ذاك
إلا زيدُ، فعربي). يريد أن يجعله
بدلاً من الضمير الذي في (يقول) العائد إلى أحد. قال عدي بن زيد:
(في ليلةٍ لا تَرَى بها أحداً ... يَحْكي علينا إلا كواكبها)
الشاهد فيه أنه أبدل (كواكبها) من الضمير الذي في (يَحْكي) فالضمير في
(يَحْكي) يعود إلى (أحد).
والشعر في الكتاب منسوب إلى عدي بن زيد، وما رأيته له. وهو منسوب إلى
رجل من الأنصار، وأظن أني رأيته منسوباً إلى غير الأنصار. وذكروا أن
حاتم بن قبيصة المهلبي قال: لما أُدخلتْ حبابة على يزيد بن الوليد -
وأظنه قد قيل أنها أدخلت على يزيد بن عبد الملك - أدخلت متوشحة بمُلاءة
أحسبها صفراء معها الدُّف. فقالت:
ما أحسنَ الجيدَ من مُليكةَ ... والللباتِ إذ زانَها ترائبها
(2/168)
يا ليتني ليلةً إذا هجَعَ ... الناسُ ونامَ
الكلابُ صاحبُها
في ليلةٍ لا ترى بها أحداً ... يَحكي علينا إلا كواكبُها
ووقع الإنشاد في الخبر: (لا يُرى بها أحدُ) وعلى هذه الرواية لا شاهد
في البيت، لأن (كواكبُها) بدلاً من (أحد).
إبدال المستثنى
قال سيبويه في الاستثناء، وقال الحارث بن عُباد:
والحربُ لا يبقَى ... لجاحِمِها التخيّلُ والمِراحُ
(إلا الفتى الصّبارُ في ... النَجَداتِْ والفرسُ الوَقاحُ)
الشاهد فيه أنه أبدل (الفتى) من (التخيلْ والمراحّ) ورفعه.
جاحم الحرب: أشدهاْ وأحرَها، والتخيل: من الخيلاء وهو التبخترْ وإسبال
الإزار، والمِراح: من المرحْ وهو الفرح الشديد، والنجدات: جمع نجدةْ
وهي الشدة، والوَقاح: الصلب الحافر.
يقول: إذا اشتدت الحرب، ذهب الخيلاءْ والمرح، وكان شغل كل إنسان بنفسهْ
وتخليصهاْ والدفع عنها، وفي أوائل الحروب يختال الرجل، وينظر في
أعطافهْ ويحب المبادرة، فإذا حميت شغلوا عن هذا.
(2/169)
ومثله قول عمرو:
الحربُ أولُ ما تكون فتيَّةً ... تسعى ببَزَّتِها لكل جَهولِ
والشعر في الكتاب منسوب إلى الحارث بن عباد، وهو لسعد بن مالك بن
ضُبيعة.
الإتيان بالضمير على الانفصال ضرورة
قال سيبويه في الضمير، قال ذو الإصبع العَدْوانيّ:
لقينا منهمُ جمعاً ... فأوْفى الجمعُ ما كانا
(كأنا يوم قرَّى ... إنما نقتلُ إيانا)
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
يُرى يَرْفلُ في ... بُرْدَينِ من أبرادِ نَجرانا
الشاهد فيه على قوله (نقتلُ إيانا) يريد به نقتل أنفسنا، وجعل الضمير
في موضع (أنفسنا) وأتى به على الانفصال، والضمير إذا وصله لم يحسن
فصله، إلا أن يُضطر شاعر، فاضطر إلى أن ترك (النفس) وأتى بالضمير،
واضطر إلى استعمال الضمير المنفصل مكان المتصل.
(2/170)
(وقوله: (فأوْفى الجمعُ) أي أوْفى الجمع ما
كان عليه أن يعمله. وقرَّى موضع بعينه) وقوله: نقتلُ إيانا: يريد أنَّا
بقتلنا إياكم بمنزلة من قتل نفسه. وأبراد نَجران: يريد به أبراد اليمن،
ونجران من ناحية اليمن، ونجران: موضع آخر بين البصرةْ والكوفة في
البرية.
