علل النحو

 (37 - بَاب كم)

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن تبنى (كم) ؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا وَجب بناؤها فِي الْخَبَر، لِأَنَّهَا نقيضة (رب) وَرب حرف، فَوَجَبَ أَن تجْرِي نقيضتها مجْراهَا، إِذْ كَانَ قد دَخلهَا معنى الْحَرْف، وَوَجَب بناؤها فِي الِاسْتِفْهَام، لتضمنها معنى حرف الِاسْتِفْهَام، فقد اسْتحق الْبناء لما ذَكرْنَاهُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجب أَن تبنى على السّكُون، ليَكُون بَينه وَبَين مَا لَهُ حَال تمكن فصل، وَإِنَّمَا وَجب (56 / ب) أَن يخْفض بهَا فِي الْخَبَر، وَينصب بهَا فِي الِاسْتِفْهَام لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا فِي الْخَبَر نقيضة (رب) ، فَكَمَا وَجب الْخَفْض ب (رب) وَجب الْخَفْض بنقيضتها.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن (كم) فِي الْخَبَر للكثرة، وَفِي الِاسْتِفْهَام يَقع الْجَواب عَنْهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكثير من الْأَعْدَاد، لِأَن المستفهم لَا يدْرِي قدر مَا يستفهم عَنهُ، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: كم رجلا أَتَاك؟ جَازَ أَن يَقُول: ثَلَاثَة، أَو مائَة، لاحْتِمَال الْأَمريْنِ جَمِيعًا.

(1/403)


فَلَمَّا كَانَت (كم) تقع فِي الِاسْتِفْهَام للتكثير والتقليل، صَار متوسط الحكم بَين الْقَلِيل وَالْكثير، فَجعل لَهَا حكم الْأَعْدَاد المتوسطة بَين الْكَثِيرَة والقليلة، وَمَا بَين الْمِائَة إِلَى الْعشْرَة فَمَا دونهَا، فالعشرة فَمَا دون للقلة، وَالْمِائَة فَمَا فَوْقهَا للكثرة، وَمَا بَينهمَا هُوَ الْمُتَوَسّط، فَلذَلِك جَازَ أَن ينصب بهَا فِي الِاسْتِفْهَام، وَجعلت فِي الْخَبَر خافضة، حملا على لفظ الْعدَد الْكثير، أعنى الْمِائَة فَمَا فَوْقهَا، وَإِنَّمَا خصت بِأَن جعلت صدر الْكَلَام، لدُخُول معنى الِاسْتِفْهَام فِيهَا، وَجعلت فِي الْخَبَر كَذَلِك، لِأَنَّهَا نقيضة (رب) ، وَرب تقع صدر الْكَلَام، لِأَن فِيهَا معنى النَّفْي، إِذْ كَانَت الْقلَّة نفي الْكَثْرَة، فَلَمَّا دَخلهَا معنى النَّفْي - وَالنَّفْي لَهُ صدر الْكَلَام - حملت عَلَيْهَا لما ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ أَن يعْمل فِيهَا مَا تجر من بَين سَائِر العوامل؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْجَار وَالْمَجْرُور كالشيء الْوَاحِد، فَلَا يجوز انْفِصَال الْجَار من الْمَجْرُور وقيامه بِنَفسِهِ، كَمَا يجوز انْفِصَال الرافع من الْمَرْفُوع، والناصب من الْمَنْصُوب، فَصَارَ تَقْدِيم الْجَار عَلَيْهِ ضَرُورَة، وَلم يجز تَقْدِيم ذَلِك فِي الرافع والناصب، إِذْ لَيْسَ مُضْطَرّا فِيهِ إِلَى ذَلِك. وَاعْلَم أَنَّك إِذا قدرت دُخُول الْجَار عَلَيْهَا بِحَال الِاسْتِفْهَام، قدرت الِاسْتِفْهَام على حرف الْجَرّ، كَقَوْلِك: على كم جذعا بَيْتك مَبْنِيّ؟
وَإِنَّمَا وَجب التَّقْدِير على مَا ذكرنَا، لِئَلَّا يتَقَدَّم الْعَامِل على حرف الِاسْتِفْهَام.
وَأما فِي الْخَبَر فالعلة فِيهَا مَا ذكرنَا، وَالْجَار دَاخل عَلَيْهَا من غير توَسط، إِن شَاءَ الله.
وَاعْلَم أَن النصب فِيهَا على تَقْدِير تَنْوِين فِيهَا، كَمَا أَن النصب بِخَمْسَة عشر وَأَخَوَاتهَا على تَقْدِير التَّنْوِين بهَا، فَمن خفض بهَا فِي الِاسْتِفْهَام فعلى وَجْهَيْن:

(1/404)


أَحدهمَا: أَن يكون قدر حذف التَّنْوِين، وَلم يَجْعَلهَا كخمسة عشر، بل جعلهَا بِمَنْزِلَة الْعدَد الَّذِي لَا ينون.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون الْخَبَر بِتَقْدِير (من) ، لِكَثْرَة استعمالهم إِيَّاهَا فِي هَذَا الْموضع. وَإِنَّمَا نصب بهَا فِي الْخَبَر، وَقدر التَّنْوِين فِيهَا، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة المستفهم بهَا.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا نصبت بهَا فِي حَال اسْتِفْهَام، لم يجز أَن يكون بعْدهَا الِاسْم إِلَّا مُفردا نكرَة، كَمَا لَا يجوز أَن يذكر بعد الْعشْرين إِلَّا اسْم مُفْرد نكرَة.
فَأَما فِي الْخَبَر: فَيجوز أَن يذكر بعْدهَا الْفِعْل، خفضت أَو نصبت، لِأَنَّهَا تجْرِي مجْرى: ثَلَاثَة أَثوَاب، وَثَلَاثَة أثوابا، إِذا نون كَمَا نون فِي الْعشْرين، وَرُبمَا جَازَ الْفَصْل بَينهَا وَبَين مَا تنصبه، نَحْو قَوْلك: كم عنْدك غُلَاما، وَإِن كَانَ مثل هَذَا لَا يجوز فِي الْعشْرين، لَا تَقول: هَؤُلَاءِ عشرُون عنْدك غُلَاما، وَرُبمَا سهل ذَا فِي (كم) ، لِأَنَّهُ جعل الْفَصْل فِيهَا عوضا مِمَّا منعته من التَّمَكُّن، ولزومها طَريقَة وَاحِدَة، وَلم يجز ذَلِك فِي (57 / أ) الْعشْرين، لِأَنَّهَا متمكنة، فمنعت تَأَخّر معمولها على الْعَامِل، فَلذَلِك ضعف الْفَصْل بَينهَا وَبَين معمولها.

