علل النحو (32 - بَاب الصّفة)
اعْلَم أَن الأَصْل أَلا تُوصَف المعارف، لنها وضعت فِي أول أحوالها
تدل على شخص بِعَيْنِه لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره، وَذَلِكَ أَنهم
سموا الشَّخْص زيدا، على تَقْدِير أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم قد سمي
بزيد سواهُ، ثمَّ التَّسْمِيَة للْآخر على هَذِه النِّيَّة، فَلَمَّا
كَانَت الْأَشْخَاص أَكثر من الْأَسْمَاء، اشْترك فِي الِاسْم
الْوَاحِد جمَاعَة.
فَإِن قَالَ الْقَائِل: جَاءَنِي زيد، فخاف أَلا يعرف الْمُخَاطب زيدا
الَّذِي بِعَيْنِه، لاشتراك جمَاعَة فِيهِ بَينه بالنعت، فَصَارَت (52
/ أ) نعوت المعارف دواخل عَلَيْهَا، إِذْ أشبهت النكرَة من هَذَا
الْوَجْه.
, أما النكرَة: فَالْأَصْل فِيهَا أَن تنْعَت، لِأَن الْغَرَض من
النَّعْت تَخْصِيص المنعوت، فَلَمَّا كَانَت النكرات مَجْهُولَة،
احْتَاجَت إِلَى التَّخْصِيص وَإِنَّمَا صَار الِاسْم الْعلم معرفَة،
لِأَنَّهَا وضع دلَالَة على شخص وَاحِد بِعَيْنِه من بَين سَائِر أمته،
فَلهَذَا صَار معرفَة.
وَأما مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام: فَإِنَّمَا يذكر لمعهود قد عرفه
الْمُخَاطب، فيذكره بدخولهما هَذَا الشَّخْص الَّذِي قد عَهده،
فَلَمَّا كَانَت تدل على شخص بِعَيْنِه صَار الِاسْم بهَا معرفَة.
وَأما الْمُضمر: فَإِنَّمَا صَار معرفَة، لِأَنَّك لَا تضمر الِاسْم
حَتَّى تعرفه، فَصَارَ الْمُضمر يدل على شخص بِعَيْنِه.
(1/380)
وَأما الْمُبْهم: فَإِنَّمَا صَار معرفَة
بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِيهِ، فَصَارَت الْإِشَارَة - إِذْ كَانَ
يقْصد بهَا شخص بِعَيْنِه - تجْرِي مجْرى مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام.
وَأما النكرَة فحدها: أَن يكون الِاسْم وَاقعا على اثْنَيْنِ
فَصَاعِدا، يَشْتَرِكَانِ فِي التَّسْمِيَة، أَلا ترى أَن قَوْلهم:
رجل، يدل على من كَانَ لَهُ بنية مَخْصُوصَة بِهَذَا الِاسْم، وَلَيْسَ
كَذَلِك الْأَسْمَاء الْأَعْلَام، لِأَنَّهَا وضعت للدلالة على معنى
يخص الِاسْم، أَلا ترى أَن أنقص الْبَريَّة قد يجوز أَن يُسمى بزيد،
وَزيد مَأْخُوذ من الزِّيَادَة، فَعلمت لما ذكرنَا.
وَاعْلَم أَن حق النَّعْت أَن يكون تَعْرِيفه أنقص تعريفا من المنعوت،
وَلَا يجوز أَن تنْعَت الِاسْم بالأخص، وَإِنَّمَا وَجب مَا ذكرنَا،
لِأَن الْمُخَاطب إِذا كَانَ قَصده تَعْرِيف مخاطبه، وَجب أَن يذكر
لَهُ أخص الْأَسْمَاء الَّتِي يعرفهَا الْمُخَاطب فِي الشَّخْص، حَتَّى
يَسْتَغْنِي بهَا عَن التَّطْوِيل بالنعت، وَإِذا ذكر أخصها، لم يخل
الْمُخَاطب من أَن يعرفهُ أَو لَا يعرفهُ، فَإِن عرفه لم يحْتَج إِلَى
زِيَادَة بَيَان وَإِن أشكل عَلَيْهِ بَين بأخص صفة فِيهِ، حَتَّى
يعرفهُ الْمُخَاطب، إِذْ كَانَ اجْتِمَاع الْأَوْصَاف فِي شخص وَاحِد
لَا يكَاد يُشَارِكهُ فِيهَا إِلَّا الْيَسِير، فَلهَذَا تعرف
بِكَثْرَة الْوَصْف، فَإِذا ثَبت مَا ذَكرْنَاهُ، جَازَ أَن ينعَت
الِاسْم الْعلم بِثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام.
وَالثَّانِي: الْمُبْهم.
(1/381)
وَالثَّالِث: الْمُضَاف إِلَى الْمعرفَة.
وَإِنَّمَا صَار الِاسْم أخص من هَذِه الْأَشْيَاء، لِأَنَّهُ وضع فِي
أول أَحْوَاله عَلَيْهِ وَصفا وَاحِدًا من بَين سَائِر الْأَشْخَاص،
وَلَيْسَ كَذَلِك مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام، لِأَن الْألف وَاللَّام
توجب على الْمُخَاطب تذكر العهود، وَالِاسْم الْعلم تذكرة، إِذْ كَانَ
مَوْضُوعا لَا يُشَارِكهُ فِي هَذَا الِاسْم غَيره، والعهد قد يَقع فِي
أَشْيَاء مُخْتَلفَة، فَلَمَّا كَانَت الْألف وَاللَّام توجب مَا
ذكرنَا من التَّذَكُّر حَتَّى يعرف الشَّخْص بِعَيْنِه، صَار أنقص
رُتْبَة مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى تذكرة.
وَأما الْمُبْهم: فَلَيْسَ مَوْضُوعا لشَيْء بِعَيْنِه، أَلا ترى أَن
الْإِشَارَة لَا تخْتَص بزيد دون عَمْرو، فَلَمَّا احْتَاجَ المشير
إِلَى الشَّخْص أَن يُمَيّز بَين الشخصين حَتَّى يعرف الْمشَار
إِلَيْهِ بِعَيْنِه، صَار هَذَا الحكم أنقص رُتْبَة من الْأَعْلَام،
لِأَنَّهُ يعرف بِغَيْرِهِ فَصَارَ تَعْرِيفه فرعا، فَلذَلِك صَار أنقص
من الْأَعْلَام مرتبَة.
وَأما الْمُضمر: فَإِنَّهُ لَا يجوز نَعته، لِأَنَّك لَا تضمره حَتَّى
يعرفهُ الْمُخَاطب.