بناء (غير) على الفتح لإضافتها إلى مبني
قال سيبويه في الاستثناء، قال أبو قيس بن رِفاعة من الأنصار:
ثم ارعوَيْتُ وقد طال الوقوفُ بنا ... فيها فصِرْتُ إلى وَجناَء
شِملالِ
تُعطيك مشياًْ وإرقالاً ودَأدأةً ... إذا تسربلتِ الآكامُ بالآلِ
تَردي الإكامَ إذا صرَّتْ جنادُبها ... منها بصُلبٍ وَقاحِ البطنِ
عَمّالِ
(لم يمنعِ الشّرْبَ منها غيرَ أنْ نطقتْ ... حمامةُ في غصونٍ ذاتِ
أوقالِ)
الشاهد فيه أنه بنى (غير) على الفتح لإضافتها إلى اسم غير متمكن، والذي
أضيفت إليه (أن والفعل).
يصف أنه وقف في دار خلت من أهلها، فلما طال وقوفه ارعوى،
(2/171)
أي رجع فصار إلى راحلته. والوجناء: الصلبة،
والشملال: السريعة الخفيفة، والإرقالْ والدَأدأة: ضربان من العدو،
والآكامُ: جمع أكمَ، وأكَم: جمع أكَمَةْ وهي شبيه الجُبيل. والآل: الذي
يكون في أول النهار كأنه السراب، وأراد بالآل في هذا البيت السراب.
يريد أنها نشيطة في العدو في وقت الهاجرة. ويريد بـ (تسربلتِ بالآل)
أنه علا عليها فصار كالقميص لها. تَردي الإكامَ: يريد أنه ترمي الإكامَ
إذا اشتد الحرْ وصَرَّ الجندب بصُلب، يعني خفها، وَقاحِ البطن: شديد
البطن صلبه، عَمّال: يعمل في السيرْ ولا يفتر.
لم يمنع الشُربَ منها: يريد من الراحلة، يريد لم يمنعها أن تشرب إلا
أنها سمعت صوت حمامة فنفرت. يريد أنها حديدة النفس، فيها فزعْ وذعر
لحدة نفسها، وذلك محمود فيها.
ويروى: (لم يمنع الوِردّ) والمعنى واحد.
وقوله: في غصون، أراد أن الحمامة في غصون، والأوقال: جمع وَقلْ وهو شجر
المُقل، وقد يجوز أن يريد شجراً نابتاً في موضع فيه مُقل
الرفع على الاستثناء دون العطف - للمعنى
قال سيبويه في عوامل الأفعال، قال أبو اللحام التغلبي:
عَمرْتُ وأكثرتُ التفكرَ خالياً ... وساءلتُ حتى كاد عُمْريَ ينفدُ
فأضحتْ أمور الناسِ يَغشَيْنَ عالماً ... بما يُتقى منهاْ وما يتعَمدُ
(2/172)
جديرُ بأن لا أستكينَْ ولا أُرى ... إذا حل
أمرُ ساحتي أتبلدُ
(على الحَكمِ المأتي يوماً إذا قضى ... قضيَّتَه أن لا يجورَ ويقصدُ)
الشاهد فيه في رفع (يقصدُ) وأنه لم يعطفه على (يجور). كأنه قال بعد
قوله: عليه أن لا يجور: ْ ويقصدُ، يخبر بأنه يفعله، وهو لفظ الإخبار.
ويحتمل أمرين: يحتمل أن يكون بمعنى الأمرْ وهو في لفظ الخبر، ويحتمل أن
يخبر به على طريق أنه ينبغي أن يكون بهذا الوصف. زعم أنه طلب العلم
بالأشياءْ والوقوف على حقيقتها، واستعمل فكرهْ وسأل العلماء عما لا
يعرف حتى يعرف.
لا أستكينَ: لا أذلْ ولا أخضع، ولا أتبلد: لا أتحير إذا نزلت بي شدة،
من أجل أني لا أعرف جهة الخلاص فيها. على الحَكم: أي المرضيّ بحكمه،
المأتيّ: المقصود إليه.
