شرح أبيات سيبويه

أشار إلى المؤنث بـ (تا)
قال سيبويه في التصغير: (وأما (تيّا) فإنما هي تحقير (تا) وقد استعمل ذلك في الكلام. قال الشاعر كعب الغنويّ).
وداعٍ دعا يا مَن يُجيبُ إلى الندَى ... فلم يستجبْه عند ذاك َ مُجيبُ
فقلتُ ادعُ أخرى وارفعِ الصوتَ دعوةً ... لعلَّ أبا المِغوارِ منكَ قريبُ
وحَدَثتماني إنما الموتُ بالقرى ... فكيف وهاتا هَضْبةُ وقليبُ

(2/241)


الشاهد فيه أنه جعل (تا) إشارة إلى المؤنث، وأشار بـ (تا) إلى الهضبة. يرثي كعب بهذا الشعر أخاه. وأراد: رُبّ داعٍ دعا إلى أن يجاد عليه ويُعطى. فلم يستجبه، يريد لم يجبه، عند ذاك: عند دعائه. فقلتُ ادعُ أخرى، يريد دعوةً أخرى، لعل أبا المغوار يسمع. وهذا يقوله القائل على طريق التلهف على فقد من فقده.
وقوله: وخبرتماني إنما الموت بالقرى: يقول: قلتما لي إنّ مَن سكن الأمصار والقرى مرض، للوباء الذي يكون في الأمصار، فكيف مات أخي في هذا الموضع وهو برّيّة، وهذه هضبة! أشار إلى هضبة في الموضع الذي مات أخوه فيه. والهضبة: الجبل. وقليب: بئر عظيمة.
قال سيبويه وقال عمران بن حِطان:
وليس لعيشنا هذا مَهاهُ ... وليست دارُنا هاتا بدارِ
لنا إلا لياليَ باقياتٍ ... وبُلغتنا بأيامٍ قِصارِ
الشاهد فيه أنه قال (دارنا هاتا) أشار إلى المؤنث بـ (تا).
والمهاه: الحُسن والنضارة، والهاء التي بعد الألف أصلية وهي لام الفعل، وهي بمنزلة اللام من جمال.

(2/242)


وحكي عن الأصمعي أنه قال: (مهاة) وجعله بمنزلة قطاة ونواة وجعلها تاء في الوصل للتأنيث، والمهاة: البلورة.
وأراد أن العيش له ماء وصفاء وحُسن مثل حسن البلورة. ويروى:
وليست دارُنا الدنيا بدارِ
ولا شاهد فيه على هذه الرواية.
و (لنا) في صلة البيت الذي قبله، كأنه قال ليست دارنا بدار لنا إلا مدة يسيرة. وبُلغتنا - إلى الوقت الذي هو أجلنا - بأيام قصار. يريد: إنا نبلغه في أيام قصار.

إدخال النون الخفيفة في جواب (مهما)
قال سيبويه في باب النون الخفيفة والثقيلة، قال الكميت بن معروف:
ولا تكثِروا فيها الضجاجَ فإنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارةَ أجمعا
فمهما تشأ منه فزارةُ تعْطِكم ... ومهما تشأ منه فزارةُ تمنعا
الشاهد فيه على إدخال النون الخفيفة في (تمنعا).
والضجاج: الجلبة والخصومة. وسبب هذا الشعر أن سالم بن دارة الثعلبي من بني ثعلبة، كان هجا فرارة من أجل شيء كان بينه وبين مرة بن واقع، وذكر في شعره زُميلاً الفزاري وهجا أمه، وهي تعرف بأم دينار فحلف زميل ألاّ يغسل رأسه حتى يقتله، فلقيه في طريق لدينة، فقال لزُميل: ممن؟ قال: رجل من بني

(2/243)


عبد المناف، فمن أنت؟ قال: سالم بن دارة. . . فأناخ به، ثم استل سيفه فخرْدَله به حتى قطعه.
فقال الكميت لقوم سالم: لا تكثروا الجلبة والضجاج في هذه القصة، فإنه محا قتلُ زميل جميع ما هجا به بني فزارة، وذهب عنهم عار الهجاء بقتل من هجاهم. فمهما تشأ منه فزارةُ تعْطِكم: يريد إنْ شاءَت فزارة أن تعطيكم الدية أو بعضها أعطتكم وإنْ شاءَت أن تمنعكم منعتكم.