وَأما مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام: فَلَا يجوز أَن ينعَت بالأسماء
المبهمة، لَو قلت: مَرَرْت بِالرجلِ هَذَا، وَأَنت تجْعَل (52 / ب)
(هَذَا) نعتا ل (الرجل) لم يجز، لِأَن الْمُبْهم أخص مِمَّا فِيهِ
الْألف وَاللَّام، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن تَعْرِيف مَا فِيهِ
الْألف وَاللَّام يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ وَالْعين جَمِيعًا، فَصَارَ
مَا فِيهِ تعريفان أقوى مِمَّا فِيهِ تَعْرِيف وَاحِد، وَلذَلِك جَازَ
أَن تنْعَت الْمُبْهم بِمَا فِيهِ الْألف وَاللَّام، وَلم (يجز) أَن
(1/382)
ينعَت مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام بالمضاف
إِلَى الْأَعْلَام والمضمرات، لِأَن الْعلم الْمُضَاف أَكثر تعريفا
مِمَّا فِيهِ الْألف وَاللَّام لما بَيناهُ، والمضاف يكْتَسب تعريفا من
الْمُضَاف إِلَيْهِ، فَيصير الْمُضَاف إِلَى الْعلم والمضمر كَأَن
فِيهِ تعريفهما، فَلذَلِك لم يجز أَن يكون نعتا لما فِيهِ الْألف
وَاللَّام.
وَأما المبهمات: فَإِنَّمَا أَصْلهَا أَن تنْعَت بأسماء الْأَجْنَاس،
لِأَن الْإِشَارَة تقع أَولا إِلَى ذَات الشَّخْص، فَيَنْبَغِي إِذا
أشكل أَمر الْإِشَارَة أَن يبين بِمَا تَقْتَضِيه الْإِشَارَة، وَهُوَ
اسْم، وَإِذ ذكرت الْجِنْس فَمَا أشكل بعد ذَلِك ذكرت الصّفة المشتقة
من الْأَفْعَال، كَقَوْلِك: يَا هَذَا الرجل الظريف، وَقد يجوز أَن
تَقول: مَرَرْت بِهَذَا الظريف، على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن تجْعَل (الظريف) عطف بَيَان ل (هَذَا) .
وَالثَّانِي: أَن تقيم الصّفة مقَام الْمَوْصُوف.
وَلَا يجوز أَن تنْعَت المبهمات بالمضاف الَّذِي فِيهِ الْألف
وَاللَّام، لِأَن الْإِشَارَة تطلب الْعَهْد من الْألف وَاللَّام،
وَكَذَلِكَ صَارَت المبهمات مَعَ نعوتها كالشيء الْوَاحِد، وَلَا يجوز
الْفَصْل بَينهمَا لما أحدثت فِي نعتها من الْمَعْنى، وَهُوَ إبِْطَال
الْعَهْد، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك تَقول جَاءَنِي هَذَا الرجل،
من غير تقدمة ذكر، وَلَو قلت: جَاءَنِي الرجل، وَلم يتَقَدَّم عهد
بَيْنك وَبَين الْمُخَاطب فِيهِ، لم يجز، فَبَان أَن الْألف وَاللَّام
يسْقط مِنْهَا حكم الْعَهْد بِالْإِشَارَةِ، وَلَو جَازَ أَن تنْعَت
المبهمات بالمضاف إِلَى الْألف وَاللَّام، لصار الْمُضَاف معرفَة بهما،
وَصَارَ فِي حكم
(1/383)
الْمَعْهُود، وَلأَجل تقدم الْإِشَارَة يجب
أَن يكون الْمشَار إِلَيْهِ غير مَعْهُود، لِأَنَّهُ لَا يجوز اسْم فِي
حَال وَاحِدَة معهودا، وَهُوَ غير مَعْهُود.
وَاعْلَم أَن فِي الْأَسْمَاء أَسمَاء تُضَاف إلىالمعرفة وَلَا تكون
معرفَة، لمعان تدخل فِيهَا، فَمن ذَلِك: (شبهك وَمثلك) ، لم يتعرفا
بِالْإِضَافَة، لِأَن الْمُمَاثلَة تكون من جِهَات، وَإِنَّمَا تفِيد
الْمُخَاطب أَنه مثله، وَلَيْسَ يعلم من أَي وَجه يماثله، فَلذَلِك لم
يتعرفا أَلا يكون شخصان وَقد اشتهرا فِي الشّبَه بَين النَّاس، فَيكون
على هَذَا الْوَجْه معرفَة، فَتَقول: مَرَرْت بِرَجُل مثلك وشبهك،
الْمَعْرُوف بشبهك، فَلذَلِك تعرف على هَذَا الْوَجْه.
وَأما (حَسبك) بِمَعْنى: حسب الِاكْتِفَاء، وَهُوَ مُبْهَم، فَلذَلِك
لم يتعرف.
وَأما (شبيهك) : فَلَا يكون إِلَّا معرفَة لِأَنَّهُ من أبنية
الْمُبَالغَة، فَصَارَت الْمُبَالغَة فِيهِ تُؤدِّي عَن شبه
الْمَعْرُوف، فَلذَلِك تعرف.
وَأما (غَيْرك) : فَلَا يكون إِلَّا نكرَة، لِأَن مَعْنَاهُ عِنْد
الْمُخَاطب مَجْهُول، فَلذَلِك لم يَقع معرفَة.