ولا يجوز أن يعطف (يقصد) على (يجور) لو كانت القصيدة منصوبة، من جهة
المعنى لأن قوله (عليه أن لا يجور) معناه عليه ترك الجَوْر، ولا يجوز
أن يقول: عليه ترك القصد. والمعنى واضح.
(2/173)
استعمال (منون) في
الوصل ضرورة
قال سيبويه في باب الاستفهام، قال سُمير الضبي:
(أتوْا ناري فقلتُ مَنونَ أنتمْ ... فقالوا الجنُّ، قلتُ عِموا ظلاما)
فقلتُ: إلى الطعام فقال منهم ... زعيم: نحسُد الإنسَ الطعاما
الشاهد فيه أنه أدخل علامة الجمع في (مَن) في وصل الكلام، وهذه العلامة
تدخل
في الوقفْ ولكنه اضطر.
وزعم أنه أتاه الجنْ وهو عند ناره، فسألهم مَن هم، فلما ذكروا أنهم
الجن حياهمْ وقال لهم: عموا ظلاماً، لأنهم جن، كما يقول بعض بني آدم
لبعض - إذا أصبحوا -: عموا صباحاً، وإنما انتشارهم بالليل.
وقوله: (إلى الطعام) في صلة (هلمّ) وحذفها، كأنه قال: هلموا إلى الطعام
فقال منهم زعيم - أي رئيس لهمْ ومتكلم عنهم - نحسُد الإنسَ، وأراد
بالإنس الإنس ممن يحسدهم على أكل الطعامْ والالتذاذ به، وليس من شأننا
أن نأكل ما يأكله الإنس.
(2/174)
استقبال القسم بـ (أنْ) بمنزلة اللام
قال سيبويه: (ومثل هذه اللام الأولى (أنْ) إذا قلت: ْ والله أنْ لو
فعلتَ لفعلتُ). يريد أنّ أنْ الخفيفة المفتوحة يُستقبل بها القسم، كما
يستقبل باللام للقسم كقولك: والله لئن فعلت لأفعلن قال المسيَّب بن
عَلَس:
لعَمْري لئن جدَتْ عداوةُ بيننا ... لينتحينْ مني على الوَخْمِ مِيسَمُ
(فأُقسم أنْ لو التقيناْ وأنتمُ ... لكان لكم يومُ من الشر مظلمُ)
الشاهد فيه في قوله (أنْ لو التقينا) جعل (أنْ) تستقبل في القسم.
يخاطب المسيَّب بهذا بني عامر بن ذهل بن ثعلبة في شيء صنعوه بحلفائهمْ
وأراد بالوخْم عامرَ بن ذهل. ومِيسَم: الحديدة التي تُحمىْ ويوسم بها،
لينتحينْ: ليُتعَمَّدَنْْ ويُقصدن بميسمي على الوخم. يعني أنه يهجوه
هجاء يكون كالسمة في وجهه، لا يزايله عاره، كما لا يزايله أثر الميسم.
وعطف (أنتم) على الضمير الذي هو فاعل (التقى). يقول: لو التقيناْ
وتحاربنا لقتلناكم. فكان يومكم مظلماً لأجل ما نصنعه بكم.
(2/175)
إضافة (آية) إلى
الفعل
قال سيبويه: (ومما يضاف إلى الفعل أيضاً، قولك: ما رأيته منذ كان عندي،
ومنذ جاءني. ومنه أيضاً آية). قال يزيد بن عمرو ابن الصَّعِق:
(إلا مَن مبلغُ عني تميماً ... بآيةِ ما تحبون الطعاما)
الشاهد فيه أنه أضاف (آية) إلى (تحبون) و (ما) زائدة لغو، كأنه قال:
بآية تحبون. ومعنى الآية: العلامة، كأنه قال: بعلامة حبكم للطعام.
وبنو تميم يُعيَّرون بشدة المحبة للطعامْ والحرص عليه، لأجل أنّ عمرو
بن هند - لما نذر أن يحرق من بني عامر مائة رجل، لأجل قتلهم أخاً له -
أخذ منهم تسعةْ وتسعين رجلاً ثم التمس تمام المائة فلم يجد، فأقبل راكب
يوضع بعيره، فلما أتى إلى عمرو قال له: من أنت؟ قال: أنا رجل من
البراجم قال: وما أتى بك؟ قال: إني رأيت الدخان فأقبلت نحوه. فقال
عمرو: (إن الشقيّ وافد البراجم) فذهب مثلاً. ثم عُيّرت تميم بعد هذه
القصة بالنهمْ والتماس الطعام في كل موضع.
