علل النحو

 (21 - بَاب حَتَّى)

إِن قَالَ قَائِل: مَا الأَصْل فِي (حَتَّى) ، أَن تكون عاطفة أم جَارة؟
قيل لَهُ: الأَصْل فِيهَا أَن تكون جَارة، ودخولها فِي بَاب الْعَطف حملا على الْوَاو، وَالدَّلِيل على أَن أَصْلهَا الْجَرّ أَنَّهَا إِذا جعلت عاطفة لم تخرج من معنى الْغَايَة، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيد، ومررت بالقوم حَتَّى زيد، ف (زيد) بعض الْقَوْم، وَإِذا رفعت أَيْضا على الْعَطف، فَهُوَ بعض الْقَوْم، وَلَو كَانَ أَصْلهَا الْعَطف لوَجَبَ أَن يكون مَا بعْدهَا من غير جنس مَا قبلهَا، إِذا كَانَت حُرُوف الْعَطف هَكَذَا حكمهَا، نَحْو قَوْلك،: جَاءَنِي زيد وَعَمْرو، وَلَا يجوز جَاءَنِي زيد حَتَّى عَمْرو، وَكَذَلِكَ لَا يجوز الْخَفْض على الْغَايَة، فَهَذَا دَلِيل على أَنَّهَا أصل الْغَايَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن أشبهت الْوَاو؟
قيل: لِأَن أصل الْغَايَة أَن تدخل مَا بعْدهَا فِي حكم مَا قبلهَا، أَلا ترى أَن قَوْلك: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيد، مَعْنَاهُ: أَن الضَّرْب وَقع على زيد، كَمَا أَنَّك لَو قلت: ضربت الْقَوْم وزيدا، لَكَانَ (زيد) مَضْرُوبا، فَلَمَّا اشْتَركَا فِي الْمَعْنى حملت (حَتَّى) على الْوَاو.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب أَن يكون مَا بعد (حَتَّى) جُزْءا مِمَّا قبلهَا؟
قيل لَهُ: لِأَن مَعْنَاهَا أَن تَأتي لاخْتِصَاص مَا يَقع عَلَيْهِ، إِمَّا لرفعته أَو لدناءته،

(1/317)


وَذَلِكَ إِذا قلت: ضربت الْقَوْم، فَلَا بُد أَن يكون الْقَوْم عِنْد الْمُخَاطب (39 / ب) مخصوصين معروفين، وَفِيهِمْ دنيء ورفيع، فَإِذا قلت: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيد، فَلَا بُد أَن يكون زيد إِمَّا أرفعهم أَو دونهم، ليدل بِذكرِهِ أَن الضَّرْب قد انْتهى إِلَى الرفعاء أَو إِلَى الخبثاء، وَلَو لم يكن (زيد) بِهَذِهِ الصّفة، لم يكن لذكره إِيَّاه فَائِدَة، إِذْ كَانَ قَوْلك: ضربت الْقَوْم، يشْتَمل على (زيد) ، فَلَمَّا كَانَ لَا بُد من ذكر (زيد) على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَجب أَن يكون بَعْضًا مِمَّا قبله، ليدل على هَذَا الْمَعْنى، ولهذه الْعلَّة لَا يجوز أَن تَقول: ضربت الرِّجَال حَتَّى النِّسَاء، لِأَن النِّسَاء لَيْسَ من نوع الرِّجَال، وَلَا يتَوَهَّم دخولهن مَعَ الرِّجَال، فَلهَذَا لم يجز، وَإِذا قلت: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدا ضَربته، فَذكرت بعد (حَتَّى) اسْما وفعلا من جنس الْفِعْل الْمُتَقَدّم، وَكَانَ ناصبا لضمير الِاسْم، فلك فِيهِ ثَلَاثَة أوجه:
الْخَفْض على الْغَايَة، وَإِذا خفضت الِاسْم صَار الْفِعْل الَّذِي بعد الِاسْم مؤكدا للْفِعْل الْمُتَقَدّم، وَلَا مَوضِع لَهُ، وَإِن نصبته أضمرت فعلا ينصبه، وَصَارَ الْفِعْل الظَّاهِر تَفْسِيرا للْفِعْل الْمُضمر، وَلَا مَوضِع لَهما من الْإِعْرَاب، لِأَن الْفِعْل الْمُضمر مَعْطُوف على الْمُبْتَدَأ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل الْمُبْتَدَأ بِهِ لَا مَوضِع لَهُ من الْإِعْرَاب، فَكَذَلِك حكم مَا عطف عَلَيْهِ، والمفسر لَهُ يجْرِي مجْرَاه، فَإِذا رفعت الِاسْم صَار مُبْتَدأ، وَالْفِعْل الَّذِي بعده فِي مَوضِع خَبره، وعَلى هَذَا الْوَجْه يصير مَوضِع الْفِعْل رفعا، لِأَنَّهُ فِي مَوضِع خبر الْمُبْتَدَأ. وَأما إِذا كَانَ بعد (حَتَّى) اسمان فَلَا يجوز الرّفْع على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر، وَذَلِكَ أَن حرف الْجَرّ لَا يجوز أَن يخْفض أَكثر من اسْم وَاحِد إِلَّا على طَرِيق الِاشْتِرَاك