جمع (أمَة) على (إِموان)
قال سيبويه في جمع الرجال والنساء: (وقال بعض العرب: أمَة وإِموان، كما قالوا أخ وإخوان). قال القتال الكلابي:
أما الإماءُ فلا يدعونني ولداً ... إذا ترَامى بنو الإْموان بالعارِ
وفي شعره:
أَنا ابنُ أسماَء أعمامي لها وأَبي ... إذا ترَامى بنو الإموان بالعارِ
أما الإماءُ فلا يدعونني ولداً ... إذا تحُدِّثَ عن نقصي وإمراري
قال القتال هذا الشعر يعرّض بقوم من بني عمه، ولدَتهم امرأة أخيذة، سُبيت من بعض الأحياء. والنقض: نقضه الأمور، وحَله إياها، وإبطاله لها. وإمراره:
إحكامه وتثبيته، يريد انه إذا فعل أمراً أحكمه.

(2/244)


قال سيبويه: (وقد يقولون الرُعُف كما قالوا: فضب الريحان. قال لَقيط بن زُرارة):
إنّ الشواءَ والنشيلَ والرُّغفْ
والقيْنةَ الحسناءَ والكأسَ الأُنفْ
للضاربين الهامَ والخيلُ قطفْ
قال لقيط هذا الشعر في يوم جَبَلة، وقد انهزم عنه أصحابه، فقال هذا ليحرضهم على القتال ويُضَرّيهم، وفي هذا اليوم قتل. والنشيل: اللحم الذي يطبخ في القدور، ويقال: نشلت اللحم، إذا أخذته من القدر، والكأس الأنف: المستأنفة.
يريد أنه لا يعطى فضلات الشراب، وإنما يُعدُّ له شراب لم يشرب منه أحد غيره. ويجوز أن يكون يريد بقوله: الكأس الأنف، أنه إذا شرب مع قوم بدءوا به في الشرب، ثم شرب منهم واحد بعد واحد، وإنما يقدمونه لشجاعته وغنائه. والقطف: جمع قطوف وإنما يقطف لأنهم في ملاقاة ومصادمة وليس موضع جري.

جمع (قليل) على (قليّلين) بالتصغير
قال سيبويه في التصغير، قال قيس بن رفاعة الواقفي:
إنْ ترَيْنا قليّلِين كما ذِيدَ ... عن المُجْرِبين ذَوْدُ صِحاحُ

(2/245)


فلقد ننتدي ويجلسُ فينا ... مجلسُ كالقنيفِ فعْمُ رَداحُ
الشاهد فيه على تصغير (قليّلين) صغروا (قليلاً) وجمعوه جمع السلامة.
وذِيدَ: نحّيَ، والمُجْرِبون: الذين جَرِبت إبلهم، والذود: القطعة من الإبل، وننتدي: نجلس في النادي، والقنيف زعموا أنه الطيلسان، ويقال استقنف المجلس إذا استدار. يقول: إنْ ترينا أيتها المرأة قليلاً عددنا، وتريْ الناس يتحاموننا ولا يقربوننا - كما أن الصِحاح لا تترك تتقرب إلى الجَرْبى - فإننا مع هذا لنا مجلس
يجلس فيه وجوه قومنا وأشرافهم، ويستديرون فيه، ولهم فيه كثرة. والفعم: الكثير، والرداح: الضخم، يقال: امرأة رداح إذا كانت ضخمة العجيزة، والكتيبة الرداح: الكثيرة الجيش.

الأصل في (بخ) و (علُ)
قال سيبويه في التصغير، تصغير ما كان على حرفين مما ذهبتْ لامه وذكر فيه أن التصغير يرد الكلمة إلى أصلها. استدلّ على أنَّ (بخْ) المخففة أصلها التشديد. واستشهد على هذا بقول العجاج - قلت أنا بيت العجاج -:
في حَسَبٍ بخٍّ وعزٍّ أقعسا

(2/246)


ثم قال: (فرده إلى أصله حيث اضطر) يريد أن الشاعر رد إلى أصله - وهو من المضاعف - كما ردّ شاعر آخر ما كان من باب الياء إلى أصله حيث اضطر.
قال غَيلان بن حُريث:
فهي تنوشُ الحوضَ نوْشاً من عَلا
نوْشاً به تقطعُ أجوازَ الفلا
تنحي إلى الجدول منها جدولا
منتفجَ السَّحْر وشدْقاً أهدَلا
الشاهد فيه أنه رد (علُ) إلى أصله، وهومستعمل محذوف اللام. و (هي) ضمير الإبل.
تنوشُ: تناول ماء الحوض نوشاً من فوق. يريد أنها عالية الأجسام طوال الأعناق، تحط أعناقها إلى الأرض إذا أرادت الشرب.
والجدول: النهر الصغير، وتنحي: تعتمد وتقصد إلى الجدول الذي

