شرح أبيات سيبويه

جمع (سماء) على (سمائي) فعائل
قال سيبويه في باب ما ينصرف وما لا ينصرف، قال أميه بن أبي الصلت:
وإنْ يكُ شيءُ خالِداً أومعمَّراً ... تأمَّلْ تَجدْ من فوقه اللهَ عاليا

(2/265)


له ما رأتْ عينُ البصيرِ وفوقه ... سماءُ الإله فوق سِتِّ سمائيا
الشاهد فيه أنه جمع (سماء) على (سمائي) على فعائل، وكان ينبغي أن يقول (سمايا) وذلك أن الهمزة الواقعة بعد ألف الجمع عارضة، وقد وقع بعدها حرف علة. وإذا كان الأمر على هذا وجب أن نقلب حرف العلة الذي في آخر الجمع ألفاً، وإذا قلب ألفاً صارت الهمزة بين ألفين، فوجب أن تنقلب ياءً، وعلة هذا مشروحة في التصريف.
وهذا الجمع هوجمع كثير، فاضطر الشاعر إلى أنه لم يقلب هذه الياء ألفاً، واضطر إلى فتح هذه الياء المكسور ما قبلها في موضع الجر، وجعلها بمنزلة الأسماء الصحاح. ولم يقل (سماءٍ) مثل: جوارٍ وغواشٍ. والشاهد على هذا المعنى.
وفي البيت ضرورة غير ما ذكرنا، ولسنا نحتاج إلى ذكرها في هذا الموضع. و (تجدْ) جواب الشرط و (تأملْ) أمر وقع اعتراضاً بين الشرط

(2/266)


وجوابه، كأنه قال: تأملْ ما أقول لك، و (تجدْ) بمعنى (تعلمْ). وقوله: (له ما رأت عين البصير) يريد أن له تعالى ما رأته عين البصير بين الأرض والسماء الدنيا، وله السماء السابعة التي هي فوق ست سماوات.
والضمير المضاف إليه (فوق) يعود إلى (ما)، يريد: وله فوق ما رأته عين البصير. و (سماء الإله) مبتدأ وخبره. وفي الكتاب، وجميع الكتب التي يستشهد فيها بهذا البيت:
سماء الإله فوق سبع سمائيا
وفي شعره: فوق سِتِّ سمائيا. والذي في شعره ظاهر، لأنه يريد به: السماء السابعة، وتحتها ست سماوات. ووجه رواية الكتاب، أنه يريد بسماء الإله: العرش، والسماوات السبع تحته.

إبدال الهمزة ياء - ضرورة
قال سيبويه في الهمز، قال عبد الرحمن بن حسان:
فأمّا ذِكرُكَ الخلفاَء منكمْ ... فهمْ منعوا وريدَك من وِداجي
ولولاهمْ لكنتَ كعظمِ حوتٍ ... هوىَ في مظلمِ الغمَراتِ داجي
وكنتَ أذلَّ من وتدٍ بقاع ... يشججُ رأسَه بالفهْرِ واجي
يهجو عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي ويقول له: ذكرتَ

(2/267)


أن الخلفاء منكم - يعني من قريش - ولولا أن الخلفاء منكم لودجتك في حلقك، والوريد: عرق في العنق، وودجتك: قطعت وِداجه، ولولا الخلفاء لكنت كعظم سمكة وقع في البحر لا يُشعَر به.
والغمرات: جمع غمرة وهي قطع الماء التي بعضها فوق بعض، والداجي: الأسود، والقاع: أرض حرّة طيبة الطين مستوية، والواجي أصله الواجئ، وهو الذي يدقّ، يقال: وجأتُ عنقه دققتها.

بناء (دراكِ) على الكسر
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف، قال طفيل بن يزيد المعقلي، حين أغارت كندة على نَعَمِه فلحقهم وهو يقول:
(دراكِها من إبلٍ دراكِها)
أما ترى الموتَ لَدَى أوراكِها
ويروى:
قد لحق الموت على أوراكِها
وحمل على فحل الإبل فعقره، فاستدارت النعم حوله، ولحقت به بنوالحارث بن كعب فاستنفذوا ماله، وهربت كندة.