(1/405)


(38 - بَاب لَا)

اعْلَم أَن (لَا) تنصب الِاسْم تَشْبِيها ب (إِن) ، لِأَنَّهَا نقيضتها، وَهِي تدخل على الْأَسْمَاء، كدخول (إِن) عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَن تنصب الْأَسْمَاء، كَمَا تنصب (إِن) ، وَإِنَّمَا بنيت الْأَسْمَاء من (لَا) لوجوه:
أَحدهَا: أَنه جَوَاب لِقَوْلِك: هَل من رجل فِي الدَّار؟ وَالْجَار وَالْمَجْرُور بِمَنْزِلَة الشَّيْء مَا هُوَ جَوَابه، إِذا كَانَ الناصب مَعَ الْمَنْصُوب لَا يكون كالشيء الْوَاحِد.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن تكون (من) مقدرَة بَين (لَا) وَمَا تعْمل فِيهِ، فَيكون الأَصْل: لَا من رجل فِي الدَّار، فَلَمَّا حذفت (من) تضمن الْكَلَام معنى الْحَرْف، والحروف مَبْنِيَّة، فَوَجَبَ أَن تبنى (لَا) مَعَ مَا بعْدهَا، لتضمنها الْحُرُوف.
وَوجه ثَالِث: أَنَّهَا لما كَانَت مشبهة بالحروف فِي الْعَمَل، وَكَانَت الْحُرُوف مشبهة بِالْفِعْلِ وَصَارَت فرعا للفرع، فضعفت، فَجعل الْبناء فِيهَا دَلِيلا على ضعفها.
وَاعْلَم أَن النكرَة الَّتِي تبنى مَعَ (لَا) فِي المفردة - وَإِن كَانَت مَوْصُولَة أَو مُضَافَة - لم يجز الْبناء فِيهَا، لِأَن التَّنْوِين يصير فِي وسط الْكَلِمَة، فَيجْرِي مجْرى سَائِر الْحُرُوف، والمضاف إِلَيْهِ يقوم مقَام التَّنْوِين، فَيمْتَنع أَيْضا من الْبناء، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله: لَا غُلَام رجل عنْدك، وَلَا خيرا من زيد عنْدك، فَصَارَ مَا عوض فِيهَا يمْنَع من الْبناء، كَمَا منع ذَلِك فِي المنادى. وَاعْلَم أَن النكرَة الَّتِي

(1/406)


تنصبها (لَا) ، أَعنِي: لَا يُرَاد بهَا الْجِنْس، وَلَا يُرَاد بهَا نفي شخص وَاحِد، لِأَنَّهَا جَوَاب تَقْتَضِي الْجِنْس، وَلَيْسَ يُرَاد بهَا نفي شخص وَاحِد، فَإِذا قلت: لَا رجل عنْدك، فَالْمَعْنى: لَا وَاحِد من هَذَا الْجِنْس عنْدك وَلَا أَكثر مِنْهُ.
وَاعْلَم أَن (لَا) (و) مَا تعْمل فِيهِ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا بُد لَهُ من خبر، وَحكم خَبره - إِن كَانَ اسْما - أَن يكون مَرْفُوعا كَخَبَر المبتدإ، إِذْ كَانَ هُوَ الأول، كَقَوْلِك: لَا رجل أفضل مِنْك، ف (أفضل مِنْك) : خبر الِابْتِدَاء.
وَإِن فصلت بَين (لَا) وَمَا تعْمل فِيهِ بَطل عَملهَا، لِأَنَّهَا مشبهة بالحروف، فَلم تقو على الْعَمَل مَعَ الْفَصْل، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهَا مَعَ النكرَة المفردة كاسمين جعلا اسْما وَاحِدًا، وَأما مقامهما فَكَمَا أَن الْفَصْل بَين الشَّيْئَيْنِ اللَّذين هما كالشيء الْوَاحِد لَا يجوز، فَكَذَلِك أَيْضا لم يجز الْفَصْل بَين (لَا) وَمَا تعْمل فِيهِ، إِذْ قد جَريا مجْرى شَيْء وَاحِد. وَاعْلَم أَنَّك إِذا رفعت مَا بعد (لَا) فعلى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: بِالِابْتِدَاءِ، فَإِذا قدرت هَذَا التَّقْدِير، اسْتَوَت الْمعرفَة والنكرة بعْدهَا، إِلَّا أَن الْأَحْسَن - إِذا أردْت هَذَا الْوَجْه - أَن تكَرر فَتَقول: لَا زيد عِنْدِي وَلَا عَمْرو، ليَكُون الْجَواب عَن الْمعرفَة خلاف الْجَواب عَن النكرَة الَّتِي تُؤدِّي معنى

(1/407)