(2/247)


فيه الماء، بفمها الذي هومثل الجدول، فتأخذ جميع ما فيه بفمها. والسَّحْر: ملتقى طرف اللحيين عند الذقن، والمنتفجَ: العظيم، بالجيم المعجمة. يريد أن ذلك الموضع منها عظيم،
والأهدل: الواسع الجلد، ويقال للبعير إذا طال مشفره: هَدِل يَهْدَلُ هَدَلاً.
وقول سيبويه: (كما رد ما كان من بنات الياء إلى أصله حين اضطرَّ) يريد أنه يرد ما كانت لامه معتلة إلى أصله، وليس الغرض منه بنات الياء خاصة، ولا بنات الواو، وإنما يعني به المعتل. و (علُ) من بنات الواو، وهي من: علا يعلو.

جمع (قيس) على (أقياس)
قال سيبويه في باب جمع الرجال والنساء، قال زيد الخيل:
ألا أبلغِ الأقياسَ قيسَ بنَ نوْفلٍ ... وقيسَ بنَ أُهبانٍ وقيسَ بنَ جابرِ
فرُدّوا علينا ما بَقىَ من نسائنا ... وأبنائِنا، واستمتعوا بالأباعرِ
الشاهد فيه أنه جمع (قيساً) جمع التكسير في القلة. وقيس بنَ نوْفل وقيس بنَ أُهبان، وقيس بن جابر بدلُ من الأقياس، وهؤلاء كلهم من بني أسد.

(2/248)


وبَقىَ: بمعنى بقي، وهي لغة طيئ.
يقول: ردوا علينا نساءنا وأبنائنا، واستمتعوا بالإبل التي أخذتموها. والمعنى واضح.

جعل الجمع في موضع الواحد
قال سيبويه في التصغير، قال جرير:
قال العواذلُ ما لجهلكَ بعدما ... شاب المَفارقُ واكتسَيْنَ قتيرا
الشاهد فيه أنه كنى عن مفرِق رأسه بالمفارق، وجعل الجمع في موضع الواحد. والقتير: الشيب، وأراد بالجهل: الصِبا والغزل وطلب النساء. يعني أن العواذل منعنه من الغزل، ووعظنه وذكرنه وقلن له: إنّ مَن ابيضّ شعره قبح صباه وغزله.

جعل الكنية بمنزلة الاسم في حذف التنوين منها
قال سيبويه في التنوين، قال يزيد بن سنان بن أبي حارثة المرّيّ:
فلم أجبُنْ ولم أنكلْ ولكنْ ... يمَمْتُ بها أبا صخرِ بنِ عمرِو
فإنْ يبرأ فلم أنفثْ عليه ... وإنْ يهلكْ فذلك كان قدْري
الشاهد فيه أنه حذف التنوين من (صخر) وجعل الكنية مثل الاسم

(2/249)


في حذف التنوين منها.
يقول: ما جبنت حين طعنته، ولم أنكل: لم أعجز وأتأخر، ويَمَمتُ: قصدت مثل يَمَّمتُ، بها: الطعنة. وكان يزيد بن أبي سنان قتل أبا عمروبن صخر القينيّ وكان سيد بني القين، والذي في الكتاب (أبا صخر بن عمرو) والذي وجدته في الشعر: أبا عمر وبن صخر فإن يبرأ لا يكن برؤه بعلاجي ورُقيتي، لأني لو أردت بقاءه وعافيته لم أطعنه، وإن يهلك أي يمت، فذلك كان تقديري في الطعنة أن تقتله.

إدخال نون التوكيد الخفيفة على المضارع
قال سيبويه في النون الخفيفة، قال جذيمة الأبرش:
ربما أوْفيتُ في عَلمٍ ... ترفعنْ ثوبي شمالاتُ
في فتوأنا رابئهمْ ... من كلالِ غزوةٍ ماتوا
ليت شعْري ما أصابَهُمُ ... نحن أدْلجْنا وهم باتوا
الشاهد فيه أنه أدخل النون في (ترفع).
والعلم: الجبل، وشمالاتُ: جمع شمال، وأوْفيتُ: أشرفت، وأراد: أشرفت على علم. والفتوّ: جمع فتى. أنا رابئهمْ: أنا أنظر لهم، وأصعد على

(2/250)


موضع عال أرقب لهم وأنظر من يأتيهم، والكلال: التعب. والمعنى واضح.