(1/318)


والنعت، فَلَو خفضت الِاسْم الأول فِي قَوْلك: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيد غَضْبَان، بَقِي (غَضْبَان) بِلَا شَيْء يخفضه وَلَا يرفعهُ وَلَا ينصبه، وَهَذَا يَسْتَحِيل أَن يكون مُفْرد مُعرب بِغَيْر شَيْء يعربه، فَلهَذَا بَطل الْجَرّ، وَصَارَ (حَتَّى) هَا هُنَا بِمَنْزِلَة الْوَاو. وَأما بَيت الفرزدق:
(فواعجبا حَتَّى كُلَيْب تسبني ... كَأَن أَبَاهَا نهشل أَو مجاشع)

فَلَو ذكرنَا قبل (حَتَّى) لفظ السب، كَقَوْلِك: يَا عجبا يسبني النَّاس حَتَّى كُلَيْب تسبني، لجَاز فِي (كُلَيْب) الرّفْع والجر، فالرفع على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر، والجر على الْغَايَة، وَيكون (تسبني) توكيدا للسب الْمُتَقَدّم، وَإِذا رفعت فعلى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر، إِلَّا أَن الْبَيْت لما لم يذكر فِي أَوله السب، لم يجز أَن تخْفض (كليبا) ، لِأَنَّهُ يبْقى مُعَلّقا بِغَيْر شَيْء، فَلهَذَا لم يجز عندنَا إِلَّا الرّفْع، وَقد أجَاز الْخَفْض فِيهِ أهل الْكُوفَة وحملوا الْكَلَام على الْمَعْنى، والأجود قَوْلنَا، لِأَن اللَّفْظ لَهُ حكم، وَلَيْسَ كل مَا جَازَ على الْمَعْنى يجوز على الْعَطف، فاعرفه.

(1/319)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (22 - بَاب مَا تنصبه الْعَرَب وترفعه)

إِن قَالَ قَائِل: بِأَيّ شَيْء تنصب (وَرَاءَك) فِي قَوْلك: (وَرَاءَك أوسع لَك) ؟ الْمَعْنى الْمُقدر هُوَ: تَأَخّر وَرَاءَك.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم حسن النصب فِي قَوْلك: مَا صنعت وأباك؟
قيل لَهُ: لِأَن ضمير الْمَرْفُوع لَا يحسن الْعَطف عَلَيْهِ إِلَّا أَن يُؤَكد، فَعدل بِهِ إِلَى
النصب، لقبح الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع، فَإِن أكدت الضَّمِير، قلت: مَا صنعت أَنْت وَأَبُوك، حسن الرّفْع، وَالنّصب (40 / أ) جَائِز، فاعرفه.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ كل فعل يحسن فِيهِ هَذَا، لَو قلت: قُمْت وعمرا، لم يحسن، وَيجوز مَعَ ذَلِك، وَالْأَحْسَن أَن يسْتَعْمل هَذَا الْبَاب فِي كل فعل بِمَعْنى (مَعَ) ، أَلا ترى أَن قَوْلك: مَا صنعت، يَقْتَضِي (مَعَ) ، إِذْ كَانَ قَوْلك: مَا صنعت، يَقْتَضِي مصنوعا مَعَه، فَلهَذَا حسن تَقْدِير (مَعَ) فِي هَذِه الْأَفْعَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن جَازَ أَن تنوب الْوَاو عَن معنى (مَعَ) ؟
قيل لَهُ: لِأَن (مَعَ) تَقْتَضِي مُشَاركَة مَا بعْدهَا مَعَ مَا قبلهَا، كَقَوْلِك: جَاءَنِي زيد مَعَ عَمْرو، فعمرو قد شَارك زيدا فِي الْمَجِيء، كَمَا شَاركهُ لَو قلت: جَاءَنِي زيد وَعَمْرو، فَلهَذَا قَامَت مقَامه.
وَاعْلَم أَن المفعولات الَّتِي ذَكرنَاهَا إِنَّمَا نسبت إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من أجل الْمَعْنى، فَسُمي الْمصدر مَفْعُولا مُطلقًا، لِأَن الْعَامِل أحدثه. وَسمي (زيد) وَمَا جرى مجْرَاه من المفعولات مَفْعُولا بِهِ، لِأَن الْفَاعِل لم يفعل زيدا، وَإِنَّمَا هِيَ أَفعَال تحل بزيد،

(1/320)


فلأجل تقديرنا أَن الْفَاعِل حل بِهِ، سمي مَفْعُولا بِهِ، وَكَذَلِكَ سمي الظّرْف مَفْعُولا فِيهِ، لِأَن معنى الْفِعْل أَنه حل فِيهِ.
وَكَذَلِكَ الْحَال إِذا كَانَ معنى قَوْلنَا: أَقمت ضَاحِكا، أَي: إقامتي فِي هَذِه الْحَال.
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا: جئْتُك مَخَافَة الشَّرّ، فَسُمي أَيْضا من أَجله، لِأَن اللَّام مقدرَة.