الْجِنْس وَلَا يكون مُفردا، لِأَنَّهُ جَوَاب: أَزِيد عنْدك أم عَمْرو؟ وَلم يحسن الْإِفْرَاد لِأَن هَذَا الْموضع من مَوَاضِع (مَا) ، فاستغنوا بهَا عَن أَن يستعملوا ذَلِك فِي (لَا) ، فَلذَلِك لم يجز الْإِفْرَاد مَا بعد (لَا) فِي هَذَا الْموضع، وَكَذَلِكَ حكم النكرَة بعْدهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تشبهها ب (لَيْسَ) فَترفع (57 / ب) الِاسْم بهَا، فَإِذا قدرتها هَذَا التَّقْدِير، لم تعْمل أَيْضا إِلَّا فِي النكرَة، وَإِن كَانَت قد شبهت ب (لَيْسَ) ، فقد حصل لَهَا الضعْف بشبهها ب (لَيْسَ) ، وَلم يخْتَلف مَعْنَاهَا، فَلذَلِك وَجب فِي الْعَمَل أَن تلْزم طَريقَة وَاحِدَة، أَعنِي: أَن تخْتَص بِالْعَمَلِ فِي النكرَة دون المعارف. وَمَتى فصل بَينهَا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ - وَهِي رَافِعَة - فَالْأَحْسَن أَن يبطل عَملهَا، لما ذَكرْنَاهُ من ضعفها.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: لَا مُسلمين، فَتثبت النُّون، فَعِنْدَ سِيبَوَيْهٍ أَن (لَا) مَبْنِيَّة مَعَ التَّثْنِيَة وَالْجمع، كبنائها مَعَ الْوَاحِد، وَلم يجز حذف النُّون، وَإِن حذفت التَّنْوِين من الْوَاحِد، لِأَن النُّون أقوى من التَّنْوِين، أَلا ترى أَنَّهَا تثبت مَعَ الْألف وَاللَّام، والتنوين يسْقط مَعَهُمَا، فقد بَان أَنه لَيْسَ يجب حذف التَّنْوِين، وَإِنَّمَا جرت التَّثْنِيَة وَالْجمع مجْرى الْوَاحِد فِي الْبناء، لِأَن إعرابهما كإعراب الْوَاحِد، فصارا بِمَنْزِلَتِهِ.
وَأما أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد فَيمْنَع من ذَلِك، وَيجْعَل التَّثْنِيَة وَالْجمع منصوبين كنصب الْمُضَاف، وَإِنَّمَا امْتنع من ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يُوجد فِي كَلَام الْعَرَب اسمان جعلا اسْما وَاحِدًا، وَالثَّانِي مثنى أَو مَجْمُوع، فَلهَذَا امْتنع مِنْهُمَا، وَقَول سِيبَوَيْهٍ أولى

(1/408)


بِالصَّوَابِ، لأَنا قد نثني حَضرمَوْت ونجمع فَنَقُول: جَاءَنِي حضرموتان. ونجمعه فَنَقُول: حضرموتون. إِذْ كَانَ اسْم رجل، فقد لحقت التَّثْنِيَة وَالْجمع الِاسْم الثَّانِي، وَإِن كَانَ قد جعل اسْما وَاحِدًا، فَكَذَلِك يجب أَيْضا أَن تلْحق عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع فِيمَا بعد (لَا) ، وَلَا يتَغَيَّر من حكم الْبناء شَيْء، كَمَا يتَغَيَّر ذَلِك فِي حَضرمَوْت.
فَأَما الَّذِي لم يُوجد فِي كَلَام الْعَرَب أَن يكون الاسمان جعلا اسْما وَاحِدًا وَالثَّانِي مثنى أَو مَجْمُوع فِي أول أحوالهما.
فَأَما مَا تلْحقهُ عَلامَة التَّأْنِيث وَالْجمع ويزولان عَنهُ، فَلَيْسَ حكمه هَذَا الحكم، فَمن أجل هَذَا أدخلت الشُّبْهَة على أبي الْعَبَّاس، وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا عَن سِيبَوَيْهٍ.
وَاعْلَم أَن لَام الْجَرّ تزاد فِي النَّفْي، فَيكون دُخُولهَا كخروجها، فَيصير الِاسْم الَّذِي قبلهَا فِي تَقْدِير الْمُضَاف إِلَى مَا بعْدهَا، كَقَوْلِك: لَا مُسْلِمِي لَك، إِذا قدرت (لَك) زَائِدَة، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى قد أضفت (مُسْلِمِي) إِلَى الْكَاف، وَلم يعْتد بِاللَّامِ، فَلذَلِك حذفت النُّون، وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك كَرَاهَة أَن يضيفوا الِاسْم من غير توَسط اللَّام، فَيصير فِي اللَّفْظ معرفَة، و (لَا) لَا تعْمل فِي المعارف، فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظ يصير معرفَة، استقبحوا ذَلِك، ففصلوا بَينهمَا بِاللَّامِ، وَإِنَّمَا كَانَت اللَّام أولى من سَائِر الْحُرُوف، لِأَن الْإِضَافَة تضمنتها، وَإِن كَانَت محذوفة، أَلا ترى أَن معنى قَوْلك: جَاءَنِي غُلَام زيد، كمعنى قَوْلك: جَاءَنِي غُلَام لزيد، وَإِن كَانَ الأَصْل معرفَة يتعرف بِالْإِضَافَة، فَلَمَّا كَانَت الْإِضَافَة تَتَضَمَّن اللَّام، أظهروها دَلِيلا على أَن الِاسْم نكرَة، وساغ أَيْضا ذَلِك من أجل حذف التَّنْوِين لأجل الْبناء، فَيصير دُخُول اللَّام عوضا من بِنَاء الِاسْم، فَإِن لم ترد بِاللَّامِ الزِّيَادَة أثبت النُّون، وَجعلت

(1/409)


اللَّام وَمَا بعْدهَا خبر الِابْتِدَاء، إِن شِئْت، وَإِن شِئْت (58 / أ) جَعلتهَا صلَة للكاف، وأضمرت الْخَبَر، كَأَنَّك قلت: لَا مُسلمين مملوكان لَك، مِمَّا يعرفهُ الْمُخَاطب من حكم الْخَبَر.

