شرح أبيات سيبويه

إظهار الحركة بهاء السكت عند الوقف
قال سيبويه: (ومثل ما ذكرنا قول العرب (إنهْ) وهم يريدون (إنّ) ومعناها أجَلْ).
ذكر سيبويه قبل هذا الموضع من الباب، أن الهاء التي تدخل لبيان الحركة في الوقف، في غير الأشياء التي حذف منها حروف المد واللين، كقولهم: (ثمَّهْ) إذا وقفوا على الهاء لبيان حركة الميم، و (هَلمَّهْ) إذا وقفوا، يريدون (هلمْ). ومضى على كلامه إلى أن قال:
(ومثل ما ذكرنا - يعني مثل ثَمَّهْ - قول العرب: (إنهْ) في الوقف، وهذه (إنَّ) التي بمنزلة (أجَلْ) في الجواب. قال ابن الرقيات:
بكرتْ عليّ عواذلي ... يَلحَيْنني وألومُهُنهْ

(2/323)


(ويقلن شيبُ قد علاك ... وقد كبِرتَ فقلت إنهْ)
يلحينني: يلمنني على اللهو والغزل، وألومهن، على لومهن لي، ويقلن لي: قد شبت وقد كبرت، فأقول: نعم. يريد أنه يأتي ما يأتي على علم فيه بأمر نفسه. والمعنى واضح.

تشديد حرف الروي والزيادة عليه - للضرورة
قال سيبويه: (وجعلوا (سَبْسَب) كأنه مما لا تلحقه الألف في النصب إذا وقفتَ).
قد قدم سيبويه في أول الباب أن من العرب من يزيد حرفاً في آخر الاسم إذا وقف، ليُعلم أن الاسم متحرك في الوصل، وأنه لا يجري مجرى ما هوساكن في الوقف والوصل، وإذا زاد حرفاً علم أنه لا يجوز أن يكون ساكناً من أجل سكون الحرف الذي قبله، والوقف بالسكون إنما يكون للمرفوع والمجرور.
فأما المنصوب فإنه لا يجوز أن يلحقه حرف للتضعيف، لأنه قد أبدل من تنوينه ألفُ في آخره يوقف عليها، فآخره متحرك في الوقف والوصل فلا يضاعف، فإذا اضطر الشاعر جعله في النصب كأنه مما لا يبدل من تنوينه حرف، مثل الرفع والجر، وكأنه يقول في الوقف: (رأيت سَبْسَبْ) ثم يضاعفه.
وقال منظور بن مَرْثَد الأسدي:
فسَلِّ هَمَّ الوامقِ المُغْتل ِّ
(ببازلٍ وَجناءَ أو عَيهَلِّ)

(2/324)


تمَّتْ إلى صُلبٍ شديدٍ الخَلِّ
وعُنقٍ أتلعَ مُتمَهلِّ
الشاهد فيه أنه شدد اللام من (عيهلّ) وهي متحركة من أجل القافية، وأنها مطلقة، فقد تحركت، وأتبع حركتها حرف الوقف عليه، وشدده الشاعر للضرورة.
والوامق: المحب، والمغتلّ: الذي به غُلة من شدة المحبة، وهو ما يجده في قلبه
من ألم الشوق ومنازعة نفسه إلى من يحبه. والبازل: الناقة التي هي في السنة التاسعة، والوجناء: الصلبة، والعيهل: السريعة، والخل عِرق في الظهر أوفي المَنْكِب، والأتلع: الطويل، والمتمهل: المعتدل.
يقول: سلِّ هم شوقك بناقة ترحل عليها إلى أرض مَن أنت مشتاق إليه. وقال:
(لقد خشِيتُ أن أرى جَدْبَبّا)
في عامنا ذا بعد ما أَخصَبّا
إذا الدّبا فوق المتون دَبّا
وهبت الريحُ به وهّبا
تتركُ ما أبقى الدبا سَبْسَبّا
أو كالحريق وافق القصْبَبّا

(2/325)


والتبنَ والحلفاءَ فالتهَبّا
كأنه السيلُ إذا اسْلَحَبّا
الشاهد فيه أنه شدد (جدبّا) وهوفي موضع نصب، وزاد على آخره حرفين للضرورة كما قالوا في القطن (قطننّ) فزادوا نونين. وشدد (أخصبّا) وشدد (سبسبّا) وشدد (القصببّ) وغير بناءه.
فالتهبّا: أراد فالتهبا، وهذه ألف الأثنين، والضمير يعود إلى التبن والحلفاء، واسلحب: امتد، والدبا: صغار الجراد، والمتون: جمع متن وهو المكان الذي فيه صلابة وارتفاع، والمور الغبار. يقول: أخشى أن أرى جدباً في العام، وقد كان المطر جاء في أوله ثم انقطع، وجفت الأرض ويبست.
وأراد أن الريح هبت قرّة، والغبار إنما يثور إذا كانت الأرض يابسة. والسبسب: الأرض القفر. وأراد: تترك

(2/326)


الريحُ المكان الذي أبقى فيه الدبا شيئاً من النبات أجرد لا شيء فيه، لأنها جففت النبت وقطعته، وحملته من مكان إلى مكان، والحريق إذا
وقع في القصب لم يبق منه شيئاً، وكذلك التبن والحلفاء، كأنه السيل.
يريد: كأنّ صوت التهاب النار في القصب والحلفاء والتبن - صوت السيل وجريه. واسلحبّ: امتد.