إدخال النون الخفيفة في غير موضعها -
ضرورة
قال سيبويه في النون الخفيفة والثقيلة. قال النجاشيّ:
فيا راكباً إمّا عرضْتَ فبلغنْ ... بني عامرٍ عني لديك ابنَ صعصعا

(2/268)


(نَبَتم نبات الخيزُراني في الثَرَى ... حديثاً متى ما يُدْرِكِ الخيرَ ينفعا)
نبتمْ نباتَ العَفْلِ لؤماً ودِقةً ... يُنال ويُعلى بالمواسي فيُجْدَعا
الشاهد في إدخاله النون الخفيفة في الفعل الذي هوجواب الشرط.
يهجو بني عامر بن صعصعة. وقوله: نبات الخيزراني يريد به الخيزران. وأدخل عليه ياء في النسب. يعني أن الخيزران لا يعلو ولا يسمو ويرتفع، إنما هو يسير ويمتد في الأرض. يعني أنهم لا يعلون ولا يُذكرون بشيء من المفاخر.
وقوله: حديثاً أي عن قرب. يريد أنهم ليس لهم قديم. متى ما يدرك الخير ينفعا، يقول: إذا أدرك الخير انتفع به.

بناء (نظارِ) على الكسر
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف، قال العجاج:
أُتيحَ مَسْحولُ مع الصّبّارِ
مَلالةَ المأسورِ للإسارِ
يُفني جميع الليلِ بالتزفارِ
(نظارِ كي أركبَهُ نظارِ)

(2/269)


الشاهد في (نظارِ) وهومبني، ووقع في موقع: انظري، وهو بمعنى (انتظري) ومسحول: اسم جمل العجاج. وأتيح: قدِّر عليه أن يكون مع الإبل التي صبرت فلم
ترحل. ويجوز عندي أن يكون أراد به: قدِّر أن يكون مع الإبل التي تديم السير وتصبر عليه. وقوله: مَلالةَ المأسور (ملالةَ) ينتصب بإضمار: ملَّ ما هوفيه مثلَ ملالة المأسور للشد والاستيثاق منه.
والتزفار: التنفس لألم يجده المتنفس، ويُفني عبرات الشوق بالإدرار؛ يريد: يفني دموعه بالبكاء واللفظ للجَمل والمعنى له. ونظارِ كي أركبه: الهاء تعود إلى مسحول، وهوجمله.

إظهار التضعيف - ضرورة
قال سيبويه في التضعيف، قال العجاج:
فكم حَسَرْنا من عَلاةٍ عَنْسَلِ
حَرْفٍ كقوسِ الشوْحَطِ المعطلِ
لا تحفِلُ السَّوْطَ ولا قولاً حَلي
(تشكو الوَجَى من أظللٍ وأظللِ)
الشاهد فيه أنه اضطر إلى إظهار التضعيف في (أظلٍّ).
والأظلِّ: باطن خف البعير وهوما يصيب الأرض منه، والعَلاة: الناقة الصلبة، والعنسل: السريعة، وحسرناها: أتعبناها حتى أعيت، والحرف: الصلبة التي كأنها حرف جبل، وقيل: الحرف التي ذهبت لحمها،

(2/270)


والشوحط: شجر معروف وشبهها بقوس من القسي التي تعمل من الشوحط. يعني أنه قد اعوجَّت وضمر بطنها فبقيت كأنها قوس معمولة من خشب الشوحط.
والمعطل: الذي قد أُخذ منه الوتر وترك، لا تحفِلُ السَّوْط: أي لا تسرع إذا ضربتها بالسوط لأنها قد أعيت ولم يبق عندها بقية من العدوتخرجها إذا أُفزعت، ولا تحفل: لا تبالي به و (حَلِ): زجر من زجر الإبل. يقول: هي لا تبالي بضرب السوط، ولا بزاجر. والوَجَى: أن يرق جلد خفها وينشق ويخرج منه الدم. من
أظللٍ وأظلل: أراد من أظلٍّ يدِها ومن أظلٍّ رجلها.