(1/410)


(39 - بَاب الضَّمِير)

إِن قَالَ قَائِل: لم جَازَ أَن يَقع الِاسْم الْمَرْفُوع والمنصوب ضميرا مُنْفَصِلا، وَلم يكن فِي الْمَجْرُور إِلَّا ضميرا مُتَّصِلا؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْمَرْفُوع والمنصوب يجوز أَن يفصل بَينهمَا وَبَين مَا عمل فيهمَا، وَالْمَجْرُور مَعَ الْجَار كالشيء الْوَاحِد، وَلَا يجوز الْفَصْل فيهمَا، فَلَمَّا جَازَ الْفَصْل فِي الْمَرْفُوع والمنصوب، وَجب أَن يكون لَهما ضمير مُنْفَصِل، وأعني بالمنفصل الَّذِي يقوم بِنَفسِهِ، وَلَا يتَّصل بعامل، وَلما كَانَ الْمَجْرُور لَا يجوز انْفِصَاله من عَامله، لم يكن لَهُ إِلَّا ضمير وَاحِد.
فَإِن قَالَ قَائِل: هَل الِاسْم من (أَنا) جملَته أَو بعضه؟
قيل لَهُ: الِاسْم (أَن) ، وَالْألف زيدت لبَيَان حَرَكَة النُّون، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك إِذا وصلت الْكَلَام، قلت: أَن، فَسَقَطت الْألف، كَقَوْلِك: أَن فهمت، وَلَو كَانَت الْألف من نفس الْكَلِمَة لم تسْقط، وَإِنَّمَا كَانَت الْألف أولى بِالزِّيَادَةِ، لِأَنَّهَا أخف الْحُرُوف. وَبَعض الْعَرَب يَجْعَل فِي مَوضِع الْألف الْهَاء، إِذا وقف، فَيَقُول: أَنه، وَهَذَا يدلك على أَن الْألف لَيست من بِنَاء الِاسْم، وَإِنَّمَا زيدت لما ذكرنَا، وَإِنَّمَا كَانَت الْألف أَكثر من الْهَاء، لِأَنَّهَا قد تتصل بالضمير، إِذا كَانَت (أَن) العاملة قد يتَّصل بهَا ضمير الْغَائِب كثيرا، فَلذَلِك كَانَت الْألف أَكثر

(1/411)


اسْتِعْمَالا فِي هَذَا الْموضع من الْهَاء.
وَأما (أَنْت) : فالاسم أَيْضا مِنْهُ (أَن) ، وَالتَّاء زيدت للمخاطب، وَلَيْسَ لَهَا مَوضِع من الْإِعْرَاب، لِأَنَّهَا لَو كَانَت لَهَا مَوضِع من الْإِعْرَاب، لم تخل من أَن تكون رفعا أَو نصبا أَو جرا، وَالتَّاء لَيست من عَلَامَات الْمَجْرُور وَلَا الْمَنْصُوب، فَسقط أَن يكون موضعهَا نصبا أَو جرا، وَلم يجز أَن يكون رفعا، لِأَن الْعَامِل هُوَ (أَن) فِي قَوْلك: مَا قَامَ إِلَّا أَنْت، فَلَو كَانَت (التَّاء) فِي مَوضِع رفع، لَكُنْت قد جعلت للْفِعْل فاعلين من غير اشْتِرَاك بَينهمَا فِي تَثْنِيَة أَو عطف، ويتبين لَك أَنَّهَا لَا مَوضِع لَهَا، إِذا أدخلتها عَلامَة كالهاء الَّتِي تدخل عَلامَة للتأنيث، والعلامات لَا تكون لَهَا مَوَاضِع، لِأَنَّهَا لَيست لَهَا أَسمَاء.
وَأما قَوْلنَا: (هُوَ) ، فالاسم الْهَاء وَالْوَاو جَمِيعًا، وَأهل الْكُوفَة يجْعَلُونَ الِاسْم الْهَاء وَحدهَا، ويستدلون على ذَلِك بِإِسْقَاط الْوَاو فِي التَّثْنِيَة، نَحْو قَوْلك: هما، وَكَذَلِكَ تسْقط فِي الْجمع، نَحْو هم ذاهبون، فَالْجَوَاب فِي هَذَا أَن الْحَرْف يسْقط فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع، إِذا عرضت فِيهِ عِلّة توجب إِسْقَاطه، وَإِن كَانَ الْحَرْف من أصل الْكَلِمَة، أَلا ترى إِذا جَمعنَا قَاضِيا قُلْنَا فِي جمعه: قاضون، فاسقطنا الْيَاء،

(1/412)


وَهِي لَام الْفِعْل، وَلم يدل إِسْقَاطهَا على أَنَّهَا زَائِدَة، وَكَذَلِكَ إِسْقَاط الْوَاو من التَّثْنِيَة وَالْجمع من: هما وهم، لَا يدل على زيادتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الْعلَّة الَّتِي من أجلهَا سقط الْوَاو؟
قيل: لِأَنَّهَا لَو لم تسْقط لوَجَبَ ضمهَا، فَكَانَ إِثْبَاتهَا يُوجب أَن تكون مَضْمُومَة وَقبلهَا ضمة، وَذَلِكَ مستثقل، فحذفوها للاستثقال، فَكَانَت الْعلَّة فِي (58 / ب) حذف الْوَاو استثقال الضمة فِيهَا، فَلهَذَا حذفت.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب أَن تضم، وَهِي مَفْتُوحَة فِي الْإِفْرَاد؟
قيل: لِأَنَّهَا لَو بقيت مَفْتُوحَة، وَقد زيدت عَلَيْهَا الْمِيم وَالْألف، لتوهم أَنَّهُمَا حرفان منفصلان فِي أَمريْن متصلين، فَوَجَبَ أَن تغير الْحَرَكَة الَّتِي كَانَت مستعملة فِي آخِره، كَمَا غيرت فِي قَوْلك: أَنْتُمَا، فدلت الضمة على أَنَّهَا شَيْء وَاحِد، فَلذَلِك وَجب ضم الْوَاو، فاعلمه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم زيدت الْمِيم فِي التَّثْنِيَة؟
[قيل] : فَفِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن التَّثْنِيَة لما كَانَت توجب تَغْيِير الْوَاحِد، كثر اللَّفْظ أَيْضا بِزِيَادَة الْمِيم، إِذْ كَانَت هَذِه المكنيات قد تبنى على حرف وَاحِد، وَأَقل الْأَسْمَاء أصولا يجب أَن يكون على ثَلَاثَة أحرف، فَلذَلِك زادوا الْمِيم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن القافية إِذا كَانَت مُطلقَة تبعتها ألف، فَلَمَّا زادوا على (أَنْت) ألفا، وَهُوَ ألف التَّثْنِيَة، جَازَ أَن يتَوَهَّم فِي بعض الْأَحْوَال أَنَّهَا ألف الْإِطْلَاق،