في حذف نون (لدن)
قال سيبويه: في عِدة ما يكون عليه الكلم. قال غيلان بن حريث:
يتبعْنَ شهماً لانَ من ضَريرِهِ
من المَهارَى رُدَ في حُجورِهِ
يستوعبُ البَوْعَيْن من جَريرِهِ
(من لدُ لحْيَيْهِ إلى منحورِهِ)
الشاهد فيه على حذف النون من (لدن).
يتبعن يعني الإبل، يتبعن جملاً شهماً وهو الحديد النفس، يريد أنه يسير أمامها وهي تسير خلفه، وضريره: شدة نفسه وصبره. يعني أنه لان شيء من شدة نفسه وامتناعه، ولو كانت نفسه على ما كانت من الصعوبة، لشق عليها. والمهارَى: جمع مهريّ ومهريّة، إبل مَهْرةَ بنِ حَيْدان.
وقوله: رُد في حجوره يعني أنه رُدِّد في كرم أماته، يريد أنه من نسل إبل كرام. والجرير: الحبل، والبوعان: مقدار باعين في الطول.

(2/327)


يعني أن طول الحبل الذي هو مقوده، من لحييه - واللحيان: العظمان اللذان عليهما منبت الأضراس من أسفل - إلى موضع نحره مقدار طول باعين. والمنحور: موضع النحر. يعني أن عنقه طويل.

الإشمام بالكسر في حاء (حُلّ)
قال سيبويه في الإمالة: (أما ما كان من بنات الياء فتمال ألفه لأنها في موضع ياء
وبدل منها فتنحونحوها، كما أن بعضهم يقول: (قد رُدّ). يريد أن ما كانت لامه من بنات الياء في الثلاثي، أميلت ألفه، لأنها منقلبة من ياء وبدل منها، فأمالوها لينحوا نحرها.
كما أن بعضهم يقول في المضاعف - إذا كان على وزن فعِل نحو رُدَ وشُدَ رُدّ وشُدّ، فينحو بالحرف المضموم نحوالكسرة، ليدل على الكسرة التي كانت في الحرف المدغم. وقال الفرزدق:
(وما حُلّ من جَهْلٍ حُبا حُلمائنا ... ولا قائلُ المعروفِ فينا يُعَنفُ)
الشاهد فيه أنه جعل الحاء من (حل) بين المضمومة والمكسورة.
وصف الفرزدق قومه بالحلم، وأنهم إذا احتبوا لا ينقضون حُبائهم لسفه وطيش يلحقهم، وإن قال قائل فيهم الحق لا يعنف، لمعرفتهم بالحق وأنهم من أهله. والمعنى واضح.

(2/328)


(صعررته) ملحق بالرباعي، ويتعدى
قال سيبويه في المصادر: وكذلك فعْللته صعررته لأنهم أرادوا بناء دحرجته). يعني أن صعررته ملحق بالرباعي وهو مما يتعدى، وذكره لأنه كره أن يظن ظان أن هذا الملحق لا يتعدى، فذكر أنه يتعدى، كما يتعدى الذي ألحق به، قال غيلان بن حُريث:
تأخذ منه تارة وتمتري
به قليلاً دَرُّه لم يُفطرِ
(سوداً كحَبِّ الفلفلِ المُصَعْرَرِ)
وصف ذنب ناقة فقال: تأخذ من ذنبه تارة، وتمتري: تمسح، والمَرْي: المسح، والرجل يَمري أخلاف الناقة يمسحها، والمَرْي: مسحها لتدُرّ، ومريت الفرس: استخرجت ما عنده من العدو. وأراد به في هذا البيت المسح وحده. وأراد أن
الناقة تمسح بذنبها ضرعها وأخلافها.
يقول: إنها تدخل ذنبها بين فخديها، وتمسح ضرعها به. وأراد: وتمتري به ضرعاً قليلاً دَرُّه، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والدَرّ: اللبن، يريد أنها لا لبن لها، لم يُفطَر: لم يحلب. يقال فطرها يفطرها إذا حلبها بأطراف أصابعه.
(سوداً) منصوب، بدل من قوله (ضرعاً قليلاً دَرُّه) وهو بدل الشيء

(2/329)


من الشيء وهو بعضه، والسود: أخلاف الضرع، وجعلها كحب الفلفل لأنها سود مجتمعة متشنجة، والمصعور: المجتمع المدور. شبه أطراف أخلافها بحب الفلفل.

فيما تحذفه قيس وأسد في القوافي
قال سيبويه في القوافي: (وقد دعاهم حذف ياء (يقضي) إلى أن حذف ناس كثير من قيس وأسد الياء والواو اللتين هما علامة المضمر، ولم تكثر واحدة منهما في الحذف ككثرة ياء (يقضي) لأنهما تجيئان لمعنى الأسماء، وليستا حرفين بنيا على ما قبلهما).
يريد أن قيساً وأسداً يحذفون في القوافي الواو التي هي ضمير جماعة المذكرين، والياء التي هي ضمير الأنثى المخاطبة، ويُجرونهما مُجرى الحرف الذي هو من نفس الكلمة، نحو ياء (يقضي) وواو (يغزو)، وحذف الذي هو من نفس الكلمة أسهل، لأن الضمير هو اسم، وهوالفاعل، ولا ينكر حذف بعض الكلمة - إذا كانت تفيد ما يدل عليه - كحذف بعض حروف الأسماء في الترخيم.
قال ابن مقبل:
(لا يُبْعِدِ اللهُ أصحاباً تركتهُمُ ... لم أدْرِ بعد غداةِ الأمسِ ما صَنَعْ)

(2/330)


الشاهد فيه على أنه وقف على حذف الواو التي هي ضمير الجماعة. والمعنى واضح. وقال ابن مقبل في هذه القصيدة أيضاً:
(لو ساوفتْنا بسَوْفٍ من تحيتها ... سَوْفَ العَيوفِ لراحَ الرَّكبُ قد قنعْ)
ساوفتنا: من السّوْف الذي هو الشم. يريد: لو دنت منا فشممنا ريحها لقنعنا.
ويروى:
لو ساعفتنا بسوف من تحيتها ... . . .
والعَيوف: الناقة التي تشم الماء ولا تشربه. يريد أنه قد رضي منها بمقدار الشم، وأن تمنعه ما سواه. والركب: أصحاب الإبل. يريد أن الركب الذي هو فيه، كان يروح وينصرف منها وقد قنع منها بهذا القدر.
يريد أنه إذا نال منها هذا القدر رضي أصحابه ومن معه لأجل رضاه، وسُرّوا بأن ينال وحده هذا منها، والشاهد فيه مثل الشاهد في الأول.
وقال ابن مقبل في هذه القصيدة أيضاً:

(2/331)


(طافتْ بأعلاقِهِ جَرْدُ منعَّمةُ ... تدعو العرانين من عمرووما جَمَعْ)
الضمير المضاف إليه (الأغلاق) يعود إلى بعير قد تقدم ذكره. وأعلاقه: ما عُلق عليه من صوف مصبوغ يزين به. والجَرْد: الحَشِيّة الخَلق، والعرانين: السادة والرؤساء، وعمرو: قبيلة وهو عمرو بن كلاب فيما أرى، ويجوز أن يريد: بني عمرو بن تميم.
وفي الكتاب (خَود يمانية) وفيه (العرانين من بكر) وأظن هذا التغيير وقع في الكتاب بين عمرو وبكر. ويجوز أن يريد (ببكر) بني أبي بكر بن كلاب، ولم يمكنه أن يقول: من بني أبي بكر من كلاب، وهم ينسبون إلى بني أبي بكر من كلاب: بكريّ. وقوله (يمانية) لا يوافق هذا التفسير لأن القبائل التي ذكرتها كلها من نزار.

في جمع التكسير
قال سيبويه في الجمع المكسر: (وقد يجيء إذا جاوز بناء أدنى العدد على (فِعَلة) نحو جُحر وأجحار وجِحَرة). قال خالد ابن أبي فهر:

(2/332)


أمعجِلَتي تلِيَّتها المنايا ... ولما تلقَ حَيَّ بني الخَليعِ
(كِرامُ حين تنكفِتُ الأفاعي ... إلى أجحارهنّ من الصقيعِ)
التلية: أصلها البقية. يقول: أمصيبتي المنايا ومعجلتي فيما بقي من عمري، وجعل ما بقي من عمره تلية، بقيةً كالبقية التي تبقى من الدَين ومن الحاجة، كأنّ المنايا تقتضي بقايا الأعمار حتى ينال كلَّ حي الموتُ.
وبنو الخليع: من بني عامر بن صعصعة، وتنكفت: تتقبض وتنضم وتستتر. وأراد أنهم كرام في الشتاء وعند انقطاع الأزواد وذهاب الألبان، وفي الشتاء تستتر الأفاعي، والصقيع: الثلج الذي يسقط من السماء.
قال سيبويه: (وقالوا: رُكْن وأرْكُن. قال رؤبة).
ودَغيَةٍ من خطِلٍ مُغدَوْدِنِ
قُربانٍ مَلْكٍ أو شريفِ المَعْدِنِ
قامت به شدّاكَ بعد الأوْهَنِ
(وزَحْمُ ركنيْكَ شِدادُ الأرْكُنِ)

(2/333)


الدَغيَة: سوء الخلق، والخطِل: الذي كلامه خطأ وفساد، والمغددون: الكثير القول الذي يركب بعض كلامه بعضاً، والقَربان خاصة الملك، والقرابين: خواص الملوك، أو شريف المعدن: يريد شريف النسب والأصل، وشُدّاك: شدّتك، والأوهن في ذا الموضع: بمعنى الوهن وهو الضعف، كذا زعموا، وأجود منه عندي أن يجعل الأوهن بمعنى الضعيف.
(يريد: قامت به شدتك، بعد دفع الرجل الضعيف) الذي لا يغني دفعه شيئاً. وزحم ركنيك (زحم) معطوف على (شداك) و (دغية) مجرور بإضمار رب.
والممدوح بهذا الشعر بلال بن أبي بردة. يريد: ورب كلام قبيح من رجل كثير الخطأ، له سلطان أوشرف، دفعتَ كلامه وانتصرتَ منه، وقامت به شدتك،
وزحمك بجانبيك شداد الرجال، وإنما هذا على طريق المثل وليس ثَم زحم، وإنما أراد المزاحمة بالكلام والحجة، يعني أنه يَغلب بالحجة.

صيغة (مُفعَّل) للزمان والمكان والمصدر
قال سيبويه في المصادر: (وقال في المكان: هذا مُوَقانا) يريد موضع توقيَتنا، والمُفَعّل يقع للزمان والمكان والمصدر على لفظ واحد. وقال رؤبة:

(2/334)


يا ربِّ إن أخطأتُ أو نسيتُ
فأنت لا تنسى ولا تموتُ
(إن المُوَقى مثلُ ما وُقيتُ)
وقال سيبويه بعد أن أنشده: (يريد التوقية) يعني أن الموقّى في هذا البيت مصدر، وأراد رؤبة أن التوقية التي يعجب منها - ومن حسن صنع الله عز وجل فيها - توقيتي من الحَرورية لما حصلتُ بأيديهم ثم تركوني. وكان رؤبة قد وقع بيد الخوارج ثم خلوا عنه.
و (الموقَّى) اسم إنّ و (مثل) خبره، وتقديره: إن التخلص الحسن مثل تخلصي من الخوارج.
قال سيبويه في المصادر، قال زيد الخيل الطائي:
(أُقاتلُ حتى لا أرىَ لي مُقاتَلاً ... وأنجو إذا لم ينجُ إلا المُكَيَّسُ)
الشاهد فيه أنه جعل (مقاتَلاً) مصدراً، أو موضعاً للقتال.
والمكيَّس: الذي يصفه الناس بالكَيْس. يريد أنه يقاتل ما وجد موضعاً للقتال وعلم أن قتاله ينفع، فإذا علم أن قتاله لا ينتفع به، وأنه إن قاتل قتل، نجا في الوقت الذي لا ينجو فيه إلا البُصَراءُ بالتخلص من مثل تلك الحال.