(1/321)


(23 - بَاب وَهُوَ مَا كَانَ من الْأَفْعَال يتَعَدَّى بِحرف جر)

اعْلَم أَن الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب أَن يتَعَدَّى الْفِعْل بِحرف الْجَرّ، وَإِنَّمَا حذف حرف الْجَرّ اسْتِخْفَافًا، وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، وَأكْثر مَا يحذف مِنْهُ حرف الْجَرّ إِذا كَانَ فِي الْفِعْل دَلِيل عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن قَوْلك: اخْتَرْت الرِّجَال زيدا، أَن لفظ الِاخْتِيَار يَقْتَضِي تبعيضا، فَلهَذَا جَازَ حذف (من) لدلَالَة الْفِعْل عَلَيْهَا، وَمِنْه مَا يحذف اسْتِخْفَافًا لكثرته فِي كَلَامهم، كَقَوْلِهِم: نصحت زيدا، وسميتك زيدا، وكنيتك أَبَا عبد الله، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء قد كثرت فِي كَلَامهم فاستخفوها، فحذفوا حرف الْجَرّ.
وَكلتك ووعدتك، حذفوا حرف الْجَرّ، إِذْ لَا يشكل مَعْنَاهُمَا. فَأَما الْبَاء فِي قَوْلك: لست بمنطلق، فَلَيْسَتْ مَا تَقْتَضِيه مِنْهَا (لَيْسَ) اقْتِضَاء الْأَفْعَال لحرف الْجَرّ، إِذْ كَانَت (لَيْسَ) تعْمل فِي الْخَبَر، كعمل (كَانَ) فِي خَبَرهَا، وَإِنَّمَا تدخل فِي خبر (لَيْسَ) على طَرِيق التوكيد للنَّفْي، لما ذَكرْنَاهُ فِي بَاب (مَا) ، فاعرفه، وَقد تحْتَمل أَن تجْعَل من قَوْلك: من أحد، مفيدة، وَذَلِكَ أَن (أحدا) تسْتَعْمل بِمَعْنى الْعُمُوم، فَإِذا قلت: مَا جَاءَنِي أحد، جَازَ أَن يتَوَهَّم إِيجَاب، و (أحد) قد دخلت من جِهَة الْمَعْنى، وَصَارَ اللَّفْظ مُخْتَصًّا لنفي الْجِنْس

(1/322)


(24 - بَاب التَّعَجُّب)

إِن قَالَ قَائِل: لم خصت (مَا) من بَين سَائِر الْأَسْمَاء بالتعجب؟
قيل لَهُ: لإبهامها، وَالشَّيْء إِذا أبهم كَانَت النَّفس مشرفة إِلَيْهِ، وَالدَّلِيل على أَن (مَا) أَشد إبهاما من (من وَأي) ، أَنَّهَا تقع على مَا لَا يعقل، وعَلى صفة من يعقل، و (من) تخْتَص بِمن يعقل، فَصَارَت (مَا) أَعم، وَمَعَ ذَلِك فَإِن (مَا) وَاقعَة على الشَّيْء الَّذِي يتعجب مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن الشَّيْء لَيْسَ مِمَّا يعقل، فَلم يجز إِدْخَال (من) هُنَا. وَأما (أَي) فَهِيَ متضمنة للإضافة، وَالْإِضَافَة توضحها، فَلذَلِك لم تقع هَذَا الْموقع.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا استعملوا (الشَّيْء) إِذْ كَانَ أبهم الْأَشْيَاء؟
قيل لَهُ: إِن (الشَّيْء) رُبمَا يسْتَعْمل للتقليل (40 / ب) ، وَلَو قلت: شَيْء أحسن زيدا، لجَاز أَن يعْتَقد أَنَّك تقلل الْمَعْنى الَّذِي حسن زيدا، فتجنبوه لهَذَا الْوَجْه، وَأَيْضًا فَإِن الْغَالِب على قَوْلك: شَيْء حسن زيدا، أَنه إِخْبَار عَن معنى مُسْتَقر، وَمَا تتعجب مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يَسُرك فِي الْحَال، فَأَما مَا قد اسْتَقر وَعرف، فَلَا يجوز التَّعَجُّب مِنْهُ، فَلهَذَا خصت من بَين سَائِر الْأَسْمَاء بالتعجب.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خص فعل التَّعَجُّب بِأَن يكون مَنْقُولًا من الثَّانِي؟
قيل لَهُ: إِن النَّقْل لَا يكون إِلَّا بالأفعال الثلاثية، كَقَوْلِك: قَامَ زيد، ثمَّ تَقول: أقمته، وَكَذَلِكَ تَقول: حسن زيد، فتخبر عَنهُ، ثمَّ تَقول: أحسنته، إِذا