(1/413)


كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(يَا مرت بن رَافع يَا أنتا ... أَنْت الَّذِي طلقت عَام جعتا)

فزادوا الْمِيم ليزول اللّبْس، وَإِنَّمَا كَانَت الْمِيم أولى بِالزِّيَادَةِ من بَين سَائِر الْحُرُوف، لِأَنَّهَا من زَوَائِد الْأَسْمَاء والمضمر اسْم، فَلذَلِك وَجب أَن يُزَاد عَلَيْهِ الْمِيم، فَإِذا جمعت زِدْت واوا مَعَ الْمِيم، لتَكون الْوَاو تحل مَحل التَّثْنِيَة، فَتَقول: أنتمو وهمو، إِلَّا أَن هَذِه الْوَاو تحذف اسْتِخْفَافًا، لِأَنَّهُ لَا يشكل حذفه، وَيجوز أَن يتَكَلَّم بهَا على الأَصْل.
فَأَما الْمُؤَنَّث: فَإِنَّهُ فِي التَّثْنِيَة لَا يخْتَلف طريقها، فَلذَلِك اسْتَويَا، فَإِذا جمعت زِدْت نونا مُشَدّدَة، فَقلت: هن، وأنتن، وَإِنَّمَا شددت النُّون لِأَنَّك زِدْت للمذكر حرفين، وهما الْمِيم وَالْوَاو، فَجعلت النُّون مُشَدّدَة لتَكون بِمَنْزِلَة مَا زِدْت للمذكر، وَلم تثقل كثقل الْوَاو، فتخفف، وَلَو خففت أَيْضا لزالت الْمُشَاركَة الَّتِي قصدت بتَشْديد النُّون. فَأَما الْمُتَكَلّم إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ غَيره، وَاحِدًا كَانَ أَو جمعا مؤنثا، أَو جمعا مذكرا، فلفظه (نَحن) ، وَإِنَّمَا لم يثن على لَفظه، لِأَن شَرط التَّثْنِيَة إِذا

(1/414)


اتَّصَلت أَن تكون على لفظ الْوَاحِد، والمتكلم لَا يقْتَرن إِلَيْهِ مُتَكَلم، وَإِنَّمَا يقْتَرن إِلَيْهِ غَائِب أَو مُخَاطب، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: نَحن فعلنَا وَفعلت ذَلِك، كَانَ تَقْدِيره: أَنا وَزيد وَأَنت فعلنَا ذَلِك، وَلم يكن تَقْدِيره: أَنا وَأَنا، فَإِذا كَانَ المنضم إِلَيْهِ من غير جنس الْمُتَكَلّم لم يجز أَن يثنى على لَفظه، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمر على مَا ذكرنَا وَجب أَن يبطل لفظ الْوَاحِد، ويستأنف للتثنية اسْم، لِأَن التَّثْنِيَة أول الجموع، لِأَن معنى الْجمع ضم شَيْء إِلَى شَيْء، فَلَمَّا فَاتَ لفظ التَّثْنِيَة المحققة، وَجب أَن يسْتَأْنف لفظ يدل على الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقه، فَلذَلِك قَالُوا: نَحن.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جعل ضمير الْمَرْفُوع الْغَائِب الْمُنْفَصِل مستترا، وَظَهَرت عَلامَة الْمُتَكَلّم والمخاطب، نَحْو: قُمْت؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْغَائِب لما كَانَ لَا يذكر إِلَّا بعد تقدمة ذكر، صَار ذكره قبل الْفِعْل كعلامة، فأغنى عَن ذكره عَلامَة أُخْرَى فِي الْفِعْل.
وَأما الْمُخَاطب والمتكلم: فَلَيْسَ (59 / أ) يتَقَدَّم لَهما ذكر، فَلَو استترت علامتهما، لم يكن عَلَيْهِمَا دَلِيل، فَلذَلِك ظَهرت عَلامَة الْغَائِب فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع، نَحْو قَوْلك: الزيدان قاما، والزيدون قَامُوا.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم تكتف بتقدم الْأَسْمَاء عَن إِظْهَار الْعَلامَة، كَمَا اكتفيت بِالْوَاحِدِ؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا جَازَ استتار ضمير الْوَاحِد لإحاطة الْعلم أَن الْفِعْل لَا يَخْلُو من فَاعل وَاحِد، وَقد يَخْلُو من اثْنَيْنِ وَأكْثر من ذَلِك، فَلَو أسترنا ضمير الِاثْنَيْنِ وَالْجمع، لجَاز أَن يتَوَهَّم أَن الْفِعْل لوَاحِد، فَلذَلِك وَجب إِظْهَار عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع.