(2/335)


و (أرى) من رؤية القلب، و (مقاتَلاً) مفعول أول، و (لي) في موضع المفعول الثاني.

مجيء (عريف) بمعنى (عارف)
قال سيبويه في المصادر، قال طريف بن تميم العنبري:
(أوكلما وردتْ عكاظَ قبيلةُ ... بعثوا إليّ عريفَهم يتوسَّمُ)
فتعرّفوني إنني أنا ذاكمُ ... شاكٍ سلاحي في الحوادثِ مُعْلِمُ
الشاهد فيه أنه جعل (عريفاً) بمعنى عارف.
وعكاظ: خلف عرفات، وكانت القبائل تحضرها ووجوه العرب والفرسان، فإذا حضرتها الفرسان تبرقعوا لئلا يُعرفوا، فحضر طريف الموسم، وكان حَمَصيصة ابن الشيباني بعكاظ وبها طريف، فجعل حمصيصة يشدّ النظر إلى طريف. فقال له طريف: لمَ تنظر إليّ؟ قال: لأعرفَك لعلي ألقاك في خيل. قال: فتصنع ماذا؟ قال: أعممك بالسيف. فقال طريف: اللهم ربَّ هذا البيت لا تُحِلِ الحولَ حتى تلقينيه في خيل. فالتقيا بعد ذلك في خيل، فقتله حَمَصيصة.
ويتوسم: ينظر في وجهي حتى يعرف سيماي، فتعرّفوني أي اعرفوني أنني أنا ذاكم الذي حدثتم حديثه. (شاك) مقلوب من شائك، أي سلاحي ذو شوكة والحوادث: الحروب التي تحدث، والمُعْلم: الذي

(2/336)


يجعل لنفسه علامة في الحرب يعرف بها، وهذا يفعله الشجعان لتعرف مواقفهم في الحروب ومقاماتهم وما يصنعون.

إسكان النون من (هنك) ضرورة
قال سيبويه في الوقف على أواخر الكلم، قال الأقيشر الأسدي وكان مر بسكة بني فزارة وهوشارب، فجلس يريق الماء، ومرت به نسوة فقالت امرأة منهن. هذا نشوان قليل الحياء، أما تستحي يا شيخ من شربك الخمر؟ فقال:
تقولُ يا شيخُ أما تستحي ... من شربكَ الخمرَ على المَكبَرِ
وأنتِ لو باكرتِ مشمولةً ... صهباَء لونَ الفرسِ الأشقرِ
(رُحْتِ وفي رجليكِ ما فيهما ... وقد بدا هَنكِ من المئزَرِ)
الشاهد فيه أنه أسكن النون من (هَنكِ) وهو مرفوع لأنه فاعل (بدا).
وقوله: رُحْتِ وفي رجليكِ ما فيهما: يريد أن فيهما اضطراباً واختلافاً في المشي، والمشمولة: الخمر التي هبت الشِمال عليها وهي في ظروفها، وذاك يحمد فيها. كما قال الشاعر:
وقابَلها الريح في دنها ... . . .
وأراد: صهباء مثل لون الفرس الأشقر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(2/337)


مجيء (المُمْسَى والمُصْبَح) للزمان
قال سيبويه في المصادر، قال أمية بن أبي الصلت:
(الحمد لله مُمْسانا ومُصْبَحَنا ... بالخيرِ صبَّحنا ربي ومسّانا)
الشاهد فيه على أنه جعل (المُمْسَى والمُصْبَح) للزمان. أراد: الحمد لله في وقت إصباحنا وفي وقت إمسائنا.
وقوله: بالخير صبَّحنا ربي، دعاء، كأنه قال: اللهم صبِّحْنا بخير ومَسِّنا به. والمعنى واضح.

جمع (فعْل) على (أفعَل) وبابه أفعال
قال سيبويه: (وقالوا قوس وأقوُس) وثوب وأثوُب. قال معروف بن عبد الرحمن:
(لكلِّ عيشٍ قد لبِسْتُ أثوُبا)
حتى اكتسَى الرأسُ قناعاً أشيبا
أبيضَ لا لذّاً ولا محببَّا

(2/338)


أراد أن (ثوب) جمع على (أفعُل) و (أفعُل) في جمع (فعْل) إذا كانت عينه من
حروف العلة قليل، وبابه (أفعال). وأنشد البيت شاهداً لجمعه على أثوب.
والمعنى أني عملت في كل زمان ما يصلح له، وليس يراد به لبس الثياب. ومثله قول بيهس الفزاري:
البَسْ لكل حالةٍ لبوسَها
إما نعيمَها وإما بُوسَها
واللذ: الذي يُلتذ به. يريد أن الشيب لا يحبه صاحبه ولا غيره.

في معنى صيغة (تفاعل)
قال سيبويه في المصادر، قال عمرو بن العاصي في يوم صِفين:
(إذا تخازَرْتُ وما بي من خَزَرْ)
ثم كسرتُ العينَ من غير عَوَرْ
ألفيتني ألوىَ بعيدَ المستمَرّْ
ذا صولةٍ في المُصْمَئِلاتِ الكبَرْ
ويروى هذا الرجز للنجاشي الحارثي، وأظن أنه يروى لغيرهما أيضاً.
يريد أنه يظهر أنه أخزر، والتخازر: أن يقارب بين جفنيه إذا نظر، ليوهم أنه ليس يتأمل ما ينظر إليه. ومثله: (ثم كسرت العين من غير عور). والألوَى: الذي يلتوي على خصمه، لا يكاد خصمه يظفر منه

(2/339)


بشيء، بعيدَ المستمَرّ: أي أمُرّ في الخصومة إلى موضع لا يمر إليه غيري، يريد أنه يفكر فكراً بعيداً، والمصمئلات: الدواهي، والواحدة مصمئلة، والكبر: جمع الكبرىَ، مثل الفضَل والفضْلى.