جرِ ياء المنقوص بالفتحة - ضرورة
قال سيبويه فيما ينصرف وما لا ينصرف، قال الفرزدق:
(فلو كان عبدُ الله مولى هجوته ... ولكنّ عبدَ الله مولى مواليا)
الشاهد في البيت أنه فتح الياء من (موالي) في موضع الجر، واضطر إلى فتحها وجعلها كالحروف الصحاح.
والمولى: الحليف الذي انضم إلى قوم ليعِزّ بعزِّهم، ويمنتع ممن ظلمه بنصرهم ودفعهم عنه. والذين ينضم إليهم الحلفاء هم يكونون أعزّ وأشرف ممن ينضم إليهم، لأنهم إنما انضموا إليهم لقوتهم وعزتهم، والحليف دون الذي انضم إليه، وإنْ حالف محالفُ الحليفَ صار مولى مولىً، فهو دون الحليف الأول.
وعبد الله بن أبي إسحق الحضرمي هو مولى الحضرمي، وبنو الحضرمي حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف، فهو مولى مولىً.

(2/271)


وسبب هذا الهجاء أن ابن أبي إسحق عاب شيئاً من شعر الفرزدق، فهجاه، وله معه قصة مشهورة. يقول: أنا لا أهجوه لأنه مولى مولىً، فأنا أرفع نفسي عنه.

في تنوين العلم
قال سيبويه في تنوين أسماء الأعلام. قال الأغلب العجلي:
(جاريةُ من قيسٍ بنِ ثعلبَهْ)
قبّاءُ ذاتُ سُرَّةٍ مُقعَّبَهْ
ممكورةُ الأعلى رَداحُ الحَجَبَهْ
كأنها حِليةً سيفٍ مُذْهبَهْ
الشاهد في إثبات تنوين (قيس) وتحريكه لالتقاء الساكنين.
وقيس بن ثعلبة بن عُكابة قبيلة عظيمة، والقباء: التي ضمر بطنها، والمقبعة: السّرّة التي قد دخلت في البطن وغمضت، فَعَلا ما حولها، فصار موضعها كأنه قعب.
والممكورة: المطوية الخلق. وأراد بالأعلى بطنها وما يليه، والرَّداح الثقيلة الضخمة، والحَجَبة: رأس الوَرِك. أراد أن عجيزتها ثقيلة ضخمة، كأنها حلية سيف في بريقها وحسنها.

توكيد جواب القسم بالنون لتقدمه على الشرط
قال سيبويه في النون الخفيفة، قالت ليلى الأخيلية:
(تُساورُ سَوّاراً إلى المجد والعُلا ... وفي ذِمتي لئن فعلتَ لَيفعلا)

(2/272)


الشاهد فيه إدخال النون الخفيفة في جواب القسم، وهو قوله (ليفعلا).
ويروى:
وأقسم حقاً إنْ فعلتَ ليَفعلا
وسوّار هوسوّار القشيري، وكان يهاجي النابغة الجعديّ، فقال النابغة: لسوّار شيئاً أغضب ليلى، فهجت النابغة. وقولها تساور: تفاخر وتعاظم، والمساورة: المواثبة، أي تفاخر سواراً وتفاضله، ولئن فعلت ليفعلا: ليفاخرنك ويغلبنك. ويروى:
تنافر سواراً
تريد أنّ مناقب سوّار وقومه ومفاخرهم كثيرة لا تقعد بهم، ولا يخشون - إنْ فاخرتهم - أن تفضل عليهم. وقولها: وفي ذمتي أي في ذمتي القيام بما أدّعيه لسوّار، وما أضمنه من مفاخرتك ومغالبتك.
وليست (في) معلقة بالشرط ولا بجوابه، إنما هي في موضع خبر ابتداء محذوف.