منع (قريش) من الصرف حملاً على القبيلة
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف. قال عديُّ بن الرِقاع:
غلبَ المساميحَ الوليدُ سماحةً ... وكفى قريشَ المُعضِلاتِ وسادَها
الشاهد في البيت على أنه لم يصرف قريش وجعله اسم القبيلة.
والممدوح الوليد بن عبد الملك، والمساميح: جمع مسماح وهو الكثير السماحة.
والمعضلات: الأمور الشداد الواحدة معضلة. يريد أنه إذا نزلت بهم معضلة وأمر فيه شدة، قام بدفع ما يكرهون عنهم. والمعنى واضح.

في (مار جرجس) أضاف الاسم الأول إلى الثاني
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف. قال جرير:
لقِيْتمْ بالجزيرةِ آلَ قيسٍ ... فقلتمْ مارَ سَرْجِس لا قِتالا
الشاهد فيه أنه أضاف الاسم الأول إلى الثاني، إلا أن (سرجس) لا ينصرف، ففتحه وهو في موضع جر، وهذا على مذهب من أضاف (معدي) إلى (كرب).

(2/251)


وأراد: يا مارَ سَرْجِسَ، وحذف حرف النداء. وقوله (لا قِتالا) يحتمل معنيين:
أحدهما أن (قتالا) منصوب بـ (لا) وهو منفي.
والوجه الآخر أن يكون منصوباً بإضمار الفعل، كأنهم قالوا: لا نقاتل قتالاً.
وكانت تغلب تقاتل قيس عيلان، وبينهما وقائع منها وقعة بالجزيرة. ومار سرجس: قسّ كان لهم يحضر معهم الحرب، أو بعض رؤساء النصارى.

جمع (أب) على (أبين)
قال سيبويه: (وسألته عن (أب) فقال: إن ألحقت فيه النون والزيادة التي قبلها قلت: أبُون وكذلك أخُون، لا تغيّر البناء). يعني لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها، ولا تردّ إليه ما ذهب منه، إلا أن تسمع العرب تغير شيئاً منه. قال زياد بن
واصل:
فلما تبينَّ أصواتنا ... بكيْنَ وفدَيننا بالأبينا
الشاهد فيه أنه جمع الأب على (أبين).
يريد أنهن لما عرفن أصواتهم بكين إليهم، حتى يستنقذوهن، وفدّينهم، بآبائهنّ. ويروى:
فلما تبينَّ أشباحنا
جمع شبح.

من الصفات الممنوعة من الصرف (فعَل)
قال سيبويه في باب فعَل: (وأما الصفات فنحو قولك: هذا

(2/252)


رجل حطَم) وهو الذي يحطم كل شيء. قال الحطَم القيسيّ:
قد لفها الليلُ بسَوّاقٍ حطَمْ
كذا وجدته في الكتاب. وهذا البيت يُختلف في قائله، ووجدته لأبي زغيبة الأنصاري في شعر قاله يوم أُحُد:
أنا أبوزُغبَةَ أعدو بالهرِمْ
لن يَمنعَ المَخزاةَ إلا بالألمْ
يَحمي الذِمارَ خزرجيُّ من جُشمْ
قد لفها الليلُ بسَوّاقٍ حطَمْ

(أَيْمُن) همزته موصولة
قال سيبويه: (وزعم يونس أن ألف (اَيْم) موصولة وكذا تفعل بها العرب وفتحوا الألف كما فتحوا الألف في (اَلرجل) وكذلك (اَيْمُن). قال نُصيب بن الأسود، ونصيب هذا ليس بنصيب الأسود المرواني:
ظلِلتُ بذي دَوْرانَ أنشدُ بَكرَتي ... وما لي عليها من قلوصٍ ولا بَكرِ
وما أنشدُ الرُّعيانَ إلا تعلةً ... بواضحةِ الأنيابِ طيبةِ النشرِ

(2/253)