في جمع التكسير
قال سيبويه في الجمع المكسر، قال حكيم بن مُعَيّة الرَّبَعي من بني تميم:
فيها عياييلُ أسودُ ونمُرْ
الذي في شعره: (فيه غياييل).
والعيّال: المتبختر، وجمعه عياييل. وصَف قبل البيت قناة نبتت في موضع محفوف بالجبال والشجر فقال:
حُفتْ بأطوادٍ جبالٍ وسَمُرْ
في أشِب الغِيطان ملتفِ الحَظِرْ
(فيها عياييلُ أسودُ ونمُرْ)
يريد حُف موضع القناة الذي نبتت فيه بأطواد الجبال، والواحد طود، والسَّمُر: جمع سَمُرَة وهي شجرة عظيمة، والأشِب: الموضع الملتف النبت

(2/340)


الذي يتداخل حتى لا يمكن أن يُدخل فيه إلا بشدة، والغيطان: جمع غائط وهو منخفض من الأرض، والحَظِر: الموضع الذي حوله الشجر مثل الحظيرة، فيه: في هذا الموضع، أسُود تَعِيل، تذهب وتجيء فيه وتتبختر.
وفي شعره: (أُسُودٍ) مجرورة بإضافة (عياييل) إليه.

الترخيم في غير الأسماء - ضرورة
قال سيبويه في الوقف على أواخر الكلم، قال أبو نُخيلة:
(إذا اعْوَججْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ)
بالدو أمثالَ السّفينِ العُوَّمِ
الشاهد على حذفه الكسرة من (صاحب) أراد يا صاحبي، وحذف الياء واكتفى بالكسرة - وحذفها جيد - ثم اضطر فحذف الكسرة.
وبعض أصحابنا يرويه:
إذا اعوججن قلت صاحِ قومِ
فراراً من إسكانه للضرورة، وقد فر من قبحِ ما هو قبيح في الشعر، إلى شيء يقرب منه في القبح، وذلك أن الترخيم إذا وقع في شيء ليس فيه تاء التأنيث، كان
في الأسماء ولم يكن في الصفات. و (صاحب) صفة لا يحسن فيه الترخيم، ألا ترى أنه لا يَحسُن (يا ضارِ أقبلْ) تريد: يا ضارب، ولا (يا قاعِ) تريد يا قاعد.
إذا اعوججن: يريد الإبل في سيرها. قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ: يريد قومها على الطريق ولا تتركها تعدل عنه، والدو: الفلاة الواسعة، والعُوّم: جمع

(2/341)


عائمة وهي السفينة التي تشق الماء وتدخل فيه، والعَوم: السباحة. شبه الإبل بالسفن، وجعل دخولها في الآل بمنزلة دخول السفن في الماء.

ما لا يجوز حذفه من حروف القافية
قال سيبويه في القوافي، قال الراعي:
(يا عَجَبا للدهر شتى طرائِقهْ ... وللمرء يبلوه بما شاء خالقهْ)
وللخلْدِ يُرجى والمنية دونه ... وللأملِ المبسوطِ والموتُ سابقهْ
شتى طرائقه: أي متفرقة أموره وأحواله، فيه صحة وسقم، وغنى وفقر، وسعادة وشقاء. والمعنى واضح.

قلب التاء طاء في الإدغام
قال سيبويه في باب الإدغام: (وقد شبه بعض العرب ممن تُرضى عربيته هذه الحروف الأربعة: الصاد والضاد والطاء والظاء في (فعلتُ) بهن في (افتعل). لأن الفعل بني على التاء فأسكنت لامه كما أسكنت الفاء في (افتعل) وذلك قولهم: خبطه، يريدون: خبطْته). قال علقمة ابن عَبَدة:
(وفي كل حيٍّ قد خبط َّ بنعمةٍ ... فحُقَّ لشأسٍ من نداكَ ذَنوبُ)
الشاهد على أنه قلب التاء التي هي ضمير المخاطب (طاء) لأجل الطاء التي قبلها.

(2/342)


وشأس هو أخو علقمة بن عَبَدة، ومدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شَمِر الغساني، وكان شأس في يديه أسيراً. والذَنوب: النصيب، والندى: الجود والسخاء.
أي اسْتحق شأس أن تتفضل عليه، كما عممت الأحياء بفضلك. فقال الحارث لما سمع: (فحق لشأس من نداك ذنوب): نعم وأذْنِبة.
وقوله: خبطت بنعمة: أصلها الطالب والمجتدي ومن أشبههما يخبط المواضع التي يسير فيها إلى من يرجوه ويأمل معروفه، ثم قيل لكل طالب: خابط ومختبط. ويجوز أن يكون من قولهم: خبطت الشجرة إذا جمعت أغصانها، ثم ضربتها ليسقط ورقها، فتعلفَه الإبلَ، ثم قيل لكل طالب: خابط. وهذا الوجه أحب إلي من الأول.
ومثله زهير:
وليس مانعَ ذا قربى ولا رَحِمٍ ... يوماً ولا مُعْدِماً من خابطٍ وَرَقا
وليس ثم خبط للورق، إنما يريد به أنه لا يمنع معروفه من التمسه. وقوله: قد خبطت بنعمة: أي خبطت لكل حي بنعمة، أي أنعمت عليهم، فكنت كمن خبط لهم الشجر.

