شرح أبيات سيبويه في باب الاستثناء
المنقطع
قال سيبويه قال عمرو بن معد يكرب:
(وخيلٍ قد دلفتُ لها بخَيْلٍ ... تحيَّةُ بينِهمْ ضربُ وجيعُ)
الشاهد فيه أنه جعل الضرب بالسيوف تحيةً بينهم.
يريد أنهم جعلوا مكان تحية بعضهم بعضاً ضربَ السيوف. ودلفت لها: قصدت
إليها وقربت منها ولقيتها. يريد أنه كان يجمع الجيوش فيَلقَى بهم
أمثالهم، وعنى أنه كان يرأسهم، لأن الرؤساء يجهوزن الجيوش، ويسيرونهم.
العدول عن جزم الفعل إلى رفعه على
الاستثناء
قال سيبويه في عوامل الأفعال، قال جميل:
(ألمْ تَسألِ الرَّبعَ القَواء فينطِقُ ... وهل تُخبرَنكَ اليومَ
بيداءُ سَمْلَقُ)
(2/187)
بمختلفِ الأرواحِ بين سُويقةٍ ... وأحدبَ،
كادت بعد عهدكَ تُخْلقُ
الشاهد فيه على رفع (فينطِقُ) على استثناء خبر، يريد فهو ينطقُ.
والقَواء: المكان القفر، البيداء: الصحراء الواسعة، والسملق: التي لا
شيء بها من نبتْ ولا غيره، وهي جرداء مستوية. وسويقة موضع بعينه، وأحدب
مكان بعينه أيضاً، ومختلفِ الأرواح: الموضع الذي تهب فيه الرياح من كل
وجه. كادت هذه المنازل تُخلق بعد أن عهدتها عامرة.
اتصال (لولا) بضمائر الجر
قال سيبويه في الضمير، قال يزيد بن الحَكم الثقفي:
عدوُّكَ يَخشى صولتي إنْ لقيته ... وأنت عدوي ليس ذاك بمستوي
(وكم موطنٍ لولاي طِحْتَ كما هوى ... بأجرامه من قلةِ النِيّقُ مُنهوي)
(2/188)
الشاهد فيه أنه جعل الضمير بعد (لولا)
بالياء، وهو ضمير المجرور، والأجرام جسده، والجِرم: الجسدْ وأتى بلفظ
الجميع كما قالوا: بعسير ذو ثمانين، والنيق: الجبل الشامخْ وفلته
أعلاه، والمنهوي: الساقط، طحت: هلكت.
نصب المضارع بعد واو المعية
قال سيبويه في عوامل الأفعال، قال ورقاء بن زهير جَديمة العبسيّ:
فيا ليت أني قبلَ ضَربةِ خالدٍ ... وقبلَ زهير لم تلدْني تماضرُ
(فلا يَدْعُني قومي صريحاً لحُرَّةٍ ... لئن كنتُ مقتولاً وتسلمُ
عامرُ)
كان خالد بن جعفر بن كلاب قد التقى هوْ وزهير بن جذيمة، فاقتتلا ثم
اصطرعا، فوقع زهير تحت خالد، فبَصُر بهما ورقاء بن زهير، فجاء فضرب
خالداً فلم يَعمل فيه سيفهْ وجاء رجل من بني عامر فضرب زهيراً - وهو
تحت خالد - ضربةً أثخنته، ومات منها بعد ذلك، فنُعيتْ هذه الضربة على
بني عبس، وقال ورقاء في هذه الأبيات:
رأيتُ زهيراً تحت كلكلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعى كالعَجولِ أُبادرُ
(2/189)
فشَلتْ يميني يومَ أضرِب خالداً ...
وأحْصَنه مني الحديدُ المُظاهرُ
وتماضر أم ورقاء. تمنَّى ورقاء أن لا تكون أمه ولدته لمّا نبا سيفه عن
خالد، و (عامر) أراد به القبيلة، و (تسلم) بالتاء، وروَوْه بالنصب على
الجواب بالواو.
حذف العائد
قال سيبويه في عوامل الأفعال، قال الراجز:
إني لساقيهاْ وإني لكسِلْ
وشاربُ من مائهاْ ومُغتسلْ
إنّ الكريمَْ وأبيك يَعتمِلْ
(إنْ لم يجدْ يوماً على مَن يَّتكلْ)
إبدال المجزوم من المجزوم في جواب الشرط
قال سيبويه في باب الجزاء، قال الشاعر:
إنْ يبخَلوا أو يجبُنوا ... أو يغدِروا لا يحفِلوا
(يغدوا عليك مرجَّلين ... كأنهم لم يفعلوا)
كأبي بَراقشَ كلَّ لونٍ ... لونُه يتحوَّلُ
(2/190)
الشاهد فيه أنه أبدل (يغدوا) من قوله (لا
يحفِلوا) وليس (يغدو) بدلاً من (يحفلوا)
لأنك لو قلت: إن يغدروا لا يغدوا عليك مرجلين لانتقض المعنى، وكان قد
نفى عنهم ما يُذمون به. وإنما (يغدو) مقدر في موضع (لا يحفِلوا) كأنه
قال: إن يبخلوا أو يجبنوا أو يغدروا يغدوا عليك مرجلين.