بناء (يسارِ) على الكسر معدولاً عن الميسرة
قال سيبويه فيما لا ينصرف قال حميد بن ثور:
(فقلت امكثي حتى يسارِ لعلنا ... نحجُّ معاً، قالت أعاماً وقابِلهْ!)
الشاهد فيه أن (يسارِ) مصدر بمعنى الميسرة، والبيت في شعره مرفوع وإنشاده:
فقلت امكثي حتى يسارِ لعلنا ... نحجُّ معاً قالت أعاماً وقابلهْ؟

(2/273)


لقد طال ما أكببتُ تحتَ بجادِكمْ ... وما كَسَرَتني كلَّ عام مَغازِلهْ
وأول القصيدة:
وقالت أغِثنا يا بنَ ثور ألا ترى ... إلى النجْدِ تُحدَى نوقه وجمائلهْ
كانت امرأته سألته أن يتركها حتى تمضي إلى الحج، فقال لها: اصبري حتى يصير لي يسارُ وأنفق عليك، ولعلي أخرج أنا وأنت. فقالت له: أعام، تقديره: أوقت حجنا عامُنا هذا وقابِله؟ وقولها: أعام وقابلهْ؛ تريد أن الاستعداد للحج، والخروج إلى مكة، والرجوع، يكون في بعض سنتين، فيكون الاشتغال بأسباب الحج وبالحج، يكون بعض شهور السنة التي هي فيها، وبعض شهور السنة التي بعدها. وهذا التأويل أحب إليّ من أن أجعل الواوفي معنى (أو) وتكون أرادت أن تقول: أعام أوقابله.
وقولها: لقد طال ما أكببتُ تحتَ بجادِكمْ، تريد: لقد طال ما أكببتُ على المغزل. والبجاد: بَت يُعمل من الصوف. تريد أنها لزمت القعود في البيت مكبة على المغزل. وما كسرتني المغازل: تريد أنها قوية، وما أضعفها كثرة غزلها.

تأنيث حرفي الكاف والميم
قال سيبويه قال سيبويه فيما لا ينصرف، قال الراعي:

(2/274)


(أشاقتكَ آياتُ أبانَ قديمُها ... كما بُيِّنتْ كافُ تلوحُ وميمُها)
الشاهد فيه أنه أنث الكاف والميم.
وأبانَ قديمُها: بمعنى تبيّن واستبان، ويقال بان الشيءُ وأبان وبيّن وتبيّن واستبان بمعنى واحد. ويروى: (كما تبيَّنتْ كافُ) بفتح الباء والياء.
شبه ما بان من آثار الديار. التي ذهب أهلها منها - بالحروف المكتوبة. وهذا معنى يتداوله الشعراء وهوواضح.

تذكير (حي) وصرفه
قال سيبويه فيما لا ينصرف، قال الراعي:

(2/275)


فأما مُصاب الغاديات فإننا ... على الهَوْلِ راعوه ولوأن نُقارِعا
(بِحَيٍّ نمَيريٍّ عليه مَهابةُ ... جميعٍ إذا كان اللئامُ جنادعا)
الشاهد فيه أنه ذكر الحي ووصفه بـ (نميري).
والغاديات: السحاب التي تمطر غدوة، ومصابها: مواقع مطرها، وراعوه: يعني أنهم يرعون العشب الذي ينبت بالواضع التي يقع فيها الغيث أين كان من الأرض، والهول: الفزع. يقول: إذا فزعوا أن يردوا مكاناً فيه عشب - خوفاً أن يغار عليهم - فإننا نرعاه ولو أن نقارع، أي ولو أن نقاتل حتى نغلب عليه.
وجميع: مجتمِع الشأن، أمره واحد لا يخالف بعضهم بعضاً. والجنادع: جمع الجُندُع وفسروا الجنادع بالأوائل. وأظن أنهم يعنون الأوائل في الهرب. ويجوز عندي أن يعني بالجنادع الأقلاّء، والجنادع: دوابّ صغار تكون في جِحَرة الضِباب واليرابيع وما أشبهها إذا حفرت الجحرة خرجت. المعنى أنهم يكونون بمنزلة الجنادع في الذِلة. ويقال في الشر: ظهرت جنادعه، إذا ظهرت أوائله.

