علل النحو (25 - بَاب النداء)
إِن قَالَ قَائِل: مَا بَال الِاسْم الْمُفْرد مَبْنِيا، والمضاف
معربا، وَإِذ مثلت مَا انتصب عَلَيْهِ الْمُضَاف، كَانَ هُوَ الْمُفْرد
فِي ذَلِك سَوَاء، كَقَوْلِك: دَعَوْت زيدا، ودعوت عبد الله، فَإِذا
جِئْت ب (يَا) اخْتلفَا؟
قيل: هَذَا الَّذِي ذكرت إِنَّمَا هُوَ عبارَة الْكَلِمَة، وَأَنت إِذا
قلت: يَا زيد، فلست مُقبلا على مُخَاطب بِهَذَا الحَدِيث عَن زيد،
إِنَّمَا خطابك فِيهِ لزيد، وَإِذا قلت: دَعَوْت زيدا، فَأَنت مُخَاطب
غير زيد بِهَذَا، وَلَو خاطبت بِهَذَا زيدا، لَقلت: دعوتك، وَلم تقل:
دَعَوْت زيدا، والتأويل تَأْوِيل فعل، وَالْمعْنَى معنى خطاب، فَوَقع
(زيد) بَين حالتين، بَين الْمخبر عَنهُ - وَهُوَ غَائِب، لِأَنَّهُ
معرض عَنْك - وَبَين الْمُخَاطب، لِأَنَّك تُرِيدُ غَيره. فضارع
المكني، لِأَنَّك إِذا خاطبت فَإِنَّمَا تَقول: أَنْت فعلت، وَإِيَّاك
أردْت، وهما اسمان مبنيان، فَلَمَّا خُوطِبَ المنادى باسمه الَّذِي
يَقع فِيهِ الحَدِيث عَنهُ عِنْد من يُخَاطب، صَار غير مُتَمَكن فِي
هَذَا الْموضع، فَعدل عَن الْإِعْرَاب إِلَى الْبناء، لِأَنَّهُ وَقع
موقع اسْم مَبْنِيّ.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا بَال هَذَا الْمُفْرد كَانَ بِنَاؤُه على
حَرَكَة؟
قيل لَهُ: لِأَن المنادى من قبل كَانَ مُسْتَحقّا للإعراب، وكل اسْم
كَانَ معربا ثمَّ أزيل عَنهُ الْإِعْرَاب لعِلَّة عرضت فِيهِ، وَجب أَن
يبْنى على حَرَكَة، ليَكُون بَينه وَبَين غَيره من الْأَسْمَاء الَّتِي
لم تقع قطّ معربة فرق، نَحْو: (من وَكم وَمَا) فَلهَذَا وَجب أَن يبْنى
المنادى على حَرَكَة.
فَإِن قيل: فَلم صَار الضَّم أولى من سَائِر الحركات؟
(1/334)
قيل لَهُ: لِأَن الْفَتْح مَبْنِيّ على أصل
لَو بني عَلَيْهِ لم يعلم أمعرب هَذَا أم مَبْنِيّ، إِذْ كَانَ فِي
الْأَسْمَاء مَا لَا ينْصَرف، فَلَو ناديته وفتحته لم يعلم أَنه
مَنْصُوب على أصل مَا يسْتَحقّهُ المنادى أَو مَبْنِيّ، فَسقط الْفَتْح
لما ذَكرْنَاهُ، وَلم يجز الْكسر، (43 / أ) لِأَن الْمُضَاف إِلَى
الْمُتَكَلّم الِاخْتِيَار فِيهِ حذف الْيَاء والاجتزاء بالكسرة
عَنْهَا، نَحْو: يَا غُلَام أقبل، فَلَو كسرت المنادى، لم يعلم أَنه
مُفْرد أَو مُضَاف، فَسقط الْكسر أَيْضا، فَلم يبْق إِلَّا الضَّم،
فَلهَذَا خص بِالضَّمِّ.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ النكرَة (و) الْمُضَاف مخاطبين كالمفرد،
فَهَلا يبنيا لوقوعهما موقع المكني، كَمَا يبْنى الْمُفْرد؟
قيل لَهُ: الْفَصْل بَينهمَا من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمُفْرد وَقع بِنَفسِهِ موقع المكني، أَلا ترى أَنه
يتعرف بِنَفسِهِ كَمَا يتعرف المكني، وَأما الْمُضَاف فيتعرف بالمضاف
إِلَيْهِ، فَلم يقم مقَام المكني فِي جَمِيع أَحْكَامه، كَمَا رفع
الْمُفْرد، وَأما النكرَة فبعيدة الشّبَه بالمكني، فَلم يجز بناؤها.
وَالْوَجْه (الثَّانِي) : أَنا لَو سلمنَا أَن الْمُضَاف والنكرة وَقعا
موقع المكني، كوقوع الْمُفْرد لم يلْزم بناؤهما، لِأَنَّهُ عرض فِي
الْمُضَاف مَا يمْنَع الْبناء، وَكَذَلِكَ مَا يقوم مقَامه، وَأما
النكرَة فَنصبت للفصل بَينهَا وَبَين النكرَة الْمَقْصُود قَصدهَا،
فبنيت النكرَة الْمَحْضَة على أصل الْبناء، وبنيت النكرَة الْمَقْصُود
قَصدهَا، إِذْ كَانَت هِيَ المخرجة
(1/335)
عَن بَابهَا، وَكَانَت أولى بالتغيير.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد وجدنَا مُضَافا مَبْنِيا، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{من لدن حَكِيم عليم} ؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا ترد الْإِضَافَة الِاسْم إِلَى الْإِعْرَاب، إِذا
لم يكن الْمُضَاف مُسْتَحقّا للْبِنَاء فِي حَال الْإِضَافَة، وَهُوَ
مُتَضَمّن للإضافة كالمنادى، أَلا ترى أَنه لَا تلْزمهُ الْإِضَافَة
فِي جَمِيع أَحْوَاله، وَأما (لدن) لَيْسَ لَهَا حَال تنفك بهَا من
الْإِضَافَة، فَلَمَّا كَانَ الْبناء يلْزمه فِي حَال إِضَافَته، لم
يجز إعرابه.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ إِذا خاطبت إنْسَانا، فَقلت لَهُ: أَنْت
تفعل، فقد يجوز أَن يشكل عَلَيْهِ خطابك لَهُ، إِذْ كَانَ هَذَا
اللَّفْظ يصلح أَن يكون لَهُ وَلغيره، فَهَلا جعل المنادى كالمضمر،
إِذْ كَانَ مُخَاطبا، وَإِن وَقع فِيهِ اللّبْس الَّذِي ذكرته؟
قيل: الْفَصْل بَينهمَا أَن المنادى معرض عَمَّن يُنَادِيه، وَلَيْسَ
يعلم أَنه الْمَقْصُود إِلَّا بِنَفس اللَّفْظ فَقَط، وَاللَّفْظ لَا
يدل عَلَيْهِ دون غَيره، فاحتجنا إِلَى ذكر اسْمه.
وَأما الْمُخَاطب غير المنادى فثم إِشَارَة بيد أَو عين مَعَ اللَّفْظ،
فَصَارَ هَذَا الْمَعْنى يضْطَر الْمُخَاطب إِلَى الْعلم بِأَنَّهُ
مَقْصُود بِالْخِطَابِ، فَلهَذَا استغني بالمضمرات عَن الْأَسْمَاء
الظَّاهِرَة.
وَاعْلَم أَن المنادى الْمعرفَة فِيهِ اخْتِلَاف، فَمن النَّحْوِيين من
يَقُول: إِن تَعْرِيفه الَّذِي كَانَ فِيهِ قبل النداء قد بَطل، وَحدث
فِيهِ تَعْرِيف آخر بالنداء، وَأما ابْن السراج
(1/336)
فَيَقُول: تَعْرِيفه بَاقٍ فِيهِ، والأجود
القَوْل الأول، وَإِنَّمَا كَانَ أَجود لِأَن الِاسْم الْعلم تَعْرِيفه
من جِهَة الْقَصْد، وَإِذا اجْتمع الْقَصْد إِلَى النداء تعرف المنادى،
أَلا ترى أَن قَوْلك: يَا رجل، معرفَة بِالْقَصْدِ و (يَا) ، فَوَجَبَ
إِذا نادينا زيدا وَمَا أشبهه أَن يبطل تَعْرِيفه من جِهَة النِّيَّة،
وَيصير مَا حصل لَهُ من التَّعْرِيف و (يَا) ، إِذا كَانَ هَذَا
التَّأْوِيل مُمكنا فِي (زيد) وَمَا أشبهه، فَحمل الشَّيْء على
مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ حَاصِل لَهُ فِي الْحَال أولى.
وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن السراج فَإِنَّهُ رأى أَن بعض الْأَسْمَاء
لَا يَقع فِيهَا اشْتِرَاك، نَحْو: الفرزدق، (43 / ب) قَالَ: والتنكير
إِنَّمَا هُوَ باشتراك الْأَسْمَاء، وَهَذِه شُبْهَة ضَعِيفَة،
لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يُسمى بالفرزدق أشخاص كَثِيرَة، إِذْ كَانَت
التَّسْمِيَة لَيست بمحظورة، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، صَار حكم جَمِيع
الْأَسْمَاء وَاحِدًا فِي جَوَاز الِاشْتِرَاك فِيهَا، فَوَجَبَ أَن
يكون الْأَمر على مَا ذكرنَا أولى، وَلَا يجوز وَجه آخر فِي إِيجَاب
تنكير الْأَسْمَاء، أَن يُقَال لما كَانَ المكني لَا يخْتَص بشخص دون
شخص فِي حَال النداء، ثمَّ ذكرنَا أَن الِاسْم الْعلم وَقع فِي
مَوْضِعه، وَجب أَن يحصل فِي مَوْضِعه جَهَالَة، حَتَّى يتَبَيَّن
بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، كَمَا حصل ذَلِك فِي الْمُضمر الَّذِي قَامَ
مقَامه.
وَاعْلَم أَن الْمُفْرد الْمعرفَة إِذا نَعته بمفرد معرفَة، فلك فِي
النَّعْت وَجْهَان: الرّفْع وَالنّصب، فَأَما الرّفْع: فبالحمل على
اللَّفْظ، وَأما النصب: فبالحمل على الْموضع.
فَإِن قَالَ قَائِل: أما الْحمل على الْموضع فَمُسلم، لِأَن الْموضع
نصب، فَمن أَيْن
(1/337)
حمل النَّعْت على اللَّفْظ، وَهَذِه
الْحَرَكَة لَيست بحركة إِعْرَاب، فَإِذا جَازَ الْحمل على اللَّفْظ،
فَهَلا جَازَ أَيْضا النَّعْت على لفظ مَا لَا ينْصَرف، كَقَوْلِك:
مَرَرْت بعثمان الظريف؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا جَازَ حمل النَّعْت على اللَّفْظ فِي المنادى،
لِأَن الضَّم قد اطرد فِي كل مُفْرد، فَصَارَ اطراده يجْرِي مجْرى
عَامل أوجب لَهُ ذَلِك، فشبهت الضمة فِي المنادى بحركة الْفَاعِل، لما
ذَكرْنَاهُ من الاطراد، وَإِنَّمَا يجب ذَلِك فِي عَامل الرّفْع،
وَإِنَّمَا قبح فِيمَا لَا ينْصَرف فِي حَال الْجَرّ، فَلَيْسَ ذَلِك
بمطرد فِي اسْم، فَصَارَت الفتحة عارضة، فَلم تبلغ من قوتها أَن تشبه
بالحركة الَّتِي تجب من أجل عَامل، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فَإِن حمل
النَّعْت على الْموضع الَّذِي قد عمل فِيهِ عَامل وَاحِد، وَلم يجز حمل
النَّعْت على حَرَكَة عارضة لما ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ أَن يكون النَّعْت معربا والمنعوت
مَبْنِيا؟
قيل لَهُ: لِأَن المنعوت اسْتحق الْبناء لعِلَّة فِيهِ، وَهُوَ كَونه
منادى، وَأما النَّعْت فَلَيْسَ بمنادى، فَلم تعرض لَهُ عِلّة الْبناء،
فَوَجَبَ أَن يكون معربا، رفعته أَو نصبته أَلا ترى أَن مَا لَا
ينْصَرف ينعَت بالمنصرف، إِذا لم تعرض فِيهِ عِلّة تمنع الصّرْف، فقد
بَان لَك أَن المنادى وَإِن كَانَ مَبْنِيا فنعته مُعرب.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لَا يجوز الرّفْع فِي نعت الْمُضَاف، حملا
على لفظ المنادى، كَمَا يجوز الرّفْع فِيهِ إِذا كَانَ مُفردا؟
قيل لَهُ: لِأَن نعت الْمُفْرد كَانَ حَقه أَن يحمل على الْموضع،
لِأَنَّهُ الأَصْل، وَإِنَّمَا تحمله على اللَّفْظ، لِاجْتِمَاع علتين:
إِحْدَاهمَا: مَا ذَكرْنَاهُ من اطراد الضَّم فِي كل مُفْرد،
وَالثَّانيَِة: أَنه يجوز حذف الْمَوْصُوف وَإِقَامَة الصّفة مقَامه،
فَلَمَّا كَانَت
(1/338)
الصّفة المفردة لَو حلت مَحل المنادى ضمت
جَازَ فِيهَا الرّفْع، كَمَا يجوز فِيهَا الضَّم، وَأما الصّفة المضافة
فَلَيْسَ لَهَا هَذَا الحكم، أَلا ترى أَنَّهَا لَو قَامَت مقَام
الْمَوْصُوف لم تكن إِلَّا المنصوبة، فَلم يكن لدُخُول الضَّم وَجه،
فلزمت وَجها وَاحِدًا، وَهُوَ النصب.