ومثله قول القائل: زيدُ إنْ يكذبْ لا يستحي يُكابرْ عليه. فـ (يكابرْ)
بدل من قوله (لا يستحي) ولو قال (يكابرْ) بعد (لا) لفسد المعنى، ولكنه
بدل من (لا وما بعدها).
ومعنى لا يحفلوا، لا يبالوا كيف كانت حالهم عند الناس، والمرجّل:
المسرَّحُ الرأس المدهونُهُ وإنما يرجل شعره الفارغ القلب، الذي ليس في
قلبه همّ. يعنى أنهم إذا بخلوا أو جبنوا أو غدروا لم يحزنوا لشيء من
ذلك. وأبو بَراقش: طوير صغير يتحول ألواناً.
يريد أنهم يتقلبون في ألوان القبيح، ولا يثبتون على خلق جميل.
عطف الظاهر على الضمير المجرور
قال سيبويه في باب الضمير، قال الشاعر:
(فاليومَ قرَّبْتَ تهجوناْ وتشتِمُنا ... فاذهبْ فما بكْ والأيامِ من
عَجَبِ)
(2/191)
الشاهد فيه أنه عطف (الأيام) على الكاف
المجرورة بالباء. وهذا قبيح، يجوز في الشعر. وقربتَ يريد دنوت، ويجوز
أن يعني قربت كلامك القبيح، ويجوز أن يريد أنه أسرعَ في سبهمْ وهجوهم
كما تقرب الدابة.
و (تهجونا) في موضع الحال، و (تشتِمُنا) معطوف عليه، كأنه قال: فاليوم
قربت هاجياً وشاتماً، فاذهب: أمر على طريق التهدد، فما بكْ والأيامِ من
عَجَبِ، أي أنت يُتوقع منك أفعال قبيحة، ولا نعجب أن يفعل القبيح مثلك،
كما أن الأيام يُتوقع أن يرد فيها كل ما نعجب منه.
إضمار اسم كان
قال سيبويه في أبواب الضمير: قال الشاعر:
(إذا ما المرءُ كان أبوه عبسُ ... فحسبُك ما تريدُ إلى الكلامِ)
الشاهد فيه أنه أضمر في (كان) اسمها، ورفع (أبوه) بالابتداءْ و (عبس)
خبره والجملة في موضع خبر (كان). ويجوز أن يكون (أبوه) رفعا بـ (كانّ)
وينصب (عبسا) خبر كان. ويجوز أن يكون مرفوعاً بـ (كان) مقدرة بعد (ما)
و (كان) التي هي ظاهرة، تفسيرها. لأن (إذا) يطلب الفعل. وهذا هو الوجه
عندي. ويجوز في (كان) غير ما ذكرتهْ ولكن الوجهين اللذين تقدما أجود من
غيرهما.
(2/192)
يقول: إذا نُسب العربي إلى عبس، فحسبك
بنسبته إلى عبس شرفاً ورفعة، ما تريد إلى الكلام، أي ما تطلب بعد شرفهْ
وأدبه.
رفع المصدر المؤول (من أنّ وما بعدها) على
الابتداء
قال سيبويه في أبواب (أنّ). قال المفضّل النكري.
(أحقا أنّ جيرتنا استقلوا ... فنيتناْ ونيَّتهمْ فربقُ)
فدمعي لؤلؤ سلسُ عُراهُ ... يخِرُّ على المهاوي ما يَليقُ
الشاهد فيه أنه أتى بقوله (أنّ جيرتنا استقلوا) و (أنّ وما يتصل بها)
في تقدير مصدر كأنه قال: أحقاً استقلالُ جيرتنا. و (استقلال) مبتدأْ و
(حقاً) في معنى ظرفْ وهو خبر المبتدأ. ومعناه: أفي حقٍ استقلالُ
جيرتنا.
وزعم قوم أن سيبويه لا يرفع مثل هذا على الابتداء، وإنما يرفعه بالظرف،
وأنه فيما سطره سيبويه المنع من الابتداء بـ (أنّ) المفتوحة المشددة.
وقد ذهبوا بكلام سيبويه إلى غير وجهه - والذي يمنعه سيبويه أن تكون
(أنّ) التي هي مبتدأة في
حكم الإعراب - مبتدأة في اللفظ، ولم يمنع أن تكون مبتدأة من طريق
الحكم.
والدليل على صحة هذا قولهم: إنّ عندي أنّك خارج. فـ (إنّ) قد عملت في
(أنّ) كما تعمل في (زيد) من قولك: إنّ خلفك زيداً. ولو كان (عندي)
عاملاً في (أنك خارج) لما تخطى عملُ إنّ المكسورة إلى (أنّ).
ونحن نستدل على
(2/193)
صحة ما نذهب إليه في قولنا (إنّ زيداً)
مبتدأ من قولهم (خلفك زيد) بأنّا إذا جئنا بـ (إنّ) المكسورة قبل
الظرف، وصل عملها إلى الاسم كما يصل عملها إليه في قولك (زيد خلفكّ)
ولو ارتفع في التأخير بالظرف، لم يصل عمل (إنّ) المكسورة إليه.
ومعنى استقلوا: فرغوا من شد متاعهمْ ورحالهم على إبلهم، ثم أثاروا
إبلهم ليسيروا، والنيّة: الموضع الذي ينوي المسافرون الرحيل إليه.