وسبب هذا الشعر أن بني أبي العوف بن عمرو بن كلاب، جاوروا بني
(2/176)
أسيد بن عمرو بن تميم، فأجلوهم عن موضعهم،
فقال يزيد شعراً ذكرهم فيه، وفي شعره:
ألا أبلغْ لديك بني تميم ... بآيةِ ذكرِهم حُبَّ الطعامِ
أجارَتْها أُسيِّدُ ثم عادتْ ... بذات الضَّرعِ منهاْ والسَّنامِ
وليس فيه على هذه الرواية شاهد، لإضافة (آية) إلى الاسم.
العطف بالجزم - للمعنى
قال سيبويه في عوامل الأفعال، قال جحدر العكليْ ويقال هي للخطيم
العكلي:
ولا تَمشِ في الحربِ الضَّراَء ولا تُطعْ ... ذوي الضعف عند المأزِقِ
المتحفلِ
(ولا تشتم المولىْ وتبلغْ أذاته ... فإنك إن تفعلْ تسَفهْْ وتجهلِ)
الشاهد فيه أنه جزم (تبلغْ) وعطفه على (تشتمّ) ولم ينصبه على الجواب
بالواو.
والضَّراءَ: أن يستتر الرجل بالشجر، والمأزِق: مضيق الحربْ وموضع
اشتدادها، والمتحفل: الذي يجتمع فيه الناس، والمولى: ابن العمْ
والحليف. يقول: لا تكن خفياً في الحرب تتوارىْ وتتستر، بل أشهِر نفسك
بالمبارزةْ والقتال حتى تذكرْ وتعرف، ولا تكن خاملاً، ولا تطع ذوي
(2/177)
الضعف الذين يستترون بالانهزامْ والروغان.
ولا تشتم بني عمكْ وحلفاءك، فإنك إن فعلت نُسبت إلى السفهْ وجهلت.
نصب المضارع بعد واو المعية
قال سيبويه في الجواب بالواو، قال حسان:
(لا تَنْهَ عن خلقٍْ وتأتيَ مثله ... عارُ عليك إذا فعلتَ عظيمُ)
الشاهد في نصب (تأتيَ).
يقول: لا تجمع بين النهي عن شيء وفعلك إياه، فإنك إن نهيت عن فعل شيء
لقبحه ثم لم تنته أنت، كان أقبح، لأنك تعلم أنك قد عرفت أنه قبيح فنهيت
عنهْ وأتيته أنت مع العلم بقبحه، ففعلك أعظم مِن فِعل مَن فَعلهْ وهو
لا يعلم بقبحه.
و (عظيم) وصف لـ (عار) و (عار) مرفوع خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: فعلك
إياه عار عظيم عليك.
بين (أمّ) و (أو)
قال سيبويه في باب (أمْ وأوْ). قالت صفية بنت عبد المطّلب:
(2/178)
كيف رأيتَ زَبرا ... أأقِطاً أو تمرا
(أم حَضْر مياً مُرّا)
أرادت الصَّبر الحضرمي، يعني الذي يُحمل من ناحية حضرموت.
الجر بـ (رب) مضمرة
قال سيبويه في الجواب، قال أبو النجم:
(ومَهْمَهٍ تحسَبُه مكسوحا)
يُطوِّحُ الهادي به تطويحا
الشاهد في البيت أنه جر (مهمه) بـ (ربَّ) وهي مضمرة.
والمهمه: القفر من الأرض، والمكسوح: الذي كأنه مكنوس، يقال: كسحتُ
البيت إذا كنسته، والمِكسحة: المكنسة. يقول: تحسب هذا المهمه قد كُنس
لأنه مُجدب لا شيء فيه من نبت، ولا فيه عَلَم يُهتدَى به. وفي (يطوّح)
ضمير في المهمه. يريد أن هذا المهمه يطوح العارف به، يعني أنه يذهب
فيهْ ويجيء متحيراً.