فَأَما مَا لزمَه النصب إِذا كَانَ منادى، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا
طَريقَة وَاحِدَة، ونعته أَيْضا لَا يجوز فِيهِ إِلَّا وَجه وَاحِد،
وَهُوَ النصب، كَقَوْلِك: يَا عبد الله الظريف، وَيَا رجلا صَالحا،
وَيَا خيرا من زيد.
وَاعْلَم أَن حكم الْمَعْطُوف أَن يجْرِي حكمه (44 / أ) على مَا
يسْتَحقّهُ لَو وليه عَامل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ شَرِيكا
لَهُ، فَإِذا عطفت على المنادى فاعتبره فِي نَفسك، فَإِن كَانَ مُفردا
وَجب لَهُ الضَّم، وَكَانَ الْمَعْطُوف مثله أَيْضا مضموما، وَإِن
كَانَ مُضَافا أَو نكرَة أَو مضارعا للمضاف نصب، كَقَوْلِك: يَا زيد،
وَيَا عبد الله، وَيَا زيد ورجلا صَالحا، وَيَا زيد وَخيرا من عَمْرو،
وَكَذَلِكَ لَو قدمت هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي تسْتَحقّ النصب ثمَّ
عطفت عَلَيْهَا بمفرد معرفَة ضممته، إِذْ كَانَ حكم كل وَاحِد
مِنْهُمَا كَأَنَّهُ منادى فِي نَفسه، إِلَّا أَن يكون المنادى معرفَة
مُفْردَة، فعطفت عَلَيْهَا باسم فِيهِ ألف وَلَام، فَإِنَّهُ يجوز
ذَلِك - فِيمَا فِيهِ الْألف وَاللَّام - الرّفْع وَالنّصب، كَقَوْلِك:
يَا زيد والْحَارث، وَإِن شِئْت نصبت (الْحَارِث) ، وَقد قرىء
بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا: {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير} . وَقَرَأَ
الْأَعْرَج
(1/339)
بِالرَّفْع، فَأَما الرّفْع فعلى الْعَطف
على اللَّفْظ، وَأما النصب فبالعطف على الْموضع، وَإِنَّمَا جَازَ
فِيهِ الْوَجْهَانِ لِأَن (يَا) لَا يَصح أَن تدخل (على) مَا فِيهِ
الْألف وَاللَّام، فَلَمَّا لم يجز لما فِيهِ الْألف وَاللَّام أَن
يَلِيهِ حرف النداء، لم يكن لَهُ حكم يخْتَص بِهِ كَمَا كَانَ ذَلِك
لما ذَكرْنَاهُ من الْأَسْمَاء المضافة والمفردة، فَلَمَّا لم يكن لَهُ
حكم يخْتَص بِهِ، وَكَانَ الِاسْم الَّذِي قبله لَهُ لفظ وَمعنى، حمل
مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام على اللَّفْظ مرّة، إِذْ كَانَ اللَّفْظ قد
يجْرِي مجْرى لفظ الْمَرْفُوع، وَحمل مرّة على الْموضع إِذْ كَانَ
نصبا، وَاعْلَم أَن الرّفْع عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَمن تَابعه الْوَجْه،
وَأما أَبُو عمر الْجرْمِي وَأَبُو عُثْمَان وَمن تابعهما فَإِنَّهُم
يختارون النصب، وَالْحجّة لمن اخْتَار الرّفْع قَوِيَّة، وَذَلِكَ أَن
مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام لَفظه لفظ
(1/340)
الْمُفْرد، وَهُوَ معرفَة، فَصَارَ
التَّعْرِيف فِيهِ بِالْألف وَاللَّام كالتعريف مَعَ (يَا) ، أَلا ترى
أَن قَوْلك: يَا رجل، إِذا قصدت قَصده يجْرِي فِي التَّعْرِيف مجْرى
مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام بِمَنْزِلَة الْمُفْرد الْمعرفَة الْعلم،
وَلَو عطفت على الأول - أَعنِي الَّذِي فِيهِ الْألف وَاللَّام - لم
يجز فِيهِ إِلَّا الضَّم، وَوَجَب أَن يخْتَار مَا يشاكله، وَهُوَ
الرّفْع.
وَأما من اخْتَار النصب فقد جعل الْألف وَاللَّام مقَام التَّنْوِين
وَالْإِضَافَة، فَلَو كَانَ الِاسْم مُضَافا آمنُوا بِالنّصب،
فَكَذَلِك مقَام مقامهما يُوجب لَهما النصب، وَهَذِه الْعلَّة فِيهَا
إِدْخَال، وَذَلِكَ أَن التَّقْدِير لَو كَانَ صَحِيحا لوَجَبَ النصب
فِي النَّعْت، إِذْ كَانَت فِيهِ الْألف وَاللَّام، وَلم يجز رَفعه
كَمَا لم يجز رفع الْمُضَاف، فَلَمَّا كَانَت الْألف وَاللَّام فِي
النَّعْت لم توجب نَصبه، علمنَا أَنَّهُمَا لَا يجعلان الِاسْم
كالمضاف، وَإِذا كَانَ كَذَلِك جرى مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام مجْرى
الْمُفْرد الْعلم الْمعرفَة، فَكَانَ الأولى فِيهِ أَن يكون مَرْفُوعا
ليشاكل لفظ مَا قبله.
وَاعْلَم أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام لَا يجوز أَن تدخل عَلَيْهِ
(يَا) إِلَّا اسْم الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن
الْألف وَاللَّام تعريفهما من جنس تَعْرِيف (يَا) مَعَ الْقَصْد، وهما
لفظ مُمكن إِسْقَاطه من الْكَلِمَة، فَلَمَّا نابت (يَا) مَعَ الْقَصْد
عَنْهُمَا لم يحْتَج إِلَيْهَا، وَالدَّلِيل (44 / ب) على أَن تَعْرِيف
الْألف وَاللَّام من جنس تَعْرِيف (يَا) مَعَ الْقَصْد، لِأَنَّك لَو
قلت فِي ضَرُورَة الشّعْر: يَا الرجل، لَكَانَ كمعنى: يَا رجل، لِأَن
الْألف وَاللَّام تبطل مَعَ الْعَهْد، وَيصير تَعْرِيفهَا للْجِنْس
فَقَط، وَالدَّلِيل على أَن الْعَهْد سَاقِط - أَعنِي مَعَ الْعَهْد -
أَنه يجوز للشاعر أَن يَقُول:
(1/341)
يَا الرجل، من غير تَقْدِيمه ذكر، فَإِذا
كَانَت (يَا) تنوب عَنْهَا، لم يحْتَج إِلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ
الأَصْل، وَإِن اضْطر شَاعِر فَأدْخل (يَا) على الْألف وَاللَّام
جَازَ، كَمَا قَالَ:
(فيا الغلامان اللَّذَان فرا ... إياكما أَن تكسبانا شرا)
فَوجه ذَلِك أَنه أَرَادَ: يَا أَيهَا الغلامان، فَحذف المنادى وَهُوَ
(أَي) ، وَأقَام الصّفة مقَامه.
وَأما اخْتِصَاص (يَا) باسم الله تَعَالَى فجواز دُخُول (يَا)
عَلَيْهَا فلاجتماع أَشْيَاء فِيهِ لَيست مَوْجُودَة فِي غَيره،
أَحدهَا كَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَمِنْهَا: أَنه جرى مجْرى
الْأَسْمَاء الْأَعْلَام. وَمِنْهَا: أَن الْألف وَاللَّام لَا
يفارقانه.
وَمِنْهَا: أَن الأَصْل فِيهِ (إلاه) فَلَمَّا أدخلت فِيهِ الْألف
وَاللَّام أسقطت همزَة (إلاه) ، فأدغمت لَام التَّعْرِيف فِي اللَّام
الَّتِي بعْدهَا، فَصَارَت الْألف وَاللَّام عوضا من الْهمزَة الساقطة،
فَجرى الْألف وَاللَّام فِيهِ مجْرى بعض حُرُوفه، فلاجتماع هَذِه
الْجِهَات جَازَ دُخُول (يَا) عَلَيْهِ.
فَأَما (الَّذِي وَالَّتِي) : فَلَا يجوز دُخُول (يَا) عَلَيْهِمَا،
وَإِن كَانَت الْألف
(1/342)
وَاللَّام لَا يفارقانهما، لِأَنَّهُمَا
صفتان، وَلم يكثر استعمالهما، ففارقتا اسْم الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ
لَو سميت رجلا بِالْحَارِثِ وَالْعَبَّاس، لم يجز إِدْخَال (يَا)
عَلَيْهِمَا لما ذَكرْنَاهُ فِي قلَّة استعمالهما، وَلِأَن الْألف
وَاللَّام ليستا فِيهِ بعوض من حرف، فقد بَان لَك اسْم الله تَعَالَى
لم اخْتصَّ بِمَا لَا يُشَارِكهُ فِيهِ اسْم، فَلهَذَا جَازَ أَن
يخْتَص بِدُخُول (يَا) عَلَيْهِ، وَاعْلَم أَنَّك إِذا ناديته تَعَالَى
قطعت أَلفه: يَا ألله اغْفِر لي، وَإِنَّمَا قطعت الْألف لتدل بقطعها
أَنَّهَا فِي هَذَا الْموضع قد خَالَفت سَائِر مَا فِيهِ الْألف
وَاللَّام، لِأَن هَذَا اسْم قد نُودي نِدَاء مَا فِيهِ الْألف
وَاللَّام أَصْلِيَّة، فَوَجَبَ أَن يُؤْتى بلفظها على لفظ الْألف
وَاللَّام الْأَصْلِيَّة، ليطابق لَفظهَا الحكم الَّذِي قد اخْتصّت
بِهِ، إِن شَاءَ الله.
وَاعْلَم أَنه يجوز أَن تدخل ميما مُشَدّدَة آخر هَذَا الِاسْم بَدَلا
من (يَا) ، فلهذه الْعلَّة شددت ليَكُون التَّشْدِيد بِمَنْزِلَة (يَا)
إِذْ كَانَت حرفين، فَتَقول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي، فتجري مجْرى: يَا
ألله اغْفِر لي، وَلَا يحسن الْجمع بَينهمَا إِلَّا فِي ضَرُورَة
الشّعْر، وَإِنَّمَا فتحت الْمِيم لِأَن الْحُرُوف أَصْلهَا السّكُون،
فَإِذا زيدت الميمان، وهما ساكنان، لم يجز الْجمع بَين ساكنين، فحركت
الْمِيم الثَّانِيَة بِالْفَتْح لالتقاء الساكنين، وَصَارَ الْفَتْح
أولى لخفته وَثقل التَّشْدِيد.
(1/343)
وَقد حُكيَ عَن الْفراء: أَن الْمِيم عوض
من قَوْلك: يَا ألله أمنا مِنْك بِخَير، فحذفت الْيَاء وَبقيت الْمِيم
الَّتِي فِي (أمنا) مُشَدّدَة مَفْتُوحَة.
وَهَذَا القَوْل لَيْسَ بِشَيْء من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه يستحسن أَن يُقَال: يَا ألله أمنا مِنْك بِخَير، فتأتي
ب (يَا) فِي أول الْكَلَام و (أمنا) فِي آخِره، وَلَو كَانَ على مَا
قَالَ لحسن: يَا اللَّهُمَّ اغْفِر لي، فَلَمَّا قبح الْجمع بَين
الْمِيم و (يَا) علمنَا أَن الْأَمر فِيهَا على مَا ذَكرْنَاهُ دون مَا
ذكره.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه مستحسن: (45 / أ) اللَّهُمَّ أمنا مِنْك
بِخَير، فَلَو كَانَت الْمِيم المُرَاد بهَا مَا ذكر، لحصل فِي
الْكَلَام الَّذِي ذَكرْنَاهُ تكْرَار، والتكرار مستقبح، وَحسن
اسْتِعْمَاله دَلِيل على فَسَاد مَا قَالَ، إِن شَاءَ الله، فقد ثَبت
بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن (يَا) لَا تدخل على مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام،
فَإِن أردْت أَن تذكر اسْما فِيهِ الْألف وَاللَّام جِئْت ب (أَي)
وأوقعت حرف النداء عَلَيْهَا، كَقَوْلِك: يَا أَيهَا الرجل أقبل، ف
(أَي) هُنَا مَبْنِيَّة على الضَّم ك (زيد) وموضعها نصب، لِأَن لفظ
النداء وَقع عَلَيْهَا، وَالرجل: مَرْفُوع وَهُوَ نعت ل (أَي) ،
بِمَنْزِلَة قَوْلك: يَا زيد الظريف،
(1/344)
إِلَّا أَن (الرجل) لَا يجوز فِيهِ النصب،
كَمَا يجوز فِي (الظريف) ، والفصل بَينهمَا أَن (يَا) إِنَّمَا تدخل
وصلَة إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام، فَصَارَت مَعَه كالشيء
الْوَاحِد، فَجرى (يَا) مجْرى الْمُفْرد، فأرادوا أَن يكون لَفظه
كَلَفْظِ الْمُفْرد، فَلهَذَا لم يجز النصب فِي نعت (أَي) .