يقول: هم ينوون الرحيل إلى موضع غير الموضع الذي ننوي نحن الرحيل إليه.
وفريق: مفترقة، والنية أنثى، وهي عندي من نحو قولهم: امرأة صديق، وليس
على القياسْ وكان ينبغي أن يقول: ْ ونيتناْ ونيتهم فريقان، ولكنه اكتفى
بخبر إحداهما عن خبر الأخرىْ ويجوز أن يكون من نحو استعمالهم (عدوّاً)
للواحدْ والاثنينْ والجمع، و (صديق) كمثل ذلك.
فدمعي لؤلؤ يعني مثل اللؤلؤ في تحدره على خدي، سلسُ عُراهُ: أي سلس
يقطع السمط الذي فيه اللؤلؤ، فانحداره سريع، والمهاوي: المواضع التي
يقع منها الدمع من الوجه إلى الأرض، ما يليق: ما يثبتْ ولا يستمسك،
ويخر: يسقط.
مجيء (لو) اسماً
قال سيبويه في باب ما ينصرفْ وما لا ينصرف: (وأما (لوْْ وأوْ) فهما
ساكنتا الأواخر، لأن ما قبل آخر كل واحدة منهما متحرك فإذا صارت كل
واحدة منهما اسماً، فقصتها - في التذكيرْ والتأنيثْ
(2/194)
والانصراف وترك الانصراف كقصة (ليتْ
وإنّ) إلا أنك تُلحق واواً أخرى فتثقلْ وذلك لأنه ليس في كلام العرب
اسمُ آخره واو قبلها حرف مفتوح). قال أبو زبيد:
(ليت شعريْ وأين منيَ ليتُ ... إنّ ليتاً وإنّ لوّاً عناءُ)
أيُّ ساعٍ سعى ليقطعَ شِربي ... حين لاحت للشارب الجوزاءُ
الشاهد في هذا البيت أنّ (لو) لما جُعلت اسماً زيد عليها واو أخرى،
لأنه لا يكون اسم متمكن على حرفين الثاني منهما واو أو ياء أو ألف،
فإذا سميتَ بشيء مما ثانيه حرف من هذه الحروف، زدت على الحرف الثاني
مثله.
وسبب هذا الشعر أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط - لما قدم الكوفة - أخذ
الجنينة من ربيع الطائي ودفعها إلى أبي زبيد، ثم عُزل الوليد بسعيد بن
العاصي فلما قدم سعيد انتزع الجنينة من أبي زبيدْ وأخرجه منها فقال أبو
زبيد: ليت شعري أيُّ ساعٍ سعى في أمري حتى أُخذت الجنينة مني. وجعل أخذ
الجنينة منه بمنزلة انقطاع الماء عنه في أشد الأوقات التي يحتاج فيها
إلى الماء.
وقوله: (وأين منيَ ليتُ) يريدْ وأين مني ما أتمناه، كأنه قال: وأين
(2/195)
مني ما أتمناه بقولي ليتَ. يعني أنه لا
يطمع فيه لأنه قد تقضّىْ وفات، فلذلك كان تمنيه عناء، والعناء: التعب،
أي لا يحصل منه إلا عناء.
(أيُّ ساعٍ) معلق بـ (ليت) قد سد مسد الخبر عند كثير من النحويين، كما
تقول: ليت شعري أزيدُ في الدار. وتقديره: ليت شعري أيُّ ساع سعى ليقطع
شِربي. وقوله: (وأين منيَ ليت إلى آخر البيت) اعتراض بين (ليت شعريّ)
وبين ما تعلق بها من البيت الثاني.
(حين لاحت للشارب الجوزاء) يريد حين ارتفعت في آخر الليل، وذلك يكون في
شدة الحر، وأراد بالشارب: الذي يشرب الجاشرية، وهي ما يُشرب وقت السحر.
ويروى (للصابح) وهو الذي يسقي غيره الصَّبوح، وهو ما يشرب عند الإصباح.
بناء ظروف المكان على الضم - كظروف
الزمان
قال سيبويه: (ومن العرب من يقول: من فوقُ ومن تحتُ يشبهه بقبلُ وبعدُ).
وقال أبو النجم:
وقد جعلنا في وَضينِ الأحْبُلِ
جَوْزَ خفافٍ قلبُه مثقلِ
أحزمَ لا قوقٍْ ولا حَزَنبَلِ
موثقِ الأعلى أمينِ الأسفلِ
(أقبَّ من تحتُ أمينٍ من عَلِ)
معاودٍ كرَّةَ أدبرْ أقبلِ
(2/196)
الوضين: نِسعة عريضة تعمل من أدَم مثل
الحزام، والأحبل: جمع حبل، والجوز: الوسط، والخفاف: الخفيف، والمثقل:
الثقيل الضخم. أراد أنهم شدوا في الوضين وسط بعير خفيف قلبه، أي ذكي
حاد، وهو مع خفة قلبه، بدنه ضخم عظيم.