(1/415)


وَأما الضَّمِير الْمَنْصُوب: فإياك وإياي وإياه، وَقد اخْتلف فِي هَذَا الِاسْم على وُجُوه:
فَكَانَ الْخَلِيل - رَحمَه الله - يَقُول: هُوَ اسْم مظهر مُضَاف نَاب عَن الضَّمِير، فاستدل على إِضَافَته بقول الْعَرَب:
(إِذا بلغ الْمَرْء السِّتين فإياه وإيا الشواب) .
فَلَو كَانَ مضمرا لم تجز إِضَافَته، لِأَن الْمُضَاف يقدر قبل الْإِضَافَة نكرَة ثمَّ يُضَاف، لِأَن الْغَرَض فِي الْإِضَافَة تَعْرِيفه، فَلذَلِك وَجب أَن يقدر نكرَة، فَلَو كَانَ الضَّمِير لَا يجوز أَن يكون نكرَة لم يجز أَن يكون مُضَافا
وَأما الْأَخْفَش فَكَانَ يَقُول: إِنَّه اسْم بِكَمَالِهِ، وَذَلِكَ أَن (إيا) لما نابت عَن الْكَاف فِي قَوْلك: ضربتك، كَانَت اسْما بكمالها، وَأَن مَا بعد (إيا) من (الْكَاف وَالْيَاء وَالْهَاء) لَا مَوضِع لَهَا من الْإِعْرَاب، وَأَنَّهَا مُتَعَلقَة ب (إيا) ، كَمَا تتَعَلَّق (التَّاء) من (أَنْت) ب (أَن) .
فألزم على هَذَا القَوْل أَن قيل لَهُ: لم كَانَت اسْما للمضمر، والمظهر يتَغَيَّر آخِره بانتقال الْحُرُوف، وَإِنَّمَا تنْتَقل الْأَوَاخِر بالحركات؟
فَالْجَوَاب لَهُ عَن هَذَا الْإِلْزَام: أَنه قد خص بِمَا ذكره، وَله نَظِير مَعَ ذَلِك، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ: جَاءَنِي أَخُوك، ومررت بأخيك، وَرَأَيْت أَخَاك، فيغيرون هَذِه الْأَسْمَاء بالحروف عَلامَة للإعراب، فبتغير هَذِه الْحُرُوف جَازَ أَن تَتَغَيَّر أواخرها،

(1/416)


عَلامَة للأشخاص، إِلَّا أَن مَا ذَكرْنَاهُ عَن الْخَلِيل من إِضَافَة هَذِه الْأَسْمَاء يدل على ضعف قَول الْأَخْفَش، وَالْوَجْه عِنْد الْأَخْفَش: أَن (إيا) الِاسْم، وَمَا اتَّصل بهَا لَا مَوضِع لَهُ ك (التَّاء) . وَغَيره أَنه بِكَمَالِهِ اسْم، ليعلم أَنه لَيْسَ بمضاف، وَلم يعبأ بِالَّذِي ذكره الْخَلِيل، إِذْ كَانَ عِنْده شاذا، وَيجوز أَن تدخل الشُّبْهَة على من أَضَافَهُ، لما رأى آخِره يتَغَيَّر، كتغير الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ، إِن شَاءَ الله.
وَقَالَ أهل الْكُوفَة: إِن (الْكَاف وَالْهَاء وَالْيَاء) هِيَ الْأَسْمَاء، وَإِن (إيا) عمدتها، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بلحاق التَّثْنِيَة وَالْجمع لما بعد (إيا) وَلُزُوم (إيا) لفظا وَاحِدًا، وَهَذَا القَوْل ظَاهر السُّقُوط، وَذَلِكَ أَنه لَا يجوز أَن يبْنى الِاسْم مُنْفَصِلا على حرف وَاحِد، فَلذَلِك لم يجز أَن يقدر هَذَا التَّقْدِير، وَيدل على فَسَاد قَوْلهم أَيْضا انه لَا يجوز أَن يكون أَكثر الْكَلِمَة تبعا لأقلها، لِأَن ذَلِك نقض مَا يبْنى عَلَيْهِ الْكَلَام، وَلَيْسَ احتجاجهم بلحاق التَّثْنِيَة وَالْجمع لما بعد (إيا) مِمَّا يدل على أَنَّهَا هِيَ الْأَسْمَاء.
فَأَما على مَذْهَب الْخَلِيل: فَلَا شُبْهَة فِي تثنيتها وَجَمعهَا، إِذْ كَانَت اسْما مُضَافا إِلَيْهَا، وَأما على قَول الْأَخْفَش: فَلَا يلْزم أَيْضا، لِأَن الْحُرُوف لما زيدت (59 / ب) للدلالة على الْأَشْخَاص جَازَ أَن يلْحقهَا التَّثْنِيَة وَالْجمع، ك (الْكَاف) الَّتِي هِيَ حرف، وَمَعَ ذَلِك تثنى وَتجمع، فَبَان بِمَا ذَكرْنَاهُ فَسَاد مَا اعتمدوا عَلَيْهِ، لِأَن مَا بعْدهَا عَلامَة للمخاطب وَالْغَائِب والمتكلم، فَلم يكن بُد من لحاق عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع.