وَقد أجَاز الْمَازِني النصب فِيهِ تَشْبِيها بنعت (زيد) ، وَالْوَجْه
مَا بدأنا بِهِ لما ذكرنَا من الْعلَّة. وَأَيْضًا فَإِن حق اللَّفْظ
أَن يكون اللَّفْظ أخذا من الْمَعْنى، وَالضَّم فِي المنادى قد اطرد
حَتَّى جرى مجْرى الْمَفْعُول، فَلَمَّا كَانَ المنادى فِي الْمُفْرد
لَهُ لفظ وَمعنى، (صَار) حمل النَّعْت على اللَّفْظ أَكثر، وَقد يجوز
أَن يحمل على الْمَعْنى، إِذْ كَانَ المنادى يَصح السُّكُوت عَلَيْهِ،
فَيَقَع التَّصَرُّف فِي النَّعْت، فَإِذا كَانَ المنادى لَا يَصح
السُّكُوت عَلَيْهِ، لم يجز التَّصَرُّف فِي نَعته، وَحمل على لَفظه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن خصت (أَي) من بَين سَائِر الْأَسْمَاء
المبهمة بِأَن جعلت وصلَة إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام؟
قيل لَهُ: لِأَن (أيا) لَا معنى لَهَا فِي نَفسهَا، وَإِنَّمَا يحسن
مَعْنَاهَا لما يُضَاف إِلَيْهَا. وَأما (هَذَا وَذَاكَ) وَمَا أشبههما
فلهَا معَان فِي أَنْفسهَا، فَلَمَّا أَرَادوا إِدْخَال اسْم لغير
فَائِدَة فِي نَفسه، بل للوصلة إِلَى غَيره، كَانَ (أيا) ، إِذْ لَا
معنى لَهُ فِي نَفسه، فَكَانَ أولى بِالزِّيَادَةِ مِمَّا لَهُ معنى
فِي نَفسه.
فَإِن قيل: فَلم زيدت (هَا) على أَصْلهَا؟
(1/345)
قيل: فِي ذَلِك أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن (أيا) تسْتَعْمل مُضَافَة وَلَا تنفصل من الْإِضَافَة
إِلَّا فِي النداء فَلَمَّا حذف مِنْهَا الْمُضَاف عوضت (أَي) هَا.
وَقَول آخر: أَنهم أدخلوها توكيدا للنداء.
وَوجه ثَالِث: أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام هُوَ المنادى فِي
الْمَعْنى، فَلَمَّا لم يَصح دُخُول (يَا) عَلَيْهِ، لما ذَكرْنَاهُ،
أدخلُوا على (أَي) هَا للتّنْبِيه، فَلْيَكُن قَائِما مقَام حرف النداء
الَّذِي يسْتَحقّهُ الْألف وَاللَّام.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: يَا هَذَا الرجل، فلك فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن تقدره تَقْدِير (أَي) أَعنِي وصلَة إِلَى مَا فِيهِ
الْألف وَاللَّام، فَإِذا قدرت هَذَا التَّقْدِير، لم يجز فِي (الرجل)
إِلَّا الرّفْع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تجْعَل (هَذَا) بِمَنْزِلَة (زيد) ، لِأَن
فِي السُّكُوت عَلَيْهِ فَائِدَة، فَإِذا قدرت هَذَا التَّقْدِير صَار
(الرجل) بعده بِمَنْزِلَة (الظريف) بعد (زيد) ، فَيجوز لَك حِينَئِذٍ
الرّفْع وَالنّصب، فَإِن قلت: يَا أَيهَا الرجل ذُو المَال، فلك فِي
(ذِي المَال) الرّفْع وَالنّصب، فالرفع بالنعت ل (الرجل) ، وَالنّصب
على الْبَدَل من (أَي) ، وَلَا يجوز أَن تَقول: لِأَنَّهُ نعت، لِأَن
المبهمة لَا تنْعَت بالمضاف، وَإِنَّمَا لم يجز أَن يكون الْمُضَاف
نعتا ل (أَي) فِي النداء، لِأَن الْمُضَاف يُمكن أَن
(1/346)
(45 / ب) تدخل عَلَيْهِ (يَا) ، وَقد بَينا
أَن (أيا) إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهَا وصلَة إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ
الْألف وَاللَّام، لِامْتِنَاع دُخُول (يَا) عَلَيْهِ، فَإِن كَانَ
الْمُضَاف يَصح دُخُول (يَا) عَلَيْهِ، لم يحْتَج إِلَى (أَي) ،
فَلهَذَا لم يجز أَن تنْعَت (أيا) بالمضاف، وَأما إِذا قلت: يَا زيد
الطَّوِيل ذُو الجمة، فلك فِي (ذِي الجمة) الرّفْع وَالنّصب، فالرفع
على النَّعْت ل (زيد) ، وَالنّصب على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن تَجْعَلهُ بَدَلا من (زيد) ، كَأَنَّك قلت: يَا ذَا
الجمة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون نعتا ل (زيد) .
وَاعْلَم أَن الْحُرُوف الَّتِي يُنَادى بهَا خَمْسَة وَهِي: (يَا،
وأيا، وهيا، وَأي، وَالْألف) .
فَأَما الْألف فَلَا تسْتَعْمل إِلَّا للقريب مِنْك، كَقَوْلِك: أَزِيد
أقبل، فَإِن كَانَ بَعيدا اسْتعْملت لَهُ (يَا) وَسَائِر الْحُرُوف،
وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لِأَن الْبعيد مِنْك يحْتَاج إِلَى مد الصَّوْت،
وَسَائِر الْحُرُوف - سوى الْألف - فِيهَا حرف مد يمكنك مد الصَّوْت
بِهِ، فَلهَذَا وَجب اسْتِعْمَالهَا للبعيد، وَأما الْقَرِيب مِنْك
فَلَا يحْتَاج إِلَى مد الصَّوْت، فاختيرت لَهُ الْهمزَة لِأَنَّهُ لَا
مد فِيهَا، وَهِي همزَة الِاسْتِفْهَام، وَإِنَّمَا كَانَت الْهمزَة
أولى، لِكَثْرَة زيادتها أَولا، وَأما (يَا) فقد تسْتَعْمل للقريب
والبعيد، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك فِيهَا خَاصَّة لِكَثْرَة استعمالهم
للبعيد، بِحُصُول مد الصَّوْت فِيهَا، واستعمالهم (أيا، هيا) للقريب
على طَرِيق التوكيد والحرص على الْبَيَان.
وَاعْلَم أَن حُرُوف النداء قد تحذف، إِذا كَانَ المنادى مِنْك
قَرِيبا،
(1/347)
كَقَوْلِك: زيد أقبل، وَغُلَام عَمْرو
تعال، فَهَذَا مطرد فِي جَمِيع الْأَسْمَاء إِلَّا النكرَة والمبهم
فَإِنَّهُ لَا يجوز إِسْقَاط حرف النداء مِنْهُمَا، لِأَن الْمُبْهم
هُوَ من نعت (أَي) ، لِأَنَّك تَقول: يَا هَذَا أقبل، الأَصْل فِيهِ:
أَي هَذَا فَيصير (هَذَا) نعتا ل (أَي) كالألف وَاللَّام، فَلَو قلت:
هَذَا أقبل، لأجحفت بِالِاسْمِ، إِذا حذفت الْمَوْصُوف وحذفت النداء،
لَا يجوز أَن تَقول: رجل أقبل، مِمَّا يكون نعتا ل (أَي) ، وَالْأَصْل:
يَا أَيهَا الرجل، فَلَو أسقطت (يَا) مِنْهُ، لَكُنْت قد أجحفت بِهِ،
لحذف الْمَوْصُوف وحرف النداء، وَقد كثر حذف حرف النداء فِي الْقُرْآن
كَقَوْلِه تَعَالَى: {يُوسُف أعرض عَن هَذَا} ، و {رَبنَا لَا تزغ
قُلُوبنَا} ، وَيجوز أَن يكون الْحَذف كثيرا فِي الْقُرْآن، لِأَن الله
تَعَالَى قريب مِمَّن يَدعُوهُ، فَلهَذَا حذف النداء. فَأَما:
يَا تيم تيم عدي
فَفِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا يختاره الْمبرد: وَهُوَ أَن يكون الأول مُضَافا إِلَى (عدي) ،
كإضافة الثَّانِي إِلَيْهِ ثمَّ حذفه، فَبَقيَ مَنْصُوبًا على نِيَّة
الْإِضَافَة، وَأما قَول
(1/348)
سِيبَوَيْهٍ فَيجْعَل الِاسْم الأول هُوَ
الْمُضَاف إِلَى (عدي) لاعتماد الْكَلَام عَلَيْهِ، وَيصير (تيم)
الثَّانِي حَشْو الْكَلَام، فَكَأَنَّهُ مَعَ الأول مُضَافا إِلَى
الثَّانِي، وانتصب الثَّانِي بِوُجُود لفظ الْإِضَافَة فِيهِ، وَالْأول
مُضَاف فِي الْحَقِيقَة.
وَأما (ابْن أم، وَابْن عَم) فَمن فتحهما بناهما، وَالَّذِي أوجب لَهما
الْبناء تضمنهما لحرف الْجَرّ وَكَثْرَة استعمالهما، ووقوعهما موقع مَا
يجب لَهُ الْبناء، نَحْو: يَا زيد، وَيَا عَمْرو، فلاجتماع هَذِه
الْمعَانِي يبْنى، وَاكْتفى بِالْمَعْنَى على إِضَافَة اللَّفْظ،
وَهُوَ أَن اللَّام تَقْتَضِي ذَلِك لَا محَالة، فأغنى هَذَا الْمَعْنى
عَن إضافتها فِي اللَّفْظ.
وَأما من كسر فَالْوَجْه فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ من جعل الاسمين اسْما
وَاحِدًا، فَلَمَّا صَارا بِهَذِهِ الْمنزلَة جَريا مجْرى (غُلَام
وَصَاحب) ، وتجتزئ بالكسرة، وَكَذَلِكَ يحذف: يَا ابْن أم، وَيَا ابْن
عَم.
(1/349)
(26 - بَاب التَّرْخِيم)
اعْلَم أَن التَّرْخِيم لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي النداء، لِأَنَّهُ
بَاب حذف، (46 / أ) أَلا ترى أَن المنادى الْمُفْرد قد حذف مِنْهُ
التَّنْوِين وَالْإِعْرَاب، فَلَمَّا جَازَ حذف التَّنْوِين مِنْهُ
وَالْإِعْرَاب، جَازَ أَيْضا حذف بعض حُرُوفه اسْتِخْفَافًا لدلَالَة
مَا بَقِي عَلَيْهِ.
وَلَا يرخم من الْأَسْمَاء إِلَّا مَا يسْتَحق الْبناء، أما مَا جرى
فِي النداء على أَصله فِي النصب، فَلَا يجوز ترخيمه، لِأَنَّهُ فِي
النداء بِمَنْزِلَتِهِ فِي غير النداء، فَإِن اضْطر شَاعِر، جَازَ أَن
يرخم الِاسْم فِي غير النداء، وَيحمل ذَلِك فِي غير النداء على طَرِيق
التَّشْبِيه، وَإِنَّمَا صَار فِي التَّرْخِيم الْمُخْتَار أَن يحذف
آخِره وَيبقى مَا قبله على حركته وسكونه، لِأَن الِاسْم فِي
الْحَقِيقَة مَوضِع الْحُرُوف، وَإِنَّمَا يحذف هَذَا الْموضع فَقَط،
فَوَجَبَ أَن يبْقى مَا قبله على أَصله، ليدل ذَلِك على الْمَحْذُوف،
وَإِنَّمَا لم يجز ترخيم مَا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف، مِمَّا لَيْسَ
فِي آخِره الْهَاء، لِأَن الْغَرَض فِي التَّرْخِيم تَخْفيف، وَفِي
الْأَسْمَاء مَا هُوَ على سَبْعَة أحرف، وَهُوَ نِهَايَة بنائها،
وأقلها مَا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف، وَإِنَّمَا نحط السَّبْعَة حَتَّى
نبلغ بهَا إِلَى الثَّلَاثَة، فَلَمَّا كَانَت الثَّلَاثَة نهايتها فِي
الْحَقِيقَة لم ترخم. وَأما مَا كَانَ ثالثه الْهَاء، فَإِنَّمَا جَازَ
ترخيمها، لِأَن الْهَاء
(1/350)
لَيست من بِنَاء الِاسْم، وَإِنَّمَا هِيَ
بِمَنْزِلَة اسْم ضم إِلَى اسْم، فَلَمَّا كَانَت فِي الْمَعْنى
مُنْفَصِلَة جَازَ حذفهَا.