وزعم بعض الرواة أنه أراد أنّ هذا البعير خفيف سيره، وقور قلبه، وأن
المثقل للقلبْ والخفاف للجسم. وأراد بخفاف الجسم أنه سريع السير، ويكون
في الكلام تقديمْ وتأخير، كأنه قال: جَوْزَ خفاف مثقل قلبُه. وجعله
كقول امرئ القيس:
. . . . فقِلْ في مَقَيلٍ نحسُه متغيِّبِ
يريد: متغيبِ نحسُه.
والمعنى أنه شد على بعير - أراد أن يسنوَ به - الأداة التي تكون
للسّانية، وشد عليه الوضين. والأحزم: البعير العظيم موضع الحزام،
ويُستحب من البعير اتساع جوفه، والقوق: الطويل المضطرب، والحزنبل:
القصير.
يريد أن هذا البعير تام الخلق شديد، ليس بطويل مضطربْ ولا بقصير دميم.
وأراد بالأعلى: ظهر البعير أنه شديد، وأمين الأسفل: شديد القوائم،
والأقبّ: الضامر الخصر ليس بمسترخيه، وخصره تحت متنهْ وظهره، وإذا
(2/197)
استرخى خصره ضعف. وقوله (أمينٍ من عَلِ)
يريد أنه شديد الظهر، وهذا البعير معاود للاستقاء من الآبارْ ولأن يقال
له: أدبرْ وأقبل: أدبر عن البئر إذا امتلأت الدلو، وأقبل إليها إذا
تفرغت. يريد أنه قد استقي عليه مراراً كثيرة.
تنوين ظروف المكانْ وجعلها نكرات
قال سيبويه: (وكذلك من أمامٍْ ومن قدّامٍ ومن وراءٍ ومن قبُلٍ ومن
دُبُرٍ وزعم أنهن نكرات) وقال أبو النجم:
تفلي له الريحُ ولمّا يَفتلِ
لمّة قفرٍ كشعاعِ السّنبُلِ
(يأتي لها من أيمُنٍْ وأشمُلِ)
الشاهد على تنوين أيمنْ وأشملْ وجعلهما نكرتين، وهما جمع يمينْ وشمال.
وأراد أن هذه الظروف تكون نكرات في الأصل.
وصف راعياً. وقوله: تفلي له الريح، يريد إذا هبت الريح فرقت شعره
لشعثه، وأنه ليس بمتلبّد لأنه لا يُدْهنْ ولا يمْشط، فالريح تفرقه، ولا
تفرقه
الريح حتى تأخذ القمل من رأسه كما تفعل الفالية؛ وإنما تفرقه بهبوبها.
والقفر: مخفف من القفرْ وهو الذي جسمه يابس لا يُدهنْ ولا يُغسل. يقال
منه: قفر يقفر قفرا، ويقال أيضاً قِفر يقفر إذا لم يجد أدْماً لطعامهْ
ولا لحماً. والقفر: قلة لحم الجسم، يقال: رجل قفِرُ وامرأة
(2/198)
قفِرة إذا كانا قليليْ اللحم.
وشَعاع السنبل بفتح الشين: ما تفرق من أطرافه الدِقاق. شبّه انتصاب
شعره بانتصاب شوك السنبل، يأتي لها: يريد أن الراعي يأتي الإبل من
ميامنهاْ
ومياسرهاْ ويدور حولها.
عَلم المصدر
قال سيبويه: (ومما جاء اسماً المصدر قول الشاعر) وهو النابغة:
وعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحتَ الغبار فما خططتَ غباري
(أنّا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملتُ بَرَّةَ واحتملتَ فجارِ)
يخاطب النابغة بهذا زُرْعةَ بن عمرو الكلابي، يعني أنهما تلاقيا بعكاظْ
وتفاخرا، فغلبه النابغة. وقوله: تحتَ الغبار، لم يُرد أنهما كانا في
غبَرة، وإنما هذا مثل، أي التقينا فتفاخرنا ليعلم فضل الفاضل منا، فكنا
بمنزلة فرسين استبقاْ وعّدَوا، فثار من عدْوهما غبار. وقوله فما خططتَ
غباري: أي ما شققتَه. يقول تقدمتك في العدوْ وسبقتك، وكنتُ كفرس أثار
الغبار في عدوه، وقصّر الفرس الذي يسابقه، فما كان المسبوق منهما يبلغ
موقع الغبار الذي أثاره
(2/199)
الأول إلا بعد أن يسكن الغبار. وهذا يدل
على بُعد ما بينهما، وغبار كل فرس إنما يثور وراءه، فإذا كان الثاني لا
يلحق غبار الأول فكيف يدركه.
ويروى: فما حططت بحاء غير معجمة، أي لم يرتفع غبارك فوق غباري، يريد
أنه لم يدركه فيختلط غبار كل واحد منهما بغبار الآخر. وقوله: احتملنا
خطتينا بيننا، يقول: كل واحد منا رجع لخطتهْ وطبعهْ وطريقته التي
اختارها، فأخذتُ أنا لنفسي البِرّْ والأفعال الحسنة، وأخذت أنت لنفسك
الفجورْ والأفعال القبيحة.
وعند سيبويه أن (فجارِ) بمنزلة الفجور، كأنّ (فجارِ) معدول عن الفجْرة.