فتح همزة (أنما) بمنزلة (أنّ)
قال سيبويه في باب (إنما) قال عمرو بن الإطنابة الأنصاري:
أبلغِ الحارثَ بن ظالمٍ المُوعِدَ ... والناذِرَ النّذورَ عَليّا
(2/179)
(إنما تقتل النيامَ ولا تقتلُ ... يقظانَ
ذا سلاحٍ كمِّيا)
الشاهد فيه أنه فتح (أنما) وجعلها بمنزلة (أنّ) لو وقعت في هذا الموقع.
والكميّ: الذي قد غطاه ما عليه من السلاح. وسبب هذا الشعر أن الحارث بن
ظالم المري قتل خالد بن جعفر بن كلاب في جوار النعمان بن المنذر. دخل
الحارث على خالدْ وهو نائم، فوضع السيف في بطنه فقتله. فلذلك قال عمرو
(إنما تقتل النيام) يريد أنه قتل خالداً وهو نائم.
ثم إن الحارث بن ظالم لقي عمرو بن الإطنابة، وعمرو في لأمتهْ وسلاحه،
فقال له الحارث أأنت عمرو بن الإطنابة؟ قال: نعم فمن أنت؟ قال: أنا
الحارث بن ظالم. . . فنزل إليه عمرو فاستجاره، فأجاره الحارث. ويقال إن
عمراً قال له: آمنّي على نفسي فإني أشكرك. فعاتبه الحارث على قوله ما
قال، فخلى سبيله.
وزعم بعض الرواة أن عمرو بن الإطنابة ذُكر عنده الحارث بن ظالم، فشتمه
فنهته امرأتهْ وقالت: ما تريد إلى رجل من العرب لم يَجْرِ بينكْ وبينه
شيء قط تشتمه عليه، تريد تشتمه من أجله، فلطمها. فبلغ ذلك الحارث بن
ظالم، فركب حتى أتاه بالمدينة في بيته فقال: إني جئت بتجارة، وإني كنت
في جوارك، فأخذها بعض قومك فاركب معي.
فركب معهْ وعليه السلاح،
(2/180)
حتى إذا برزا قال له الحارث بن ظالم: أنائم
أنت أم يقظان؟ فزعموا أن عمراً جزَّ ناصيته فوضعها في يد الحارث، فقال
له الحارث: قد وهبتك لامرأتك.
رفع جواب الشرط على تقدير التقديم
قال سيبويه في الجزاء: (وقد يجوز في الشعر: آتي مَنْ يأتِني) يريد أنه
يجوز أن يكون الفعل بعد الشرط مجزوماً، ويكون الفعل المتقدم يسد مسد
الجواب، ثم يؤخّرْ وهو في نية التقديم. وهذا يحسُن إذا كان فعل الشرط
ماضياً.
فإذا كانت (إنْ) عاملة لم يجز أن يكون الجواب إلا: بفعل مجزوم، أو
بجملة في أولها الفاء. فإن اضطر شاعر كان له أن يجعل الفعل الذي يأتي
بعد فعل الشرط مرفوعاًْ وينوي به التقديم.
قال أبو ذؤيب:
ما حُمِّل البُختِيُّ عامَ غِياره ... عليه الوُسوق بُرُّهاْ وشعيرُها
أتى قريةً كانت كثيراً طعامُها ... كرفغ التراب كلُّ شيءٍ يَميرُها
(فقيل: تحمَّلْ فوق طَوقِكَ إنها ... مطبَّعَةُ، مَنْ يأتِها لا
يَضيرُها)
الشاهد فيه أن رفع (يضيرها) ونوى به التقديم، كأنه قال: لا يضيرها مَن
يأتِها،
(2/181)
كذا قدّره سيبويه، وأجاز أيضاً في هذا
البيتْ وفي نظائره، أن نُقدر الفاء فيه محذوفة منه، ولا يُقدر فيه
التقديم. كأنه قال: مَن يأتها فهو لا يضيرها، وحذَف
الفاءْ والمبتدأ.