وَأما الْمُبْهم فَلَا يجوز ترخيمه، لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ معرفَة
فَهُوَ فِي الأَصْل من نعت (أَي) ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَعْنى نعتا
صَار غير منادى، فَلهَذَا لم يرخم، وَإِن شِئْت قلت: إِنَّه لما كَانَ
نعتا للاسم ثمَّ حذفت المنعوت قبح ترخيمه، لِأَن ذَلِك يكون إجحافا
بِهِ.
وَأما الْجمل فَلَا يجوز ترخيمها لِأَنَّهَا تحكى، وَذَلِكَ أَنَّك لَو
رخمتها بطلت حكايتها.
وَأما مَا كَانَ فِي آخِره ألف وَنون زائدتان فَإِنَّمَا حذفا مَعًا
فِي التَّرْخِيم لِأَنَّهُمَا زيدا مَعًا فجريا مجْرى زِيَادَة
وَاحِدَة.
وَأما مَا كَانَ فِي آخِره حرف مد زَائِد فَإِنَّمَا حذف مَعَ حذف
الآخر تَشْبِيها بِأَلف (عُثْمَان) ، وَذَلِكَ أَن الْألف فِي
(عُثْمَان) سَاكِنة، وَهِي قبل آخِره، وَهِي حرف مد بِمَنْزِلَة الْألف
وَاللَّام، فحذفت مَعَ الْألف من (عمار) .
وَحكم ألفي التَّأْنِيث كَحكم الْألف وَالنُّون لِأَنَّهُمَا زيدتا
أَيْضا مَعًا. فَأَما إِذا حذفت الزائدتان، وَهِي فِي الْأَسْمَاء أقل
من ثَلَاثَة أحرف، لم يجز إِلَّا حذف الآخر، لما ذَكرْنَاهُ من الإجحاف
بِالِاسْمِ، وكرهوا أَن يبْقى الِاسْم على حرفين.
وَأما الْهَاء فَإِنَّمَا وَجب حذفهَا وَحدهَا، طَال الِاسْم أَو قصر،
لِأَنَّهَا لَيست من
(1/351)
بِنَاء الِاسْم الأول، وَهِي كالمنفصل
مِنْهُ، وَإِذا حذفت لم يجز أَن يحذف مَعهَا غَيرهَا، إِذْ كَانَت غير
مُتَعَلقَة بِالِاسْمِ تعلقا شَدِيدا، فَلهَذَا حذفت وَحدهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يعْمل مَا قبل الِاسْتِفْهَام فِيهِ
وَفِيمَا بعده؟
قيل لَهُ: لِأَن الِاسْتِفْهَام إِذا دخل على الْجمل كَانَ استفهاما
عَن جَمِيعهَا، مثل قَوْلك: أضربت زيدا؟ فَلَو قدمت (ضربت) على الْألف
لم يبْق معنى الِاسْتِفْهَام فِيهِ، وَهُوَ مقدم، والمعاني لَيْسَ
لَهَا قُوَّة تصرف فِيمَا قبلهَا وَفِيمَا بعْدهَا، فَلذَلِك لم يجز
أَن يعْمل: ضربت زيدا، وَبَينهَا ألف الِاسْتِفْهَام.
وَأما الْأَسْمَاء نَحْو: (أَي، وَمن، وَمَا) فَلَا يجوز أَيْضا أَن
يعْمل فِيهَا مَا قبلهَا، لهَذَا لَو قلت: علمت أَيهمْ فِي الدَّار،
بِنصب (أَيهمْ) ، لم يجز، وَإِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن الأَصْل أَن
يدْخل ألف الِاسْتِفْهَام على هَذِه الْأَسْمَاء، وَإِنَّمَا حذفت ألف
الِاسْتِفْهَام (46 / ب) اسْتغْنَاء، لِأَن هَذَا الْكَلَام لَا يكون
إِلَّا استفهاما، فَصَارَت الْألف محذوفة وَحكمهَا بَاقٍ، فَلهَذَا
منعت الْفِعْل من الْعَمَل فِي هَذِه الْأَسْمَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَكيف جَازَ أَن تعْمل فِيهَا حُرُوف الْجَرّ،
كَقَوْلِك: بِأَيِّهِمْ مَرَرْت؟
قيل لَهُ: الضَّرُورَة دعت إِلَى ذَلِك، وَذَلِكَ أَن حُرُوف الْجَرّ
لَا يجوز أَن تقوم بأنفسها، وَلَا بُد أَن تتَعَلَّق بِمَا يدْخل
عَلَيْهِ، وَقد بَينا أَن الْأَسْمَاء الَّتِي يستفهم بهَا تنوب عَن
شَيْئَيْنِ: عَن ألف الِاسْتِفْهَام، وَعَن الِاسْم، فَيصير قَوْلنَا:
أَيهمْ فِي الدَّار؟ بِمَنْزِلَة: أَزِيد فِي الدَّار؟ فَإِذا قلت:
بِأَيِّهِمْ مَرَرْت؟ صَار التَّقْدِير: أبزيد مَرَرْت؟ لِأَن الْبَاء
موصلة للْفِعْل الَّذِي بعد الِاسْتِفْهَام أَن يعْمل فِيهِ،
لِأَنَّهُمَا مقدران بعد ألف الِاسْتِفْهَام، فَلهَذَا خصت حُرُوف
الْجَرّ بِجَوَاز الْعَمَل من بَين سَائِر العوامل، ولهذه
(1/352)
الْعلَّة أَيْضا جَازَ لما بعد
الِاسْتِفْهَام أَن يعْمل فِيهِ. وَاعْلَم أَن الْأَفْعَال الَّتِي
تدخل على الِاسْتِفْهَام لَو قلت: ضربت أَيهمْ عنْدك، وَأَنت تُرِيدُ
الِاسْتِفْهَام، كَانَ محالا، وَإِنَّمَا فسد ذَلِك، لِأَن (ضربت)
وَمَا جرى مجْراهَا لَا يَصح إلغاؤه، لِأَنَّهُ فعل مُؤثر، فَإِذا تقدم
قبل الِاسْتِفْهَام لم يخل من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يعْمل، وَإِمَّا
أَن يلغى. وَقد بَينا أَن عمل مَا قبل الِاسْتِفْهَام بَاطِل، وإلغاء
هَذَا الْفِعْل أَيْضا محَال، فَلذَلِك لم يجز هَذَا الْكَلَام.
فَأَما أَفعَال الْقُلُوب فَهِيَ إِذا توسطت بَين مفعولين تلغى، وَقد
بَينا فِيمَا مضى لم جَازَ الغاؤها، وَتقول: قد علمت زيدا أَبُو من
هُوَ، ف (هُوَ) خبر (الْأَب) ، والراجع إِلَى زيد (هُوَ) ، وَلما كَانَ
هُوَ الْأَب، لم يحْتَج الْأَب إِلَى رَاجع إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَار
النصب فِي (زيد) أقوى من الرّفْع، لِأَن (زيدا) لَيْسَ بمستفهم عَنهُ
فِي اللَّفْظ، وَإِنَّمَا هُوَ مستفهم عَنهُ فِي الْمَعْنى، وَاللَّفْظ
أقوى من الْمَعْنى، لِأَن الحاسة تقع عَلَيْهِ مَعَ الْعقل،
وَالْمعْنَى إِنَّمَا يَقع عَلَيْهِ الْعقل فَقَط، فَلذَلِك كَانَ
النصب أقوى.
وَأما قَوْلهم: (كل رجل وقرينه) فَهُوَ إِضْمَار: ليكن كل رجل مَعَ
قرينه، وَالْأَحْسَن إِظْهَار الْفِعْل، إِلَّا أَن الْعَطف جعل كالعوض
مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا ينصب فِي هَذَا الْبَاب فَهُوَ مَعْطُوف أَو
مُكَرر، وَلَا يجوز إِظْهَار الْفِعْل، نَحْو قَوْلك: رَأسك والحائط،
والأسد الْأسد، وَمَا أشبه ذَلِك، لما ذَكرْنَاهُ من التّكْرَار،
والعطف عوض من الْفِعْل، فَلم يجز إِظْهَاره مَعَ وجود الْعِوَض
مِنْهُ.
وَأما قَوْلهم: (الْمَرْء مَجْزِي بِعَمَلِهِ، إِن خيرا فخيرا، وَإِن
شرا فشرا) .
(1/353)
فَإِنَّمَا اختير النصب فِي الأول بإضمار
(كَانَ) لِكَثْرَة دورها فِي الْكَلَام، لِأَنَّهَا عبارَة عَن جَمِيع
الْأَفْعَال، أَلا ترى أَنَّك تَقول: قَامَ زيد، فَيَقُول الْقَائِل:
قد كَانَ ذَلِك، فَلهَذَا وَجب أَن تضمر (كَانَ) ، وَإِنَّمَا كَانَ
إضمارها مَعَ اسْمهَا أولى من إضمارها مَعَ خَبَرهَا، لِأَن الْخَبَر
مُتَمَكن من الِاسْم، وَالِاسْم مُتَمَكن فِي الْفِعْل، فَهُوَ مَعَه
كالشيء الْوَاحِد، فَصَارَ إضمارها مَعَ اسْمهَا أولى من إضمارها مَعَ
خَبَرهَا، وَكلما خف الْإِضْمَار كَانَ أولى من كثرته، وَإِنَّمَا لم
نقدر (كَانَ) بِمَعْنى (وَقع وَحدث) - وَإِن كَانَ جَائِزا - لِأَن
(كَانَ) الَّتِي بِمَعْنى (وَقع وَحدث) فعل حَقِيقِيّ بِمَنْزِلَة: ذهب
وَضرب، وَلَيْسَ ككثرة (كَانَ) الَّتِي للعبارة عَن الْجمل، فَلهَذَا
كَانَ الِاخْتِيَار فِي الأول النصب.
فَأَما الَّذِي بعد الْفَاء فَإِنَّمَا اختير فِيهِ الرّفْع، لِأَن
الْفَاء (47 / أ) الَّتِي تقع جَوَابا للجزاء إِنَّمَا تدخل ليليها
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك، لِأَن جَوَاب
الْجَزَاء إِذا كَانَ فعلا لم يحْتَج إِلَى الْفَاء، لِأَن (إِن) تعْمل
فِيهِ، فَإِذا كَانَ خَبرا ومبتدأ لم يجز، لِأَن (إِن) تعْمل فِي
الْأَسْمَاء، فَلَو جِئْنَا بالمبتدإ وَالْخَبَر، فَجعلنَا جَوَابا
للشّرط، لم يعلم تعلقه بِهِ، لِأَن الْجمل قَائِمَة بِنَفسِهَا،
فاحتاجوا إِلَى حرف يعلق الْجُمْلَة بِالشّرطِ، فَأتوا بِالْفَاءِ، فقد
بَان بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن الْفَاء تطلب الِاسْم، فَوَجَبَ أَن يضمر
بعْدهَا الْمُبْتَدَأ، فَيصير خَبرا لَهُ، فَلهَذَا اختير الرّفْع فِي
الثَّانِي.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فَإِنَّهُ صَار أقرب إِلَى الأول، لِأَنَّك
تضمر أَيْضا بعد (إِن) فعلا، فَأَنت مُخَيّر إِن شِئْت كَانَت (كَانَ)
الَّتِي بِمَعْنى (وَقع) ، وَإِن شِئْت أضمرت (كَانَ) الَّتِي هِيَ
عبارَة فِي خَبَرهَا.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَضْعَف من هَذَا، لِأَنَّك تضمر بعد الْفَاء
شَيْئَيْنِ، وَهُوَ الْفِعْل والمبتدأ، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قدرت
الْكَلَام على شَيْء يَجِيء مُؤَخرا، لم يكن بُد للفاء من مبتدإ، لما
(1/354)
ذَكرْنَاهُ من أَنَّهَا تطلب الْمُبْتَدَأ،
فضعف لِكَثْرَة الْإِضْمَار من غير ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ.
وَأما الْوَجْه الرَّابِع: فأضعفها لِأَنَّهُ عكس الْمُخْتَار،
لِأَنَّك ترفع الأول وتنصب الثَّانِي، فَلهَذَا ضعف جدا.
وَأما قَوْلهم: (قد كَانَ ذَلِك إِن صَالحا وَإِن فَاسِدا) فَإِنَّمَا
وَجب نَصبه لِأَن قَوْلك: (قد كَانَ ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى أَمر مَا،
فالصالح وَالْفَاسِد هُوَ ذَلِك الْأَمر بِعَيْنِه، فَإِنَّمَا يرْتَفع
مثل هَذَا على أَنَّك تقدره اسْم (إِن) ، وَتجْعَل الْخَبَر فِي
تَقْدِير الظّرْف لَهُ، ومحال أَن تكون جملَة الشَّرْط ظرفا لجميعه،
فَلهَذَا اسْتَحَالَ أَن تقدره بِقَوْلِك: إِن كَانَ فِيهِ صَالح،
فَأَما إِذا قلت: إِن كَانَ فِيهِ صَلَاح أَو فَسَاد، فَجَائِز، لِأَن
الصّلاح وَالْفساد غير الشَّيْء الْمَذْكُور، فَجَاز أَن تقدر فِي
تَقْدِيره الظّرْف للصلاح وَالْفساد، فَلهَذَا حسن رَفعه.
