شرح أبيات سيبويه

حذف ياء المتكلم تشبيهاً بياء (القاضي)
قال سيبويه في باب: (ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف، التي لا تذهب في الوصل).
يريد الياءات التي تقع في آخر الكلام، في المواضع التي لا يدخلها التنوين، مثل ياء (غلامي وصاحبي وأكرمني وأعطاني) بحذف الياء من (غلامي) في الوقف، وهي اسم المتكلم، وتحذف النون والياء - التي هي ضمير المتكلم - في النصب، وفي كل موضع تقع الياء فيه وحدها أوالياء والنون.
ومثل ذلك سيبويه بقولك: (هذا غلامْ، وأنت تريد (غلامي) وقد أسقانْ، تريد (أسقاني). وقال النابغة الذبياني:
(إذا حاوْلتَ في أسدٍ فجوراً ... فإني لستُ منك ولستَ مِنْ)
همُ دِرعي التي استلأمْتُ فيها ... إلى يومِ النِّسار وهم مِجَنّْ
(وهمْ وردوا الجِفارَ على تميمٍ ... وهمْ أصحابُ يومِ عكاظَ، إنْ)

(2/288)


شهِدتُ لهم مواطنَ صالحاتٍ ... أثبْنهُمُ بِودِّ الصَدرِ مِنْ
المخاطب بهذا الشعر عُيينة بن حِصن الفزاري، والذي حَمَل النابغة على مخاطبته بذلك، أنه أراد أن يقطع الحلف الذي بين بني أسد وبني ذبيان، لأن بني أسد قتلوا رجلين من بني عبس، ولم يحب النابغة قطع الحلف، فقال هذه القصيدة.
والفجور أراد به نقض ما بين عيينة وبين بني أسد من الأمان والحلف. وقوله: لستُ منك أي لا أدخل معك في قطع الحلف الذي بينك وبينهم، ولا أتابعك عليه، والنسار: موضع كانت فيه وقعة بين غطفان وبني أسد وبين بني تميم.
واللأمة: الدرع، واستلأ مْتُ: لبست اللأمة، والمجن: الترس، والجِفار: موضع أيضاً. يقول: بنوأسد لبني ذبيان بمنزلة الدرع والترس للمحارب، يقونهم بأنفسهم،
وهذه الأفعال التي فعلوها أثبتت لهم في صدري وداً لا يزول.

مد الصوت في قافية الشعر
قال سيبويه في باب: (وجوه القوافي في الإنشاد): (وأما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواوما ينوَّن وما لا ينون، لأنهم أرادوا مدّ الصوت. وذلك قولهم):

(2/289)


(قفا نبكِ من ذكرَى حبيبٍ ومنزلي) ... . . . . .
أمر صاحبيه بأن يقفا عليه وينتظراه لمّا مر بالدار التي كان من يهواه فيها، حتى يبكيَ على فقده، فيخف ما به من الحزن لفرقته. و (نبك) مجزوم جواب الأمر، أراد من أجل ذكرى حبيب.
والشاهد في البيت أنه مد آخره، وألحق بعد كسرة اللام ياء لمد الصوت والترنم.
وأنشد سيبويه بعد هذا بيتاً في قصيدة امرئ القيس، ويروى لابن الطثْرية:
(فبِتنا تصدُّ الوحشُ عنا كأننا ... قتيلان لم يعلمْ لنا الناسُ مصرعا)
الشاهد فيه إدخال الألف في آخر البيت لمد الصوت.
والمعنى أنه بات مع المرأة التي كان يهواها، في موضع بعيد من الحي يكون فيه الوحش، فكانت الوحش تنفر منهما، وتصد عن قرب الموضع

(2/290)


الذي هما فيه. وشبّه نفسه وإياها - وهما نائمان - بقتيلين لم يعرف موضعهما، لأنه بات معها في موضع لا يعرفه أحد من الناس غيرهما.
قال سيبويه: (واعلم أن المجزوم والساكن يقعان في القوافي، ولولم يفعوا ذلك لضاق عليهم، ولكنهم توسعوا بذلك فإذا وقع واحد منهما في القافية حُرِك).
يريد أنه يحرك بالكسر كما تحرِك لالتقاء الساكنين، ثم ساق كلامه في هذا المعنى إلى أن أنشد بيت امرئ القيس:
(أغرَّكِ مني أنَّ حبكِ قاتلي ... وأنكِ مهما تأمري القلبَ يفعلِ)
يقول لهذه المرأة: أغرَّك - حتى اجترأتِ على تعذيبي وهجري ومخالفتي - أنك
تعلمين شدة محبتي لك، وأنك تعتقدين أني أموت إن هجرتني، وأن قلبي لا يطاوعني على أن أصرمك، وأقطع ما بيني وبينك، وأنك تأمرين قلبك بما تحبين فينقاد لك.
يريد أنه إذا أرادت هجره طاوعها قلبها وصبرت عنه، وإذا أراد هجرها لم يطاوعه قلبه، فقلبها ينقاد لها، وقلبه لا ينقاد له. و (يفعل) مجزوم لأنه جواب الشرط، ولكن حرّكه بالكسر لأجل القافية. والشاهد عليه.
وقال طرفة:

(2/291)


(متى تأتِني أصْبَحْكَ كأساً رويَّةً ... وإنْ كنتَ عنها غانياً فاغنَ وازْدَدِ)
الشاهد في هذا مثل الشاهد في البيت المتقدم.
والصَّبوح: شرب الغداة، والكأس: الإناء المملوء شراباً، والروية: المُرْوية، والغاني المستغني. يقول: إن كنت محتاجاً إلى الشرب سقيتك، وإن كنت مستغنياً فاغن، ويقال غنيَ يَغنَى فهوغانٍ، في معنى استغنى يستغني فهو مستغن.
وقوله: فاغن فيه معنى الدعاء، كما تقول: اسلمْ. (وازدد) معطوف عليه وهو مبني على سكون، ولكنه احتاج إلى تحريكه فكسره.

جعل (علِ) بمنزلة فوق
قال سيبويه في باب عِدّة ما يكون عليه الكلم: (و (عَلُ) معناه الإتيان من فوق. قال امرؤ القيس):
(مِكَرٍ مِفرٍ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً ... كجلمود صخرٍ حطهُ السيلُ من عَلِ)
الشاهد فيه على أن (علِ) بمنزلة (فوق) كأنه قال: حطهُ السيلُ من فوق.