في الحذف للتخفيف (عالأرض)
قال سيبويه في باب ما جاء شاذاً فخففوه على ألسنتهم: (ومن الشاذ قولهم في بني العنبر وبني الحارث: بَلْحارث وبَلْعنبر، وعَلْماءِ بنوفلان).
قال الفرزدق:

(2/343)


هلمَّ إلى الإسلامِ والدِّينِ عندنا ... فقد مات عن أرضِ العراق خَبالُها
(فما أصبحتْ عالأرضِ نفسُ فقيرةُ ... ولا غيرُها إلا سليمانُ مالها)
هذا البيت يقع في بعض النسخ وفي بعضها لا يقع.
والشاهد فيه حذف اللام من (على) بعد حذف الألف منه لالتقاء الساكنين، كما فعل في: (بني الحارث وبني العنبر). ورأيت هذا الموضع قد ضبط في الخط، وشددت اللام فكتب (علرض) عين بعدها لام مشددة. وهذا لا يشبه قولهم: علماء بنو فلان
وما تقدم ذكره، لأن تشديد اللام يوجب أنه: خفف الهمزة من (الأرض) وطرح حركتها على لام التعريف فصار (عللرض) بلامين متحركتين ثم أدغم اللام من (على) في اللام من الأرض، فليس في هذا الكلام لام محذوفة.
وإنما الشاهد يصحّ إذا أُنشد بتحقيق الهمزة (عالأرض) بلام ساكنة، وهي لام التعريف وبعدها همزة (الأرض).

(2/344)


وفي إنشاد الكتاب: (نفس بريئة)، وفي شعره: (فقيرة).
ويروى: (فما أصبحت في الأرض. . .) وليس في هذه الرواية شاهد.
يمدح الفرزدق بهذا الشعر سليمان بن عبد الملك، ويهجو الحجاج بعد موته. يقول: ذهب عن أرض العراق خبالها، يريد فسادها، لأن الحجاج مات فصلح أمرها. وقوله: (إلا سليمانُ مالها يريد: إنما حفظُ أموال الناس وصلاحُ أمرهم به، والمعنى واضح.

الإبدال للتخفيف
قال سيبويه في باب الإدغام في حروف طرف اللسان: (وقالوا: في مفتعِل - من صبرتُ - مصطبر، أرادوا التخفيف حين تقاربا).
يريد أنهم أبدلوا التاء الزائدة طاء لتكون أخف عليهم. لأن الطاء أخت الصاد في الإطباق، فهي إليها أقرب من التاء. ثم ذكر المواضع التي تبدل فيها التاء طاء، وذكر إبدالها مع الطاء، ثم قال: (وذلك قولك: مظطعن ومظطلم) كما قال زهير:
(هو الجوادُ الذي يعطيك نائله ... عفواً، ويُظلم أحياناً فيظطلمُ)

(2/345)


الشاهد في إبدال التاء طاء في فيظطلم.
يمدح بذلك هرم بن سنان المري، يقول: هو يعطي ماله عفواً بسهولة، لا يمُن به، ولا يمطل سائله، ولا يعطي نزرْاً. ويظلم أحياناً: يطلب منه في غير موضع طلب فيحتمل ذلك لمن يسأله، ولا يرد من سأله في جميع الأوقات التي مثلها يطلب فيه،
وفي الأوقات التي مثلها لا يطلب فيه.

من الثلاثي المزيد (فيعول) للاسم والصفة
قال سيبويه في الأبنية التي فيها زوائد من الثلاثي: (ويكون على (فيعول) في الاسم والصفة، فالاسم نحو قيصوم والحيزوم، والصفة نحو: عيثوم وقيّوم وديموم). قال علقمة بن عَبَدة.
إذا تزغم من حافاتها رُبَعُ ... حنتْ شغاميمُ من أوساطها كومُ
(يهدي بها أكلفُ الخدّينِ مختبَرُ ... من الجِمال كثيرُ اللحم عيثومُ)
وصف إبلاً، وحافاتها: جوانبها، والتزغم في هذا البيت: صوت معه غضب، والتزغم بزاي معجمة: غضب معه كلام، والرُّبَع: ولد الناقة، والشغاميم: الطوال الجسام الواحد شغوم، حنت: حن بعضها إلى بعض، الكوم: العظام الأسنمة جمع أكْوَم وكَوْماء.
يريد أنها إذا سمعت صوت الرُّبَع حنت. وقوله: يهدي بها أي يقدمها ويتقدمها

(2/346)


جمل أكلف الخدين، والأكلف: الذي تضرب حمرته إلى سواد، وقيل إنه مستحب، والمختبر: هو المجرَّب الذي عُرفت نجابته من الفحول وعرف ما عنده، وقيل: إن المختبر هو الكثير اللحم والوبر. وزعموا أن الخبير هو الوبر، وقال الشاعر:
حتى إذا ما طال من خبيرها
والعيثوم: الضخم العظيم الخَلْق، ويقال لأنثى الفيلة عيثوم.

(أفعَلان) صفة من الثلاثي
قال سيبويه في أبنية الثلاثي: (ويكون على (أفعَلان) وهو قليل، لا نعلمه جاء إلا (أنبَجان) وهو وصف، قالوا: عجين أنبجان وهو المختمِر، و (أرونان) وهو وصف. قال الجعدي).
(فظلَّ لنِسوة النعمان منا ... على سَفوانَ يومُ أره ناني)
فعدّينا حليلته وجئنا ... بما قد كان جمَّع من هِجانِ
سفوان موضع معروف، والأرونان: الشديد، والهِجان: كرام الإبل وخيارها. فعدينا حليلته: يريد عدينا عنها. يريد أنهم انصرفوا عن زوجة النعمان لم يأخذوها، وأخذوا إبله وماله.
وقد وقع في الكتاب: (يوم أرونانُ) بالرفع، وكذا يقع هذا البيت في الشواهد والقصيدة مجرورة. وأولها:

(2/347)


جلبنا الخيلَ من تثليثَ حتى ... أتين على أُوارةَ فالعَدانِ
ويُنشد البيت في القصيدة: (يوم أرونانيْ) وهو منسوب قد خففت ياء النسب منه، أراد (أرونانيُّ) فخفف. ومثله:
إني لِمَن أنكرني ابنُ اليَثرِبيْ
قتلتُ علباءَ وهندَ الجَمَليْ
أراد: اليثربيّ والجمليّ وينبغي ان يكتب بياء، لأنه منسوب وتزول عنه الشبهة.