وَأما قَول الشَّاعِر:
(لَا تقربن الدَّهْر آل مطرف ... إِن ظَالِما فيهم وَإِن مَظْلُوما)
فَإِنَّمَا وَجب نَصبه لِأَن الْمُخَاطب مُضْمر فِي الْفِعْل، فانتصب
(ظَالِما) على الْخَبَر، وَلَا يُمكن غير ذَلِك، لما يَقْتَضِيهِ
الْبَيْت.
(1/355)
(27 - بَاب الإغراء)
إِن قَالَ قَائِل: لم خصت الْعَرَب (عنْدك وَعَلَيْك ودونك) بإقامتها
مقَام الْأَفْعَال من بَين سَائِر الظروف؟
قيل لَهُ: لِأَن الْفِعْل لَا يجوز أَن يضمر إِلَّا أَن يكون عَلَيْهِ
دَلِيل من مُشَاهدَة حَال أَو غير ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ (على)
للاستعلاء، والمستعلي يرى مَا تَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ (عنْدك) للحضرة،
وَمن بحضرتك ترَاهُ، وَكَذَلِكَ (دون) للقرب، فَلَمَّا كَانَت هَذِه
الظروف أخص من غَيرهَا، جَازَ فِيهَا ذَلِك.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص الْمُخَاطب بِهَذَا دون غَيره؟
قيل: لِأَن الْمُخَاطب لَا يحْتَاج إِلَى حرف سوى الْفِعْل،
وَالْغَائِب والمتكلم الْأَمر لَهما بِاللَّامِ، كَقَوْلِك: ليقمْ زيد،
ولأقم مَعَه، فَلَمَّا أَقمت هَذِه الظروف مقَام الْفِعْل، كَرهُوا أَن
يستعملوها للْغَائِب والمتكلم، فَتَصِير نائبة عَن شَيْئَيْنِ، وهما
الْفِعْل وَاللَّام، فَوَجَبَ أَن تخْتَص بالمخاطب، لتقوم مقَام شَيْء
وَاحِد، وَقد سمع من الْعَرَب: (عَلَيْهِ رجلا ليسني) ، فَأمر ب (على)
وَحدهَا للْغَائِب، وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، وَقد تسْتَعْمل (على)
بِمَنْزِلَة فعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين إِذا أمرت
(1/356)
نَفسك، (47 / ب) وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ،
كَقَوْلِك: على زيدا، مَعْنَاهُ: أَعْطِنِي زيدا، وَلَا تَقول: عِنْدِي
زيدا، وَلَا دوني عمرا، لما بَيناهُ أَن هَذِه الظروف أُقِيمَت مقَام
الْفِعْل وَالْفَاعِل اتساعا، فَلَيْسَ يجب أَن تتصرف تصرفه - أَعنِي
تصرف الْفِعْل - فَمَا اتسعت فِيهِ الْعَرَب قُلْنَاهُ وَمَا تركته على
أَصله لم نجاوزه إِلَى غير ذَلِك.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: عَلَيْك زيدا، فللمخاطب ضميران، مجرور
ومرفوع، فالمجرور الْكَاف الظَّاهِرَة، وَالْمَرْفُوع مستتر فِي
النِّيَّة، فَإِذا أردْت أَن تؤكد الْمَرْفُوع أَو تعطف عَلَيْهِ،
جَازَ ذَلِك، كَقَوْلِك: عَلَيْك أَنْت نَفسك زيدا، وَعَلَيْك أَنْت
وَعَمْرو زيدا، وَلَا يحسن إِذا أردْت الْعَطف على الْمُضمر
الْمَرْفُوع أَن تسْقط توكيده، وَقد بَينا ذَلِك، فَإِن أردْت أَن تعطف
على الْكَاف لم يجز، لِأَن الْمُضمر الْمَجْرُور لَا يعْطف عَلَيْهِ
الظَّاهِر، إِلَّا بِإِعَادَة حرف الْجَرّ، وَمَعَ هَذَا أَنَّك لَو
أردْت أَن تعيد حرف الْجَرّ لم يجز، لِأَنَّهُ يصير اللَّفْظ: عَلَيْك
وعَلى زيد عمرا، فَيصير: أَمر الْغَائِب الْمُخَاطب، وَقد بَينا أَن
هَذَا لَا يجوز فِي هَذِه الْحُرُوف، فَإِن أردْت أَن تؤكد الْكَاف
جَازَ ذَلِك، نَحْو: عَلَيْك نَفسك زيدا، وَقد يجوز أَن تجْعَل النَّفس
مفعولة، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا
عَلَيْكُم أَنفسكُم} أَي: اتَّقوا أَنفسكُم، وَمَا أشبه ذَلِك على مَا
ذَكرْنَاهُ، أَو تَقول: عَلَيْك نَفسك نَفسك نَفسك، فَترفع الأول على
التوكيد للضمير الْمَرْفُوع المتوهم الْفَاعِل، وتجر الثَّانِيَة على
التوكيد للكاف، وتنصب الثَّالِثَة على الإغراء، إِلَّا أَن
(1/357)
الْأَحْسَن إِذا أردْت التوكيد بِالنَّفسِ
لِلْمَرْفُوعِ أَن تقدم (أَنْت) ، لما بَيناهُ من اخْتِلَاط الْفِعْل
للْفَاعِل، وَأَن النَّفس قد تسْتَعْمل غير مُؤَكدَة، كَقَوْلِك: خرجت
نَفسه، فَلَمَّا جرى مجْرى مَا لَا يكون تَابعا، استقبحوا أَن يتبعوها
مَا قد جرى مجْرى بعض الْفِعْل حَتَّى يؤكدوا ذَلِك، فيقوى بالتوكيد،
كَمَا ذكرنَا فِي الْعَطف.
(1/358)
(28 - بَاب الْمصدر)
اعْلَم أَن الْمصدر إِنَّمَا ينصب لِأَنَّهُ مفعول، أَلا ترى أَنَّك
إِذا قلت: ضربت ضربا، فَقيل لَك: مَا فعلت؟ فَقلت: أحدثت ضربا، فقد
بَان لَك أَن الْمصدر مفعول، فَلهَذَا انتصب.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل الْمصدر أصل للْفِعْل، أَو الْفِعْل أصل
للمصدر؟
قيل لَهُ: بل الْمصدر أصل للْفِعْل، وَالدَّلِيل على ذَلِك من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الْمصدر يدل على نَفسه فَقَط، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت:
ضربت، دلّ على الضَّرْب، وَهُوَ الْأَلَم الَّذِي يُوجد مِنْهُ،
فَصَارَ (ضرب) يدل على جَوْهَر الضَّرْب، كَأَنَّهُ مصوغ من جَوْهَر
مَا يدل إِذا أضفته إِلَى مَا صِيغ مِنْهُ دلّ أَنه مِنْهُ، وَإِن
كَانَت صورته مُخَالفَة لصيغة آخر صِيغ من ذَلِك الْجَوْهَر وَآخر
كَذَلِك، وَكلهَا تدل على ذَلِك الْجَوْهَر، فقد صَار الْجَوْهَر أصلا
لَهَا، وَكَذَلِكَ كل فعل يدل على مصدره الَّذِي أَخذ مِنْهُ، لِأَن
الْمصدر جوهره الَّذِي يُوجد فِيهِ ذَلِك الْفِعْل.
وَوجه آخر: وَذَلِكَ أَن الْفِعْل يدل على شَيْئَيْنِ، وَهُوَ
الزَّمَان والمصدر، والمصدر يدل على نَفسه فَقَط، فَصَارَ الْفِعْل
بِمَنْزِلَة الْمركب، إِذْ كَانَ يدل على الْمصدر وعَلى الزَّمَان
فَلَمَّا صَار فِي تَقْدِير اثْنَيْنِ، وَأحد الِاثْنَيْنِ الْمصدر،
وَالْوَاحد قبل الِاثْنَيْنِ، وَجب أَن يكون قبل الْفِعْل.
(1/359)
وَوجه ثَالِث: أَن الْمصدر يقوم بِنَفسِهِ،
أَلا ترى أَنَّك تَقول: (48 / أ) ضربك حسن، وَلَا تحْتَاج إِلَى ذكر
الْفَاعِل، وَالْفِعْل لَا يجوز أَن تذكره خَالِيا من الِاسْم،
فَوَجَبَ أَن يكون الْمصدر - لاستغنائه عَن الْفَاعِل - أصلا للْفِعْل،
لافتقار الْفِعْل إِلَيْهِ.
وَوجه رَابِع: وَهُوَ أَن الْمصدر فِي اللُّغَة هُوَ الْموضع الَّذِي
تصدر عَنهُ الْإِبِل وترده، فَلَمَّا اسْتحق هَذَا الِاسْم وَجب أَن
يكون الْفِعْل صادرا عَنهُ، وَإِذا كَانَ صادرا وَجب أَن يكون فرعا.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا تنكرون أَن يكون الْمصدر لَا يُرَاد بِهِ
الْموضع وَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول، أَي: المصدور بِهِ عَن
الْفِعْل، كَمَا تَقول: (مركب فاره) ، وكما يُقَال: (مشرب عذب) ، أَي:
مشروب عذب؟
قيل لَهُ: هَذَا يُفَسر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْأَلْفَاظ إِذا أمكن تَأْوِيلهَا على ظَاهرهَا،
فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن تعدل عَن الظَّاهِر إِلَّا بِدلَالَة، فَإِذا
كَانَ ظَاهر الْمصدر يُوجب أَن يكون اسْما للموضع هَاهُنَا مَا يمْنَع
من ذَلِك، وَجب أَن يحمل على ظَاهره، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيجب أَن
يكون اسْما للموضع على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْلهم: (مركب فاره، ومشرب عذب) يجوز أَن
يكون مَوضِع المركوب والمشروب، وَإِنَّمَا ينْسب إِلَى الفراهة
والعذوبة للمجاورة، كَمَا يُقَال: جرى النَّهر، وَإِنَّمَا يجْرِي
المَاء فِي النَّهر.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد رَأينَا الْمصدر يَصح بِصِحَّة الْفِعْل ويعتل
باعتلاله، فَيجب أَن
(1/360)
يكون فرعا لَهُ، إِذْ تبعه فِي الاعتلال
وَالصِّحَّة، كَقَوْلِك: قاومته قواما؟
قيل لَهُ: هَذَا لَا يدل على مَا ذكرت، وَذَلِكَ أَن الْفراء الَّذِي
يخالفنا فِي هَذِه الْعلَّة قد حمل الأَصْل على الْفَرْع، وَذَلِكَ
أَنه قَالَ: بني (قَامَ) لدُخُول التَّثْنِيَة عَلَيْهِ، والتثنية فرع
على الْوَاحِد، وَقَوله: يمْتَنع أَن يبْنى الْمصدر على الْفِعْل -
وَإِن كَانَ أصلا للْفِعْل - وَأَيْضًا فَإِن الشَّيْء قد يحمل على
الشَّيْء فِي الاعتلال، للمشاركة بَينهمَا، وَلِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق
الْكَلِمَة، وَلَيْسَ أَحدهمَا أصلا للْآخر، أَلا ترى أَنهم
يَقُولُونَ: وعد يعد، فيحذفون الْوَاو من (يعد) لوقوعها بَين يَاء
وكسرة، ويحذفونها أَيْضا من: نعد وَأعد، وَإِن لم تكن قد وَقعت بَين
يَاء وكسرة، فحملا على (يعد) لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق الْفِعْل، فَإِذا
ثَبت أَن الْحمل فِي بَاب الاعتلال لَا يدل على أَن الْمَحْمُول على
غَيره فرع على الْمَحْمُول عَلَيْهِ، لم يجب أَن يكون الْمصدر فرعا
للْفِعْل، وَإِن حمل عَلَيْهِ فِي بَاب الاعتلال.
فَإِن قَالَ قَائِل: الْفِعْل يعْمل فِي الْمصدر، وَمن شَرط الْعَامِل
أَن يكون قبل الْمَعْمُول فِيهِ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجب أَن يكون
الْفِعْل قبل الْمصدر؟
قيل لَهُ: هَذَا سَاقِط، لِأَن الْحَرْف يعْمل فِي الْأَسْمَاء
وَالْأَفْعَال، فَلَو جب مَا قلت لَصَارَتْ الْحُرُوف أصلا للأسماء
وَالْأَفْعَال، وَهَذَا بَين الْفساد.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ قُلْتُمْ: إِن الْمصدر مُؤَكد، والتأكيد
بعد الْمُؤَكّد، فَيجب أَن يكون الْفِعْل أصلا للمصدر لِأَنَّهُ
الْمُؤَكّد؟
قيل: هَذَا يُفَسر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمصدر فِي الْمَعْنى مفعول، وَقد بَينا أَنه من هَذَا
الْوَجْه لَا يجب أَن
(1/361)
يكون فرعا، وَلَيْسَ ذكر الْمصدر
بِأَكْثَرَ من كَونه مَفْعُولا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْمصدر إِنَّمَا أقيم (48 / ب) مقَام
تَكْرِير الْفِعْل، فَكَمَا أَن الشَّيْء لَا يجوز أَن يكون أصلا
لنَفسِهِ، فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يكون مَا قَامَ فرعا عَلَيْهِ.