(2/292)


وصف فرساً، وذكر أنه يصلح للكر إذا أراد فارسه أن يكُر، وللفر إذا أراد فارسه أن يفِر، ويصلح للإقبال والإدبار إذا أريد منه شيء منهما. وقوله (معاً) أي هو في كل حال من أحواله يصلح لكل فن أخذ من هذه الأشياء، التي وصف أنه
فعلها.
والجلمود: الصخرة والحجر، وزعموا أن الصخرة إذا كانت في أعلى الجبل، كانت أصلب من الصخرة التي تكون في أسفله، فأراد أن هذا الفرس صلب كصلابة هذه الصخرة. ويجوز أن يريد أنه أملس الجلد لاكتناز لحمه، وصلابة جسمه، فكأنه بمنزلة الصخرة الملساء. ويجوز أن يريد أنه في سرعته يهوي في عدوه كما تهوي الصخرة من رأس الجبل، أراد أنه يسرع في العدو كإسراع هذه الصخرة من النزول من الجبل.

ورود صيغة (فيعِل) للمذكر والمؤنث
قال سيبويه في باب: تكسير ما كان من الصفات على أربعة أحرف: (وقد جاء شيء من (فَيْعِل) في المذكر والمؤنث سواء، قال الله جل وعز (وأحيينا به بلدةً مَيْتا) وقالوا: ناقة ريِّض. وقال الراعي):
(وكأنّ ريِّضَها إذا ياسَرْتها ... كانت معاوِدةَ الرحيلِ ذَلولا)

(2/293)


الريِّض: الناقة التي لم تَمْهَر الرياضة، أي لم تتعلم المشي، هي في أول أمرها وتعليمها، وياسَرْتها: من اليُسر، يريد لم تشادّها، والذلول: المنقادة.
وصف إبلاً، وذكر إن التي هي في أول رياضتها منها، بمنزلة التي قد فرغ من رياضتها وذلت وطاوعت وانقادت، فهي بمنزلة ناقة قد شُد عليها الرحل، ورُكبت مرة بعد مرة، وعُودت ذلك، فهي لا تُتعب راكبها. وصف كرم هذه الإبل.

تسكين المتحرك للضرورة
قال سيبويه قال الأخطل:
(إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا ... وإنْ شِهْدَ أجْدَى فضلُه ونوافلُهُ)
يمدح بذلك بشر بن مروان بن الحكم، يقول: غيبته عنا وبعده كغيبة الماء الفرات
عنا. يعني أن حاجتهم إليه كحاجتهم إلى الماء الفرات، وإنْ حضر أجدى فضله، أي أغناهم بما يتفضل به عليهم، ونوافله: زياداته في العطاء الذي يعطيه.
ويروى:
إذا غاب عنا غاب عناربيعُنا
أي هوبمنزلة الربيع الذي يحيا به الناس.
ويروى:
أجدى فيضُه وجداولهْ
يريد ما يفيض من عطائه، والجداول: الأنهار. شبه اتصال جوده وذهابه في كل وجه بالأنهار التي تتشعب فتذهب في كل وجه.

(2/294)


تشبيه الكاف بالهاء (من أحلامِكِم)
قال سيبويه في باب ما تُكسر فيه الهاء من علامات الإضمار:
(وقال أناس من بكر بن وائل: (من أحلامِكِمْ) و (بِكِمْ) شبهها بالهاء لأنها عَلم إضمار قد وقعت بعد الكسرة، فأتبع الكسرةَ الكسرةَ حيث كانت حرفَ إضمار، وكان أخف عليهم من أن يضم بعد أن يُكسر. وهذه لغة رديئة جداً، وسمعنا أهل هذه اللغة ينشدون للحطيئة):
(وإن قال مولاهمْ - على جُلِّ حادثٍ ... من الدهر: رُدّوا فضلَ أحلامِكِمْ رَدّوا)
يمدح بني لأي بن شماس، ومولاهم: ابن عمهم وحليفهم، وجل الشيء: معظمه. يقول: هؤلاء القوم إذا جنى ابن عمهم - أو حليفهم أوجارهم عليهم وخشي عقابهم - سألهم أن يحملوا عنه فأجابوه. ورُدّوا فضلَ أحلامِكِمْ: أي ردوا على جنايتي حلمكم الواسع، فإن أحلامكم واسعة لغفران ذنوب من جنى عليكم.

تقييد القافية بحذف الضمير عند الوقف
قال سيبويه في باب القوافي، قال ضرار بن الأزور الأسدي:
(وأعلمُ علمَ الحق أنْ قد غوَيْتمُ ... بني أسدٍ، فاستأخروا أو تقدمُ)

(2/295)


بني أسدٍ قد ساءني ما صنعتمُ ... وليس لقوم حاربوا الله مَحْرَمْ
الشاهد فيه أنه حذف الواوالتي هي وصل - وهي ضمير - حين وقف.
والذي عندي في معناه: أن ضراراً قرّع قومه على ما صنعوا في أمر الردة، وكان ضرار في جملة جيش خالد بن الوليد حين نهض لقتال أهل الردة. يقول: من خالف ما أمره الله عز وجل به، لم يَحْرُم دمه وماله، ولم يكن له حرمة في شيء من أمره.