(1/417)


وَمِمَّا يُقَوي قَول الْخَلِيل أَن بعض النَّحْوِيين ذكر أَن (إيا) على وزن (فعلى) ، وَأَنه مُشْتَقّ من الْآيَة، وَالْآيَة: الْعَلامَة، يُقَال: رَأَيْت آيَة فلَان، أَي: شخصه، فَأصل (إيا) على هَذَا القَوْل أَن تكون الْهمزَة فَاء الْفِعْل، وَالْيَاء عينه، وَالْألف الْآخِرَة زَائِدَة، لِأَن (آيَة) أَصْلهَا: أيية، وَغَيره يَقُول: أَصْلهَا: أَيَّة، فَلَمَّا اشتق لفظ (إيا) مِنْهَا - والاشتقاق إِنَّمَا هُوَ للأسماء الظَّاهِرَة - دلّ [على] أَن (إيا) مظهرة، وَقد ذكره سِيبَوَيْهٍ فِي (كِتَابه) ، فَيجوز أَن يكون مُوَافقا لقَوْل الْأَخْفَش، فَوجه قَوْله الْمُوَافق لقَوْل الْخَلِيل: أَن الْعَرَب لما أضافت (إيا) فِي الْمِثَال الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَجب أَن تكون مُضَافَة.
وَجَاز قَول الْأَخْفَش أَن يكون إضمارا، لِأَنَّهَا لما اسْتعْملت اسْتِعْمَال الْمُضمر، كَانَت كعلامة الْمَرْفُوع، أَلا ترى أَنَّك مَتى قدرت على التَّاء لم تأت ب (أَنْت) ، فَكَمَا اتَّفقُوا على أَن (أَنْت) مُضْمر، وَجب أَن يكون (إيا) مضمرا، وَمَعَ هَذَا فَإِن (إيا) لَو كَانَت اسْما مظْهرا، لحسن أَن تَقول: ضربت إياك.
فَإِن قيل: فقد قَالَ الشَّاعِر:

(1/418)


(كأنا يَوْم قرى إِ ... نما نقْتل إيانا)

قيل لَهُ: إِن الشَّاعِر إِنَّمَا أَرَادَ: نقْتل أَنْفُسنَا، فَلَمَّا رأى (إيانا) تقوم مقَام النَّفس فِي الْمَعْنى، فعلى ذَلِك جَازَ على طَرِيق الِاسْتِعَارَة.
فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ إِضَافَة الْمُضمر؟
قيل لَهُ: إِن (إيا) لما كَانَت لَا تنْتَقل من الْإِضَافَة، وَلَا يحصل لَهَا معنى بانفرادها، وَلم تقع قطّ إِلَّا معرفَة، فتحتاج إِلَى التنكير، وخالفت فِي موضعهَا سَائِر الْمُضْمرَات، جَازَ أَن تخص بِالْإِضَافَة، عوضا مِمَّا منعته. وَإِنَّمَا جَازَ كسرهَا فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ كَرَاهَة لخروجهم من الْكسر إِلَى الضَّم، إِذْ كَانَ ذَلِك لَا يُوجد فِي أبنيتهم لَازِما، وَلِأَن الْكسر من الْيَاء، فَاخْتَارُوا فِي الْيَاء أَيْضا مَا اخْتَارُوا مَعَ الْكسر، وَجَاز الضَّم على الأَصْل، إِذْ لَيْسَ بِلَازِم للهاء، لِأَنَّهُ قد يكون مَا قبلهَا مضموما ومفتوحا.
وَأما ضمير الْغَائِب الْمُتَّصِل، الْمَنْصُوب وَالْمَرْفُوع، فأصله الضَّم، كَقَوْلِك: رَأَيْته، وَجَاءَنِي غُلَامه، وَإِنَّمَا وَجب أَن يبْنى على الضَّم، لِأَن الْهَاء حرف خَفِي، وَقد بَينا أَن الْمُضمر يجب أَن يبْنى على حَرَكَة، فَاخْتَارُوا الضَّم، لِأَنَّهُ أقوى الحركات، فَصَارَ تَقْوِيَة للهاء وبيانا لَهَا، وَكَذَلِكَ أتبعوا الْهَاء واوا على طَرِيق التبين لَهَا، وَلَيْسَت الْوَاو من بِنَاء الِاسْم، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّهَا تسْقط فِي الْوَقْف، كَقَوْلِك: رَأَيْته، وَلَو كَانَت من الأَصْل لم تسْقط.
وَاعْلَم أَن الِاخْتِيَار - إِذا وصلت الضَّمِير - أَن تلْحقهُ الْوَاو، إِذا تحرّك مَا قبله، وَيجوز حذف هَذِه الْوَاو فِي الشّعْر، لِأَن الضمة تسْقط فِي الْوَقْف،

(1/419)


قَالَ الشَّاعِر فِي حذف الْوَاو:
(وَمَا لَهُ من مجد تليد وَمَا لَهُ ... من الرّيح حَظّ لَا الْجنُوب وَلَا الصِّبَا)

فَإِن انْكَسَرَ مَا قبل الْوَاو، وَكَانَ مَا قبلهَا ياءا كسرتها، وانقلبت الْوَاو يَاء للكسرة، وَالِاخْتِيَار إِثْبَات (60 / أ) الْيَاء، إِذا تحرّك مَا قبل الْهَاء. وَيجوز حذف الْيَاء والاجتزاء بالكسرة، كَمَا جَازَ حذف الْوَاو، وَيجوز الضَّم على الأَصْل لِأَن الْهَاء إِذا كَانَ قبلهَا حرف مد، فالاختيار أَلا تلحقها وَاو، كَقَوْلِه تَعَالَى: {خذوه فغلوه} ، و {فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ} ، و {عَلَيْهِ مَا حمل} ، وَإِنَّمَا حذفوا الْوَاو، لِأَن قبل الْمُضمر حرف مد، وَالْهَاء تشبه بِحرف الْمَدّ، لِأَنَّهَا خَفِيفَة، فاجتمعت ثَلَاثَة أحرف متجانسة وَلَيْسَ بَين الساكنين حرف حُصَيْن، فَصَارَ كاجتماع ساكنين، وَلذَلِك اخْتَارُوا حذف الْوَاو، وَيجوز إِثْبَاتهَا على الأَصْل.
وَأما الْمُؤَنَّث: فأثبتوا الْألف بعد الْهَاء، نَحْو: ضربتها، وأكرمتها، وَإِنَّمَا ألْحقُوا الْألف للفصل بَين ضمير الْمُذكر وَضمير الْمُؤَنَّث، وَكَانَت الْألف أولى بالمؤنث، لِأَنَّهَا أخف الْحُرُوف، والمؤنث أثقل من الْمُذكر، لِأَن التَّنْوِين يُبدل مِنْهُ ألف فِي الْوَقْف، فَيجب أَلا يخْتَلف، وَلِأَن الزَّوَائِد الَّتِي لحقت الْهَاء يجب إِسْقَاطهَا، لمجيء عَلامَة التَّثْنِيَة، إِذْ الْهَاء تقوى بِمَا زيد عَلَيْهَا للتثنية، فَلم تحتج إِلَى الزِّيَادَة الَّتِي