وَأما بَاب (حسن الْوَجْه) : فَالْأَصْل فِيهِ أَن يسْتَعْمل فِي غير
المتعدية، نَحْو: ظريف، وَحسن، وكريم، وَمَا أشبه ذَلِك، فَتَقول:
مَرَرْت بِرَجُل حسن وَجهه،
(1/384)
ف (حسن) : نعت ل (الرجل) ، وَالْهَاء فِي
(وَجهه) ترجع إِلَى الرجل، وَالْوَجْه: فَاعل لِلْحسنِ، فَإِن ثنيت
الأول أَو (53 / أ) جمعته، أَو أنثته لم تغير لفظ (حسن) ، لِأَن
الْوَجْه مُذَكّر، وَالْفِعْل إِنَّمَا يؤنث إِذا كَانَ فَاعله مؤنثا،
فَلَمَّا كَانَ فَاعل ال (حسن) مذكرا لَيست فِيهِ عَلامَة التَّأْنِيث،
وَلم يثن وَلم يجمع لظُهُور فَاعله، فَإِن نقلت الضَّمِير من
(الْوَجْه) إِلَى (حسن) صَار الْفِعْل للضمير، وَوَجَب أَن تعْتَبر
حَال الضَّمِير، فَإِن كَانَ مذكرا ذكرت فعله، وَإِن كَانَ مؤنثا لحقته
عَلامَة التَّأْنِيث، وَلم يعْتد ب (الْوَجْه) ، وثنيته وَجمعته
بِحُصُول الضَّمِير فِيهِ، فَإِذا اسْتَقر مَا ذَكرْنَاهُ فَبَقيَ
(الْوَجْه) يحْتَاج إِلَى إِعْرَاب، وَلَيْسَ يجوز أَن يبْقى
مَرْفُوعا، لِأَنَّهُ لَا يكون لفعل وَاحِد فاعلان، فَسقط رَفعه، وَلم
يبْق لَهُ من الْإِعْرَاب إِلَّا النصب، والجر أولى بِهِ، لِأَن هَذِه
الصّفة لَيست بِمَعْنى فعل مُتَعَدٍّ، فَيسْتَحق مَا بعْدهَا النصب،
فَوَجَبَ أَن يجْرِي مجْرى: غُلَام زيد، إِلَّا أَنَّك لما نقلت
الضَّمِير من (الْوَجْه) اخْتَارَتْ الْعَرَب أَن تعوض مِنْهُ الْألف
وَاللَّام، لِأَن الْألف وَاللَّام هما بِمَعْنى الضَّمِير،
لِأَنَّهُمَا يعرفان مَا دخلا عَلَيْهِ، كَمَا يعرف الضَّمِير، وَمَعَ
ذَلِك فَإِن الْألف وَاللَّام لما كَانَت للْعهد، والمعهود غَائِب جرتا
مجْرى الضَّمِير، إِذْ كَانَ للْغَائِب، أَعنِي الضَّمِير، فَلذَلِك
كَانَتَا بِالْعِوَضِ أولى من سَائِر الْحُرُوف، فَتَقول على هَذَا:
مَرَرْت بِرَجُل حسن الْوَجْه، وبامرأة حَسَنَة الْوَجْه، وَقد يجوز
أَن تنون الصّفة، وتنصب الْوَجْه، تَشْبِيها بضارب، وَإِنَّمَا جَازَ
أَن يحمل عَلَيْهِ، لاشْتِرَاكهمَا فِي الصّفة، وأنهما اسْما فاعلين،
والتثنية والتأنيث تلحقهما، فجريا مجْرى شَيْء وَاحِد، فَجَاز أَن يحمل
أَحدهمَا على الآخر، فَتَقول: مَرَرْت بِرَجُل حسن الْوَجْه، وَيجوز
أَلا تعوض من الضَّمِير، لِأَنَّهُ قد علم أَن الْوَجْه للْأولِ، إِذْ
كَانَت هَذِه الصّفة لَيست متعدية، وَكَانَ إِسْقَاطهَا أخف عَلَيْهِم.
فَإِذا أسقطت الْألف وَاللَّام، جَازَ لَك وَجْهَان: الْجَرّ وَالنّصب،
فالجر
(1/385)
على الأَصْل، وَالنّصب على التَّشْبِيه
بالمفعول.
وَيجوز أَن تدخل الْألف وَاللَّام على الصّفة، لِأَنَّهَا لم تتعرف
بِمَا أضيف إِلَيْهَا وَإِن كَانَ معرفَة، وَإِنَّمَا لم تتعرف بِهِ،
لِأَن الْمَجْرُور فَاعل فِي الْمَعْنى، وَالْفَاعِل لَا يعرفهُ فعله،
فَلَمَّا كَانَت إِضَافَته لَا يتعرف بهَا، وَكَانَ حَقه من جِهَة
اللَّفْظ أَن يعرف لعِلَّة، فَلَمَّا منع مَا يكون فِي نَظِيره جوزوا
فِيهِ جمع الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة، فَتَقول: مَرَرْت بزيد
الْحسن الْوَجْه، وَيجوز أَن تنصب (الْوَجْه) على التَّشْبِيه
بالمفعول، وَإِن أسقطت من الْوَجْه الْألف وَاللَّام، لم يكن إِلَّا
مَنْصُوبًا، لِأَن إِضَافَته كَانَت على أَصْلهَا، إِذْ كَانَ شَرط
النكرَة إِذا أضيفت إِلَى معرفَة أَن تتعرف، فَلَمَّا جرى فِي بَابه
مجْرى إِضَافَة النكرَة إِلَى الْمعرفَة الَّتِي تعرف الْمُضَاف،
وَكَانَت الْألف مَعَ هَذِه الْإِضَافَة لَا يَجْتَمِعَانِ أَيْضا أَن
تَجْتَمِع الْألف وَاللَّام مَعَ الْإِضَافَة إِلَى النكرَة.
وَاعْلَم أَن الْفَاعِل فِي هَذَا الْبَاب إِذا كَانَ مُضَافا إِلَى
سَببه الْمَوْصُوف، جَازَ فِيهِ هَذِه الثَّمَانِية الْأَوْجه،
كَقَوْلِك: زيد حسن وَجه أَخِيه، وَزيد حسن وَجه الْأَخ، وَزيد حسن
وَجه الْأَخ، وَزيد حسن وَجه أَخ، وَزيد الْحسن الْوَجْه الْأَخ (53 /
ب) وَزيد الْحسن وَجه الْأَخ.
وَاعْلَم أَن الْفَائِدَة فِي هَذَا النَّقْل اخْتِصَار الْكَلَام
وَالْمُبَالغَة فِي مدح الأول، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا نقلت الضَّمِير خف
اللَّفْظ بِالنَّقْلِ، لاستتار الضَّمِير فِي الْفِعْل، وَصَارَت
الصّفة فِي اللَّفْظ الأول، وَلذَلِك صَار مدحها.
(1/386)
(33 - بَاب التوكيد)
اعْلَم أَن الْغَرَض فِي الْبَدَل خلاف الْغَرَض فِي النَّعْت،
وَذَلِكَ أَن النَّعْت إِنَّمَا يُؤثر بِهِ بَيَانا للمنعوت، فَيصير
فِي التَّقْدِير كجزء من المنعوت.
وَأما الْبَدَل: فالغرض مِنْهُ أَن يجمع الْمُخَاطب الْبَدَل والمبدل
مِنْهُ، على أَنه قد يجوز أَن يفهم بالمبدل مِنْهُ وَحده، وَقد يجوز
أَن يفهم بهما جَمِيعًا، كَقَوْلِك: مَرَرْت بأخيك زيد، فالمخاطب يجوز
أَن يعرف زيدا باسمه، أَو بِأَنَّهُ أَخ للمخاطب أَو بمجموعهما،
فَلهَذَا الْفَصْل بَين الْبَدَل والنعت.