حذف الياء من آخر الفواصل والقوافي عند
الوقف
قال سيبويه في باب ما يحذف في أواخر الأسماء في الوقف من الياءات:
(وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يُختار فيه أن لا يُحذف في الفواصل والقوافي، فالفواصل قول الله تعالى: (والليلِ إذا يَسْرْ) و (ذلك ما كنا نَبْغْ) و (يوم التنادْ) والأسماء أجدر أن تحذف، إذ كان الحذف فيها في غير الفواصل والقوافي).
أراد سيبويه أن الفواصل والقوافي، يُحذف فيها من الياءات ما لا يحذف في غير الفواصل والقوافي، وذلك أن ما فيه الياء من الأفعال نحو (يرمي

(2/296)


ويقضي) لا تحذف منه الياء إلا في آخر آية أو في آخر بيت، فهذا الذي لا يحذف في الكلام. وما يُختار فيه أن لا يحذف هو ما فيه الألف واللام من هذه الأسماء التي في أواخرها الياء نحو (الرامي والغازي) وما أشبههما، لا تحذف منها الياء إلا في
آخر آية أوفي آخر بيت.
وقوله: (والأسماء أجدر أن تحذف، إذ كان الحذف فيها في غير الفواصل والقوافي).
يقول: الأسماء التي فيها الألف واللام أجدر أن تحذف من أواخرها الياءات، إذ كانت الياءات فيها قد تحذف قبل دخول الألف واللام عليها في الوقف، في غير الفواصل والقوافي. نحو (هذا قاض، ومررت برام) والفعل المعتل من هذا الباب، ليس له مكان تحذف فيه الياء في غير الفواصل والقوافي، فكان حذف الياء مما فيه الألف واللام أحسن من حذفها من الفعل.
وقال زهير:
(وأراكَ تفري ما خلقتَ وبعضُ ... القومِ يخلقُ ثم لا يَفرْ)
ويروى: ولأنت تفري.
الخلق في هذا الموضع: التقدير للشيء قبل أن يُقطع، وقد يكون الفرْيُ القطعَ، وزعموا أن الفري هوالقطع على جهة الإصلاح، والإفراء: القطع على اي وجه كان.
يمدح بذلك هرم بن سنان المُرّيّ، يقول له: أنت إذا قدرت أن

(2/297)


تصنع أمراً اوهممت به، مضيت ولم تتوقف، لجرأتك وشجاعتك وجودة رأيك، ولم يحبسك عنه جبن ولا هيبة.
وفي كلام الحجاج لأهل العراق وتوعّده لهم: (إني لا أهُمّ إلا مضيت، ولا أخلُق إلا فريت). يريد أنه إذا قدّر امراً، مضى له، ولم يحبسه عن فعله عجز ولا هيبة.
ومثله قول الآخر:
ماضٍ على الهَمِّ مقدامُ الوغَى بطلُ
والشاهد في البيت حذف الياء من (يفري) لأجل القافية.

حذف ياء المتكلم مع الكسرة قبلها - ضرورة
قال سيبويه في: ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف. ثم أنشد للأعشى من قصيدة بيتين متباعدين، وجمع بينهما في الإنشاد لأجل أن في آخر كل واحد منهما شاهداً على ما ذكر من الحذف. قال الأعشى:
وما إنْ أرى الموتَ في صَرْفِهِ ... يغادرُ من شارخٍ أويَفنْ
(فهل يمنعني ارتيادي البلادَ ... من حَذَرِ الموتِ أنْ يأتِيَنْ)
الشارخ: الصغير السن الحدث، واليفن: الكبير، ويغادر: يترك. يقول: الموت لا يترك أحداً لا صغيراً ولا كبيراً. وصرفه: تصرفه وتقلبه، وارتياده: ذهابه ومجيئه وطوفه في البلاد، يقال منه: راد يرود إذا ذهب وجاء، وارتاد يرتاد.
يقول: هل يمنعني تطوّفي في البلاد،

(2/298)


وتنقلي من موضع إلى موضع من حذر الموت، أن يأتيني الموت؟ أخرجه مُخرج الاستفهام، وما كان من ألفاظ الاستفهام في تقرير وتوبيخ، فإنما يأتي بألف الاستفهام، وقد استعمله الأعشى بـ (هل)، و (أن يأتيني) منصوب مفعول (يمنعني).
يقول: هل يمنع مني الموتَ أن ينزل بي - طوفي في البلاد. ثم قال:
تيممُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مَهْمَةٍ ذي شزَنْ
(ومن شانئٍ كاسفٍ وجهُهُ ... إذا ما انتسبْتُ له أنكَرَنْ)
يمدح قيس بن معد يكرب الكندي، تيمم: تقصد. وفي (تيمم) ضمير
يعود إلى راحلته، وكم دونه: يريدكم دون بلاده من مهمه، والمهمه: الأرض القفر البعيدة الأطراف، والشزن: الغلظ من الأرض، يقال أرض شزنة إذا كانت صعبة المسلك، والشانئُ: المبغض، يقال منه شنأ يشنأ، والكاسف: المتغير العابس، يقال كَسَف وجهُه يكسِف.
وقوله: إذا ما انتسبت له أنكرنْ، للعداوة التي بينهما.

(2/299)


وأراد الأعشى بما وصفه أن يعدد على قيس ما لقي من الأهوال والشدائد في طريقه حتى وصل إليه.
والشاهد في حذف ياء المتكلم والكسرة التي قبلها في (أنكرنْ) وفي (يأتينْ).

إثبات الواوفي الروي المضموم
قال سيبويه: في باب القوافي: (وقال في الرفع للأعشى:
(هريرةَ ودِّعْها وإنْ لام لائمو ... غداةَ غدٍ أم أنت للبَيْن واجمو)
يريد أنهم وقفوا على آخر البيت بواوثابتة في اللفظ، فهذا ما وقفوا عليه بحرف مد مما كان منوناً في الكلام.
و (هريرة) منصوب بإضمار فعل تفسيره هذا الظاهر، ولم يجز أن يكون نصبه بالظاهر لاشتغال الظاهر بالعمل في ضميرها، واختير فيها النصب بإضمار فعل، لأن معنى الكلام الأمر، والأمر لا يكون إلا بفعل، فاختير في الجملة التي هي أمر أن يكون فعل الأمر مبدوءاً به في اللفظ.
وإنْ تأخر واشتغل بضمير الاسم المتقدم، قُدر فعل مثله في أول الكلام، نحو

(2/300)


قولك: اضرب زيداً، وزيداً اضربه. تريد: اضرب زيداً اضربه.
والواجم: الحزين الساكت، يريد انه شغله حزنه بفراقها حتى بقي واجماً متحيراً، لا يمكنه أن يودعها لما قد اصابه. و (أم) في هذا الموضع فيها معنى الإضراب. كأنه قال: بل أنت للبين واجم.
وقال جرير فيما لا ينون:
(أقِلي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابا)
أراد: يا عاذلةُ فرخم. يقول: أقلّي لومي يا عاذلةُ، ودعيني وتأملي ما أفعله فإذا كنتُ مصيباً فصوّبيني، ولا تعذُلي على شيء ما عرفتِهِ ولا تبينتِه، حتى تَخْبُري فتقولي ما تقولينه على علم.
وقال جرير:
(متى كان الخيامُ بذي طلوح! ... سُقيتِ الغيثَ أيتها الخيامُو)
طُلوح موضع في بلاد بني يربوع، والخيام: شبه البيوت تُعمل من الشجر وإنما كانوا يعملونها إذا ارتبعوا، فإذا انقضى ربيعهم، وعادت كل