ترخيم أمثال: عامرْ ومالك لكثرة الاستعمال
قال سيبويه في باب الترخيم: (وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه
لحارثْ ومالكْ وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيراً في الشعر، وأكثروا
التسمية
بها). قال الذبياني:
(قالت بنو عامرٍ خالوا بني أسدٍ ... يا بؤسَ للجهلِ ضرّاراً لأقوامِ)
يأبى البلاءُ فما نبغي بهم بَدَلاً ... وما نريدُ خِلاءً بعد إحكامِ
(2/200)
(فصالحونا جميعاً إنْ بدا لكمُ ... ولا
تقولوا لنا أمثالها عامِ)
البيت الأول أنشد سيبويه عجزه في المنفي، واستشهد به على أن الشاعر إذا
اضطر أدخل اللام بين المضافْ والمضاف إليه، وهذا هو الإقحام.
واستشهد بالبيت الثالث على ترخيم (عامر).
وسبب هذا الشعر أن بني عامر بن صعصعة بعثوا إلى حِصن بن حُذيفة،
وعُيينة بن حصن أن اقطعوا ما بينكمْ وبين بني أسد من الحلف، وألحقوهم
ببني كنانةْ ونحالفكم، فنحن أقرب إليكم منهم. وذلك أن بني ذبيانْ وبني
عامر بن صعصعة كلهم من قيس عيلان، وبني أسد من خندف. فخشي النابغة أن
يتم هذا - وكان محباً لبني أسد، كارهاً أن ينقطع ما بينهمْ وبين بني
ذبيان - فقال هذا الشعر.
وقوله: خالوا، ووزنه فاعِلوا. ومنه خاليت الرجل مُخالاةْ وخِلاء. يقول:
هذا الذي التمستموه من قطع الحلف الذي بينناْ وبين بني أسد جهْل، يأبى
أن يقطع الحلفَ الذي بينناْ وبينهم ما بلوناه منهم، واختبرناه من نصحهم
لنا، ونصرهم إيانا إذا دعوناهم إلى نصرتنا.
والخِلاء: مصدر خالي يُخالي إذا تارك. يقول: ما نريد أن نتاركهم وقد
أحكمنا ما بيننا وبينهم، فصالحونا جميعاً إن أحببتم. أي ادخلوا معنا في
محالفة بني أسد، حتى يقع الصلح
(2/201)
بين جماعتنا، ولا تقولوا لنا أمثال هذه
المقالة يا عامر ابن صعصعة.
تنوين (أذرعات وعرفات) أعلاماً
قال سيبويه: (وقال في رجل اسمه مسلماتُ أو ضَرَبات: هذا ضَرَباتُ كما
ترى
ومسلماتُ كما ترى، وكذا المرأة لو سميتها بهذا انصرفت). ثم احتج على
ذلك بحجة حتى انتهى إلى قوله: (ألا ترى إلى (عرفات) مصروفة في كتاب
الله عز وجل، وهي معرفة، الدليل على ذلك قول العرب: هذه عرفاتُ مباركاً
فيها).
أراد أنهم نصبوا (مباركاً) على الحال، فلو كانت عرفات نكرة لكان الوجه
أن يكون (مباركُ) مرفوعاً نعتاً لعرفات. ثم قال سيبويه:
(ويدلك على معرفتها أنك لا تُدخل فيها ألفاً ولاماً). قال: (ومثل ذلك
أذرعاتُ،
(2/202)
سمعنا أكثر العرب يقولون في بيت امرئ القيس
بن حُجْر):
تنوَّرتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثربَ، أدنى دارِها نَظرُ عال
تنوَّرتها نظرت إلى نارها - التي توقد بالليل - من أذرعات، أي وأنا
بأذرعات من أرض الشام وهي مع أهلها بيثرب. وقيل إنه أراد أنه نظر إلى
دارها بقلبه. وقوله: أدنى دارِها نَظرُ عال: يريد أن أقرب المواضع التي
تدنو من دارها؛ بينه وبين موضعها نظر عال، أي مرتفع، فكيف أراها بعيني،
وبيني وبينها بلاد كثيرة، وهذا يقوّي أنه نظر إليها بقلبه.
وجوب حذف الخبر والمبتدأ قسَم صريح
قال سيبويه في باب ما عمل بعضه في بعض وفيه معنى القسم: (وسمعنا فصحاء
العرب يقولون في بيت امرئ القيس):
فقلت يمينُ اللهِ أبرحُ قاعداً ... ولو ضَربوا رأسي لديك وأوصالي
أراد أنهم رفعوا (يمينُ اللهِ) بالابتداء وحذفوا خبره، وتقديره: يمينُ
اللهِ قسمي وهو مثل: لعمرُ الله لأفعلنّ.
والمعنى أن هذه المرأة لما وصل إليها امرؤ القيس زجرته، وأرادت أن
(2/203)
ينصرف، فحلف أنه لا يبرح حتى ينال حاجته
ولو ضُرب رأسه وأوصاله. وأوصاله: أعضاؤه الواحد منها وِصْل. والمعنى
واضح.
صيغة (فعّال) في النسبة: نبّال
قال سيبويه في باب من الإضافة لا تُلحِق فيه ياءيْ الإضافة: (وقالوا
لذي السيف سيّاف والجمع سيّافة). وقال امرؤ القيس:
لِيقتلني والمَشرَفيُّ مُضاجعي ... ومسنونةُ زُرقُ كأنيابِ أغوالِ
وليس بذي سيفٍ فيقتلني به ... وليس بذي رمحٍ وليس بنبّالِ
أراد وليس بذي نبل.