وَأما التوكيد: فالغرض إِثْبَات الْخَبَر عَن الْمخبر عَنهُ، وَذَلِكَ
أَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي زيد نَفسه، أخْبرت أَن الَّذِي تولى
الْمَجِيء هُوَ بِعَيْنِه، فَلذَلِك دخل التوكيد فِي الْكَلَام، ولهذه
الْعلَّة لم يجز أَن تؤكد النكرَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عين
ثَابِتَة كالمعارف، فَلم يحْتَج إِلَى إِثْبَاتهَا إِذا كَانَت لَا
تثبت بالتوكيد، فَلهَذَا أسقط التوكيد عَنْهَا، وَلما كَانَت
الْمُضْمرَات معارف جَازَ توكيدها، لِأَن أعيانها ثَابِتَة، إِلَّا أَن
يكون الْمُضمر مَجْهُولا فَلَا يجوز توكيده كالمضمر بعد (رب) ، نَحْو
قَوْلك: ربه رجلا، وكالمضمر بعد (نعم وَبئسَ) وَمَا أشبه ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْأَسْمَاء الَّتِي يُؤَكد بهَا لَهَا مَرَاتِب، ف
(النَّفس وَالْعين) : يجب
(1/387)
تقديمهما على كل حَال، وَإِنَّمَا كَانَا
بالتقديم أولى، لِأَنَّهُمَا قد يستعملان غير مؤكدين، كَقَوْلِك: نزلت
بِنَفس الْجَبَل، وَرَأَيْت عين زيد، فَلَمَّا كَانَا يستعملان مفردين
لغير معنى التوكيد، وَكَانَ (كل وأجمعون) لَا يجوز أَن يستعملا إِلَّا
تابعين، أَو فِي تَقْدِير التَّابِع وَجب أَن يقدم مَا يقوم بِنَفسِهِ
على التَّابِع. وَأما تَقْدِيم (كل) على (أَجْمَعِينَ) فَإِنَّمَا
ذَلِك لِأَن (كلا) قد تسْتَعْمل مُبتَدأَة، كَقَوْلِهِم كلهم منطلقون،
وَلَا يجوز أَن تَقول: أَجْمَعُونَ منطلقون، فَلَمَّا كَانَت (كل) قد
تسْتَعْمل مُبتَدأَة، وَلَيْسَ قبلهَا مَا يتبعهُ، وَكَانَت
(أَجْمَعُونَ) لَا تسْتَعْمل إِلَّا تَابِعَة، وَجب أَن يتَقَدَّم
الْأَقْوَى، أَعنِي (كلا) . وَأما (أَجْمَعُونَ) فَيقدم على (أكتعين
وأبصعين) ، وَإِنَّمَا وَجب تَقْدِيمهَا عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَيست
بمشتقة اشتقاقا بَينا، و (أَجْمَعُونَ) مَأْخُوذَة من الِاجْتِمَاع
الْمَعْرُوف، فَلَمَّا قوي معنى (أَجْمَعِينَ) - لِأَنَّهَا مُشْتَقَّة
- تقدّمت (أكتعين) ، وَإِن كَانَ يجوز فِي (أكتعين) أَن يشتق من
قَوْلهم: (مر عَلَيْهِ حول كتيع) ، أَي: تَمام، فَإِن تركت
(أَجْمَعِينَ) فَقلت: مَرَرْت بالقوم أكتعين، أَو أبتعين، أَو أبصعين،
أَو جمعت بَينهَا من غير أَن تذكر (أَجْمَعِينَ) لم يجز، فَزَاد هَذَا
الاتباعات من غير أَن يتقدمها (أَجْمَعُونَ) ، فَإِن قدمتها جَازَ أَن
تذكر مَا شِئْت بعْدهَا من التوابع، وَإِذا شِئْت قدمت بَعْضهَا على
بعض، لِأَنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي هَذَا الحكم، فَلذَلِك اتّفقت
أَحْكَامهَا فِي مَا ذَكرْنَاهُ، (54 / أ) وَحكم الْمُؤَنَّث فِي هَذَا
كَحكم الْمُذكر.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد علمنَا أَن (كلهم وأنفسهم) يتعرفان
بِالْإِضَافَة، فَمن أَيْن
(1/388)
زعمت أَن (أَجْمَعِينَ) معرفَة؟
قيل لَهُ: لِأَن جمعه أقيم مقَام الْإِضَافَة، أَي: مقَام إِضَافَته
إِلَى مَا يعرفهُ، إِذْ كَانَ الأَصْل أَن تَقول: مَرَرْت بالقوم
أجمعهم، فَحذف لفظ الضَّمِير، وأقيم الْجمع بِالْوَاو وَالنُّون
مقَامه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم كَرهُوا: مَرَرْت بالقوم أجمعهم؟
قيل لَهُ: لِأَن (أجمع) على وزن (أفعل) ، وَمن شَرط (أفعل) إِذا أضيف
إِلَى شَيْء أَن يكون بعضه، فَلَو قَالُوا: مَرَرْت بالقوم أجمعهم،
لتوهموا أَن الْقَوْم بعض الْهَاء وَالْمِيم، وَإِنَّمَا غرضهم أَن
يخبروا عَن جَمِيع الْقَوْم، فَلذَلِك عدلوا عَن إِضَافَته فِي
اللَّفْظ، وَأتوا بِالْوَاو وَالنُّون، ليدلوا بذلك على استغراق
الْمَذْكُورين.
فَأَما (كلا) : فَهِيَ عِنْد الْبَصرِيين اسْم مُفْرد يدل على
اثْنَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا.