(2/301)


قبيلة إلى دارها وموضعها تركوا الخيام كما هي، فإذا مرّ بمرتبعهم راكب قد رآهم فيه - وقد كان رأى فيهم من يهواه، فإذا اجتاز بالموضع الذي ارتبعوا فيه بعد رحيلهم، ورأى الخيام وآثارهم - تذكرهم وحنّ إلى لقائهم. فلهذا تُذكر الخيامُ في المواضع التي كان فيها الناس وارتحلوا عنها.
وأخبرنا أبو بكر بن مِقْسَم قال: اخبرنا أبوالعباس ثعلب قال: قال لي يعقوب: قال لي ابن الكلبي: بيوت العرب ستة: قبة من آدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وأقنة من حجَر.
وقوله: سُقيتِ الغيث: المعنى أنه دعا لها أن يُمطر الموضع الذي هي فيه حتى يخرج نباته، فإذا صار فيه نبت نزله الناس في وقت الربيع.
والشاهد فيه إثبات الواو في آخره في الوقف.
قال سيبويه: (وأما ناس كثير من بني تميم، فإنهم يبدلون مكان المدة النون
فيما ينون وما لا ينون لمّا لم يريدوا الترنم، أبدلوا مكان المَدة نوناً ولفظوا بتمام البناء وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد). قال العجاج:
ما هاجَ أحزاناً وشجْواً قد شَجَنْ؟
(من طللٍ كالأتحميِّ أنهجَنْ)

(2/302)


(ما) استفهام يعني: أي شيء هاج عليّ حزني؟ والشجو: الحزن. يقال: شجاني يشجوني شجواً إذا أحزنني، والطلل: كل شخص من آثار الديار، و (من طلل) في صلة (هاج)، والأتحميّ: ضرب من البرود فيه سواد وحمرة، وأنهج: أخلق.
(كالأتحميِّ) وصف للطلل، و (أنهج) يصلح أن يكون في موضع الحال بمعنى (مُنهِجاً).
فإن قال قائل: الفعل الماضي عند سيبويه لا يكون حالاً، وأبو الحسن يجعله في موضع الحال؟ قيل له: إذا دخل الفعل الماضي (قد) صلح أن يكون للحال، لأن (قد) يكون للتوقع، فإذا قيل: قد كان كذا. . . فهو إخبار عن وقوع الشيء الذي كان يتوقع في الوقت الذي يليه الوقت الذي هو حال، وقد تحذف (قد) من الفعل وهي تراد.
ويجوز أن يكون (أنهج) وصفاً للطلل، يريد أن الطلل أنهج كما ينهج الثوب. يقول: أي شيء هاج عليّ حزني حين نظرت إلى الطلل؟ وهو استفهام في معنى التعجب من نظره إلى هذا الطلل.
وقال العجاج:
(يا صاحِ ما هاجَ العيونَ الذُّرَّفنْ)
من طللٍ أمسى تخالُ المُصْحَفنْ

(2/303)


رسومَه والمُذهَبَ المزخرَفنْ
الذُّرَّف: جمع ذارفة، وهي التي يذرف دمعها يسيل، ولم يرد أن الطلل هاج العيون التي تبكي ويسيل دمعها، وإنما يريد أن الطلل هاج العيون التي كانت غير باكية فبكت، وإنما صارت ذُرفاً لهَيْج الطلل، فعبر عنها بما صارت إليه حالها.
ومثله:
والسبُّ تخريقُ الأديمِ الألخَنِ
أراد أن السب تخريق الصحيح الذي إذا سُب يصير ألخَن.
ومثله للعجاج:
والشوقُ شاج للعيون الحُذَّلِ
الحُذَّلِ: التي قد فسدت، وإنما شجاها وهي عيون صِحاح، فبكت فحَذلَت. و (المصحف) المفعول الأول، و (رسومته) المفعول الثاني، والمذهب: الجلد الذي عليه ذهب، أو اللوح أو ما أشبه ذلك، والمزخرف: المزين. شبه آثار الديار بمصحف وبجلد منقوش مذهب.

حال الواو والياء في الوقف - روياً أو وصلاً
قال سيبويه: (وزعم الخليل أن ياء (يقضي) وواو (يغزو) إذا كانت واحدة منهما حرفَ الروي لم تحذف، لأنها ليست بوصل

(2/304)


حينئذ، وهي حرف روي، كما أن القاف في قوله - يريد قول رؤبة -:
(وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترَقْ)

حرف روي
فكما لا تحذف هذه القاف، لا تحذف واحدة منهما.
يريد أن الياء والواو، إنما يحذفان في الوقف - في أواخر الأبيات - إذا كانتا وصلاً، فإن كانتا روياً لم يجز حذفهما في الوقف، وجرتا مجرى الحروف الصحاح نحو القاف في (المخترق) وغير ذلك.
والسبب في ثباتهما في مثل هذا - وأنه لا يجوز حذفهما - أنهما إذا كانتا روياً، فما قبلهما من الحروف مختلف، فإن أسقطتهما في الوقف اختلف أواخر البيت في القصيدة، فصار آخر كل بيت في القصيدة يخالف ما قبله وما بعده. ومن ذلك قول الشاعر:
حلأها عن شربها من الطوي
كلُّ غليظِ الرُّكْنِ مضبوحُ شَقِي
لكنْ ربيعُ قد سقاها بِسَقي
قوْلي لها حَرِ وإن عِشْتِ حَرِي

(2/305)