(1/323)


أردْت أَنَّك حسنته، نقلت هَذِه الْأَفْعَال إِلَى لفظ الرباعي، فَصَارَ: مَا أحسن زيدا، بِمَنْزِلَة: شَيْء أحسن هُوَ زيدا، فَصَارَ (زيد) مَفْعُولا يَجْعَل الْفِعْل لغيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لَا يجوز فِي الْأَفْعَال الرّبَاعِيّة فِي غير التَّعَجُّب؟
قيل لَهُ: فِي ذَلِك وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه لَو جَازَ النَّقْل فِي الرباعي، لجَاز فِي الخماسي والسداسي، وَلَو جَازَ ذَلِك أَيْضا لصار السداسي سباعيا، وَلَيْسَ فِي الْأَفْعَال مَا هُوَ على سَبْعَة أحرف، فَلَمَّا كَانَ نقل الرباعي يُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوج عَن الْكَلَام، لم يجز.
وَوجه آخر: أَن الْأَفْعَال الْأُصُول تقع على ضَرْبَيْنِ: ثلاثي ورباعي، فَجَاز نقل الثلاثي ليحمل على الرباعي الَّذِي هُوَ الأَصْل، فَلَو نقل الرباعي لم يكن لنا أصل يرد إِلَيْهِ، فَلهَذَا لم يجز.
وَوجه ثَالِث: وَهُوَ أَن الثلاثي أخف الْأَبْنِيَة، فلخفته جَازَ أَن تزاد عَلَيْهِ الْهمزَة للنَّقْل، وَمَا زَاد على الثلاثي فَهُوَ ثقيل، فَلم تجز الزِّيَادَة فِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خصت الْهمزَة من بَين سَائِر الْحُرُوف؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهَا أقرب إِلَى حُرُوف الْمَدّ، إِذْ كَانَت من مخرج الْألف، وَالْألف لَا تكون الِابْتِدَاء بهَا، وَكَانَت أولى من الْهَاء، لِأَنَّهَا قد كثر زيادتها فِي هَذَا الْموضع، نَحْو: أصفر وأحمر، وَمَا أشبه ذَلِك، فَلَمَّا كثر زيادتها أَولا كَانَت

(1/324)


أولى من سَائِر الْحُرُوف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن زعمتم أَن (أحسن) فِي التَّعَجُّب فعل، وَمَا تنكرون أَن يكون اسْما لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن التصغير يدْخلهُ، كَقَوْلِك: مَا أحيسن زيدا. وَالثَّانِي: أَنه يَصح الْأَسْمَاء، كَقَوْلِك: مَا أقوم زيدا، وَالْفِعْل معتل، فَيُقَال: أَقَامَ زيد عمرا، وَلَا يُقَال: أقوم زيد عمرا؟
قيل لَهُ: الدَّلِيل على أَنه فعل لُزُوم الْفَتْح لآخره، وَلَو كَانَ اسْما لوَجَبَ أَن يرفع إِذا كَانَ الْمُبْتَدَأ، أَلا ترى أَنَّك تَقول: زيد أحسن من عَمْرو، ترفع، وَإِن فتحتها قلت مَا أحسن زيدا، فتفتح، وَلَو كَانَ الَّذِي بعْدهَا اسْما لارتفع، فَلَمَّا لزمَه الْفَتْح دلّ على أَنه فعل مَاض.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن دلّ عَلَيْهِ قَول الْفراء: إِنَّمَا يفتح آخِره، ليفرق بَينه وَبَين الِاسْتِفْهَام، وَالْأَصْل فِيهِ الِاسْتِفْهَام؟
قيل لَهُ: هَذَا لَا يجوز، وَذَلِكَ أَن للاستفهام معنى مباينا لِمَعْنى التَّعَجُّب، وَإِذا تباينت الْمعَانِي لم يجز أَن يَجْعَل أَحدهمَا أصلا للْآخر، فَإِذا كَانَ قد فسد أَن يَجْعَل الِاسْتِفْهَام أصلا للتعجب ثَبت مَا ذَكرْنَاهُ. وَأما احتجاجهم بِالتَّصْغِيرِ فساقط، وَذَلِكَ أَن فعل التَّعَجُّب قد لزم طَريقَة وَاحِدَة، فَجرى فِي اللَّفْظ مجْرى الْأَسْمَاء، فأدخلوا عَلَيْهِ التصغير تَشْبِيها بِالِاسْمِ، وَلَيْسَ يجب أَن يكون الشَّيْء إِذا حمل على

(1/325)