(أفْعل ويفاعيل) من الثلاثي للاسم والصفة
قال سيبويه في الأبنية: (ويكون على (أفنعَل) في الاسم والصفة. فالاسم نحو: ألَنحَج وأبَنْبَم، والصفة نحو: ألَنْدَد). قال الطِرِمّاح:
كم دونَ إلفِكَ منِ نياطِ تنوفةٍ ... قذَفٍ تظلُّ بها الفرائضُ ترْعَدُ
فيها ابنُ بَجْدَتِها يكادُ يذيبه ... وقدُ النهار إذا استدار الصيخَدُ
(يوفي على جِذْم الجُذولِ كأنه ... خصْمُ أبرَّ على الخصوم ألَندَدُ)
التنوفة: الأرض الواسعة وجمعها تنائف، والنياط: البُعد،

(2/348)


والقَذَف: البعيدة، والفرائص: جمع فريصة وهي لحمة في مرجع الكتف. وأراد أن فرائص من يسلك هذه التنوفة ترعد من الخوف فيها. وقوله: فيها ابن بجدتها، يريد: في هذه
التنوفة ابن بجدتها وزعموا أنه يعني بابن بجدتها الحرباء، ويقال للرجل المقيم بالبلد لم يبرح منه قط: ابن بجدته، ويقال للعالم بالأرض ابن بجدتها.
والصَّيْخد: الحر الشديد، ويقال: شمس صيخد إذا كانت حارة. يعني أن الحر يكاد يذيب الحرباء، واستدار: يريد علت الشمس، فصار حرها كأنه مستدير على الرؤوس، ويوفي: يشرف، والجِذم: أصل الشجرة، والجذول: جمع جِذْل وهو أيضاً الأصل من أصول الشجرة. أبرَّ على الخصوم: غلبهم، والألندد: الشديد الخصومة.
شبه الحرباء - حين ارتفع على أصل الشجرة، ومد رأسه نحو الشمس - بخصم قد غلب خصومه، فرأسه مرتفع لم يطأطئه، لأنه لم يُغلب فيطأطئ رأسه.
قال سيبويه في الأبنية: (ويكون على (يَفاعيل): في الاسم نحو: يرابيع ويعاقيب ويعاسيب، والصفة نحو: اليحاميم واليخاضير، وصفوا باليحموم كما وصفوا باليخضور).
قال غيْلان بن حُريث:
كأنهمْ للناظرِ المُتيرِ
(عَيْدانُ شطيْ دجلةَ اليَخضورِ)

(2/349)


وصف ظعُناً تحملت وسارت، وشبه الهوادج على الإبل بالعَيْدان من النخل، الذي قد طال وفات المتناول، كأنهم - يعني القوم الذين ساروا - للإنسان الذي ينظر إليهم، والمُتير: المُتئر بالهمز وبغير الهمز: هوالذي يديم النظر. يقال: أتأر وأتار.
و (عيدان) مرفوع خبر (كأن) وشطا دجلة: جانباه، و (اليخضور) مجرور، وظاهره أنه نعت لـ (عيدان) و (عيدان) مرفوع، فكان ينبغي أن يقول: (اليخضورُ) بالرفع، ووجه الجر فيه عندي أنه نعت لشيء محذوف، والتقدير فيه أنه أراد: (عيدان نخل شطي دجلة اليخضور) فحذف (النخل) وأقام المضاف إليه
مقامه، ونعَت على لفظ ذلك المحذوف.
فإن قال قائل: فالعَيْدان هو النخل، فكيف أضاف العيدان إلى (نخل)؟ قيل له: ليس كل نخل عيداناً، وإنما العيدان بعضه، فهو في تقدير قائل قال: كأنهم أوساط النخل أو صغار النخل أو ما أشبه ذلك.
وقال العجاج:
كأنّ ريحَ جوفه المَزْبورِ
بالخُشْب تحت الهَدَب اليَخضورِ
مَثواةُ عطارِين بالعُطورِ
وصف كِناس الثور الوحشي. يعني كأن ريح جوف الكِناس،

(2/350)


والمزبور: المَطويّ بالخشب، و (بالخُشْب) في صلة (المزبور)، يريد المزبور بالخشب، وفي الشعر تضمين. والهدب: ورق الشجر، واليخضور: الأخضر. يريد أنه طُوي أسفلُ الكِناس بالخشب الذي ليس فيه ورق، والورق الأخضر في أعلى الكناس.
والمثواة والمثوى: موضع الإقامة، والعطور: جمع عطر. يصف طِيب ريح الكناس الذي هوبيت الثور الوحشي. و (مثواة) رفع خبر كأنّ.