لو حذف الياء في هذا وأشباهه في الوقف، لصارت أواخر الأبيات مختلفة تخرج عن حد الشعر. والقاتم: هو الأغبر، أراد: ورب بلد قاتم الأعماق، والأعماق: جمع عمق وهو البعد، ويقال: بلد عميق ومتعيق أي بعيد، والخاوي: الخالي، والمخترق: الموضع الذي يُمَرّ فيه. يريد أن الطرق في هذا الموضع خالية، لأنها لا تُسلك.
قال سيبويه: (وإذا ثبتت التي بمنزلة التنوين في القوافي) يريد أن الألف التي تبدل من التنوين في المنصوب، تثبت في الوقف في القوافي) (لم تكن التي هي لام أسوأ حالاً).
يريد أن الألف التي هي من حروف الكلمة، لا يجوز حذفها في القوافي إذا وقفتَ، كقولك: مولى ويَخشى وملهى. . . وما أشبه ذلك، يقول: إذا كانوا لا يحذفون الألف - التي هي بدل من التنوين في المنصوب - لم يحذفوا الألف التي هي من نفس الكلمة، ثم قال: (ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول:
لم يعلم لنا الناس مصرعْ
في الوقف (فتحذف الألف لأن هذا لا يكون في الكلام، فهو في

(2/306)


القوافي لا يكون). ثم مضى في كلامه حتى انتهى إلى أن أنشد لرؤبة:
(داينْتُ أروَى والديونُ تقْضَى)
فمَطلَتْ بعضاً وأدَتْ بعضا
وقال بعده: (فكما لا تحذف ألف (بعضا) لا تحذف ألف (تقضى).
الشاهد فيه أنه جعل الألف التي هي من الكلمة، بمنزلة الألف التي هي بدل من التنوين. وقال: فكما لا تحذف التي هي بدل من التنوين، كذلك لا تحذف التي هي الكلمة.
وأروى: امرأة، وقوله: داينت أروى، يريد أنه أسلفها محبة ووفاء يوجبان عليها
المكافأة له ومجازاته، فلم تجازه على جميع ما فعله، فمطلت بعضه وامتنعت من دفعه إليه، وهو يطالبها به، وأعطته بعض ما كان التمس منها.

جواز تسكين الروي الموصول بمد
قال سيبويه: (وأما الثالث: فأن يُجروا القوافي مجراها

(2/307)


لو كانت في الكلام ولم تكن قوافي شعر، جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا وتركوا المَدة، لعلمهم أنها في أصل البناء) يريد في أصل بناء البيت، وأن وزنه لا يتم إلا بحرف المد. قال: (وسمعناهم يقولون:
أقليّ عاذلَ والعتابْ ... . . . . .
وقف على الباء ولم يتبعها ألفاً. وقال الأخطل:
(دَعِ المغمَّرَ لا تسألْ بمصرعه ... واسألْ بمصقلةَ البكريِّ ما فَعَلْ)
يمدح الأخطل مَصقلة بن هبيرة الشيباني. والمغمر: الضعيف الرأي الذي لم يجرب الأمور، وقيل: إنه عرّض في قوله: المغمَّر بالقعقاع بن شَوْر الذهلي، وقيل: إنه عرّض بمالك بن مسمع. وقوله: لا تسأل بمصرعه، أي لا تسأل عن مصرعه، واسأل عن خبر مصقلة وحاله، فإنه أهل لأن يُعنى بالمسألة عنه.

(2/308)


جمع (فَعْل) على (أفعال) على غير القياس
قال سيبويه في باب الجمع المكسّر: (والقياس في (فَعْل) ما ذكرنا، وأما ما سوى ذلك فلا يُعلم إلا بالسمع، ثم تَطلُب النظائر كما أنك تطلب نظائر الأفعال هاهنا).
يريد أن الجمع (فعْل) في القلة (أفعُل) وفي الكثرة (فعول وفِعال) وذكر غير ذلك مما جاء جمع (فعْل) عليه. فإن جاء له شيء خارج عن القياس حملْت على نظيره مما جاء خارجاً عن القياس. ثم قال:
(فتجعل نظير الأزناد قول الشاعر) قال الأعشى:
(إذا روَّحَ الراعي اللقاحَ مُغرِباً ... وراحتْ على آنافها غبَراتها)
أهَنا لها أموالنا عند حقها ... وعزَّتْ بها أعراضُنا لا نفاتها
جعل سيبويه نظير (الأزناد) في الخروج عن القياس: الآناف. والقياس فيهما: أزْند وآنف. ويروى: (على آفاقها غبراتها).
والمغرِب: الذي يرعى متباعداً عن الحي. يريد أن المغرب يروح إلى الحي ولا يقيم بمكانه، لأنه يخشى على الإبل من شدة البرد لأنها مهازيل،

(2/309)


والمهازيل يخشى عليها أن يؤذيها البرد.
والضمير في (آنافها) يعود إلى اللقاح. ومَن روى (آفاقها) أراد آفاق السماء، ولم يجر للسماء ذكر، لأنه معلوم انه يراد به ضمير السماء. ويروى (معجِّلاً) مكان (مغرِباً)، يراد به أنه يعجِّل رواحها. والغَبَرات: جمع غَبّرة، والضمير المضاف إليه (الغبرات) يراد به الأرض.
يريد أنه راحت الإبل وعلى آنافها غبرات الأرض، وغنما جعل لها غبرات لأنها مجدبة لم تمطر بعد. ولو كانت مُطرت ما بان لها غبرة.
مدح الأعشى بذلك قومه. يقول: إذا أجدب الناس، أهنّا لها: أي للسنة المجدبة أموالنا عند حقها، أي عندما يلزمنا من بذل الأموال، وإعطاء السائل، وقِرى الأضياف. وعزّت بها أعراضنا، أي عزت فيها، في هذه السنة المجدبة أعراضنا. يريد أنهم صانوا أعراضهم في مثل هذه السنة، أن يوصفوا بالبخل وبالتهاون بأمر الأضياف ورد السائل. وقوله: (لا نفاتها) أي لا يفوتنا صيانتها، يريد لا نسبق بذمِّنا قبل أن نَسبق نحن بالعطاء.
قال سيبويه: (واعلم أنه قد يجيء في (فعْل) (أفعال) مكان (أفعُل)، قال الأعشى):
فإنْ حميرُ أصلحَتْ أمرَها ... وملتْ تسابِيَ أولادِها
(وُجِدتَ إذا اصطلحوا خيرَهم ... وزَندُك أثقبُ أزنادِها)