وَاعْلَم أَن إِقَامَة الْآلَة مقَام الْمصدر جَائِز، وَإِنَّمَا
الْغَرَض فِيهِ الِاخْتِصَار، فَإِذا قلت: (ضربت) زيدا سَوْطًا
وَاحِدًا، دلّ ذكر السَّوْط على أَن الضَّرْب بِهِ وَقع، ويثنى وَيجمع،
فَتكون تثنيته وَجمعه دلَالَة على الضَّرْب، فَإِذا قلت: ضربت زيدا
مائَة سَوط، فَالْمَعْنى: مائَة ضَرْبَة بِسَوْط وَاحِد.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: أَنْت سيرا سيرا، فَإِنَّمَا الْمَعْنى:
أَنْت تسير سيرا، فحذفت الْفِعْل لدلَالَة الْمصدر عَلَيْهِ، إِذْ
كَانَ مشتقا من لفظ الْمصدر، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُم جعلُوا أحد
المصدرين بَدَلا من الْفِعْل، وَيجوز أَن يكون حذفوا الْفِعْل
هَاهُنَا، لِأَن الْمُبْتَدَأ يجب أَن يكون خَبره هُوَ وَالسير غير
أَنْت، فَدلَّ ذَلِك على الْمَحْذُوف، وَهُوَ: يسير، وَقد يجوز
الرّفْع، فَتَقول: أَنْت سير سير، فالرفع من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون التَّقْدِير: أَنْت صَاحب سير، فَحذف الصاحب وأقيم
(السّير) مقَامه، وَمثل هَذَا قَول الخنساء:
(1/362)
(ترتع مَا علفت حَتَّى إِذا ادكرت ...
فَإِنَّمَا هِيَ إقبال وإدبار)
أَي: صَاحِبَة إقبال وإدبار.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تجْعَل الْمُبْتَدَأ هُوَ على سَعَة
الْكَلَام، وَيكون الْمَعْنى فِيهِ: أَن السّير كثر مِنْهُ فَجرى
مجْرَاه.
وَأما (مرْحَبًا وَأهلا) فَإِنَّمَا حذف الْفِعْل مِنْهُ لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يكون مصدرا للْفِعْل من لَفظه، فَكَأَنَّهُ بدل من:
رَحبَتْ مرْحَبًا، وأهلت أَهلا، وَإِن لم يسْتَعْمل.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون مَفْعُولا لفعل من غير لَفظه،
كَأَنَّهُ قَالَ: أصبت أَهلا، وأصبت مرْحَبًا.
وَأما: (لَقيته فجاءة) وَمَا أشبهه، فنصبه على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن تضمر فعلا بعد (لَقيته) من لفظ (فجاءة) ينصبها، لِأَن
اللِّقَاء قد يكون على ضروب، فَفِيهِ دلَالَة (فجيء) فَلهَذَا جَازَ
إضماره.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تجْعَل نفس (لَقيته) عَاملا فِيهِ، لن
اللِّقَاء لما كَانَ قد يَقع على هَذِه الصّفة، صَار (لَقيته)
بِمَنْزِلَة (فاجأته) .
وَكَذَلِكَ: (أَخَذته عَنهُ سَمَاعا) .
وَأما قَوْلهم: (مَرَرْت بهم الْجَمَّاء الْغَفِير) فَإِنَّمَا قدر فِي
مَوضِع الْحَال، كَقَوْلِهِم: (أرسلها العراك) ، وَلم تَجِيء
الْأَسْمَاء غير المصادر فِي مَوضِع الْحَال
(1/363)
بِالْألف وَاللَّام، وَإِنَّمَا قدرناه
حَالا، لِأَن الْفِعْل الَّذِي قبله لَيْسَ من لَفظه، وَلَا يرجع إِلَى
مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ (الْغَفِير) فِي الْمَعْنى إِنَّمَا يُرَاد بهم:
الْقَوْم، وَالْحَال هُوَ الِاسْم الَّذِي قبلهَا، فَلهَذَا قدر فِي
مَوضِع الْحَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ فِي المصادر أَن تقع موقع الْحَال
وفيهَا الْألف وَاللَّام؟
فَفِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن يكون الْمصدر مَنْصُوبًا بِفعل من لَفظه، وَذَلِكَ
الْفِعْل فِي مَوضِع الْحَال، فَلَمَّا حذف الْفِعْل قَامَ الْمصدر
مقَامه، فَجَاز أَن يُقَال: إِنَّه فِي مَوضِع الْحَال، كَقَوْلِهِم:
(أرسلها العراك) ، فالتقدير: أرسلها تعترك العراك، فالعراك نصب على
الْمصدر، والمصادر تكون معرفَة ونكرة، وتعترك: هُوَ الْحَال، فأقيم
(العراك) مقَامه.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن المصادر الَّتِي فِيهَا الْألف وَاللَّام،
قد تقوم مقَام فعل الْأَمر، كَقَوْلِهِم: الحذر الحذر، وَالْأَفْعَال
مَعَ فاعلها جمل، والجمل نكرات، فَلَمَّا جَازَ أَن يقوم الْمصدر
الَّذِي فِيهِ الْألف وَاللَّام مقَام الْفِعْل فِي الْأَمر (49 / أ) ،
جَازَ أَن يقوم مقَام الْحَال لما ذَكرْنَاهُ.
واشتقاق الْجَمَّاء: من الجمة وَهُوَ الشّعْر الْمُجْتَمع على
الرَّأْس، فَمثل كَثْرَة النَّاس بالشعر.
وَإِنَّمَا أنث فَقيل: الْجَمَّاء، لِأَن المصادر قد تؤنث،
كَقَوْلِهِم: ضَربته ضَرْبَة.
وَإِنَّمَا قيل: الْغَفِير، بِغَيْر لفظ التَّأْنِيث لِأَنَّهُ (فعيل)
فِي معنى (مفعول) ، كَأَنَّهُ غفر بَعضهم بَعْضًا، أَي: غطى، فَلهَذَا
لم يؤنث الْغَفِير، كَمَا يُقَال:
(1/364)
(كف خضيب) .
وَأما قَوْلهم: (هَذَا زيد حَقًا، وَالْحق لَا الْبَاطِل) ، فالنصب على
الْمصدر، كَأَنَّك قلت: أَحَق الْحق وأحق حَقًا، لَا أتوهم الْبَاطِل،
وَإِنَّمَا تذكر هَذِه المصادر بعد الْجمل توكيدا، لِأَن الْخَبَر قد
يكون حَقًا وباطلا، فَصَارَ فِي الْجُمْلَة دَلِيل على (أَحَق) .
وَاعْلَم أَنَّك إِذا وسطت هَذِه المصادر بَين المبتدإ وَخَبره جَازَ،
كَقَوْلِك: زيد حَقًا أَخُوك، فَإِن قلت: حَقًا زيد أَخُوك، لم يجز،
وَإِنَّمَا جَازَ توسيطها، وَلم يجز تَقْدِيمهَا، لأَنا قد بَينا أَن
هَذِه المصادر توكيد للْجُوَاز، فَلَو قدمناها قبل الْجمل لبدأنا
بالتوكيد قبل الْمُؤَكّد، فَهَذَا فَاسد، لِأَن التوكيد تَابع،
وَالتَّابِع حَقه أَن يكون بعد الْمَتْبُوع، فَأَما إِذا توسطت فقد
تقدم قبلهَا مَا يكون توكيدا لَهُ، فَلهَذَا افترق حَال التَّقْدِيم
والتوسيط، إِن شَاءَ الله.
فَأَما قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق
الَّذِي فِيهِ يمترون} فالرفع فِيهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون على خبر ابْتِدَاء مَحْذُوف.
(1/365)
وَالثَّانِي: أَن يكون (قَول الْحق) نعتا ل
(عِيسَى) ، وَإِنَّمَا جَازَ أَن ينعَت بالْقَوْل، لِأَن الله تَعَالَى
قد سَمَّاهُ كَلمته، فَجَاءَت من معنى القَوْل، فَلذَلِك جَازَ أَن
ينعَت بِهِ، وَأما قَول رؤبة بن العجاج:
(إِن نزارا أَصبَحت نزارا ... دَعْوَة أبرار دعوا أبرارا)
فَفِي قَوْله: إِن نزارا أَصبَحت نزارا، دلَالَة على أَنهم قد كَانُوا
مُخْتَلفين، ثمَّ اجْتَمعُوا وصاروا على دَعْوَة وَاحِدَة، فَدلَّ على
قَوْله: دعوا دَعْوَة أبرار.
(1/366)
(29 - بَاب الظروف)
إِن قَالَ قَائِل: لم تعدى الْفِعْل إِلَى ظروف الزَّمَان خاصيا وعاميا
من غير توَسط حرف الْجَرّ، نَحْو قَوْلك: قُمْت وقتا، وَقمت يَوْم
الْجُمُعَة؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْفِعْل يدل بصيغته على الزَّمَان، وَهُوَ
مضارع للزمان بِنَفسِهِ، فَلَمَّا صَار الزَّمَان مشاركا للْفِعْل
هَذِه الْمُشَاركَة، اسْتحق طرح حرف الْجَرّ مِنْهُ، إِذْ كَانَ حذفه
لَا يشكل، وَهُوَ أخف فِي اللَّفْظ.
وَأما ظروف الْمَكَان فالفعل لَا يدل عَلَيْهَا من لَفظه، وَإِنَّمَا
يدل عَلَيْهَا بِالْمَعْنَى، كَمَا يدل على الْفِعْل وَالْمَفْعُول،
إِذا تعدى الْفِعْل إِلَيْهِ بِحرف جر، لَا يجوز حذف حرف الْجَرّ
مِنْهُ، إِلَّا أَن يسمع ذَلِك من الْعَرَب، أَلا ترى أَنَّك تَقول: "
مَرَرْت بريد، وَلَا يجوز أَن تَقول: مَرَرْت زيدا، وَكَذَلِكَ كَانَ
الْقيَاس فِي جَمِيع ظروف الْمَكَان أَن يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَيْهَا
بِحرف الْجَرّ، كَقَوْلِك: قُمْت فِي الدَّار، وَقمت فِي خَلفك، إِلَّا
أَن الظروف المبهمة يجوز حذف حرف الْجَرّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا قد أشبهت
ظروف الزَّمَان، وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ لَهَا خلق، كَمَا أَن الزَّمَان
لَا خلقَة لَهُ، يباين بَعْضهَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ الْخلف والقدام،
وَمَا أشبه ذَلِك من هَذِه الظروف المبهمة، يجوز أَن تنْقَلب كلهَا،
فَيصير الْخلف قداما، والقدام خلفا، أَلا ترى أَن الْجِهَة الَّتِي
هِيَ خلف - إِن تقدمها الشَّخْص - صَارَت قداما لَهُ، وَكَذَلِكَ (49 /
ب) حكم القدام لَهُ، فَلَمَّا كَانَت هَذِه الظروف شَبيهَة بظروف
الزَّمَان عدوا الْفِعْل إِلَيْهَا من غير توَسط حرف الْجَرّ، وَمَعَ
ذَلِك فَإِن هَذِه الظروف لَيْسَ يتَعَلَّق الْفِعْل بهَا إِلَّا على
طَرِيق
(1/367)
الِاسْتِقْرَار، أَلا ترى أَنه لَا يحسن
أَن تَقول: هدمت خَلفك وَلَا قدامك، كَمَا تَقول: هدمت الدَّار، ولهذه
الْعلَّة جَازَ حذف حرف الْجَرّ مِنْهَا، فَأَما مَا كَانَ من ظروف
الْمَكَان مَخْصُوصًا، نَحْو: الدَّار، وَالْمَسْجِد وَمَا أشبه ذَلِك،
فلهذه خلف، كزيد وَعَمْرو، أَلا ترى أَنه لَا تسمى كل بقْعَة
بِمَسْجِد، وَلَا دَار، فَلَمَّا جرت هَذِه الظروف مجْرى زيد وَعَمْرو،
وَجب أَلا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَيْهَا إِلَّا بِحرف الْجَرّ.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن زعمتم أَن الأَصْل فِي جَمِيع هَذِه
الظروف أَن يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا إِلَيْهَا بتوسط حرف الْجَرّ؟
قيل لَهُ: لِأَن الْأَفْعَال الَّتِي تتَعَلَّق بهَا وتنصبها غير
متعدية، كَقَوْلِك: قُمْت يَوْم الْجُمُعَة، وَقمت لَا يتَعَدَّى،
وَلما كَانَت الْأَفْعَال لَا تتعدى، تعدت بِحرف الْجَرّ، فَكَانَت
هَذِه الظروف مَفْعُولا فِيهَا فِي الْحَقِيقَة، وَجب أَن يكون
الأَصْل: قُمْت فِي يَوْم الْجُمُعَة، فَحذف حرف الْجَرّ - لما
ذَكرْنَاهُ - وَوصل الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الْحَال مَفْعُولا فِيهَا، فَهَل تقدر
تَقْدِير حرف الْجَرّ فِيهَا كتقديره فِي الظروف؟
قيل لَهُ: الْحَال وَإِن كَانَت فِي معنى الْمَفْعُول فَلَيْسَ حرف
الْجَرّ مُقَدرا فِيهَا كتقديره فِي الظّرْف، فَتحل الْأَفْعَال فِيهِ
فتنصبه، وَالْحَال هِيَ الِاسْم الَّتِي هِيَ مِنْهُ، فَاعِلا كَانَ
أَو مَفْعُولا أَو مجرورا، كَقَوْلِك: جَاءَ زيد مسرعا، فالمسرع هُوَ
زيد، وَلَيْسَ بظرف، فَوَجَبَ أَن يكون (مسرع) لَيْسَ بظرف لَهُ،
وَلكنه مشبه بالظروف، إِذْ كَانَت الْحَال تذكر على طَرِيق تَوْقِيف
الْفِعْل وتبيينه، وَكَيف وَقع، كَمَا يبين الظّرْف إِن وَقع، فشابهت
الْحَال للظروف، فَقيل: مَفْعُولا فِيهَا على
(1/368)
التَّشْبِيه بالظروف، لِأَن حُرُوف الْجَرّ
مقدرَة فِيهَا، أَلا ترى أَنه لَا يجوز إِظْهَاره بِحَال، والظروف إِذا
كني عَنْهَا ظهر حرف الْجَرّ مَعَ الْمُضمر، كَقَوْلِك: قُمْت يَوْم
الْجُمُعَة، فَإِذا أضمرت، قلت: قُمْت فِيهِ، وَالْحَال لَا يَصح
فِيهَا هَذَا، فجرت مجْرى قَوْلنَا: إِن زيدا مفعول بِهِ، لَيْسَ
قَوْلنَا: ضربت زيدا، مُقَدرا مَعَه حرف الْجَرّ، وَلكنه مَجْهُول على
هَذَا الْمَعْنى، وَكَذَلِكَ الْحَال لما شبهت بالظروف، قيل: مفعول
فِيهَا، لِأَن حرف الْجَرّ مُقَدّر فِيهَا، وَإِذا قلت: زيد خَلفك،
فَإِنَّمَا وَجب تَقْدِير الِاسْتِقْرَار، لِأَن (زيدا) مُبْتَدأ،
فَلَا بُد لَهُ من خبر، وَالْخَبَر يحْتَاج أَن يتَعَلَّق بالمخبر
عَنهُ، فَلَو لم نقدر الِاسْتِقْرَار لم يتَعَلَّق الْخَبَر ب (زيد) .