غَيره لشبه بَينهمَا (41 / أ) أَن يخرج من جنسه، إِلَّا أَن اسْم الْفَاعِل قد عمل عمل الْفِعْل، وَلم يُخرجهُ ذَلِك إِلَى أَن يكون اسْما، وَكَذَلِكَ فعل التَّعَجُّب - وَإِن صغر تَشْبِيها بِالِاسْمِ - فَلَا يجب أَن يكون اسْما.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْفِعْل يدل على مصدره، وَإِذا زادوا يَاء التصغير أَرَادوا تحقير الْجِنْس الَّذِي وَقع فِيهِ التَّعَجُّب، وَهُوَ الْمصدر بِعَيْنِه، فَلم يُمكنهُم لعدم لفظ الْمصدر، فأدخلوا التصغير على الْفِعْل، وهم يُرِيدُونَ بِهِ الْمصدر، لِأَنَّهُ شَبيه بِهِ ودال عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ التصغير دخل على الْفِعْل على طَرِيق الْعَارِية لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، لم يكن تصغيره دلَالَة على أَنه اسْم، وَأما تَصْحِيحه فَلَمَّا ذَكرْنَاهُ من تشبيهه بِالِاسْمِ، إِذْ قد لزم طَريقَة وَاحِدَة، كَمَا يَصح الِاسْم.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا أوجه تَصْحِيح الِاسْم؟
قيل لَهُ: ليفصل بَينه وَبَين الْفِعْل، وَذَلِكَ أَن مَا كَانَ على (أفعل) - وَهُوَ صفة - لَا ينْصَرف، فَإِذا لم ينْصَرف، لم يدْخلهُ الْجَرّ وَلَا التَّنْوِين، كَمَا أَن الْفِعْل لَا يدْخلهُ جر وَلَا تَنْوِين، فَلَو أعللنا الِاسْم كَمَا يعل الْفِعْل لم يَقع بَينهمَا فصل، فَجعل التَّصْحِيح فصلا بَينه وَبَين الْفِعْل، وَإِنَّمَا كَانَ الِاسْم الصَّحِيح أولى من الْفِعْل، لِأَن الْفِعْل يتَصَرَّف فَتدخل الحركات على حُرُوف الْمَدّ فِي تصاريف الْفِعْل، وَذَلِكَ مستثقل، وَالِاسْم يلْزم طَريقَة وَاحِدَة، وَالْحَرَكَة إِنَّمَا تدخل على حُرُوف الْمَدّ فِي الِاسْم فِي مَوضِع وَاحِد، فَكَانَ أولى بالتصحيح من الْفِعْل لما ذَكرْنَاهُ.
وَأما (دَار، وَبَاب) فَإِنَّمَا أعلا لِأَن الْجَرّ والتنوين يدخلهما، فَيَقَع بهما

(1/326)


الْفَصْل بَين الِاسْم وَالْفِعْل، فَلم يجب تصحيحهما، فحملا على الْفِعْل فِي الإعلال لِأَنَّهُ أخف.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: مَا أحسن مَا قَامَ زيد، ف (مَا) الثَّانِيَة مَعَ الْفِعْل مصدر، وَزيد: فَاعل الْقيام، وَلَا تحْتَاج (مَا) إِلَى ضمير يرجع إِلَيْهَا عِنْد سِيبَوَيْهٍ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة (أَن) فِي هَذَا الْموضع، وَإِن كَانَت بِمَنْزِلَة (الَّذِي) لم تجز الْمَسْأَلَة، لِأَنَّهَا فِي صلتها ضمير يرجع إِلَيْهَا، فَإِن أردْت أَن تجعلها بِمَنْزِلَة (الَّذِي) قبح، وَكَانَ لَفظه: مَا أحسن مَا قَامَ زيد إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَقول: مَا أحسن مَا كَانَ زيد، إِذا جعلت (كَانَ) بِمَنْزِلَة (وَقع) وَجعلت (مَا) وَالْفِعْل مصدرا، فَإِن نصبت زيدا ب (كَانَ) جَعلتهَا بِمَنْزِلَة (الَّذِي) ، وَجعلت فِي (كَانَ) ضميرا يرجع إِلَيْهَا، ونصبت زيدا على خبر (كَانَ) ( ... . .) قبح أَن تجْعَل (مَا) بِمَنْزِلَة (الَّذِي) فِي هَذَا الْموضع، لِأَن (مَا) إِنَّمَا تقع على ذَات مَا لَا يعقل، وَأحسن لَا يعقل، وَلَا يحسن أَن تقع على ذَات مَا يعقل، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: مَا كَانَ فِي الدَّار؟ لَكَانَ الْجَواب: حمَار أَو ثَوْر، وَلَا يجوز أَن يكون الْجَواب: زيد

(1/327)