وَأما الْفراء فَيَقُول: هُوَ مثنى، وَهُوَ مَأْخُوذ من (كل) ، فخففت
اللَّام وزيدت الْألف للتثنية، ويحتج بقول الشَّاعِر:
(فِي كلت رِجْلَيْهَا سلامى وَاحِدَة ... كلتاهما مقرونة بزائدة)
فأفرد (كلا) ، وَهَذَا القَوْل لَيْسَ بِشَيْء، وَذَلِكَ أَنه لَو
كَانَ مثنى لوَجَبَ أَن
(1/389)
تنْقَلب أَلفه فِي الْجَرّ وَالنّصب يَاء
مَعَ الِاسْم الْمظهر، فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ بِالْألف فِي جَمِيع
الْإِعْرَاب، علمنَا أَن أَلفه لَيست للتثنية، وَمن جِهَة الْمَعْنى،
فَإِن معنى (كلا) مُخَالفَة لِمَعْنى (كل) ، لن (كلا) للإحاطة، و (كلا)
تدل على شَيْء مَخْصُوص، فَعلمنَا أَيْضا فِي الْمَعْنى أَنه لَيْسَ
أَحدهمَا مأخوذا من الآخر، وَإِنَّمَا حذف الشَّاعِر الْألف من (كلتا)
للضَّرُورَة، وَقدر أَنَّهَا زَائِدَة، وَمَا يكون ضَرُورَة لَا يجوز
أَن يَجْعَل حجَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار (كلا) بِالْيَاءِ فِي النصب والجر مَعَ
الْمُضمر، ولزمت الْألف مَعَ الْمظهر، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الرّفْع
مَعَ الْمُضمر بِالْألف؟
قيل لَهُ: إِن حَقّهَا أَن تكون بِالْألف فِي جَمِيع الْجِهَات، كَمَا
أَن (معى) لَا تخْتَلف أَلفه إِذا اتَّصَلت بمضمر أَو مظهر، إِلَّا أَن
(كلا) لما كَانَت لَا تنفك من الْإِضَافَة، شبهت ب (على وَإِلَى) ،
فَجعلت مَعَ الْمُضمر فِي النصب والجر بِالْيَاءِ، لِأَن (كلا) لَا تقع
إِلَّا مَنْصُوبَة أَو مجرورة، وَلَا تسْتَعْمل مَرْفُوعَة، فَبَقيت
(كلا) فِي الرّفْع على أَصْلهَا مَعَ الْمُضمر، لِأَنَّهَا لم تشبه
(على) فِي هَذِه الْحَال.
فَأَما (كلتا) الَّتِي للمؤنث: فَبين أَصْحَابنَا فِيهَا اخْتِلَاف،
أما سِيبَوَيْهٍ
(1/390)
فَيَقُول: ألفها للتأنيث، وَالتَّاء بدل من
لَام الْفِعْل، وَهِي وَاو، وَالْأَصْل (كلوا) ، وَإِنَّمَا أبدلت
تَاء، لِأَن فِي التَّاء علم التَّأْنِيث، وَالْألف فِي (كلتا) نَظِير
(يَا) مَعَ الْمُضمر، فَتخرج عَن علم التَّأْنِيث، فَصَارَ إِبْدَال
الْوَاو تاءا تَأْكِيدًا للتأنيث، فَلهَذَا أبدلوها. وَأما الْجرْمِي،
فَكَانَ يَقُول: وَزنهَا (فعتل) وَالتَّاء مُلْحقَة، وَالْألف لَام
الْفِعْل. وَقَول سِيبَوَيْهٍ أقوى، لِأَن التَّاء فِي (كلتا) لَو
كَانَت للإلحاق الْمَحْض، وَلَيْسَ فِيهَا من حكم التَّأْنِيث مَا
ذَكرْنَاهُ، لوَجَبَ أَن تثبت فِي النِّسْبَة، فَيُقَال: كلتوي،
أَجمعُوا على إِسْقَاطهَا فِي النِّسْبَة دلّ ذَلِك على أَنهم قد
أجروها مجْرى التَّاء فِي (أُخْت) .
(1/391)
(34 - بَاب التَّمْيِيز)
اعْلَم أَن التَّمْيِيز إِنَّمَا وَجب أَن ينصب على التَّشْبِيه
بالمفعول، لِأَن مَا قبله تَقْدِير الْفَاعِل على طَرِيق (54 / ب)
التَّشْبِيه، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت: عِنْدِي عشرُون درهما، فالنون
منعت الدِّرْهَم من الْجَرّ، كَمَا منع الْفَاعِل من الرّفْع، يَعْنِي
من رفع الْمَفْعُول، فَصَارَت النُّون كالفاعل، وَصَارَ التَّمْيِيز
كالمفعول.
وَكَذَلِكَ قَوْلهم: خَمْسَة عشر درهما، وَإِنَّمَا انتصب الدِّرْهَم
لِأَن التَّنْوِين فِيهِ مُقَدّر، وَإِنَّمَا حذف لأجل الْبناء، كَمَا
يحذف لمنع الصّرْف، وكل تَنْوِين حذف للإضافة وللألف وَاللَّام، فَحكمه
مُرَاد، لِأَنَّهُ لم يدْخل على الْكَلِمَة مَا يُعَاقِبهُ، فَلذَلِك
وَجب النصب.
وَكَذَلِكَ إِذا قلت: لي مثله وزنا، فالهاء منعت (الْوَزْن) من
الْجَرّ، فَصَارَت الْهَاء كالفاعل، فَلذَلِك انتصب (الْوَزْن) .
وَاعْلَم أَنه لَا يجوز أَن تقدم شَيْئا من التَّمْيِيز على مَا قبله
لِأَن الْعَامِل فِيهِ ضَعِيف، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفعل متصرف، والمنصوب
بِهِ مفعول فِي الْحَقِيقَة، فَلذَلِك ضعف تَقْدِيمه.
وَأما قَوْلهم: (هُوَ يتصبب عرقا، ويتفقأ شحما) ، فَفِيهِ خلاف.
أما سِيبَوَيْهٍ: فَكَانَ لَا يرى التَّقْدِيم فِي هَذَا الْبَاب،
وَإِن كَانَ الْعَامِل فِيهِ فعلا.
(1/392)
وَأما الْمَازِني: فَكَانَ يُجِيز تَقْدِيم
التَّمْيِيز، إِذا كَانَ الْعَامِل فِيهِ فعلا، ويشبهه بِالْحَال.