إسكان الياء في حالة النصب - ضرورة
قال سيبويه فيما لا ينصرف، قال الحطيئة:
(يا دارَ هندٍ عفتْ إلا أثافيها ... بين الطوِيِّ فصاراتٍ فواديها)

(2/276)


الشاهد في إسكان الياء من (أثا فيها) وهي منصوبة.
والأثافيّ: الحجارة التي تنصب عليها القِدر، والطويّ وصارات: مواضع. يعني أنه درستْ معالمها فلم يبق منها إلا الأثافي.

الاقتصار على ذكر حرف من جملة الكلام
قال سيبويه في باب ما لا ينصرف. وأنشد:
(بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرّاً فا)
(ولا أريد الشرَّ إلا أنْ تا)
بألف بعد الفاء في البيت الأول، وألف بعد تاء في البيت الثاني. والشاهد فيه أنه اقتصر على ذكر حرف من جملة الكلام، وذكر الحرف يدل على بقية الكلمة، وتكون الألف للمد تابعة لفتحة الفاء وفتحة التاء.
وأراد بالخير خيراتٍ وإنْ شرّاً فشر، فذكر الفاء وحدها ومدّها، ولا أريد الشر إلا أنْ تشائي أيتها المرأة، فذكر التاء وحدها، ثم أتبعها الألف.
وعلى هذا الوجه يكون حرف الروي مختلفاً: يكون في البيت الأول فاء، وفي البيت الثاني تاء، ويكون الشعر من السريع من الضرب الأخير منه (مفعولن). وهذا الشعر يروى لنعيم بن أوس، من ربيعة بن مالك. قال:
إنْ شِئْت أشرَفْنا كِلانا فَدَعا
اللهَ جَهراً رَبَّه فأسْمَعا

(2/277)


بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرّاً فأاْ
ولا أريد الشرَّ إلا أنْ تأَاْ
وعلى هذا الإنشاد يكون الشعر من مشطور الرجز، ويكون بعد الفاء همزة مفتوحة يتبعها ألف، وكذلك بعد التاء، ويكون البيتان المتقدمان روبّهما العين، والبيتان المتأخران رويّهما الهمزة.
ووجه هذا الإنشاد، أنه زاد ألفاً بعد فتحة الفاء والتاء ثم همَزَها. وقيل إنه أراد: وإنْ شراً فالشر وأثبت الهمزة التي تكون مع اللام للتعريف وهي مفتوحة، وأتبعها الفاء وجعل ما بعد التاء مثل ذلك - وإن لم يكن بعدها ألف - حتى يستقيم الشعر.
وقوله: بالخير خيراتٍ متصل بفعل كأنه قال: دَعا وسأل أن يُجزى - مَن فعل منه ومن امرأته - بفعل الخير خيراتٍ، وإن فعل شراً فشراً يُجزى.

إدخال النون الخفيفة على فعل الدعاء
قال سيبويه في النون الخفيفة، قال عبد الله بن رواحة الأنصاري:
واللهِ لولا اللهُ ما اهْتدَيْنا
ولا تصدَقنا ولا صليْنا
(فأنِزلنْ سَكينةً علينا)
وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقيْنا
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد هذه الأبيات وهو يحفر الخندق.
والشاهد فيه أنه أدخل النون الخفيفة على فعل الدعاء.

(2/278)


والسكينة: ما يجعله الله عز وجل في قلوبهم من الطمأنينة وسكون النفس والثبات إذا لقوا عدوهم، وأنهم إذا لحقتهم المكاره في الدنيا أعطاهم الله أعواض ما يلحقهم في الجنة ما هوأعود عليهم من جميع ملاذ الدنيا ومنافعها.

حكاية الجملة دون إعمال الفعل في لفظها
قال سيبويه فيما لا ينصرف، قال بِشر:
(وجدْنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ الخيلِ بالركضِ المُعارُ)
ويروى هذا البيت للطرماح.
والشاهد فيه أنه حكى الجملة ولم يُعمل (وجدنا) في لفظها. و (أحقُّ الخيل) مبتدأ،
و (المعار) خبره، والجملة في موضع نصب بـ (وجدنا).
ويحتمل (وجدنا) وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى علمنا، وتكون الجملة في موضع المفعول الأول، و (في كتاب بني تميم) المفعول الثاني. والوجه الآخر أن يكون (وجدنا) بمعنى أصبنا، كأنه قال: وجدنا في كتاب بني تميم هذا الكلام، كما تقول: أصبت في كتاب بني تميم هذا اللفظ.
والمُعار: الذي أعاره صاحبه، والركض: تحريك الفارس الفرسَ برجله