وَلَا عَمْرو، إِلَّا أَنه جَازَ مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَن الصّفة هُوَ الْمَوْصُوف، فَإِن قلت: مَا أظرف مَا كَانَ زيد، وَمَا أعلم مَا كَانَ زيد، كَانَ محالا، لِأَن (مَا) مَعَ الْفِعْل بِمَنْزِلَة الْمصدر، فَيصير التَّقْدِير: مَا أظرف كَون زيد، وَمَا أعلم كَون زيد، والكون لَا يُوصف بالظرف وَالْعلم.
فَإِن نصبت (زيدا) على أَن تجْعَل (مَا) بِمَنْزِلَة (الَّذِي) جَازَ ذَلِك، فاعرفه.
وَاعْلَم أَن الألوان والخلق إِنَّمَا لم يشتق مِنْهُمَا فعل للتعجب لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن أصل أفعالها أَن يسْتَعْمل على أَكثر من ثَلَاثَة أحرف، وَذَلِكَ أَن (عور) أَصله فِي الِاسْتِعْمَال (اعور) ، وَكَذَلِكَ (حول) (41 / ب) أَصله (احول) .
وَمَا زَاد على الثلاثي من الْأَفْعَال فِي بَاب الِاسْتِعْمَال لم يجب أَن يبْنى مِنْهَا فعل التَّعَجُّب، لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط الزَّوَائِد مِنْهُ حَتَّى يرجع إِلَى ثَلَاثَة أحرف، ثمَّ تدخل عَلَيْهِ همزَة التَّعَدِّي، وَإِسْقَاط الزَّوَائِد مِنْهُ يبطل مَعْنَاهُ، فَلهَذَا لم يجز أَن يبْنى من الألوان، وَلَا مِمَّا زَاد على ثَلَاثَة أحرف من الْأَفْعَال، وَإِن كَانَ زيدا، إِلَّا أَن تكون الزَّوَائِد لَو حذفت لم يخل بِمَعْنى، فقولك: مَا أفقر زيدا، وَإِن كَانَ الْمُسْتَعْمل: افْتقر زيد، لِأَنَّك رددت (افْتقر) إِلَى (أفقر) ، فَكَانَ اللَّفْظ لَا يُغير من معنى الْكَلِمَة، فَلهَذَا جَازَ، وَكَذَلِكَ تَقول: مَا أعطَاهُ للدرهم، وأولاه

(1/328)


بالجميل، لِأَنَّك رددت (أولى وَأعْطى) إِلَى أَصلهمَا، ثمَّ نقلتهما بِالْهَمْزَةِ، فأصلهما وَاحِد، فَلهَذَا جَازَ نقل (أعْطى وَأولى) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن زعمتم أَن الأَصْل فِي (عور) : اعور، وَمَا تنكرون أَن أَصله (عور) لَا (اعور) ؟
قيل: الدَّلِيل على مَا ذَكرْنَاهُ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه قد اطرد فِي هَذِه الألوان والخلق أَن يَجِيء على (افْعَل) ، كَقَوْلِك: اصفر واخضر، وَلَا يَجِيء على (فعل) نَحوا، فَدلَّ امْتنَاع فعل التَّعَجُّب من جَمِيعهَا أَنه مَرْفُوع فِي الِاسْتِعْمَال، فَإِن الأَصْل فِي الِاسْتِعْمَال الْفِعْل المطرد فِي جَمِيع الْبَاب.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن (أفعل) أثقل من (فعل) ، وَمن كَلَامهم جَوَاز التَّخْفِيف من الثقيل، أَعنِي أَنهم ينتقلون من الثقيل إِلَى الْخَفِيف، وَإِنَّمَا نقل (عور) من (اعور) ، و (حول) من (احول) ، وَلَيْسَ من كَلَامهم أَن ينقلوا الْخَفِيف إِلَى الثقيل، إِذا اتفقَا فِي الْمَعْنى، اعني الْخَفِيف والثقيل، لِأَن نقل الْخَفِيف يُوجب تكلفا لَا فَائِدَة فِيهِ، إِذا كَانَا فِي هَذَا الْموضع قد اتفقَا فِي الْمَعْنى، وَمثل هَذَا لَا يَقع من حَكِيم، فَدلَّ استعمالهم (عور واعور) بِمَعْنى وَاحِد، أَن (عور) مخفف من (اعور) ، وَيجوز أَن يعتل فِي امْتنَاع اشتقاق الْفِعْل من الألوان والخلق بِمَا يحْكى عَن الْخَلِيل، وَهَذِه الْأَشْيَاء لما كَانَت مُسْتَقِرَّة فِي الشَّخْص وَلَا تكَاد تَتَغَيَّر، جرت مجْرى ( ... .) الثَّلَاثَة الَّتِي لَا يعْنى للْفِعْل فِيهَا ك (الْيَد وَالرجل) ، فَكَمَا لَا تَقول: مَا أيداه، وَلَا: مَا أرجله،

(1/329)