فقال ليَ الرعيانُ لم تلتبسْ بنا ... فقلت: بَلى قد كنتُ منها على ذُكْرِ
وقد ذ ُكِرَتْ لي بالكثبيِ مؤالفاً ... قِلاصَ سُليم أو قلاصَ بني وَبرِ
فقال فريقُ القومِ لما نشدْتهُمْ ... نعم، وفريق لا يْمنُ اللهِ ما ندري
الشاهد فيه على أنه جعل ألف (ايمن) موصولة.
ودَوران: موضع، وأنشد: أطلب بكرة ضاعت مني، والبَكرة في الإبل بمنزلة الفتاة في الناس. وقوله: ومالي عليها من قلوصٍ ولا بَكرِ، يعني: وما لي على الأرض من قلوص ولا بكر. وكان الذي يلتمس الغزل وحديث النساء والنظر إليهن، يطوف في الأحياء، ويظهر أنه ضاع له بعير، وأنه يدور يلتمسه حتى لا ينكر عليه طَوْفه.
وما أنشد الرعيان: أي ما أسألهم عن بكرتي إلا لأتعلل حتى يمكنني النظر إلى المرأة التي أهواها. وواضحةِ الأنياب: بيضاء الأنياب، والنشر: الريح، والرعيان: جمع راع، لم تلتبسْ بنا: لم تدخل في إبلنا. قد كنتُ منها على ذُكْر: أي قد ذكر أنها في الإبل.
والكثيب: موضع بعينه، مؤالفاً: قد آلفت أن تكون مع قلاص بن سليم أوبني وَبر. فقال فريق القوم: طائفة منهم، لما نشدتهم: أي سألتهم عنها. نعم: أي قد عرفنا صحة ما تقول، وهي في الموضع الذي ذكرته،

(2/254)


وقالت طائفة منهم: ما ندري، ما عندنا علم بما ذكرت. ويروى:
فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.

بناء (مع) على السكون - ضرورة
قال سيبويه: (وسألت الخليل عن (مَعَكم): و (معَ) لأي شيء نصبتها؟ فقال: لأنها استعملت غير مضاف إليها كـ (جميع) ووقعت نكرة، وذلك قولك: جاءا معاً وذهبا معاً، وقد ذهب معه ومن معَه).
يريد أنها أعربت، وهي ظرف مبهم، والظروف المبهمة تبنى، فزعم أنها إنما نصبت وأعربت لأنها قد استعملت مفردة ومضافة. فجعلوها كـ (أمام وقدّام) وما أشبههما من الظروف المعربة، ونظيرها (أيّهم) حين أعربت وهي مبهمة وهي أخت (مَن وما) وإنما أعربت لأنها تستعمل مضافة ومفردة، فصارت أقوى من أخواتها وأقرب إلى الأسماء المتمكنة، فأعربت.
ثم قال سيبويه: (قال الشاعر فجعلها كـ (هل) حين اضطر). قال جرير:
وريشي منكُم وهوايَ مَعْكُمْ ... وإنْ كانت زيارتكمْ لِماما

(2/255)


الشاهد فيه أنه اسكن العين، وجعلها مبنية على السكون كالظروف المبهمة، نحو (لدُن) وما أشبهها.
يمدح جرير بهذا الشعر هشامَ بن عبد الملك. وريشه: ما يستره ويحتاج إليه من لباس، ويمكنه به التصرف. وهواي معكم: أي أنا محب لكم ولمن أحبكم وإن كنت قليل الزيارة لكم. والإلمام: أن تزور وقتاً وتدع الزيارة أوقاتاً.
ويروى: (وهواي فيكم) وليس فيه شاهد على هذا.

إسكان الياء في حالة النصب - ضرورة
قال سيبويه: (وسألت الخليل عن الياءات، لِمَ لمْ تنصب في موضع النصب إذا كان الأول مضافاً، وذلك قولك: رأيت معديْ كربٍ، واحتملوا أياديْ سباً؟ فقال: شبهوا هذه الياءات بألف المثنى، حيث عرَّوْها من الرفع والجر).
يعني أنهم شبهوا هذه الياءات التي في (معدي كرب) و (قالي قلا) وما أشبهها لما
كانت تسكن في موضع الرفع والجر، ولا يدخلها حركة بألف مثنى. فلما كانت مثل الألف في وجهين من وجوه الإعراب - وهما الرفع والجر جعلوها مثلها في الوجه الثالث وهو النصب. ثم قال: (وقالت الشعراء حين اضطروا). يريد حين اضطروا إلى إسكان الياء في الأسماء التي ليست بمنزلة (معدي كرب) و (أياديْ سبا).