وَأما: (الْقِتَال الْيَوْم) ، فَلَا يجوز أَن يكون (الْيَوْم)
مَنْصُوبًا ب (الْقِتَال) ، لِأَنَّهُ لَو انتصب بِهِ لصار من صلته،
فَيبقى الْمُبْتَدَأ بِلَا خبر، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، وَجب أَن نقدر
فِي (الْقِتَال) فعلا ينْتَصب (الْيَوْم) بِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن جَازَ أَن تقوم المصادر مقَام الظروف
فِي قَوْلهم: (زيد منى مزجر الْكَلْب، وَأَتَيْتُك مقدم الْحَاج) ؟
قيل لَهُ: لِأَن الْفِعْل لما كَانَ دَالا على الْمصدر وَالزَّمَان
دلَالَة وَاحِدَة اشْتَركَا من هَذَا الْوَجْه، وَأَن الْأَفْعَال
تَقْتَضِي الزَّمَان، فجرت المصادر مجْرى الزَّمَان، فَجَاز أَن
تخلفها.
(50 / أ) فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز الْقيَاس على مَا سمع من
الْعَرَب، فَيُقَال: مَكَان السارية؟
(1/369)
قيل لَهُ: لَا يجوز ذَلِك، وَالسَّبَب
فِيهِ أَن هَذِه المصادر لما كَانَت مَعْلُومَة الْمَوَاضِع فِي الْقرب
والبعد، جعلت تمثيلا للقرب والبعد، فَإِذا قلت: (زيد مني مقْعد
الْقَابِلَة) دلّ ذَلِك على قربه مني، إِذْ كَانَت الْقَابِلَة قد
اسْتَقر قربهَا مِمَّن تقبله فِي النُّفُوس، فَإِذا قلت: (هُوَ مني
مزجر الْكَلْب) دلّ على إبعاده وإهانته.
فَأَما: (مَكَان السارية، ومربط الْفرس) فَلَيْسَ لَهَا مَوَاضِع
مَخْصُوصَة، وَقد تكون قريبَة وبعيدة، فَلَمَّا لم يسْتَقرّ حكمهَا على
قرب مَخْصُوص وَلَا على بعد مَخْصُوص، لم يجز أَن تجْعَل تمثيلا
لأَحَدهمَا لاحْتِمَال أَمريْن، فاعرفه.
(1/370)
(30 - بَاب الْحَال)
إِنَّمَا وَجب أَن تكون الْحَال نكرَة لأمرين:
أَحدهمَا: أَنَّهَا زَائِدَة لَا فَائِدَة فِيهَا للمخاطب، فَلَو
كَانَت معرفَة لم يستفدها الْمُخَاطب، وَمَعَ ذَلِك فَلَو جعلت معرفَة
لجرت مجْرى النَّعْت لما قبلهَا من الْمعرفَة، والنكرة أَعم من
الْمعرفَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ أَجود الْوَجْهَيْنِ، أَن الْحَال هِيَ
مضارعة للتمييز، لِأَنَّك تبين بهَا، كَمَا تبين بالتمييز نوع
الْمُمَيز، فَلَمَّا اشْتَركَا فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ التَّمْيِيز
نكرَة، وَجب أَن تكون الْحَال نكرَة. وَإِنَّمَا قبح الْحَال من
النكرَة، إِذا قلت: جَاءَنِي رجل ضَاحِك، فأجريت (ضَاحِكا) نعتا ل
(الرجل) ، ثمَّ لَو قلت: جَاءَنِي رجل ضَاحِكا، فَنصبت (ضَاحِكا) على
الْحَال، كَانَ معنى الْحَال وَمعنى الصّفة وَاحِدًا، لِأَنَّك إِذا
قلت: جَاءَنِي رجل ضَاحِك، فَلَيْسَ يجب أَن يكون فِي حَال الْخَبَر
ضَاحِكا، وَكَذَلِكَ إِذا نصبته على الْحَال، فَلَمَّا اسْتَوَى
مَعْنَاهُمَا كَانَ النَّعْت أولى من الْحَال لِاتِّفَاق اللَّفْظ،
وَلَيْسَ كَذَلِك حكم نعت الْمعرفَة، لِأَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي زيد
الظريف، وَجب أَلا يكون (الظريف) حَالا لَهُ وَقت الْخَبَر، لِأَنَّك
ذكرته لتبين بِهِ زيدا، وَزيد معرفَة قد كَانَ مستغنيا بِنَفسِهِ،
فَلَمَّا خفت اخْتِلَاطه بِغَيْرِهِ من الزيدين بَينته بالنعت. وَأما
النكرَة فَلَيْسَ عينا بَائِنا، فالصفة إِنَّمَا تفِيد فِيهَا
تَخْصِيصًا، وَلَيْسَ يجب بَقَاء ذَلِك التَّخْصِيص فِي حَال الْخَبَر
فَلهَذَا حسن الْحَال من الْمعرفَة، وقبح من النكرَة، وَوَجَب جَوَازه
فِيهَا على التَّشْبِيه بالمعرفة، وَإِنَّمَا وَجب أَن نقدم الْحَال
على الْعَامِل فِيهَا إِذا كَانَ فعلا متصرفا، لِأَن الْحَال مفعولة،
فَإِذا كَانَ الْعَامِل فِيهِ فعلا
(1/371)
متصرفا جَازَ تَقْدِيمهَا عَلَيْهِ، كَمَا
يجوز تَقْدِيم الْمَفْعُول على الْفِعْل لقُوَّة الْفِعْل، سَوَاء
كَانَت من اسْم مُضْمر أَو مظهر، وَالْفراء يمْنَع من تَقْدِيم الْحَال
إِذا كَانَت من اسْم ظَاهر، نَحْو: ضَاحِكا جَاءَ زيد، قَالَ: لِأَن
فِي (ضَاحِك) ضميرا يرجع إِلَى (زيد) لَا يجوز تَقْدِيمه عَلَيْهِ،
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء عندنَا، لِأَن الضَّمِير إِذا تعلق باسم،
وَكَانَ ذَلِك الِاسْم مقدما على شريطة التَّأْخِير، جَازَ تَقْدِيمه،
كَقَوْلِك: ضرب غُلَامه زيد، لِأَن الْمَفْعُول شَرطه أَن يَقع بعد
الْفَاعِل، فَكَذَلِك حكم الْحَال.
وَأما إِذا كَانَ الْعَامِل معنى فعل، لم يجز تَقْدِيم الْحَال
عَلَيْهِ، كَقَوْلِك: (المَال لَك خَالِصا) فَلَو قلت: خَالِصا المَال
لَك، لم يجز لِأَن الْفِعْل لَيْسَ بملفوظ بِهِ (50 / ب) وَإِنَّمَا
اللَّام بِتَأْوِيل الْفِعْل، لِأَنَّهَا تفِيد الْملك، فَلَمَّا كَانَ
الْعَامِل ضَعِيفا لم يجز تصريفه، أَلا ترى أَن (إِن وَأَخَوَاتهَا)
لَا تعْمل فِيمَا قبلهَا لِضعْفِهَا.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ إِذا قلت: زيد خَلفك ضَاحِكا، فالعامل فِي (خلف)
فعل مُقَدّر، وَهُوَ اسْتَقر، والمضمر من الْأَفْعَال يجْرِي مجْرى
الْمظهر فِي عمله، فَهَلا جَازَ تَقْدِيم الْحَال على الظّرْف، لِأَن
الْعَامِل فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ هُوَ الظّرْف؟ .
قيل لَهُ: لِأَن هَذَا الْفِعْل لَا يجوز أَن يجْرِي مجْرى غَيره من
الْأَفْعَال فِي جَوَاز التَّصَرُّف، لِأَنَّهُ قد خَلفه الظّرْف،
وَمَعَ هَذَا فَإِن هَذَا الْفِعْل حكمه مسْقطًا بِأَن لَا يجوز
إِظْهَاره، فَلَمَّا صَار فِي حكم الْمسْقط، وأقيم مقَامه مَا لَيْسَ
بِفعل، فضعف علمه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَكيف جَازَ أَن تَقول: (يَوْم الْجُمُعَة المَال
لَك) فتنصب (يَوْم الْجُمُعَة) بِمَعْنى اللَّام، والظرف مفعول فِيهِ،
كَمَا أَن الْحَال مفعول فِيهَا، فَمن أَيْن اخْتلفَا؟
(1/372)
قيل لَهُ: إِنَّمَا جَازَ ذَلِك فِي
الظّرْف لاحتوائه على الْجُمْلَة الْمُتَعَلّق بهَا، فَصَارَ فِي هَذَا
الْمَعْنى تَقْدِيمه وتأخيره سَوَاء، وَأما الْحَال فَهِيَ بِمَنْزِلَة
الْمَفْعُول، وَلَيْسَ فِيهَا معنى الاحتواء، فَوَجَبَ أَن يُرَاعى
فِيهَا قُوَّة الْعَامِل وَضَعفه. وَاعْلَم أَنما قبح من النكرَة لِأَن
مَعْنَاهَا وَمعنى الصّفة سَوَاء، وَذَلِكَ إِذا قلت: جَاءَنِي رجل
ضَاحِك، فَإِنَّمَا أخبرتنا عَن مَجِيء رجل ضَاحِك، وَلم يجب أَن يكون
ضَاحِكا فِي حَال خبرك، فَلَمَّا اتّفق معنى الْحَال وَالصّفة كَانَ
إِجْرَاء الصّفة على مَا قبلهَا أولى، لِأَن اخْتِلَاف اللَّفْظ لَا
يُوجب اخْتِلَاف الْمَعْنى، فَإِذا وَجب أَن يوفق بَين اللَّفْظَيْنِ،
وَيكون الْمَعْنى كمعنى الْمُخْتَلف كَانَ أولى.
فَأَما الْمعرفَة فالحال فِيهَا مُخْتَلف كَحكم الصّفة، وَذَلِكَ
أَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي زيد الظريف، وَجب أَن يكون (الظريف) حَالا
لَهُ فِي حَال خبرك، وَلَوْلَا ذَلِك لم يحْتَج إِلَيْهَا، لِأَن زيدا
مَعْرُوف، وَأما الْحَال فَلَا يجب أَن تكون فِي الْخَبَر فاصلة،
وَلِهَذَا حسنت الْحَال من الْمعرفَة، وقبحت من النكرَة.