في مسألة (لاثٍ وشاكٍ) وأمثالهما
قال سيبويه: (وأما الخليل فكان يزعم أن قوله: (جاءٍ وشاءٍ) ونحوهما اللام فيهن مقلوبة. وقال: ألزَموا ذلك هذا واطرد فيه، إذ كانوا يقلبون كراهية الهمزة الواحدة).
يريد أن الخليل يقول: كل ما كان من الأسماء معتل العين، ولامه همزة، وبنيتَ منه (فاعلاً) فإنك تقدم اللام إلى موضع العين، وتجعل العين في موضع اللام.
واحتج الخليل بأن قال: قد رأيناهم يَكرهون إعلال العين وقبلها همزة، في بعض الصفات التي لام الفعل منها حرف صحيح، فيقولون - في (لائث) وهو من لاث
يلوث، وفي (شائك) وهو من الشوكة، وفعله شاك يَشاك -: (لاثٍ وشاكٍ).
فإذا كانوا قد ثقل عليهم في بعض المواضع أن يُعلوا العين مع صحة اللام حتى أخروها، ألزموا ما كانت عين الفعل فيه حرف علة ولامه همزة، تقديم الهمزة في موضع العين، حتى يقل إعلامهم، لأنهم لو أعلوا العين لهمزوها، وإذا همزوها اجتمع

(2/351)


في الكلمة همزتان: همزة العين، والهمزة التي هي لام، ولزم أن تقلب الهمزة الثانية ياء، لئلا يجتمع همزتان في كلمة، فكان عنده أن تقديم اللام - في هذا ونحوه - أسهل من صنعة النحويين:
قال العجاج - ووصف امرأة:
كأنما عظامُها بَرْدِيُّ
سقاه رَيّاً حائرُ رَويُّ
بالمأدِ حتى هو يمؤوديُّ
في أَيكهِ فلا هو الضحيُّ
ولا يلوحُ نبته الشتيُّ
(لاثٍ به الأشاءُ والعُبْريُّ)
عَنى بعظامها ساقيها وذراعيها، وأراد أنها تشبه أصول البَرْديّ في بياضه ونعمته، والحائر: المكان الذي يجتمع فيه الماء، ويتحير فيه فلا يخرج منه، والمأد: اهتزاز النبت.
يريد أن البَرديّ يهتز من نعمته ورِيّه، واليمؤودي مثل المأد، والأيكة: جماعة الشجر المجتمعة بمكان، والضحي: البارز للشمس و (هو) ضمير يعود إلى (البَردي). يقول: البردي نابت في حائر، حوله نخل وشجر يُكنه، فليس يبرز للشمس. ولا يلوح نبت هذا الحائر أي لا يظهر في الشتاء للشمس، لأن الشمس لا تعلوفي أوسط السماء حتى تقع على ما في وسط الحائر.
والأشاء: صغار النخل، والعُبري: السِّدر البري، واللائث واللاثي: الذي يحيط به ويدور حوله.

مجيء (فعلاء) اسماً
قال سيبويه قال زبّان بن سيار الفزاري:
(رحلتُ إليكَ من جَنفاَء حتى ... أنختُ فِناَء بيتكَ بالمَطالي)

(2/352)


فإنّ قلائصاً طَوَّحْنَ شهراً ... ضلالاً ما رحلنَ إلى ضلالِ
كان زبّان بن سيار أنعمَ على حنظلة بن الطفيل بن مالك، ثم رحل زبان إليه يستثيبه. والمطالي: جمع مَطلاء وهي أرض سهلة. يريد أنه رحل إليه، وأناخ بفناء بيته ليُثيبه. و (إن قلائصاً طوحن شهراً ضلالاً) يعني أنها سارت شهراً حتى وصلت إلى الموضع الذي قصدته. وطوحن: ذهبن وبعُدن في الأرض، والتطويح: بُعد الذهاب.
يقول: إن إبلاً طوحت شهراً ضلالاً، يعني أنها بعد سيرها، ووصولها لم يحظ بشيء مما أرادته - فسيرها كان ضلالاً. يقول: إن قلائص سارت شهراً في ضلال ما رحلتا ضلالاً إلى الذي سارت إليه، لأنه كافأه وأثابه، لم تكن قلائصه رحلت ضلالاً، مثلَ قلائص رجل آخر سار شهراً إلى موضع أراده فلم ينل منه شيئاً.

إدغام (التاء في الضاد) (واللام في الشين)
قال سيبويه في الإدغام، قال القنانيّ:
عَمْرُكَ ما زيدُ بنامَ صاحبُهْ
ولا مُخالطُ الليان جانبهْ
يَرعى النجومَ مشرفاً مناكِبُهْ
إذا القمير غابَ عنه حاجبُهْ
(ثار، فضجت ضّجّةً ركائبُهْ)

(2/353)


يقول: ما زيد برجل نام صاحبه، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. يريد إن الذي يصاحبه في السفر لا ينام، لأنه قليل النوم متيقظ جَلد لا يكسره السفر، ولا ترخيه سُرى الليل، ولا يلين جانبه من تعب ولا عمل، يرعى النجوم لئلا يضل في سيره.
والمشرف: العالي المرتفع، وحاجب قمر: جانبه، والركائب: جمع رِكاب، والركاب: جماعة الإبل التي تركب في الأسفار. يعني أن القمر لما غاب ثار هو، فشد الرحال على الإبل، فضجت: رغت وصاحت.
والشاهد فيه إدغام التاء في الضاد.
قال سيبويه في الإدغام، قال طريف بن ربيعة العنبري:
(تقولُ إذا استهلكْتُ شيئاً للذّةٍ ... فكيْهَةُ هشيءُ بكفيكَ لائقُ)
فقلت لها: إن الملامةَ نفعُها ... قليلُ، وليستْ تستطاعُ الخلائقُ

(2/354)


الشاهد فيه على إدغام اللام من (هل) في الشين من (شيء).
وفكيهة امرأته، واللائق: اللازم اللازق، والخلائق: الطبائع. يريد أن امرأته لامته على إنفاق ماله في لذاته وقالت: هل شيء من المال ثابت في كفيك. وقوله: (فقلت لها إن الملامة نفعها قليل) يعني أن ملامتها له لا ينتفع بها، لأنه لا يقبل منها ما تقول، ولا يترك إنفاقَ ماله في لذاته.
وقوله: وليست تستطاع الخلائق، يريد: وليس يمكن تغيير الخلائق، أي تغيير الطباع.
يقول: إنه من كان من طبعه الجود والإنفاق، لا يمكن تغيير خلقه. والمعنى: ليس يستطاع تغيير الخلائق، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.