(2/310)


يمدح بهذا الشعر سلامة ذا فائش الحميري. والتسابي: أن يَسبي بعضُهم بعضاً. يقول: إذا اصطلحت حمير فيما بينهما وملت الحرب، فأنت خيرهم في السلم، وأعطاهم للمال.
وذكر بعد هذين البيتين حاله وجلده وصبره إذا وقعت بينهم الحروب. وقوله: وزندك أثقب أزنادها: أي أنت أسرعهم عطاء، وأكثرهم نوالاً، وأقلهم مطلاً. ويقال: ثقب الزندُ: إذا خرجت ناره. جعل سرعته بمنزلة سرعة قدح الزند للنار.
و (وُجِدْتَ) في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين، والتاء قد قامت مقام المفعول الأول، و (خيرَهم) المفعول الثاني و (زندك) مبتدأ و (أثقب) خبره، والجملة في موضع نصب، وهي معطوفة على المفعول الثاني، كأنه قال: وُجدتَ خيرَهم، ووجدت زندك أثقب أزنادها، والضمير في (أزنادها) يعود إلى القبيلة، يريد بها حِمير قوم الممدوح.
قال سيبويه: (وقد يجيء (خمسة كلاب) يريد به خمسةُ من الكلاب، كما تقول: هذا صوت كلاب، أي هذا من هذا الجنس، كما تقول:

(2/311)


هذا حبّ رمّان).
يريد أنه بُيّن العدد القليل بالجمع الكثير فقال: هذا يراد به خمسة من هذا الجنس، لم يجيء به لبيان العدد، إنما أراد أن يذكر الجنس الذي منه العدد، ولم يقصد أن يبيّن العدد بجمع، وفائدة الكلام بإبانة العدد بجمع، وبإضافته إلى الجنس الذي منه المعدود، واحدة. وقوله: هذا صوت كِلاب يريد أنه صوت هذا الجنس.
والفرق بين قولهم: خمسة أكلب، وخمسة كلاب، أنك إذا قلت: خمسة أكلب، فأكلب بيان للخمسة من أي جنس هي، وجئت بـ (أكلب) وأكلب هي الخمسة. وإذا قلت: خمسة كلاب، فكلاب ليست بتبيين للخمسة، وإنما (الكلاب) لفظ يعم جميع الجنس، وجميع الجنس أكثر من خمسة.
قال:: وكما تقول هذا حَبُّ رمان. أراد أن الرمان اسم جنس، وأراد حب هذا
الجنس.
قال، فإضافة خمسة إلى كلاب بمنزلة إضافة حَبّ إلى رمان، قال الراجز:
تقول يا ربّاه يا ربِّ هلِ
إن كنتَ من هذا منجِّي أحبُلي
إمّا بتطليقٍ وإما بأرْحَلي
(ظرفُ عجوزٍ فيه ثنتا حنظلِ)
حَكى هذا الشاعر عن امرأة أنها دعت على زوجها، وطلبت الراحة منه.

(2/312)


وقولها (هلِ) أرادت: هل يُحسن إليّ بتفريق ما بيني وبينه. وقولها: (إن كنت من هذا مُنجي أحبلي) أي بقطع ما بيني وبينه من الوُصلة وعقد التزويج.
والأحبل: خمع حبل وهوما بينهما من العقد، و (منجي) خبر (كنت) ولكنه أسكن الياء من أجل الشعر.
وقوله: إمّا بتطليقٍ: إما أن يطلق طلاقاً بيناً صريحاً، وإما أن يقول ارحلي، ويريد به الطلاق. تمنت أن تبين عنه بصريح الطلاق أو الكناية عن الطلاق. وقوله: ارحلي وهو يريد الطلاق مثل قولهم: الحقي بأهلك واغرُبي وما أشبه ذلك.
وحذف المستفهم عنه بـ (هل) اعتماداً على فهم السامع ما يعني، وحذف جواب الشرط وهو: (إنْ كنتَ) كأنه: إن كنت منجياً لي من هذا الرجل حَييتُ أو عشتُ أو تخلصت وما أشبه ذلك. وشبهت الصَّفن وهو جلد الخصية بجراب، وشبهت الخصيتين بحنظلين في جراب، والحنظل اسم للجنس، الواحدة حنظلة، وأضاف ثنتا إلى الحنظل وهو واقع على جميع الجنس كأنه قال: ثنتان من الحنظل، وفي معنى (حنظلتان) وهومثل ما قدمنا تبيانه.

جمع (فعَل) على (أفعُل) على غير القياس
قال سيبويه: (وربما كسروا (فعَل) على (أفعُل) كما كسّروا (فعَل) على أفعال،
وذلك قولهم: زمن وأزمن). قال ذو الرمة:
(أمنزِلتيْ ميٍّ سلامُ عليكما ... هل الأزمُنُ اللائي مضَيْنَ رواجِعُ)

(2/313)


الألف للنداء أراد يا منزلتي مي. وقد بين سيبويه فيما سلف أنه كان يسميها مرة مية ومرة مياً والمعنى واضح.

استعمال (أفعلتُ) في موضع (فعّلتُ)
قال سيبويه في المصادر: (فسّقته وزنيتهُ أي سميته بالزنا والفِسق، كما تقول: حيّيته أي استقبلته بحيّاك الله، كقولك: سقيته ورعّيته أي قلت له: سقاك الله ورعاك الله).
ثم قال سيبويه: (وقالوا: أسقيته في معنى سقيته، فدخلتْ على فعّلتُ) أي دخلت (أفعلت) على (فعّلت).
يريد أنه استعمل (أفعلت) في موضع (فعّلت) إذا أردت أن تقول للإنسان: سقاك اللهَ ورعاك. قال ذوالرمة:
وقفتُ على رَبعٍ لميَّةَ ناقتي ... فما زِلتُ أبكي حوله وأخاطبُهْ
(وأُسقيه حتى كاد مما أبُثه ... تكلمُني أحجارُهُ وملاعبُهْ)
الربع: المنزل، وأبثه: أخبره بما أنا فيه، وأشكو إليه سوء حالي وشدة

(2/314)


اشتياقي، وأحجاره: الأثافي التي فيه، والحجارة التي يديرونها على الموضع الذي يجعلونه مسجداً، والملاعب: جمع ملعب وهو الموضع يجتمع فيه الصبيان للعب، والمعنى واضح.