(2/279)


ليجدّ في عدوه. ومعنى قوله: (أحقُّ الخيلِ بالركضِ المُعارُ) أي أحقُّ الخيل بالركوب والركض والاستعمال الخيلُ التي استعيرت من أصحابها، حتى يُودِع المستعيرون خيولهم بركوب الخيل المستعارة. وهو نحو قولهم في العَليقة والجَنيبة: إنهما الناقة يرسلها الرجل مع القوم ليمتاروا له عليها، فيُودِعون ركابهم ويحملون بعض ما معهم عليها، ومَن أعيا منهم ركبها، فهي تلقَى شدة.
ومثله قول الراجز:
أرسلها عَليقةٍ وقد عَلِمْ
أنّ العَليقاتِ يُلاقيِنَ الرَّقِمْ
وقال الآخر:
رِكابه في القوم كالجنائبِ
ومثله:
. . . . . ... ومن لذةِ الدنيا رُكوبُ العلائقِ
يهجوهم بهذا، أي هم يتغنمون عارية الخيل، ويسألون الناس أن يعيروهم ليرفهوا خيلهم. والكرام من شأنهم أن يحيلوا خيلهم، أي يعطوها لمن يغزو عليها وينتفع بها ليُشكروا.

إثبات الياء في (قريشي) على القياس
قال سيبويه في النسب قال الشاعر:

(2/280)


(بكل قرَيْشيٍّ عليه مهابةُ ... سريع إلى داعي الندى والتكرُّمِ)
الشاهد فيه أنه أثبت الياء في (قريشي) وهو القياس عند سيبويه.
والمهابة: الهيبة، وداعي الندى: الذي يدعو إلى فعل السخاء والجود، والتكرم: إظهار الكرم. يريد أنهم يسرعون إذا دعاهم داعي الجود والكرم. والمعنى واضح.

عدم صرف (معدّ) حملاً على القبيلة
قال سيبويه فيما لا ينصرف. قال الشاعر:
(عَلِم القبائلُ من معدَ وغيرِها ... أنَّ الجواد محمدُ بنُ عُطارِدِ)
الشاهد فيه أنه لم يصرف (معد) وجعله اسماً للقبيلة.
ومحمد بن عطارد بن محمد بن عطارد بن حاجب بن زُرارة الدارميّ وكان سيداً وآباؤه سادات، والمعنى واضح.

جعل (الجنوب) اسماً للريح
قال سيبويه فيه أيضاً. قال الشاعر
حالت وحيل بها وغيَّر آيَها ... صَرْفُ البِلى تجري به الرِيحانِ

(2/281)


(ريحُ الجَنوبِ مع الشَّمالِ وتارةً ... رِهَمُ الربيعٍ وصائب التهتانِ)
الشاهد فيه أنه أضاف (ريحُ الجَنوب) وجعل (الجَنوب) اسماً لهذه الريح التي تجيء من يمين الكعبة.
و (الريحان) رفع بـ (تجري) و (ريحُ الجَنوب) بدل من (الريحان). فإن قال قائل: البدل ينبغي أن يكون مثل المبدل منه في العدد، ولا يكون ناقصاً عنه، وأنت إذا جعلت (ريح الجَنوب) بدلاً من (الريحان) ولم تأت ببدل آخر، نقصت
العِدّة. ومثله قولك: مررت برجلين زيدٍ، وهذا لا يحسن حتى تقول: زيدٍ وعمرو، فإن نقصت العدة رفعت على خبر ابتداء محذوف فتقول: مررت برجلين زيدُ. أي أحدهما زيد.
قيل له: إن قوله: (ريحُ الجَنوبِ مع الشَّمال) في تقدير: ريحُ الجَنوب وريحُ الشمال ولم يمكنه أن يقول: وريح الشمال فقال: مع الشمال.
ولو قال قائل: إن (ريح الجَنوب) مرفوعة على خبر ابتداء محذوف - كأنه قال: إحداهما ريح الجنوب - لكان وجهاً، وهوضعيف في المعنى، والأول أحب إليّ. وفي (حالت) ضمير يعود إلى الدار، يريد أن الدار حالت عما كانت عليه - من العمارة، وحلولِ أهلها بها، وآثارهم الحسنة فيها - فدرست معالُمها وانمحت آثارها.
وحيل بها: أي غيّرت، يعني أن مرَّ الزمان يُحيلها ويغيرها.