وصف حال امرأة هويَها وهويته، وأن زوجها أراد قتله فقال: كيف يقتلني
والمشرفي مضاجعني؟ والمشرفي: سيف منسوب إلى المشارف، قرى تدنو من
الريف. والمسنونة: المحددة، وأراد نصال سهام قد جُليت فصفت، وإذا اشتد
صفاؤها، ضَربتْ إلى الزرقة، وجعلها كأنياب أغوال تعظيماً لطولها
وحدّتها، وأن يبالغ في قوتها،
(2/204)
والأغوال جمع غول.
شبّه نصال السهام التي معه بأنياب الغيلان. يقول: أنا مع سلاحي وهو
أعزل ليس بصاحب سيف ولا صاحب رمح وليس معه نبل (فيقتلني به) نصب على
الجواب.
والشاهد في البيت أنه جعل النبّال في موضع النابل، أراد وليس بصاحب
نبل. ويحتمل معنى الشعر عندي أن يعني بقوله: (لِيقتلني والمَشرَفيُّ
مُضاجعي ومسنونةُ زُرقُ) أن جماله وحسنه وما عند المرأة من محبتها له،
بمنزلة السلاح الذي يقاتل به، وأن زوجها لقبحه ومقت المرأة له - وأنها
لا تحبه محبة يسيرة ولا كثيرة - بمنزلة الأعزل الذي لا سلاح معه.
فزوجها كاسف البال مهموم لا يمكنه إخراج ما في قلب امرأته من امرئ
القيس. ويقوّي هذا المعنى قوله:
ليقتلني وقد شعفتُ فؤادَها ... كما شعفَ المهنوءةَ الرجلُ الطالي
يعني أن محبتها له قد التبست بقلبها ووصلت إليه، كما يصل القطران الذي
تُطلى به الإبل إلى قلوبها، حتى يسعى عليه من شدته.
في: حيّهل
قال سيبويه: (وأما حَيَّهل التي للأمر فمن شيئين، يدلك على ذلك (حيَّ
على الصلاة) قال مزاحم العُقيلي:
(2/205)
بحَيهَلا يُزْجون كلَّ مطيةٍ ... أمامَ
المطايا سَيْرُها المُتقاذِفُ
الإزجاء: السَّوْق يقال: أزجى يُزجي. يقول: يسوقون المطايا بقولهم
(حيّهلا) والمُتقاذِفُ: الذي يتبع بعضه بعضاً، كأنّ كل سير تسيره هذه
المطية يقذف بها إلى سير آخر. ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:
أخو سَفرٍ جوّابُ أرضٍ تقاذفتْ ... به فلواتُ فهو أشعثُ أغبرُ
أي رمته فلاة إلى أخرى.
و (سيرها) مبتدأ و (المُتقاذِفُ) وصفه و (أمامَ المطايا) خبره. ويروى:
بحيَّهَلا عَجْلى الرَّواحَ رمى بها ... أمامَ المطايا. .
أي بهذا القول، رمى بهذه الناقة سيرُها قدام الإبل، أي هذا الزجر لها
كان سبب تقدمها الإبلَ وإسراعها. و (عجلى) اسمها. أراد: يا عجلى سيري
وأسرعي.
و (الرواح) منصوب لأنه مصدر في موضع فعل الأمر، يريد: روِّحي رواحاً.
في أسماء العلم - مما أصله صفة
قال سيبويه في باب تسمية الأرضين: (ومنها ما لا يكون
(2/206)
إلا على التذكير نحو (فلج) وما وقع صفة كـ
(واسط) ثم صار بمنزلة زيد وعمرو، وإنما وقع لمعنى). يريد ما كان أصله
صفة للموضع، ثم غلبت عليه الصفة حتى جرى مجرى الاسم العلم). قال مسكين
الدارمي:
ونابغةُ الجعديُّ بالرملِ بيته ... عليه ترابُ من صفيحٍ موضعُ
أتى ابنَ جُعيلٍ بالجزيرة يومُهُ ... وقد فارقَ الدنيا وما كان يجمعُ
كذا إنشاد الكتاب: (ترابُ من صفيح). وفي شعره: (عليه صفيح من رخام
موضعُ) وهي أحب إليّ من رواية الكتاب، لأن قوله: (تراب من صفيح) فيه
بُعد. والصفيح: الحجارة، والرخام: الصخور العظام، والموضعُ: المُلقى
بعضه فوق بعض.
أراد أن قبر النابغة في الرمل، وذكر حال الشعراء المتقدمين، وأنهم فنوا
وذهبوا فلم يبق منهم أحد. يصغّر أمر الدنيا ويحقره.
والشاهد فيه أنه جعل النابغة - وهو في الأصل صفة - بمنزلة الاسم العلم،
ونزع منه الألف واللام. وجعله اسماً كما تجيئه بطلحة وحمزة.