مجيء (افعوعل) متعدياً
قال سيبويه في المصادر، قال حُميد بن ثور:
(فلما أتى عامان بعد انفصالِهِ ... عن الضَّرْعِ واحلوْلى دِماثاً يرودُها)
يصف بعيراً، ويذكر حاله منذ كان صغيراً إلى أن كبر. والدِماث: جمع دَمِثٍ وهو المكان السهل اللين. ويقال: دَمِث بكسر الميم ودَمَث بفتحها، ويرودها: يذهب فيها ويجيء يرعى، وأراد: يرود فيها، فجعله مفعولاً على السعة. واحلولى بمعنى استحلى، يريد أنه استحلى أن يرعى المرعى الذي في هذه الدماث.

قوله (ثلاث شخوص) حملاً على المعنى
قال سيبويه في باب العدد، قال عمر بن أبي ربيعة:
فقالت لأُختيْها أعينا على فتى ... أتى زائراً. . والأمرُ للأمرِ يُقدَرُ
فأقبلتا فارْتاعتا ثم قالتا ... أقلي عليكِ اللومَ فالخطبُ أيسَرُ

(2/315)


يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سِرُّنا يفشو ولا هو يَظهرُ
(فكان بصيري دون من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعبان ومُعْصِرُ)
ذكر عمر أنه زار جارية، وأنه تلطف حتى وصل إليها، ثم تحدث حتى أصبح فخشيتْ أن يراه الناس إذا خرج من عندها، فأرسلت إلى أختيها، وخرجت هي وهما معه. ومشى في جملتهن حتى جاوز الحي.
ويروى (فكان مِجَني) والمجن: التُرس، أي كان ترسي الذي أستتر به من أعدائي أو ممن أخاف أن يراني هؤلاء. وقد جعل (بصيري) - وهو معرفة - خبر كان، وجعل الاسم نكرة، و (كاعبان ومُعْصِرُ) بدل من (ثلاث).
ويجوز أن ينشَد (ثلاثَ شخوص) بالنصب، و (كاعبان ومُعْصِرُ) مرتفعة بخبر ابتداء محذوف، فكأنه قال: منها كاعبان، ومنها معصر، وجعل الجملة في موضع الوصف (لثلاث أو لشخوص).
ويجوز أن يكون في (كان) ضمير الأمر والشأن، و (بصيري) مبتدأ و (ثلاثُ) خبره، والجملة خبر (كان). والكاعب: التي كعَب ثديها، أي صار له أصل، ومعصر: التي راهقت البلوغ.

(2/316)


جمع (ناكس) صفة للعاقل على (فواعل) ضرورة
قال سيبويه في جمع الصفات التي على أربعة أحرف: (وقد اضطر فقال) يعني الفرزدق:
ملكُ عليه مهابةُ وبه التقى ... قمرُ التمام وشمسُ كلِّ نهارِ
(وإذا الرجالُ رأوْا يزيدَ رأيتهُمْ ... خُضْعَ الرقابِ نواكِسَ الأبصارِ)
يمدح يزيد بن المهلب. جعل أباه وأمه بمنزلة القمر والشمس في علو المرتبة والشرف. والخُضْع: جمع أخضع، وهو الذليل الذي قد نَكّس رأسه، والنواكس: التي تنظر إلى الأرض من الخوف والذلة.
والشاهد في أنه جمع (ناكساً) وهو صفة ما يعقل على (فواعل). ويروى: (منكّسي الأبصار).

مجيء (قد) بمعنى (ربما)
قال سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلم. قال عبيد بن الأبرص:

(2/317)


لا أعرفنكَ بعد الموتِ تندُبُني ... وفي حياتيَ ما زوَّدْتني زادي
(قد أتركُ القِرنَ مصفرّاً أنامله ... كأنّ أثوابَه مُجَّت بفِرصادِ)
الشاهد على أن (قد) بمنزلة (ربما).
يريد: ربما تركت القرن مقتولاً، قد اصفرت أنامله لما خرجت منه الروح. والفرصاد: ماء التوت، يريد أن الدم الذي على ثيابه بمنزلة ماء التوت، ومُجَّت: صُب عليها كما يُصب الماء من الفم، ويقال: الفرصاد: التوت نفسه، وتقديره على هذا القول: كأن أثوابه مجت بماء الفرصاد.

فصل (ال التعريف) للقافية ثم إعادتها
قال سيبويه في الوقف على أواخر الكلم، قال حكيم بن مُعَيّة:
قلتُ لطاهينا المُطَرِي في العَمَلْ
لوِّحْ لنا إنّ السَّديفَ لا يُمَلّ
(هاتِ لنا من ذا وألحِقنا بِذا الْ)
بالشحمِ إنا قد مَللناهُ بَجَلْ
فهو يَعيثُ لا يُبالي ما فعلْ

(2/318)


الشاهد فيه أنه فصل الألف واللام اللتين للتعريف من الاسم الذي دخلَتا عليه، وهما عنده بمنزلة (قد) في دخولها على الفعل، فكما يجوز أن تذكر (قد) في الشعر ثم تفصلها من الفعل، كذا يجوز في الشعر أن تفصل الألف واللام. والشاعر في هذا الشعر فصل الألف واللام ثم أعادهما.
والطاهي: الطباخ، والمُطَرِي: الذي يجدد طبيخاً بعد طبيخ، لا يقدم إليهم طعاماً كان عمله قبل ذلك الوقت، لوّح لنا، يريد: اطرح على النار شحم السنام، ويقال: لوحته النار إذا غيرته، والسديف: شحم السنام. وقوله: قد مَللناهُ لا يريد به الشحم، يريد به غيره من الطعام مما تقدم ذكره، وقد قال قبله: إنّ السَّديفَ لا يُمَلّ.
وبَجَل بمعنى حسْب، أي حسبك ما عملت. فهو يعيث، يريد أنه يفسد اللحم والشحم لكثرة ما عنده، قد وثق بأنه لا ينقطع.