فَأَما حجَّة سِيبَوَيْهٍ فِي امْتِنَاعه من ذَلِك، فَإِن التَّمْيِيز
فِي هَذِه الْأَفْعَال فَاعل فِي الْحَقِيقَة وَذَلِكَ أَنَّك إِذا
قلت: تصبب عرقا، فالفاعل الْعرق فِي الْمَعْنى وَلكنه نقل عَنهُ إِلَى
الشَّخْص، فَلَمَّا كَانَ فَاعِلا فِي الْمَعْنى، وَكَانَ الْفَاعِل
فِي الأَصْل لَا يجوز تَقْدِيمه إِلَّا على نِيَّة التَّأْخِير،
كَذَلِك لَا يجوز أَن يقدم هَذَا إِذْ كَانَ فَاعِلا.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد جَاءَ فِي الشّعْر قَوْله:
(أتهجر ليلى بالفراق حبيبها؟ ... وَمَا كَانَ نفسا بالفراق تطيب)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (النَّفس) مَنْصُوبَة بإضمار فعل على
طَرِيق التَّبْيِين، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا كَانَ تطيب بالفراق، ثمَّ
قَالَ: نفسا، فَإِذا أمكن أَن يكون مَنْصُوبًا ب (أَعنِي) ، لَا ب
(تطيب) ، لم يكن لمن احْتج بِهِ حجَّة على سِيبَوَيْهٍ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم نقلت هَذِه الْأَسْمَاء عَن كَونهَا فاعلة،
وَلم تسْتَعْمل على أَصْلهَا؟
قيل لَهُ: الْفَائِدَة فِي ذَلِك أَنهم أَرَادوا أَن يجْعَلُوا
الْفِعْل للجثة، ويجعلوا هَذِه الْأَسْمَاء تبيينا، لِأَن الجثة تُوصَف
بذلك، فقد يُمكن أَن يكون المتصبب مِنْهَا الْعرق
(1/393)
وَغَيره، فَإِذا جعلُوا الْفِعْل للجثة،
جَازَ أَن يتَّصل بهَا جَمِيع مَا بتعلق بهَا، وَلَو جعل الْفِعْل
للعرق، فَقَالُوا: تصبب عرق زيد، وتصبب مَاء زيد، لم يكن فِيهِ دلَالَة
على ذَلِك مُتَّصِل بِهِ، فَلذَلِك تغير الْفِعْل على فَاعله لهَذَا
الْمَعْنى، فاعرفه.
(1/394)
(35 - بَاب الِاسْتِثْنَاء)
إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن ينصب الْمُسْتَثْنى من الْمُوجب، نَحْو:
جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَلم يجز الْبَدَل مِنْهُ، كَمَا جَازَ
فِي النَّفْي، نَحْو: مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا زيد؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْبَدَل مُسْتَحِيل، وَذَلِكَ أَن
الْمُبدل مِنْهُ يجوز أَن يقدر كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام، وَإِذا
قَدرنَا على هَذَا، صَار اللَّفْظ: جَاءَنِي إِلَّا زيد، لِأَنَّهُ
يُوجب مَجِيء الْعَالم بأجمعهم إِلَيْهِ سوى زيد، وَلَيْسَ يَسْتَحِيل
هَذَا فِي النَّفْي، لِأَنَّك إِذا قلت: مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا زيد،
فَالْكَلَام صَحِيح، لِأَنَّهُ يجوز أَن ينفى مَجِيء الْعَالم سوى
مَجِيء زيد، فَلذَلِك لم يجز الْبَدَل فِي الْإِيجَاب.
فَإِن قَالَ قَائِل: (55 / أ) فَلم صَار الْبَدَل فِي النَّفْي أَجود
من النصب على الِاسْتِثْنَاء؟
فَفِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن الْبَدَل مُطَابق للفظ مَا قبله، وَمَعْنَاهُ وَمعنى
الِاسْتِثْنَاء سَوَاء، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا، كَانَت
مُطَابقَة اللَّفْظ أولى من اخْتِلَاف يُوجب تَغْيِير حكم، فَلذَلِك
كَانَ الْبَدَل أَجود.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْبَدَل يجْرِي فِي تعلق الْعَامِل بِهِ
كمجراه فِي سَائِر الْكَلَام وَيعْمل فِيهِ من غير تَشْبِيه، فَغَيره
والمنصوب على الِاسْتِثْنَاء يشبه بالمفعول بِهِ، فَكَانَ مَا يجْرِي
على الأَصْل أقوى من الْمُشبه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم (إِلَّا) هِيَ العاملة فِي
الِاسْتِثْنَاء دون التَّشْبِيه بالمفعول؟
(1/395)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (إِلَّا) لَو
كَانَت عاملة مَا جَازَ أَن يَقع (مَا) بعْدهَا مُخْتَلفا، فَلَمَّا
وجدنَا مَا بعْدهَا مُخْتَلفا، مَنْصُوبًا ومخفوضا وَمَرْفُوعًا،
وَمَعْنَاهَا قَائِم، علمنَا أَنَّهَا لَيست بعاملة، وَيدل على ذَلِك
أَيْضا أَنا لَو وَضعنَا فِي موضعهَا (غير) لانتصب (غير) ، كَقَوْلِك:
جَاءَنِي الْقَوْم غير زيد، فَلَمَّا انتصب (غير زيد) وناب عَن
(إِلَّا) ، علمنَا أَن الناصب هُوَ الْفِعْل الْمُتَقَدّم، إِذْ كَانَ
الشَّيْء لَا يعْمل فِي نَفسه، فصح أَن الْمَنْصُوب فِي الِاسْتِثْنَاء
إِنَّمَا عمل فِيهِ فعل مُتَقَدم لَا (إِلَّا) ، وَإِنَّمَا كَانَ
النصب الْوَجْه فِيمَا لَيْسَ من جنس الأول، لِأَنَّهُ مَتى حمل
عَلَيْهِ فِي الْبَدَل، وَجب أَن يحمل الْكَلَام على الْمجَاز، وَيقدر
الِاسْم الأول كَأَنَّهُ من جنس الثَّانِي، إِذْ شَرط الْبَدَل أَن
يكون هُوَ الْمُبدل أَو بعضه، فَلَمَّا كَانَ حمل مَا لَيْسَ من جنس
الأول على الثَّانِي يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، فَإِن النصب الْوَجْه،
لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل.
(1/396)
(36 - بَاب الْحُرُوف الَّتِي يجر بهَا من
حُرُوف الِاسْتِثْنَاء)
اعْلَم أَن (حاشى) عِنْد سِيبَوَيْهٍ حرف، وَعند أبي الْعَبَّاس
الْمبرد فعل، وَيجوز أَن تكون حرفا وفعلا.
فَأَما حجَّة سِيبَوَيْهٍ: أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا حرفا بِإِجْمَاع
النَّحْوِيين، على أَنَّهَا لَا تكون صلَة ل (مَا) مَعَ كَونهَا متصرفة
عِنْدهم، دلّ ذَلِك على أَنَّهَا لَيست بِفعل.
وَاحْتج أَبُو الْعَبَّاس فِي كَونهَا فعلا بأَشْيَاء:
أَحدهَا: قَول النَّابِغَة:
(وَلَا أحاشي من الأقوام من أحد ... )
فَلَمَّا تصرفت علم أَنَّهَا فعل.