(2/256)


قال رؤبة:
سَوَّى مساحيْهِنَّ تقطيطَ الحققْ
تفليلُ ما قارعْنَ من سُمْرِ الطرَقْ
الشاهد فيه إسكان الياء من (مساحيْهِنَّ) وهو في موضع نصب لأنه مفعول (سَوَّى)، وفاعل (سَوَّى) تقليل.
وأراد بمساحيْهِنَّ: حوافر حُمُر الوحش، وجعل حوافرهن بمنزلة المساحي لأنهن يُثرن بها التراب، والتقطيط: تقليمها، والقط في الأصل: القطع. يعني أن الحجارة التي تعدو فيها قد قططتها كما يُقط القلم، يريد سوّت جوانبها وحروفها.
و (تقطيط) مصدر منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: قططتها تقطيطاً مثل تقطيط الحُقق، والحقق: جمع حُقة. يريد أن كل حافر من حوافرها مستدير مستو كأنه حقة، والتفليل: تفليل الحجارة الحوافرَ، تكسيرها من جوانبها، كأن الحجارة أخذت من جوانب الحوافر حتى استوت.
ويجوز أن تنصب (تقطيط) بسوّى. وهو من باب: تبسمتْ وميضَ البرق. ما قرعن: أي ما قارعنه بحوافرهن. والطرَق: ما تطارق من الحجارة بعضها على بعض.

تنوين العلم الموصوف بابن مضافة إلى علم -
ضرورة
قال سيبويه في حذف التنوين، قالت الفارعة بنت معاوية بن قشير القشيرية:

(2/257)


ستسأل أمُّ حَيْدةَ إذ أتتنا ... أتوفي أم معللةُ بعُذْرِ
هي ابنتكُمْ وأختكُمُ زعمتمْ ... لثعلبةَ بنِ منقذٍ بنِ جَسْرِ
في الكتاب: ابن نوفل، ووجدته: ابن منقذ.
والشاهد فيه على إثبات النون في (منقذ) وأنه اضطر إليه فأثبته.
يعني أتفي بوعدها أم تعللنا بعذر. يريد أنها تذكر لنا عذراً في تركها للوفاء. والمعنى واضح.

إبدال الهمزة ألفاً
قال سيبويه في الهمز، قال الفرزدق:
نزِع ابنُ بِشرٍ وابنُ عمرو قبلهُ ... وأخو هراةَ لمثلِها يتوقعُ
ومضتْ بمَسلمةَ البِغالُ عشيةً ... فأرْعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرتعُ
الشاهد في إبدال الهمزة في (لا هناكِ) ألفاً.
وابن بشر هو عبد الملك بن بشر بن مروان، عزل عن البصرة وكان

(2/258)


أميرَها وابن عمرو هو سعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم بن أبي العاصي، عزل عن الكوفة وسار مسلمة إلى الشام من العراق، وولي عُمر بن هبيرة الفزاري.
وقال بعض الرواة: هو محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة. وأخو هراة سعيد بن الحارث بن الحكم.

جمع (كعب) على (كِعاب) في الجمع الكثير
قال سيبويه في جمع الرجال والنساء، قال معوِّدُ الحُكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر.
رأبْتُ الصَّدْعَ من كعبٍ وكانوا ... من الشنآن قد صاروا كِعابا
الشاهد فيه أنه جمع (كعباً) على (كِعاب) في الجمع الكثير، وأنه أجرى أسماء الرجال مُجرى غيرها في التكسير.
وسبب هذا الشعر أن لطيمة للنعمان بن المنذر - وهي عِير كان يبعثها كل سنة فيها طرف العراق والمسك والزعفران - أُغير عليها، وكانت تدفع في كل أرض إلى سيد من سادات الموضع الذي تمر فيه حتى يجيزها، ثم تدفع إلى رئيس آخر. وكان من جملة هؤلاء القوم الذين يجيزون اللطيمة هبيرة بن سلمة القشيري، فيجيزها هبيرة من قبائل بني كعب.
وكعب: هو كعب بن ربيعة بن كلاب، فأجازها سنة، فاجتمعت عليها بنوعقيل.
وعقيل وقشير والحَريش وجعدة، وعبد الله وحبيب الحرشي كلهم من ولد كعب.
فجمعت

(2/259)


بنوقشير ومن انضم إليهم من ولد كعب، واجتمعت بنو عقيل ومن انضم إليهم من قبائل كعب، وأشرفوا على الحرب، فركب إليهم معاوية بن مالك وهم متواقفون - وقد خشي أن يتفانوا - فسألهم أن يكفوا حتى يأتيهم، فقصد النعمانَ فحملها لهم مضعّفة ثم أتاهم فأخبرهم، فانصرفوا عن القتال.
ورأبت: أصلحتُ، الشنآن: البُغض، قد صاروا كِعابا: قد تفرقوا واختلفوا وصاروا كأنهم ليسوا بني أب، وكانوا قبل ذاك يداً واحدة.