(2/207)
جمع (أولي وذوي) بلا إضافة على (ألون
وذوون)
وقال سيبويه في باب تغيير الأسماء المبهمة: (وسألته - يعني الخليل - عن
رجل سمي بـ (أولي وبذوي) فقال: أقول هذا ذَوُون وهذا أُلون، لأني لم
أُضف، وإنما ذهبَت النون في الإضافة). وقال الكميت:
صَهٍ لجوابِ ما قلتمْ وأوْكتْ ... أكفكمُ لي ما تنفخونا
فلا أعني بذلك أسفليكمْ ... ولكني أُريد به الذّوينا
الشاهد فيه أنه لما لم يُضف (ذو) إلى شيء، رد النون التي حذفت منه، وهو
جمع سالم، إلا أن استعماله بالإضافة، فتسقط نونه للإضافة، فلما لم يمكن
الشاعر أن يضيف ردَ النون. وهذه القصيدة، يذكر فيها الكميت فضل عدنان
على قحطان. وقوله: صهِ، أي اسكتوا حتى تسمعوا مني جواب ما قلتم.
وأوكت: أي شدت، والوِكاء: ما يشد به القِربة أو الزِق أو غيره. يقول:
قد جنيتم بعداوتكم لمعدّ، فاصبروا على ما جره فعلكم. وأصل هذا الكلام
مَثل للعرب، وهو
قولهم: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
وذلك أن رجلاً أراد أن يعبر نهراً عظيماً، ولم يجد سفينة يعبر فيها،
فأخذ زِقاً ونفخه وشده، فلما توسط النهر انحلّ الزق وخرجت الريح، وغشيه
الموت فاستغاث، فقيل له: يداك أوكتا وفوك نفخ.
يريدون يداك
(2/208)
أوكتا الزِق، وفوك نفخ الريح، ثم صار هذا
مثلاً لكل من جنى على نفسه لشيء فعله.
وقوله: (فلا أعني بذلك أسفليكمْ) يريد: لست أعني بمخاطبتي من ليس له
قدر من أهل اليمن والسِّفلة، وإنما أريد ملوكهم كذي يَزَن وذي جّدّن
وذي رُعَين وذي الكلاع ومن أشبههم.
في النسبة - إبدال الهمزة واواً
قال سيبويه في الإضافة إلى كل شيء لامه واو أو ياء قبلها ألف ساكنة غير
مهموزة: (وإن أضفتَ إلى شقاوة وغباوة وعِلاوة قلت: شقاوي وعِلاوي
وغباوي وذلك لأنهم قد يبدلون مكان الهمزة الواو لثقلها، ولأنها مع
الهمزة مشبهة بآخِر حمراء).
يريد أن الواو إذا كانت في الواحد في هذا النحو، لم يجز أن تقلبها في
النسب همزة، كما فعلتَ في بنات الياء حين قلت في: سِقاية سِقائيّ وفي
صَلاية صلائي، لأنهم قد يفرون مما فيه الهمزة ثابتة في الواحد، إلى
الواو في النسب، نحو كساويّ ورِداوي، فإذا كان ما فيه الهمزة في
الواحد، يقلبون همزته في النسب واواً، وإذا كان ما في واحده الواو، لا
تقلب واوه همزة، لأنه قد حصل ما يفرون إليه من الهمزة. قال جرير:
إذا هبطنَ سماوياً مواردُهُ ... من نحو دُومَةِ خَبْتٍ قلّ تعريسي
(2/209)
السماوي: طريق السماوة، والسماوة: موضع في
البرية التي بين دمشق وأرض
العراق، والسماوة: بلاد بحلب، والموارد: الطرق، والتعريس: النزول في
آخر الليل، والذي يسير بالليل إذا نزل في آخره فقد عرّس. ودومة خَبْت:
موضع، والخبت: موضع فيه انهباط.
وفي (هبطن) ضمير من الرواحل. وفي شعره: (إذا عَلوْن سماوياً) يريد إذا
علت الإبل طريق السماوة جددْتُ في السير، ولم أطِل التعريس حتى أصل عن
قرب.
و (موارده) مبتدأ و (من نحو دُومَةِ خَبْت) خبره، والضمير المضاف إليه
(الموارد) يعود إلى السماوي. يقول: هذا الطريق السماوي، الطرق المتصلة
به من نحو دومة.
في النسبة - حذف الألف المقصورة
قال سيبويه في الإضافة إلى ما في آخره ألف زائدة لا تنون: (وأما حُبْلى
ودِفلتى فالوجه فيه ما قلت لك). يريد أن الوجه في النسب أن تحذف الألف
منه، يريد أن ما في آخره ألف التأنيث؛ الوجه فيه حذفها. قال ساعدة بن
جؤية:
كأنما تقعُ البُصْرِيُّ بينهمُ ... من الطوائف والأعناق بالوَذمِ
(2/210)
البُصْرِيّ: أراد به السيوف المنسوبة إلى
بُصرى، والطوائف: نواحي البدن وأطرافه، والوَذمِ: السيور التي بين آذان
الدلو والعَراقي، وهي الخشبة التي كهيئة الصليب. وواحد الوذم وَذمة.
يريد أن السيوف التي تقع في أعناقهم وطوائفهم، كأنها واقعة في سيور
الدلو لسرعة مرّها وقطعها. يصف قوماً أُغير عليهم ووقع بهم أعداؤهم.