وَمِنْهَا: أَنه قَالَ: وجدنَا الْحَذف يدخلهَا، كَقَوْلِك: حاش لزيد،
والحذف إِنَّمَا يَقع فِي الْأَفْعَال والأسماء دون الْحُرُوف.
وَمِنْهَا: أَنه قَالَ: سمع من الْعَرَب: (اللَّهُمَّ اغْفِر لي وَلمن
سمع حاشى
(1/397)
الشَّيْطَان وَأَبا الْأصْبع) .
وَمِنْهَا أَنه قَالَ: لَو كَانَت حرفا لما جَازَ أَن يتَّصل بهَا لَام
الْجَرّ، إِذْ كَانَ حرف الْجَرّ لَا يدْخل على حرف جر.
وَجَمِيع مَا ذكره أَبُو الْعَبَّاس يُمكن تَأْوِيله، فَإِذا أمكن
تَأْوِيله، كَانَ مَا حكى سِيبَوَيْهٍ أولى، لِأَن ذَلِك مُتَعَلق
بالحكاية عَن الْعَرَب، فَلذَلِك صَار قَول سِيبَوَيْهٍ أقوى.
وَأما قَول النَّابِغَة، فَإِنَّمَا اشتق من (حاشى) ، كَمَا يَقُول
الْقَائِل: قد حولق الرجل، وبسمل، إِذا قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة
إِلَّا بِاللَّه، وببسم الله، فَكَذَلِك تَقْدِير قَول النَّابِغَة،
أَي: هَذَا الْمَعْنى الَّذِي فِي (حاشى) لَا يمْتَنع قَوْله لجَمِيع
النَّاس.
فَإِذا أعمل ذَلِك، لم يكن فِي الْبَيْت حجَّة.
فَأَما الْحَذف الَّذِي ذكره فقد يُوجد فِي الْحَرْف مثله، نَحْو (رب
ومذ) ، فَيجوز أَيْضا أَن يحذف من (حاشى) ، لِكَثْرَة استعمالهم
إِيَّاهَا، ولاتصال الْكَلَام بهَا.
وَأما الْجمع بَينهَا وَبَين اللَّام، فتقدير ذَلِك (55 / ب) أَن تكون
اللَّام الَّتِي للجر مُتَعَلقَة بِفعل آخر، أَو تكون زَائِدَة، فَإِذا
كَانَت زَائِدَة فَلَا شُبْهَة فِي الْكَلَام وَإِذا كَانَت مُتَعَلقَة
بِفعل، فالتقدير فِي قَوْلك: ضربت الْقَوْم حاشى لزيد، لِأَنَّك لما
قلت: حاشى، أردْت أَن تبين من الْمُمَيز، فَقلت: لزيد، أَي: أَعنِي.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَبَيَّن كَلَام غير تَامّ، وَإِنَّمَا
يتَبَيَّن الْكَلَام إِذا تممه الْمُتَكَلّم وَلم يفهمهُ الْمُخَاطب،
فَحِينَئِذٍ يجب الْبَيَان؟
قيل: قد حكى سِيبَوَيْهٍ مثل هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَ: (إِنَّه
الْمِسْكِين أَحمَق) وَقَالَ: هَذَا على طَرِيق التَّبْيِين، يَعْنِي:
هُوَ الْمِسْكِين، فَإِذا كَانَ قد بَين، فَهُوَ وَخبر
(1/398)
(إِن) بعد لم يحصل، لِأَنَّهُ قَوْله:
أَحمَق، فَجَاز مثل هَذَا على هَذَا، إِن شَاءَ الله.
(وَأما خلا) : فَلَا خلاف فِي كَونهَا فعلا وحرفا، وَإِذا كَانَت فعلا
نصبت مَا بعْدهَا، لِأَن فِيهَا ضمير الْفَاعِل، لِأَن الْفِعْل لَا
يَخْلُو من فَاعل، فَلَمَّا اسْتغنى الْفِعْل بفاعله، صَار
الْمُسْتَثْنى فضلَة كالمفعول، فَلذَلِك انتصب.
فَإِن قدرت (خلا) حرفا خَافِضًا خفضت مَا بعْدهَا.
وَنَظِير خلا (عدا) ، لِأَنَّهَا قد تكون حرفا وفعلا، فَإِذا أدخلت
(مَا) على (خلا) لم يجز أَن تكون إِلَّا فعلا، لِأَن (مَا) إِنَّمَا
توصل بِالْفِعْلِ إِذا كَانَت مصدرا، لِأَنَّهَا تصير مَعَ الْفِعْل
مصدرا، وَلَا يجوز أَن توصل بالحروف، فَلذَلِك وَجب أَن تكون (خلا)
مَعَ (مَا) فعلا غير حرف، فَإِذا كَانَت فعلا وَجب النصب فِيمَا
بعْدهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا مَوضِع (مَا) مَعَ (خلا) ؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن يكون نصبا، لِأَنَّهُ اسْم جَاءَ بعد
اسْتغْنَاء الْفِعْل بفاعله، فَلذَلِك وَجب أَن يكون موضعهَا نصبا.
وَأما (غير) : فَهِيَ اسْم، وَتَقَع فِي الِاسْتِثْنَاء موقع (إِلَّا)
، فَإِن كَانَ الِاسْم الَّذِي قبلهَا مَرْفُوعا منفيا رفعتها،
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مخفوضا خفضتها، وَإِنَّمَا وَجب مَا ذكرنَا،
لِأَن (غير) عاملة، فَإِذا حلت مَحل (إِلَّا) ، وَجب أَن يخْفض
(1/399)
الْمُسْتَثْنى على جَمِيع الْوُجُوه، وَلَا
بُد ل (غير) من إِعْرَاب، فَنقل إِعْرَاب الْمُسْتَثْنى إِلَيْهِ، ليدل
ذَلِك على أَنَّهَا قَامَت مقَام حرف الِاسْتِثْنَاء.
وَأما (سَوَاء) الممدودة: فَيجب أَن تكون مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ
الَّذِي قبلهَا على جَمِيع الْجِهَات، لِأَنَّهَا ظرف غير مُتَمَكن،
فَلم يجز أَن ينْقل إِلَيْهَا الْإِعْرَاب مِمَّا بعْدهَا، فَترفع
وتخفض، لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى تمكنها، وَهِي غير متمكنة، فَلذَلِك
لَزِمت وَجها وَاحِدًا.
وَحكم الْمَقْصُورَة كَحكم الممدودة، وَإِن لم يظْهر فِيهَا
الْإِعْرَاب.