فأما هذا الوجه فيوافَقُ عليه - أعني حذف الفاء - وأما تقديره تقديم
الفعل، فإن أبا العباس يمنع منهْ ويقول لو قدرتُ الفعل متقدماً لصارت
(مَن) فاعلة له، ولو كانت (مَن) فاعلة لخرجت عن أن تكون شرطاًْ وصارت
بمعنى الذي، وصار الفعل الذي بعدها مرفوعاً، فكنت تقول: لا يضيرها من
يأتيها.
والجواب عما قال أبو العباس: أن التقدير في (لا يضيرها) أن يكون مقدماً
وفيه ضمير فاعل كأنه قال: لا يضيرها ضير أو لا يضيرها شيء. كما قال
الله تعالى (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليَسْجنُنه).
وفيه وجه آخرْ وهو عندي جيد، وهو أن يكون الفاعل في (لا يضيرها)
(التحمّل) ويكون (تحَّملْ) قد دل على المصدر الذي هو فاعل (يضيرها) ولو
قُدر فيها أن فاعلها (التحمل) - على كل حال - صلح، إن قدرتَ الفاء
محذوفة، أو قدرتَ فيه التقديم.
والغيار: مصدر غارَ أهله يغيرهم إذا مارهم، والميرة: يقال لها الغِيرة،
والوُسوق: جمع وَسْقْ والوَسْق ستون صاعاً، و (برُهاْ وشعيرُها) بدل من
(2/182)
(الوُسوق).
أتى البُختيُّ قرية كانت كثيراً طعامها، واللفظ للبختيْ والمعنى
لصاحبه، والرفغ: التراب الكثير. كل شيء يَمير هذه القرية، يأتي إليها
كل حين من كل ناحية. فقيل لصاحب البُختيّ لتحمل عليه أكثر مما يطيق -
إن استوى لك - فإن الطعام الذي في هذه القرية لا يؤثر فيه مقدار ما
تأخذه أنت. والمطبّعة: المملوءة.
أراد أبو ذؤيب بهذا، أن الذي حمّله خالدَ بن زهير من الأمانة وكَتم سره
في أنه يهوى أم عمرو، واستيثاقه منه أنه لا يخونه أعظم مما تحمّله
البختي من هذه القرية: وبعد هذه الأبيات:
بأثقلَ مما كنتُ حَمَّلتُ خالداً
في الاستثناء المنقطع
قال سيبويه في الاستثناء: (وإن شئتَ جعلته إنسانها). ذكر هذا بعد ذكره:
(ما فيها أحدُ إلا حمارُ) على البدل على مذهب بني تميم. وقال:
(أرادوا: ليس فيها إلا حمار، وذكروا (أحداً) توكيداً) أنه ليس فيها
إنسان، ولا يجوز أن يكون الحمار مستثنى من الناس.
ثم قال بعده: (وإن شئتَ جعلته إنسانها). يريد: جعلتَ الحمار إنسانَ تلك
الدار، لأنها قد خلت من أهلها، وصار فيها الوحش بدلاً منهم فكأنهم
ناسها، فيكون (أحدُ) واقعاً على الحمير، لأجل أنهم قدِّروا كأنهم ناس
تلك الدار.
(2/183)
وقال أبو ذؤيب:
(فإنْ تُمْسِ في قبرٍ برَ هوةَ ثاوياً ... أنيسُك أصداءُ القبور تصيحُ)
الشاهد فيه أنه جعل الأصداء أنيسَ هذا الرجل المرثي، والأصداء لا يؤنس
بها، وهو جمع صدىْ وهو طائر يكون في المفازة، والثاوي: المقيم، ورهوة
مكان بعينه.
تقديم الاسم على فعل الشرط، وإعرابه
قال سيبويه في باب الجزاء، قال كعب ابن جُميل:
فإذا قامتْ إلى جاراتها ... لاحتِ السّاق بخلخالٍ زَجلْ
وبمَتْنَيْن إذا ما أدبرتْ ... كالعِنانين، ومُرتجٍّ رَهِلْ
(صَعدةُ نابتةُ في حائرٍ ... أينما الريحُ تميِّلها تمِلْ)
الشاهد فيه أنه أخر فعل الشرطْ وهو مجزوم، وقدّم الاسم قبله، ورفعه
بإضمار فعل تفسيره هذا الفعل المتأخر. وهذا لا يجوز إلا في الشعر.