صيغة (فاعل) لصاحب الشيء
قال سيبويه في باب من الإضافة لا تلحِق فيه ياءي الإضافة: (وأما ما
يكون ذا شيء وليس بصنعة يعالجها فإنه مما يكون فاعلاً) قوله ذا شيء، أي
صاحب
شيء فهو عنده (وذلك قولك لذي الدرع: دارع، ولذي النبل: نابل، ولذي
النشاب: ناشب، ولذي التمر واللبن: تامر ولابن قال الحطيئة):
أغَررْتني وزعْمتَ أنكَ ... لابِنُ بالصيف تامِرُ
يخاطب بذلك الزِبْرِقان بنَ بدر ويقول له: دعوتني إلى أن أجاورك، وقلت
لي: إنّ عندك تمراً ولبناً يكفيني ويكفي عيالي، فلما نزلت عليك أضعتني.
وإنما قال: لابِنُ بالصيف تامر، لأنهم مخصبون في الصيف،
(2/211)
ويكثر فيه الألبان والتمور فإذا كان عادماً
للبن والتمر في الصيف، فهو لهما في الشتاء أعدم.
ما جاء معدولاً على وزن (فعالِ)
قال سيبويه في باب ما جاء معدولاً عن حده من المؤنث. قال الفرزدق:
نَعاءِ ابنَ ليلى للسماحة والندَى ... وأيدي شمالٍ بارداتِ الأناملِ
ويروى: للسماح وللندى يريد انْعَ ابنَ ليلى لأجل فقد سماحِهِ وجوده.
وأيدي شمال: يعني هبوب الشمال في الشتاء، وجعَل ما يمس الناس من برد
الشمال يداً للشمال كما يمد يده الذي يريد أن يمس الشيء حتى يباشره
بيده. وابن ليلى غالب بن صعصعة أبو الفرزدق وأمه ليلى بنت حابس بن
عقال. وقال زهير:
ولنِعْمَ حشوُ الدِرعِ أنتَ إذا ... دُعيتْ نَزالِ ولجَّ في الذّعرِ
يريد: نعم الرجلُ الذي يلبس الدرع ويحشوها ببدنه، أي يملأها. والمعنى:
نعم الشجاعُ أنت إذا تداعى الفرسان للنزول، وإنما يتداعون للنزول إذا
اشتدت
(2/212)
الحرب وتضايق الأمر.
والذعر: الفزع، ولجَّ فيه: يعني لجَّ القوم في أسباب القتال الذي هو
سبب الذعر، يمدح بذلك هرم بن سنان.
قال سيبويه في الباب المتقدم: (فهذا معدول عن مؤنث) يعني باب (فعال)
أجمع
(وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المؤنث الذي عُدل عنه (بَدادِ)
وأخواتها). ثم قال: (ونحوُ ذا في كلامهم، ألا تراهم قالوا: مَلامح
ومَشابه وليالٍ، فجاء جمعه على حد ما لم يستعمل في الكلام).
يريد أن الذي عُدِل عنه (فعالِ) لم يستعمل، كما أن واحد (مَلامح
ومَشابه) لم يستعمل. وقال المتلمس.
كأنّي شاربُ يومَ استبدّوا ... وحثَّ بهم لدَى المَوْماةِ حادي
عُقاراً عُتقتْ في الدَنِّ حتى ... كأنّ حَبابَها حَدَقُ الجراد
جَمادِلها جَمادِ ولا تقولي ... طَوالَ الدهرِ ما ذُكرتْ: حَمادِ
قوله استبدوا: يريد استبدوا برأيهم في عزمهم على الرحيل، من غير أن
يشاوروني فيه، ولو شاوروني لم أشِرْ عليهم. والموماة: القفر من الأرض
والجمع الموامي، والحَباب: ما يعلو فوق الخمر كأنه حب إذا صُبّت في
الإناء أو مُزجت. شبهه بحدق الجراد. ثم دعا عليها فقال (جَمادِ لها).
يجوز أن يكون دعا على المرأة التي كان يهواها، حين سارت مع القوم الذين
فارقوه.
يقول:
(2/213)
جَمَدَتْ يدُها فلا أعطت أحداً خيراً. يريد: لا أنالت أحداً خيراً من
جهتها كما لم تُنلني أنا من جهتها خيراً.
و (جَمادِ) بمعنى اجمُدْ، يريد ادْعُ عليها بجمود الكف، ولا تَحْمَدْها
إذا ذُكرت.
منع العلم من الصرف على معنى القبيلة
قال سيبويه في باب الأحياء والقبائل. قال الأخطل:
فإنْ تَبْخلْ سَدُوسُ بدرهَمَيْها ... فإنّ الريحَ طيبةُ قبولُ
وإنّ بني أميةَ ألبسوني ... ظِلالَ كرامةٍ ما إنْ تزولُ
كان الأخطل أتى سُويدَ بنَ مَنجوفٍ السَّدوسي يسأله في حَمالةٍ لزمته
حتى يُعينه،
فلم يعطه، وقصد بشرَ بن مروان فأعطاه. وقوله: (فإن الريح طيبة قبول)
قيل في تفسيره: إن الأرض واسعة يقصد منها الإنسان حيث شاء، وفي أي جهات
الريح شاء أن يسلك سلك. والقَبول: التي تقبل ما دخل فيها. و (القبول)
اسم خاص للصَّبا، وعندي أن الذي يعينه الأخطل الوجه الأول. |