عدم صرف (ثماني) لتوهم أنه جمع على
(مفاعل)
قال سيبويه في ما ينصرف وما لا ينصرف، قال ابن ميادة:
وكأنّ أحْبُلَ رَحلِها وحبالها ... عُلقنَ فوقَ قويرحٍ شَحّاج
يحدو ثمانيَ مولعاً بلِقاحِها ... حتى هممْنَ بزَيْغةِ الإرتاج
الشاهد فيه أنه لم يصرف (ثماني).
وصف ناقة، وذكر أن الحبال التي شدت برحلها كأنها شدت على حمار وحش قارح. شبه ناقته في سرعتها بحمار وحش. وقويرح: الذي قرح عن قرب، ولم يرد أنه صغير الجسم ولا ضعيف القوة. والشَحّاج: المصوِّت، والشحيج صوته، يحدو ثمانيَ أُنن: يسوقها ويجمعها، مولعاً بلِقاحِها: بأن يركبها حتى تحمل، واللقاح حملها، والزيغة: الزوال، والإرتاج: إغلاق الرحم على ماء الفحل. يريد أنه كان يلزمها حتى حملت

(2/260)


فهمَّت أن تزيغ عنه، أي لا تدعه يركبها. والأنثى - من غير بني آدم - إذا حملت منعت الفحل.

بناء (مناعِ) على الكسر
قال سيبويه في باب ما ينصرف وما لا ينصرف. قال راجز من بكر بن وائل:
مناعِها من إبلٍ مناعِها
أما ترى الموتَ لدى أرباعِها
ويروى (على أرياعها).
كانت تميم جمعت لبكر بن وائل، والتقوا في يومٍ يقال له يوم الزُّوَيْرين فهزَمت بكر بن وائل تميماً، وأخذوا نَعَماً كثيراً، فقال راجزهم هذا الرجز. والأرباع: جمع رُبَع وهو ولد الناقة. يعني أنهم يقتتلون في آثار الإبل في الموضع الذي يتبعها فيه رِباعها.

بناء (بدادِ) على الكسر
قال سيبويه: في ما ينصرف وما لا ينصرف، قال عوف بن عطية:
هلاّ كررْتَ على ابنِ أمِك مَعْبدٍ ... والعامريُّ يقودُهُ بصِفادِ
وذكرتَ من لبنِ المحلقِ شرْبةً ... والخيلُ تعدوبالصَّعيد بَدادِ

(2/261)


الشاهد فيه أنه بنى (بدادِ) على الكسر.
يخاطب عوفُ بهذا الشعر لقيط َ بن زرارة الدارميّ، كان أخوه معبَد بن زرارة أسرته بنوعامر في يوم رَحْرَحان، وفر عنه لقيط، فعيّر عوف لقيطاً بتركه أخاه. والعامري: يريد الذي أسر معبداً، والصِفاد: ما شده به، والمحلق: نعَم سِمَته على هيئة الحَلق، والصعيد: وجه الأرض، و (بدادِ) في موضع مصدر معرفة مؤنث، فكأنه في موضع البُدّة وهي في موضع الحال وإن كان معرفة. وهومن نحو: أرسلها العراكَ، وفعلته أجهدَك وطاقتك.