(2/184)
وصف امرأة. وقوله لاحت الساق، يريد ساقها
لاحتْ وفيها خلخال، والزجِل:
المصوِّت، والزجَل: الصوت. وهم يصفون الخلخال في بعض المواضع بالصموت،
إذا أرادوا أن الساق ضخمة ممتلئة لحماً، قد ملأت الخلخال فلا يتحرك.
ويصفونه مرة بأن له صوتاً، إذا أرادوا أنه يصيب أحدُ الخلخالين الآخر
أو غيرَه من الحليّ فيصوّت.
وقوله كالعِنانين، يريد أن متنيها أملسان براقان كملاسة السَّيرْ
وبريقه. والمرتج كفلها، والرهِل: الذي قد تدلىّ من كثرة شحمهْ ولحمه،
والصعدة: القناة، والحائر: المكان الذي يجتمع فيه الماء. شبهه بالقناة
في استواء قامتها، وفي تثنيها إذا مشت كما تتئنى القناة إذا ضربتها
الريح.
عطف (إياك) كما نعطف الظاهر
قال سيبويه في باب الضمير، قالت نائحة عدي ابن أخت الحارث بن أبي
شَمِر:
لعمرُك ما خشيتُ على عديٍّ ... سيوفَ بني مُقيِّدة الحمارِ
(ولكني خشيتُ على عديّ ... سيوفَ القوم أو إياك حارِ)
قتيلُ ما قتيلُ بني حُذارٍ ... بعيدُ الهمّ جوّاب الصحاري
الشاهد فيه أنه عطف (إياكّ) وهو ضمير منفصل كما يعطف بالظاهر.
وكان الحارث بن أبي شَمِر بعث ابن أخته عدّياً إلى بني أسد، فقتله يعمر
وعُميرة ابنا حُذار،
(2/185)
وقولها: (سيوفَ بني مُقيِّدة الحمارِ) تريد
أن أمهم راعية، تخرج بالغنمْ ومعها حمار تقيده لئلا يعدو. تقول: أنا لم
أخش على عدي أن يقتله أولاء.
ويروى: (رماح الجن أو إياك حار).
تعني أنها لم تكن تخشى عليه أن يقتله أحد من الناسْ ولا يجترئ عليه.
ورماح الجن: الطاعون (أو إياك حار) تقول: لم أخش أن تموت إلا بالطاعون،
أو بقتلك يا حارث إياه. والحارث هو الملك. تريد أنه لم يكن مثله يُخشى
عليه أن يقتله غير ملك، بعيد الهم: تريد أن همته تتناول الأمور
البعيدة، لا يبعد عليه شيء مع سعة
همته.
الإتيان بالضمير منفصلاً
قال سيبويه قال عمرو بن معد يكرب:
(قد علمتُ سلمىْ وجاراتُها ... ما قطّر الفارسَ إلا أنا)
شككتُ بالرمحِ حيازيمَه ... والخيلُ تجري زِيَماً بيننا
الشاهد فيه أنه أتى بالضمير المنفصلْ وهو (أنا) حين لم يمكنه أن يأتي
به متصلاً، وإنما لم يمكنه أن يصله بالفعل فيقول: (ما قطرت الفارس) لأن
المعنى كان يبطل، لأنه يكون نافياً عن نفسه أنه قطر الفارس. والأمر
الذي يقع بعد (إلا) هو مثبت مستثنى مما نُفي، فلما احتاج أن يأتي
بالضمير بعد (إلا) أتى به منفصلاً لأن موضع انفصال وإنما هو موضع
اتصال. الاتصال أن يتصل بالفعلْ ويليه، والانفصال أن يبعد عن الفعلْ
ولا يليه.
(2/186)
وقطر الفارس: ألقاه على أحد قطريهْ وهما جانباه والحيازيم: جمع حيزومْ
وهو ما حول الصدر، والزِيَم: المتفرقة. يقول: طعنت بالرمح في صدره
والخيل تجري بفرسانها تحمل بعضهم على بعض و (زِيَماً) منصوب على الحال. |