إِذْ كَانَا اسْمَيْنِ لَيْسَ بجاريين على فعل، فَكَذَلِك لَا يجوز فِي الألوان والخلق اشتقاق فعل التَّعَجُّب حملا على (الْيَد وَالرجل) .
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: أحسن بزيد، وأظرف بِعَمْرو، فالباء يجوز أَن يكون موضعهَا رفعا ونصبا، وَالْأَظْهَر أَن يكون مَوضِع الْبَاء وَمَا بعْدهَا رفعا، لِأَن (أحسن) فعل، وَلَا بُد للْفِعْل من فَاعل، وَوَجَب أَن تكون الْبَاء مَعَ الِاسْم فِي مَوضِع الْفَاعِل، فَهَذَا هُوَ الظَّاهِر.
وَأما من جوز أَن يكون موضعهَا رفعا ونصبا، فَإِنَّهُ يَقُول: فِي الْفِعْل الْفَاعِل، وَهُوَ (أحسن) ، كَمَا أضمر فِيهِ، إِذا كَانَ بعد (مَا) فَاعل قدر الثَّانِي مضمرا، صَار حرف الْجَرّ مَعَ مَا تعلق بِهِ فِي مَوضِع الْمَفْعُول، وَهَذَا القَوْل ضَعِيف، وَإِنَّمَا ضعف وَفَارق: مَا أحسن زيدا، وَإِنَّمَا جَازَ الْإِضْمَار فِي: مَا أحسن، لتقدم (مَا) عَلَيْهِ، وَمَا: اسْم مُبْتَدأ، وَأحسن: فِي مَوضِع خَبره، فَلم يكن بُد من تَقْدِير ضمير يرجع إِلَى الْمُبْتَدَأ.
وَأما قَوْله: أحسن بزيد، فَلم يتَقَدَّم قبله مَا يدل على الْإِضْمَار (42 / أ) ، فَإِذا أمكننا أَن نحمل الْكَلَام على ظَاهره، كَانَ ذَلِك أولى من التَّأْوِيل الْبعيد.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا وَجه اسْتِعْمَال فعل التَّعَجُّب على لفظ الْأَمر، وَإِدْخَال الْبَاء مَعَه؟
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون أَرَادوا بذلك الْمُبَالغَة فِي الْمَدْح، فأدخلوا الْبَاء لأَنهم قدروه بِأَحْسَن: اثْبتْ بزيد، فَلَمَّا أَرَادوا هَذَا الْمَعْنى أدخلُوا الْبَاء، إِذْ كَانَ (اثْبتْ) يتَعَدَّى بِحرف الْجَرّ، ودخلة معنى: حسن جدا، لِأَن لفظ الْأَمر فِيهِ طرف من

(1/330)


الْمُبَالغَة، فَلهَذَا أجازوه. وَيجوز فِي إِدْخَال الْبَاء وَجه آخر، وَهُوَ أَنهم أَرَادوا أَن يفصلوا بَين لفظ الْأَمر الَّذِي هُوَ يُرَاد بِهِ التَّعَجُّب وَبَينه، إِذْ كَانَ أمرا فِي الْحَقِيقَة.
وَاعْلَم أَن لفظ: أحسن بزيد، لَا يتَغَيَّر لوَاحِد خاطبت أَو لاثْنَيْنِ أَو لجَماعَة، أَو لمؤنث أَو لمذكر، كَقَوْلِك: يَا زيد أحسن بِعَمْرو، وَيَا هِنْد أحسن بِعَمْرو، وَإِنَّمَا لم يخْتَلف لَفظه لِأَنَّك لست تَأمره أَن يفعل شَيْئا، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظ بِمَنْزِلَة قَوْلك: مَا أحسن عمرا، فَكَمَا أَن: مَا أحسن عمرا، لَا يتَغَيَّر، فَكَذَلِك مَا قَامَ مقَامه.
وَاعْلَم أَن الْفَصْل بَين فعل التَّعَجُّب وَمَا عمل فِيهِ لَا يجوز، هَكَذَا ذكر سِيبَوَيْهٍ، وَقد أجَاز بَعضهم الْفَصْل بَينهمَا بالظروف وحروف الْجَرّ. فَأَما امْتنَاع الْفَصْل فَلِأَن (احسن) قد لزم طَريقَة وَاحِدَة، فقد شابه من هَذَا الْوَجْه الْحُرُوف فِي الْعَمَل، وَكَانَ الْمَنْصُوب بعده - وَإِن كَانَ معرفَة - يشبه التَّمْيِيز، وَإِن كَانَ لَيْسَ بتمييز فِي الْحَقِيقَة، وَوجه شبهه بالتمييز أَنَّك إِذا قلت: مَا أحسن، فقد أبهمت، فَإِذا ذكرت زيدا أَو عمرا، بيّنت من الَّذِي قصد بالإخبار عَنهُ بِهَذَا الْمَعْنى، وَإِن لم تجْعَل نَصبه على هَذَا الْمَعْنى، لِأَن فعله مقول عَنهُ، فَجرى مجْرى الْمَفْعُول الَّذِي يتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْل، وَخرج من حكم التَّمْيِيز، وَهُوَ مَعَ ذَلِك: يجْرِي مجْرى الْمثل،