(2/282)


والآي: جمع آية وهي العلامة من العلامات التي يعرف بها المكان، وصرف البلى: تصرفه وعمله في إبطال الشيء وإهلاكه، و (تجري) في موضع الحال من (الصرف)، والعامل في موضع الحال (غيَّر) والرِهَم: جمع رِهْمَة وهي المطْرة.
والتهتان: المطر الشديد وقعِ القطر، والصائب: النازل من السحاب، يقال منه صاب يصوب. وقوله: (وتارةً رِهَمُ الربيع) يقول: مرة تمحو آثارَ الديار الرياحُ، وتارة الأمطارُ، فقد درست لتعاقب أسباب الدروس عليها.

(يا) للنداء أوللتنبيه
قال سيبويه وأما (يا) فتنبيه، ألا تراها في النداء وفي الأمر، كأنك تنبه المأمور. قال الشماخ:
(ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنجالِ ... وقبل منايا قد حضرْنَ وآجالِ)
وقبل اختلافِ القوم من بين سالبٍ ... وآخرَ مسلوبٍ هَوَى بين أبطالِ
الشاهد في البيت الأول على أنه أدخل (يا) على فعل الأمر.
سنجال اسم موضع بناحية أذربيجان، أواسم رجل كان في ذلك الموضع.
ورثى الشماخ في هذه القصيدة رجلاً من بني ليث بن عبد مناة بن

(2/283)


كنانة أصيب بأذربيجان، وكان مع سعيد بن العاصي، أومع الأشعث ابن قيس الكندي، ولم يُرد: اسقياني قبل مقتل هذا الرجل، وإنما أراد: اسقياني قبل أن أُقتل كما قتل هذا الرجل.

جمع (ساعة) على (ساع)
قال سيبويه: (راحُ وراحةُ وراحات، وشامُ وشامةُ وشامات). قال القَطامي:
ثبتنا ما مِنَ الحيَّينِ إلا ... يظلُّ ترَى لكوكبه شعاعا
(وكنا كالحريق أصاب غاباً ... فيخبوساعةً ويهب ساعا)
وقال سيبويه بعد البيت: (فقال: ساعةُ وساعُ).
الشاهد في البيت الثاني على أنه جمع (ساعاً) واقعاً على جميع الساعات، وجعله مما بينه وبين واحدِه الهاء؛ مثل الأسماء التي تقدم ذكرها في الباب.
أراد القطامي وصف حرب كانت بين قومه بني تغلب، وبين قيس بن عيلان. وقوله (ثبتنا) يريد ثبت كل واحد من الحيين لصاحبه، وقوله: (ما من الحيين) يريد: ما حيُّ من الحيين. و (من الحيين) وصف لـ (حي) وحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الله تعالى: (وإنْ من أهل الكتاب إلا ليُؤمِننَّ به) محذوف. وكوكب الكتيبة: معظمها، وفي (يظل) ضمير يعود إلى (الحي) المحذوف، وما

(2/284)


بعده خبره. والغاب: جمع غابة وهي الأجمة. يريد أن بريق السيوف وارتفاعها - إذا حمل بعضهم على بعض - بمنزلة ارتفاع النار في الأجمة. ويجوز أن يعني أن أصوات وقع سيوفهم بمنزلة صوت التهاب النار في الحطب، ويجوز أن يعني حفيفهم إذا حمل بعضهم على بعض. وقوله يخبو:
يسكن.