وَقَوله: أحسن مَا يكون زيد قَائِما، فَأحْسن: رفع بِالِابْتِدَاءِ، و
(مَا) مَعَ (يكون) : فِي مَوضِع خَبره، لِأَنَّهَا مَعَ الْفِعْل مصدر،
وَلَا تحْتَاج إِلَى عَائِد يعود عَلَيْهَا، إِذا كَانَت مصدرا،
لِأَنَّهَا قد جرت فِي هَذَا الْموضع مجْرى (أَن) ، فَكَمَا لَا
تحْتَاج (أَن) إِلَى عَائِد فِي قَوْلك: أَن يكون قَائِما أحسن
فَكَذَلِك (مَا) فِي هَذَا الْموضع، وَعند الْأَخْفَش لَا بُد لَهَا من
عَائِد، لِأَنَّهَا أبدا عِنْده اسْم، وَإِذا كَانَت اسْما فَلَا بُد
لَهَا من عَائِد إِلَيْهَا، فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا عَائِد
عَلَيْهَا، إِذْ هِيَ بِمَعْنى
(1/373)
(أَن) ، وَهَذَا يدل على صِحَة قَول
سِيبَوَيْهٍ، وَنصب (قَائِم) على الْحَال، وَالْعَامِل فِيهَا فعل
تَقْدِيره: إِذا كَانَ قَائِما، وَإِذ كَانَ قَائِما، وَإِنَّمَا وَجب
إِضْمَار (إِذْ وَإِذا) لِأَنَّهُمَا يدلان على الزَّمَان الْمَاضِي
والمستقبل، وَلَيْسَ تَخْلُو حَال الْإِنْسَان من أَن تكون مَاضِيَة
أَو مُسْتَقْبلَة، فَلهَذَا وَجب إِضْمَار (إِذْ وَإِذا) لدلَالَة
الْكَلَام عَلَيْهَا.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل إِذا أضيف إِلَى جنس كَانَ من جنس مَا أضيف
إِلَيْهِ، فَلَمَّا أضيف (أحسن) إِلَى الْمصدر وَجب أَن يكون مصدرا،
والمصادر يكون خَبَرهَا ظروف الزَّمَان، فَلهَذَا (51 / أ) احتجنا
إِلَى إِضْمَار (إِذْ وَإِذا) ، إِذْ كَانَا ظرفين من الزَّمَان،
وموضعها نصب بإضمار (اسْتَقر) ، كَمَا تَقول: (الْقِتَال الْيَوْم) ،
وَلَا يجوز أَن تنصبهما ب (كَانَ) ، لِأَنَّهُمَا فِي مَوضِع جر ب
(إِذْ وَإِذا) ، وَالْمَجْرُور لَا يجوز أَن يعْمل فِي الْجَار.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلت (قَائِما) نصبا على خبر (كَانَ) أَو
(يكون) الَّتِي تلِي (مَا) ؟
قيل لَهُ: لَا يجوز ذَلِك، لأَنا لَو نصبنا (قَائِما) على خبر (يكون)
لَكَانَ مَعَ (يكون) من صلَة (مَا) ، وَبَقِي (أحسن) بِغَيْر خبر،
فَلهَذَا بَطل أَن يكون خبر (يكون) .
وَوجه آخر: أَنه لَو كَانَ خَبرا لجَاز أَن يَقع معرفَة، وَالْعرب لَا
تسْتَعْمل هَذَا إِلَّا نكرَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه حَال، وَلَيْسَ
بِخَبَر، ولهذه الْعلَّة لم يجز أَن يكون خَبرا ل (كَانَ) المضمرة.
وَاعْلَم أَن الْحَال إِنَّمَا تجوز فِي هَذَا الْجِنْس من الْمسَائِل
مَتى كَانَت رَاجِعَة إِلَى غير الْمصدر، كَقَوْلِك: ضربي زيدا
قَائِما، إِنَّمَا هُوَ رَاجع إِلَى زيد وَإِلَى الْمُتَكَلّم، وَإِذا
كَانَت الْحَال رَاجِعَة إِلَى نفس الْمصدر، لم يكن فِيهَا إِلَّا
الرّفْع، كَقَوْلِك: ضربي زيدا شَدِيد، وَإِنَّمَا وَجب الرّفْع، لِأَن
الأول هُوَ الثَّانِي، فَصَارَ قَوْلك: زيد قَائِم.
(1/374)
وَاعْلَم أَنه إِذا جَازَ أَن تَقول: (أرخص
مَا يكون السّمن منوان) ، فتحذف خبر (المنوين) الرَّاجِع إِلَى المبتدإ
الأول، لِأَن السّعر فِي نفوس النَّاس مُسْتَقر مَعْلُوم بِدلَالَة
الْكَلَام عَلَيْهِ، وَأما الرَّاجِع إِلَى المبتدإ فَإِنَّمَا حسن
حذفه هَاهُنَا، لِأَن فِي الْكَلَام أَيْضا دَلِيلا، أَنه قد أحَاط
الْعلم أَن (المنوين) ليسَا جَمِيع السّمن، إِذْ كَانَ السّمن اسْم
الْجِنْس، فَصَارَ ذكره بعد السّمن يدل على أَنَّهُمَا بعض لَهُ،
والمحذوف مِنْهُ (من) الَّتِي للتَّبْعِيض، فَلَمَّا كَانَ فِي
الْكَلَام مَا يدل عَلَيْهِ حسن حذفه.
وَأما قَوْله: (أَخَذته بدرهم فَصَاعِدا) فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام:
أَنَّك أَشرت إِلَى عدل مَتَاع وَقع سعر ثوب مِنْهُ بدرهم، ثمَّ غلا
السّعر فَزَاد على الدِّرْهَم، فَيكون التَّقْدِير: أَخَذته بدرهم
فَزَاد الثّمن صاعدا، وَنصب (صاعدا) على الْحَال، وَالْعَامِل فِيهِ
(زَاد) ، وَلَا يجوز أَن تجْعَل بدل (الْفَاء) الْوَاو، كَمَا تَقول:
(أَخَذته وَزِيَادَة) ، لِأَن قَوْلهم: (أَخَذته بدرهم وَزِيَادَة)
أَنَّهَا إِخْبَار عَن شَيْء وَاحِد وَقع ثمنه الدِّرْهَم مَعَ
زِيَادَة، وَأما أَخَذته بدرهم فَصَاعِدا، فلست تُرِيدُ أَن تجْعَل
(صاعدا) مَعَ الدِّرْهَم ثمنا لشَيْء وَاحِد، وَإِنَّمَا الدِّرْهَم
كَانَ ثمنا لبَعض
(1/375)
الْجُمْلَة، ثمَّ زَاد السّعر، وَإِذا
كَانَ كَذَلِك صَار إِدْخَال الْوَاو يبطل هَذَا الْمَعْنى، وَلَو
جِئْت ب (ثمَّ) فِي مَوضِع الْحَال، لجَاز ذَلِك، إِلَّا أَن الْفَاء
أحسن، وَإِنَّمَا كَانَت الْفَاء أحسن للاستئناف الَّذِي فِي معنى
دُخُولهَا هُنَا.
(1/376)
(31 - بَاب حُرُوف الْعَطف)
اعْلَم أَن (الْوَاو) أصل حُرُوف الْعَطف، وَالدَّلِيل على ذَلِك
أَنَّهَا لَا توجب إِلَّا الِاشْتِرَاك بَين الشَّيْئَيْنِ فَقَط فِي
حكم وَاحِد، وَسَائِر حُرُوف الْعَطف توجب زِيَادَة حكم على هَذَا أَلا
ترى أَن (الْفَاء) توجب التَّرْتِيب، و (أَو) للشَّكّ، و (بل) للإضراب،
فَلَمَّا كَانَت فِي هَذِه الْحُرُوف زِيَادَة معنى على حكم الْعَطف
صَارَت فِي الْمَعْنى كالمركبة، وَالْوَاو مُفْردَة، فَصَارَت كالبسيط،
والمركب بعد الْمُفْرد الْبَسِيط، فَلهَذَا صَارَت (الْوَاو) أصلا.
وَاعْلَم أَن (إِمَّا) (51 / ب) فِي الْعَطف أَصْلهَا: (إِن مَا)
فأدغمت النُّون فِي الْمِيم، وَالدَّلِيل على أَن الأَصْل مَا
ذَكرْنَاهُ قَول الشَّاعِر:
(لقد كذبتك نَفسك فاصدقنها ... فَإِن جزعا وَإِن إِجْمَال صَبر)
أَرَادَ: إِمَّا، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه لم يَأْتِ ل (إِن)
بِجَوَاب بعد الْبَيْت
(1/377)
وَلَا قبله، وَذَلِكَ أَن (الْفَاء) إِذا
دخلت على حرف الشَّرْط، لم يجز أَن يكون مَا قبلهَا جَوَابا لَهَا،
كَقَوْلِك: أَنا أحبك فَإِن أتيتني، وَلَو أسقطت (الْفَاء) صَار مَا
قبلهَا جَوَابا، فَدلَّ مَا ذَكرْنَاهُ أَن الْبَيْت لَا يحْتَمل
إِلَّا معنى (إِمَّا) ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك صَحَّ أَن أَصْلهَا من
(إِن وَمَا) .
فَإِن قَالَ قَائِل: (إِمَّا) هَذِه الَّتِي تكون للشَّكّ هِيَ الَّتِي
تكون للجزاء أَو غَيرهَا؟
قيل لَهُ: هِيَ هِيَ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الشَّك يلْزم تكريرها،
وَإِنَّمَا انْتَقَلت للجزاء، لِأَن الشَّرْط يجوز أَن يكون، وَيجوز
أَلا يكون.
وَمعنى (إِمَّا) فِي الْعَطف إِيجَاب أحد الشَّيْئَيْنِ، لما تضارعا من
هَذَا الْوَجْه أدخلت فِي الْعَطف، أَعنِي الَّتِي للجزاء مَعَ (مَا) .
وَاعْلَم أَن (إِمَّا) فِي الْعَطف إِذا تَكَرَّرت فَإِن العاطفة
مِنْهَا الثَّانِيَة لَا الأولى، وَإِنَّمَا أدخلت الأولى لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يكون الِابْتِدَاء بِالشَّكِّ والتخيير، وَإِنَّمَا
احتاجوا إِلَى ذَلِك، لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن مَا قبل (إِمَّا)
مُنْقَطع مِمَّا بعْدهَا، لِأَنَّهُ قد يسْتَأْنف بعْدهَا الْكَلَام،
فأدخلوا (إِمَّا) فِي الْكَلَام ليعادلوا بَين الاسمين، إِن شَاءَ
الله.
وَأما (بل) فتستعمل على ضَرْبَيْنِ:
أَحدهمَا: بعد النَّفْي.
وَالْآخر: بعد الْإِيجَاب.
وَإِذا اسْتعْملت بعد النَّفْي كَانَ خَبرا بعد خبر، وَالثَّانِي
مُوجب، وَالْأول منفي، كَقَوْلِك: مَا جَاءَ زيد بل عَمْرو. وَإِن
اسْتعْملت بعد الْوَاجِب فَمَا قبلهَا يذكر
(1/378)
على وَجْهَيْن: إِمَّا على طَرِيق
الْغَلَط، وَإِمَّا على طَرِيق النسْيَان كَقَوْلِك: جَاءَ زيد بل
عَمْرو، وَإِنَّمَا صَار الأول غَلطا أَو نِسْيَانا، لِأَنَّك أثبت
للَّذي أتيت بِهِ بعد الأول الْمَجِيء، وأضربت عَنهُ عَن الأول، فَعلم
أَنه مرجوع فِيهِ، وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من كَلَام الله تَعَالَى
و (بل) مستعملة فِيهِ بعد إِيجَاب، فَهُوَ على تَقْدِير خبر وَاجِب،
لِأَن الله عز وَجل لَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَالنِّسْيَان،
فَلهَذَا قدرناها على مَا ذكرنَا.
وَأما (لَكِن) : فَإِنَّهَا إِذا اسْتعْملت بعد النَّفْي جرت مجْرى
(بل) بعد النَّفْي، وَإِذا اسْتعْملت بعد الْإِيجَاب، لم يجز أَن يَقع
بعْدهَا إِلَّا جملَة مضادة للجملة الَّتِي قبلهَا، كَقَوْلِك:
جَاءَنِي زيد لَكِن عَمْرو لم يَجِيء وَإِنَّمَا لم يجز أَن تَقول:
جَاءَنِي زيد لَكِن عَمْرو، وتسكت، لِأَن ذَلِك يُوجب الْغَلَط، لما
ذَكرْنَاهُ، فقد استغني فِي ذَلِك ب (بل) ، إِذْ لَا تحْتَاج الْعَرَب
أَن تكْثر الْحُرُوف الْمُوجبَة للغلط، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، وَجب أَن
يكون مَا بعْدهَا مُخَالفا لما قبلهَا، ليكونا خبرين مُخْتَلفين.
(1/379)
|