منع صرف (حاميم) اسماً للسورة حملاً على
العجمة
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف: (وأما (حاميم) فلا ينصرف، جعلته اسماً للسورة أو أضفت إليه، لأنهم أنزلوه بمنزلة اسم أعجمي نحو: قابيل وهابيل).
يعني جعلته اسماً للسورة: أي جعلت (حاميم) اسماً لها، كما جعلت هوداً ويوسف وغيرهما أسماءً للسور، فصنعت بها ما تصنع بامرأة سميتها باسمٍ من هذه الأسماء.
والإضافة أن تدع الاسم على ما يستحقه من الإعراب قبل أن تضيف إليه، وتقدّر أنك أضفت السورة إليه فتقول: هذه هودُ فتصرف، لأنك قدّرت: هذه سورة هودٍ، وكذا الفعل في جميع السور.
قال سيبويه: حاميم أعجمي معرفة، فإن جعلته اسماً لسورة لم

(2/262)


ينصرف، لأنه لو كان عربياً - وعلى هذه العِدة وسميتَ به مؤنثاً - لم تصرفه، فكيف تكون حال الأعجمي؟ وإن قدّرت الإضافة لم تصرف، كما كان لا ينصرف قبل أن تضيف إليه.
قال الكميت:
وجدْنا لكم في آلِ حاميمَ آيةً ... تأَوَّلها منا تقيُّ ومُعْرِبُ
يخاطب أهل بيت النبي صلى الله عليهم ورضي عنهم، يقول: وجدنا لكم آية في القرآن في (آل حاميم) توجب علينا لكم المحبة والود، وهي قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودةَ في القربى) والمُعْرِب: المُبين لما يتكلم به الموضِح لما في نفسه.
يقول: التقي، والذي يتأوّل تأويلاً صحيحاً، يعلم ما أوجب الله عز وجل لكم من المودة والمحبة. وقال رؤبة:
كما رأيتَ في الكتاب الجيما
والقافَ تتلو أسْطراً والميما
أو كتباً بُيِّنَّ من حاميما
بحيثُ ناصَى المَدفعُ النظيما

(2/263)


وفي الكتاب بعد إنشاده:
أو كتباً بُيِّنَّ من حاميما
قد علمتْ أبناءُ إبراهيما
وموضع هذا البيت في القصيدة ببعد من موضع البيت الذي أنشد قبله.
شبه آثار ديارٍ - قد درس أكثرها - بحروف باقية في كتاب دارس، فذكر الجيم والقاف والميم، وذكر كتباً فيها حاميم. وناصى: اتصل، والمدفع: مدفع الماء يريد مَسيل الماء، والنظيم: المتصل بما بعده. ويقال لما يصل بين شيئين نظيم.

حذف نون الوقاية
قال سيبويه في النون الخفيفة والثقيلة، ذكر سيبويه حذف إحدى النونات في قولهم (لتفعلنّ) إذا أراد الجمع، لأنه اجتمعت فيه ثلاث نونات، فحذفوا استثقالاً، ونون
الرفع هي المحذوفة. ثم قال: (وقد حذفوها فيما هوأشد من ذا. بلغتنا أن بعض القراء قرأ: أتحاجّوني بنون واحدة وكان يقرأ: فبم تبشرونِ وهي قراءة أهل المدينة وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف).
يريد أنهم استثقلوا الجمع بين النون التي هي علامة الرفع وبين النون التي تكون مع ضمير المتكلم، فحذفوا إحداهما، والمحذوفة التي تكون مع الياء، لأن النون الأولى علامة، والثانية ليست بعلامة. فإن قال قائل: فالنون التي هي علامة مبنية على الفتح، والنون التي مع

(2/264)


ياء المتكلم مكسورة، وهذه النون الباقية مكسورة، فينبغي أن نجعلها النون التي تستعمل مكسورة، ولا نجعلها النون التي هي مبنية على الفتح ثم كسرت لمّا حذفت النون التي مع الياء.
قيل له: لا يُنكر أن تكسر النون التي هي علامة إذا وقعت بعدها الياء، وقد رأيناهم فعلوا مثل هذا في قولهم (ليتي) حين اضطروا، فكسروا تاء (ليت) وهي مبنية على الفتح. وقال عمروبن معد يكرب:
تقولُ حليلتي لما رأتهُ ... شَريجاً بين مُبْيَضٍّ وجَوْنِ
تراهُ كالثغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يسوءُ الفالياتِ إذا فليْني
الشاهد فيه أنه حذف إحدى النونين، والمحذوفة التي مع الياء، والأولى لا يجوز حذفها لأنها ضمير الفاعلات، والفاعل لا يجوز حذفه. وهذا يبين لك أن النون الثانية هي المحذوفة، فيما ذكرته قبل هذا البيت.
والشريج الذي فيه لونان: سواد وبياض، والجون: الأسود، وقوله: لما رأنه: يريد رأت شعر رأسه، والثغام: نبت إذا أخذ في الجفوف أبيض، واختلط بياضه بخضرته فيُشبه الشيب به.