جعل الاتباع مصدر (تتبّع)
قال سيبويه: (وزعموا أنّ في قراءة ابن مسعود: (وأُنزل الملائكةُ تنزيلا) لأن معنى انزل ونُزّل واحد). وقال الفطاميّ:
(وخيرُ الأمر ما استقبلتَ منه ... وليس بأن تتبَّعَه اتباعا)
الشاهد فيه على أنه أتى (بالاتباع) الذي هو مصدر (اتبع) فجعله في موضع (التتبّع) الذي هو مصدر (تتبَّع).
يقول: خير الأمور ما فكرتَ فيه ونظرت وشاورت قبل فعله، فلم تفعله إلا بعد إحكام الرأي، فإن ركبتَ أمراً ففعلت من غير تأمل ومشاورة، ثم رأيت منه ما تكره، لم يمكنك أن تتلافى ما فرّطت فيه، ولم ينفعك ندمك على أنك فعلته.

(2/285)


جعل (المقيل) في موضع (القيلولة)
قال سيبويه: (وقالوا المعصية والمعرفة كقولهم المعجِزة). يريد أن (المَفعِلة) قد جاءت في المصادر. وذكر قبلُ أنه قد يأتي في المصادر من هذا النحو الوجهان، قالوا: مَعذَرَة ومَعذِرَة، ومعتبة ومعتبة. قال: (وربما استغنوا (بمفعِلة) عن غيرها، وذلك قولك: المشِيئة والمحْمِيَة).
يريد أنهم يستعملونها في المصدر والاسم بالكسر، ولم يستعملوا فيها الفتح في المصدر، كأنهم جعلوا الكسر الذي يكون للاسم مستعملاً في المصدر، واستغنوا به عن الفتح. وقال الراعي:
(بُنِيَتْ مرافقهُنّ فوق مَزِلةٍ ... لا يستطيعُ بها القرادُ مَقيلا)
وصف إبلاً بالسِّمَن وملاسة الجلد، وأن مرافقها لم تحُزَّ في جلودها. يقول: موضع المرفق من كل واحد منها ليس به ناكث ولا حاز ولا ضاغط، وجميع هذا مما
يؤثر حدّ مرفقها في جنبها، فإذا أصاب جنبَها شيء من ذلك، اجتمع جلدها وتكسر وتغضّن، فصار فيه موضع للقراد لتكسُّره وتثنّيه.
فإذا املاس لم يستطع القراد أن يثبت عليه، ولا يجد موضعاً يقيل فيه، إنما يجد شيئاً أملس يزلّ عنه.
ومثله لكعب بن زهير:

(2/286)


يمشي القرادُ عليها ثم يُزلِقه ... منها ليانُ وأقرابُ زَهاليلُ
الشاهد في البيت أنه جعل المَقبل في موضع القيلولة.

في معنى (بل)
قال سيبويه: (وأما (بل) فلترك شيء من الكلام وأخذٍ في غيره). قال لبيد:
(بل مَن يَرى البرقَ بِتُّ أرقبُه ... يُزْجي حَبيّاً إذا خبا ثقبا)
الحبيّ من السحاب: ما ارتفع وعلا، ويقال: حبا الرمل إذا أشرف، ويزجي: يسوق، إذا خبا: سكن لمعانه، وثقب: اتقد. يريد أنه يتقد البرق. وقوله: بِتُّ أرقبُه، يريد أنه بات ينظر أنىّ يمطر سحابُه، وجعل البرق يسوق السحاب، وإنما الريح تزجي السحاب الذي البرق فيه، فيجعل الفعلَ له.

جمع (سعد) علماً على (فعول) في الكثرة
قال سيبويه قال طرفة:
(رأيتُ سُعوداً من شعوبٍ كثيرةٍ ... فلم أر سعداً مثلَ سعدِ بنِ مالكِ)

(2/287)


الشاهد في البيت أنه جمع (سعداً) اسم رجل على (فعول) في الكثرة فقال: رأيت سُعوداً.
يقول: لم أر فيمن يسمى (سعداً) أكرمَ من سعد بن مالك، وهو سعد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل.
والشعوب: جمع شعب، وهو أكبر من القبيلة.