الحمل على المعنى في المعدود
قال سيبويه في العدد، قال القتال الكلابي واسمه عُبادة بن مجيب ويقال: عبيد:
ألا لا تمَسّوها فإني أخافها ... عليكم وقولوا لن يَمَسَّكَ بَيْزَرُ
(قبائلنا سبعُ وأنتم ثلاثةُ ... وللسبْعُ خيرُ من ثلاثٍ وأكثرُ)
الشاهد فيه أنه قال: (وأنتم ثلاثة)، لأنه في ذكر القبائل، وقد تقدم قبله

(2/319)


(قبائلنا
سبعُ) ولم يقل (ثلاث) وإنما قال (ثلاثة) على تأويل الحي، كأنه قال: نحن سبع قبائل وأنتم ثلاثة أحياء، والحي مذكر، وهو واقع على ما تقع عليه القبيلة.
والقتال من بني أبي بكر بن كلاب، وقال هذا الشعر لبني جعفر بن كلاب. يقول: نحن أكثر منكم، لأن قبائل كلاب عشر: سبع من أم، وثلاث من أم. وسُبيعة بنت مرة بن صعصعة ولدت لكلاب: عمراً وأبا بكر الوحيد ورُؤاساً وعبد الله والأضبط وكعباً، وولدت ذئبة بنت مرة بن صعصعة، ولدت لكلاب: جعفراً والضِّباب وربيعة بني كلاب.
فأراد القتال: نحن سبع قبائل من ولد كلاب من أم، وأنتم ثلاث قبائل من ولد كلاب من أم، فنحن ينصر بعضنا بعضاً لأن أمنا واحدة، وسبع قبائل خير من ثلاث.
وقوله: (ألا تمسوها) يقول لبني جعفر: لا تقربوا بني أبي بكر، فإني أخاف عليكم منهم، وقولوا لنا - أي لبني أبي بكر - لن يمسك، لن يعرض لك يا بيزر. والبَزَري لقب بني أبي بكر بن كلاب. فقال (بيزر) من أجل أنهم لقبهم البزري.

في جمع الجمع
قال سيبويه في باب جمع الجمع، قال أبو عوف، أحد بني مبذول بن تيم بن قيس بن ثعلبة:
كيف ترَيْني يا أُميمَ أمضي
(أرعى أناضِيَّ هشيمَ الحَمْضِ)
أظلُّ أُدني بعضَها من بعضِ

(2/320)


وقع إنشاد هذا البيت مختلفاً في الكتاب، ففي بعض النسخ (أناصٍ) بصاد غير معجمة، وفسِّر على هذه الرواية فقيل: أناصٍ: جمع أنصاء، وأنصاء جمع نَصِي على حذف الزيادة، كأنه جمع نصْي وحَلْي. والنَصِي: ضرب من النبت، ويقال له
إذا يبس: الحَلِيّ.
وروي بعضهم: (أناضِ) بالتخفيف بضاد معجمة، وهو جمع الأنضاد، والأنضاد: جمع نِضو وهو البعير المهزول. هذا الذي ذكرته هو ما ذكرته الرواة، والمسطور في الكتاب:
. . . أناضٍ من جزيزِ الحمضِ
بالتخفيف، والجزيز الموضع الغليظ، والحمض من النبت: ما كانت فيه ملوحة، ويريد بالأناضي على هذا التفسير الإبل المهزولة.
والذي وجدته في شعره (أرعى أناضِيَّ) بالتشديد، مضاف إلى الهشيم، والهشيم: البالي من النبت، ويكون (الأناضي) جمع الأنضاء، والأنضاء: جمع نِضْو، يريد بها ما جف ويبس من النبات، يريد أنه يرعى النبت اليابس البالي، الذي هو في النبات كالأنضاء في الإبل.
وقوله: (أظلُّ أُدني بعضَها من بعضِ) يريد أنه يدني بعض الإبل من بعض، حتى تأكل من ذلك اليبس، وإن لم يُدْنِ بعضَها من بعض لم تأكل، لأن ذلك النبت اليابس مجتمع في مكان، فإن لم تجتمع هي فيه لم تأكل منه شيئاً. و (أميم) ترخيم
أميمة، وأراد: كيف ترينني، بنونين، فحذف إحدى النونين، وهذا الحذف يجوز في الشعر، ومثله في الحذف:
. . . ... يسوء الفاليات

(2/321)


إذا فليْني

قطع ألف الوصل - ضرورةً
قال سيبويه قال حاجب بن حبيب يرثي سلمى بنت حذيفة بن بدر وكانت تحت مَرْثد بن جُندَب:
يا كنةً ما، كنتِ غيرَ لئيمةٍ ... بيضاَء مثلَ الروضةِ المِحلالِ
ما إنْ تبِيتينا بصوتٍ صُلبٍ ... فيَبيتَ منه القومُ في بَلبالِ
(ولا تبادر بالشتاء وليدَنا ... ألقدرَ تنزلها بغيرِ جِعالِ)
الشاهد فيه قطع ألف الوصل من (القِدر).
والمحلال: التي يحُل عليها الناس، وجعلها مثل الروضة التي يحُل الناس حولها لينظروا إلى حسنها وبهجتها. و (ما) زائدة، ويجوز أن تكون (ما) اسماً وتكون بمنزلة (أي) كأنه قال: يا كنة أيُّ كَنة أنت كنت غير لئيمة. ويجوز أن تكون (أي) خبر (كنت)، و (غير لئيمة) وصف لـ (كنّة).
والصوت الصُلب: الشديد، والبلبال اختلاط الأصوات

(2/322)


والخصومة والشر. يقول: لا تبيِّتنا هذه الكنة بصياح وجلبة، يعني أنها لا تخاصم ولا تؤذي. (ولا تبادر بالشتاء وليدنا) يريد أنها ليست بشرهة، تنزل القِدر، بغير خرقة تنزلها، ولا تتوقف حتى تنزلها وتأكل منها، فتسبق الوليد إليها. فإن أراد بالوليد الولد الصغير، فإن يعني أنها لا تبادر الوليد بالأكل من القدر تأكل قبله. وإن أراد بالوليد الخادم، فإنه يعني أنها لا تسبق إلى إنزال القدر قبل أن يُنزلها الخادم. والجِعال: ما يُنزل به القدر من خرقة أو غيرها.