(1/331)


لَا يُفَارِقهُ لَفظه فِي الْمُذكر والمؤنث والتثنية وَالْجمع، والأمثال حَقّهَا أَلا تغير عَمَّا سَمِعت، فَلَمَّا اجْتمع فِي فعل التَّعَجُّب هَذِه الْجِهَات الَّتِي ذَكرنَاهَا منع الْفَصْل بَينه وَبَين مَفْعُوله، إِذْ كَانَت الْأَشْيَاء حَقّهَا أَلا يفصل بَينهَا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ.
فَأَما من أجَاز الْفَصْل بَينه وَبَين معموله بالظرف وحروف الْجَرّ، فَقَالَ: إِن فعل التَّعَجُّب وَإِن لم يتَصَرَّف، فَلَيْسَ يكون أَضْعَف من الْحُرُوف، لِأَنَّهُ لم يخرج من الْفِعْل إِذْ لم يتَصَرَّف , وَقد وجدنَا الْحُرُوف الناصبة يفصل بَينا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ بالظروف، فَكَانَ فعل التَّعَجُّب أولى بِجَوَاز الْفَصْل، وَهَذَا لَا يدْخل على مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَن اجْتِمَاع الْأُمُور الَّتِي ذَكرنَاهَا مجموعها منع الْفِعْل، وَأما إِذا انْفَرد بعض أَوْصَافه، فَلَيْسَ يجب أَن يجْرِي حكمه مجْرى مَجْمُوع الْأَوْصَاف.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَت الْعَرَب: مَا أحسن بِالرجلِ أَن يفعل الْجَمِيل، والتعجب وَمَا عمل فِيهِ لحرف الْجَرّ؟
قيل لَهُ: لَا يلْزم، وَذَلِكَ إِن كَانَ أوقع التَّعَجُّب، فَإِن وَقع بهَا فَهِيَ وَمَا بعْدهَا مصدر، والمصدر الرجل الْمَخْصُوص، لِأَن معنى الْكَلَام: مَا أحسن فعل إِلَّا جميل بِالرجلِ، فالمدح والذم إِنَّمَا يقعان بأسماء الْأَفْعَال، فَصَارَ (بِالرجلِ) - وَإِن كَانَ مَخْصُوصًا - يرجع التَّعَجُّب إِلَيْهِ، فَلم يَقع الْفَصْل، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى هُوَ المتعجب مِنْهُ، فَأَما مَا كَانَ من حُرُوف الْجَرّ والظروف الَّتِي لَا تجْرِي هَذَا المجرى فِيمَا تعلّقت بِهِ، فَلَا يجوز الْفَصْل بَينهمَا لما ذَكرْنَاهُ من الْفَصْل بَينهمَا.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا رججت فعل التَّعَجُّب إِلَى نَفسك قلت: مَا أحسنني، زِدْت

(1/332)


نونا قبل يَاء الْمُتَكَلّم، ليسلم الْفِعْل، وَأَنت بِالْخِيَارِ إِن شِئْت سكنت النُّون الأولى وأدغمتها فِي النُّون الثَّانِيَة، وَإِن شِئْت أظهرت النونين، وَهَذَا أَجود، لِأَن الْمَفْعُول مُنْفَصِل مِمَّا قبله، وَكَذَلِكَ إِذا جمعت. فَأَما إِذا رددت إِلَى نَفسك فِي حَال الِاسْتِفْهَام زِدْت يَاء مُجَرّدَة على النُّون وكسرتها، لِأَن يَاء الْمُتَكَلّم لَا يكون مَا قبلهَا إِلَّا مكسورا فَإِن ثنيت أَو جمعت قلت: مَا أحسننا، فرجعة الفتحة إِلَى النُّون لزوَال الْيَاء، وَيجوز أَيْضا الْإِدْغَام، فَأَما إِذا رددت الْفِعْل فِي النَّفْي إِلَى نَفسك، قلت: مَا أَحْسَنت، سكنت النُّون، لمجيء تَاء الْمُتَكَلّم، وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا مضى، فَإِن جمعت قلت: مَا أحسنا، بِالْإِدْغَامِ، لَا غير لِأَن النُّون فِي (أحسن) تسكن، وَلَا يجوز تحريكها، فَلَمَّا لقيتها النُّون الثَّانِيَة، وَهِي متحركة، التقى حرفان من جنس وَاحِد، وهما فِي تَقْدِير كلمة وَاحِدَة، وَإِذا كَانَ الْفِعْل وَالْفَاعِل كالشيء الْوَاحِد فَلهَذَا، وَجب الْإِدْغَام.

(1/333)