وَاعْلَم أَن الْجرْمِي ترْجم بَاب الِاسْتِثْنَاء بالحروف على طَرِيق
الْمُسَامحَة، إِذْ كَانَ أصل الْبَاب (إِلَّا) ، فَلذَلِك غلب حكم
التَّرْجَمَة للحروف.
فَإِن قَالَ قَائِل: لأي شَيْء أَن اصل الِاسْتِثْنَاء ب (إِلَّا) ؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن مَعْنَاهُ، وَلَا يُفِيد غَيره.
وَأما سواهَا مِمَّا يسْتَثْنى بِهِ، فَيخرج عَن الِاسْتِثْنَاء لمعان
تدخله، فَصَارَ فِي الحكم زَائِدا على حكم (إِلَّا) ، فَوَجَبَ أَن
يكون فرعا فِي الْبَاب، إِذْ زَاد حكمه على مَا يَقْتَضِيهِ حكم
الْبَاب، وَكَانَت (إِلَّا) مُخْتَصَّة بِمَا يَقْتَضِيهِ الْبَاب،
فَلذَلِك وَجب أَن تكون أصلا فِي الْبَاب، وَإِنَّمَا اسْتثْنِي
(1/400)
بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا على طَرِيق
التَّشْبِيه ب (إِلَّا) .
فَأَما (غير) فَإِنَّمَا دخلت فِي الِاسْتِثْنَاء، لِأَنَّهَا توجب
إِخْرَاج من عدى الْمُضَاف (56 / أ) إِلَيْهَا من الحكم الْمُتَقَدّم
فعلهَا، كَقَوْلِك: مَرَرْت بِرَجُل غَيْرك، فَمَعْنَاه: أَنِّي اقتطعت
بمروري آخر من النَّاس كلهم، وَالِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا هُوَ اقتطاع
شَيْء من شَيْء، فَلَمَّا ضارعت معنى الِاسْتِثْنَاء، أدخلت فِيهِ حكم
(سوى) ، وَحكم (سوى) كَحكم (غير) لتقارب مَا بَينهمَا من الْمَعْنى.
فَأَما (حاشى) : فمعناها تَنْزِيه الْمَذْكُور بعْدهَا عَمَّا حصل
لغيره، فَصَارَت مُنْقَطِعَة لَهُ من غَيره، فَلذَلِك دخلت فِي
الِاسْتِثْنَاء.
فَأَما (خلا وَعدا) : فمعناهما الْمُجَاوزَة، والمجاوزة للشَّيْء
فِيهَا معنى الِانْقِطَاع لمن جاوزته دون غَيره فَلذَلِك أدخلها فِي
الِاسْتِثْنَاء.
فَأَما (لَيْسَ وَلَا يكون) : فاستعملتا أَيْضا فِي الِاسْتِثْنَاء،
لِأَن النَّفْي يُوجب إِخْرَاج الْمَنْفِيّ من حكم غير الْمَنْفِيّ،
فَإِن ثَبت لَهُ معنى آخر فَصَارَ فِيهَا معنى الِانْقِطَاع فدخلا فِي
حكم الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّمَا خصا بِهَذَا [هَذِه] الْأَفْعَال من
بَين سَائِر الْأَفْعَال، لِأَن (لَيْسَ) تَضَمَّنت معنى النَّفْي،
فَلَو اسْتعْمل غَيرهَا احْتِيجَ إِلَى حرف آخر مَعهَا، فَلَو
تَضَمَّنت معنى حرف النَّفْي، كَانَت أولى بِالِاسْتِعْمَالِ، لنيابتها
عَن فعل وحرف، إِذْ هِيَ لتضمنها معنى الْحَرْف تشبه ب (إِلَّا) .
وَأما (إِلَّا أَن يكون) : فاستعملت لِكَثْرَة دوران (أَن وَيكون) فِي
الْكَلَام.
(1/401)
وَاعْلَم أَن (لَيْسَ وَلَا يكون) :
مَعْنَاهُمَا فِي الِاسْتِثْنَاء معنى الْإِيجَاب، لِأَنَّهُمَا أقيما
مقَام (إِلَّا) للْإِيجَاب، فَلذَلِك لم يَكُونَا للنَّفْي، فَإِذا
قلت: أَتَانِي الْقَوْم لَيْسَ زيدا، فَهُوَ بِمَعْنى قَوْلك: أَتَانِي
الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَإِنَّمَا اسْتَويَا فِي هَذَا الحكم لِأَن
(إِلَّا) تخرج مَا بعْدهَا من حكم مَا قبلهَا، كَمَا أَن النَّفْي لَهُ
هَذَا الحكم، فَلهَذَا اسْتَويَا.
وَاعْلَم أَن (لَيْسَ، وَلَا يكون) إِذا أُرِيد بهما الِاسْتِثْنَاء
ففيهما ضمير اسمهما، وَلَا يثنى ذَلِك الضَّمِير وَلَا يجمع، وَلَا
يؤنث، وَإِن كَانَ مَا قبله مؤنثا، كَقَوْلِك: جَاءَنِي النسْوَة
لَيْسَ فُلَانَة، وَتَقْدِير الْمُضمر: لَيْسَ بَعضهم فُلَانَة،
وَكَذَلِكَ: لَا يكون بَعضهم فُلَانَة، وَإِنَّمَا قدر الضَّمِير
بِتَقْدِير (الْبَعْض) ، لِأَن الْبَعْض يَنْتَظِم الْوَاحِد فَمَا
فَوْقه، وَهُوَ مُذَكّر فِي اللَّفْظ، وَإِن كَانَ مُضَافا إِلَى مؤنث،
فَلذَلِك لزما وَجها وَاحِدًا، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك، لِأَنَّهُمَا
قاما مقَام الْحَرْف، أَعنِي (إِلَّا) ، وَكَانَت (إِلَّا) لَا يخْتَلف
لَفظهَا فِي جَمِيع الْوُجُوه، وَجب أَيْضا أَن يكون مَا قَامَ
مقَامهَا على لفظ وَاحِد، فَيجْرِي مجْراهَا، وَيدل اسْتِعْمَاله على
هَذَا الْوَجْه أَنه خَارج عَن أَصله، وملحق بِحكم غَيره.
وَأما إِذا جعلت (لَيْسَ، وَلَا يكون) صِفَات لما قبلهَا، وَلم تجعلها
استثناءا، ثنيت وجمعت، وأنثت، فَقلت: أَتَتْنِي امْرَأَة لَيست
فُلَانَة، وعَلى هَذَا فقس، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يَنْتَظِم فِي
جَمِيع هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله.
(1/402)
|