(1/420)


فِي الْوَاحِد، فَإِذا وَجب إِسْقَاطهَا، رجعت الْهَاء إِلَى الأَصْل، واستوى لفظ الْمُؤَنَّث والمذكر، فَإِذا جمعت فَالْأَصْل أَن تلْحق وَاو بعد الْمِيم، كَمَا ذكرنَا فِيمَا تقدم، وَالْأَحْسَن حذفهَا، كَقَوْلِك: ضربتهم، وَالْأَصْل: ضربتهمو، فحذفت الْوَاو كَمَا ذكرنَا.
وَأما الْمُؤَنَّث: فدليله نون مُشَدّدَة، نَحْو: ضربتهن، وَإِنَّمَا شددت النُّون لِأَنَّك لما زِدْت للمذكر حرفين، وهما الْمِيم وَالْوَاو، اخْتَارُوا أَيْضا أَن يُزَاد للمؤنث حرفان، لاشْتِرَاكهمَا فِي الْجمع، وَلَا يجوز تَخْفيف النُّون لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: زَوَال المعادلة بَين الْمُذكر والمؤنث، فِيمَا ذَكرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: أَن الاستثقال الَّذِي كَانَ فِي الْوَاو، وَالْخُرُوج عَن نَظِير الْأَسْمَاء لَيْسَ بموجود فِي النُّون، فَلذَلِك لم يُخَفف.
فَأَما الْكَاف الَّتِي للمخاطب فتفتح للمذكر، وتكسر للمؤنث، وَإِنَّمَا اختير الْكسر للمؤنث، لِأَن الْيَاء قد ثبتَتْ فِي بعض الْمَوَاضِع فِيهَا علم التَّأْنِيث، نَحْو: أَنْت تضربين، وَالْكَسْر من الْيَاء، فَلذَلِك اختير للمؤنث، وَلم يكن للضم مدْخل هَاهُنَا لِأَن الْفَتْح يُغني عَنهُ، وَهُوَ أخف مِنْهُ فِي ذَلِك، سقط حكمه هَاهُنَا، فَإِذا ثنيت ضممت الْكَاف، وَالْعلَّة فِي ضمهَا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع كالعلة فِي التَّاء فِي (أنتن، وأنتما) وَحكم الْمُؤَنَّث فِي تَشْدِيد النُّون كحكمه فِي (أَنْتُمَا) لعِلَّة وَاحِدَة. وَاعْلَم أَن الْفَصْل إِنَّمَا دخل فِي الْكَلَام، ليبين أَن مَا بعْدهَا خبر، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت: زيد هُوَ الْعَاقِل، علم بِهَذَا الضَّمِير أَن مَا بعده خبر وَلَيْسَ بنعت، فَلَمَّا كَانَت عِلّة،

(1/421)


لم يجز أَن يَقع إِلَّا بَين كلامين، أَحدهمَا مُحْتَاج إِلَى الآخر، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَا قبله تَاما، لم يحْتَج إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ إِنَّمَا دخل لينبئ عَن تَمام مَا بعده، وَإِنَّمَا جعل ضمير الْمَرْفُوع مُخْتَصًّا بِهَذَا الْمَعْنى الأول، إِذْ كَانَ الرّفْع أول أَحْوَال الِاسْم، فَلَمَّا كَانَ سَابِقًا للضمير الْمَنْصُوب - وَهُوَ مَعَ ذَلِك أخف فِي اللَّفْظ مِنْهُ - كَانَ أقوى فِي الاتساع وَالتَّصَرُّف (60 / ب) من ضمير الْمَنْصُوب.
وَإِنَّمَا وَجب أَن يَقع الْفَصْل فِي كل مَوضِع لَا يخل سُقُوطه بِمَعْنى الْكَلَام، لِأَنَّهُ لَو أخل، لم يكن فصلا، وَكَانَ دَاخِلا لمعناه ولافتقار الْكَلَام إِلَيْهِ، فَلذَلِك وَجب أَن يَجْعَل فصلا فِي كل مَوضِع لَا يخل سُقُوطه بالْكلَام، فَلَمَّا كَانَ الْفَصْل يَقع بالضمير، وَالضَّمِير معرفَة، لم يجز أَن يَقع إِلَّا بَين معرفتين، أَو مَا قاربهما، إِذْ كَانَ قد دخل ليبين مَا قبله وَمَا بعده، فَوَجَبَ أَن يكون مَا قبله وَمَا بعده مجانسا لَهُ، فَلذَلِك لم يجز أَن يكون مَا قبله وَمَا بعده نكرَة مَحْضَة وَلَا أَحدهمَا.

(1/422)


(40 - بَاب أَي)

اعْلَم أَن (أيا) موضوعها أَن تكون جُزْءا مِمَّا تُضَاف إِلَيْهِ، وَهُوَ على كل حَال مِمَّا يتَجَزَّأ، كَقَوْلِك: أَي الرِّجَال عنْدك؟ فَهِيَ فِي هَذِه الْحَال من الرِّجَال جُزْء، وَإِذا قلت: أَي الثِّيَاب عنْدك؟ فَهِيَ فِي هَذِه الْحَال من الثِّيَاب، وعَلى هَذَا يجْرِي حكمهَا فِي جَمِيع مَا يتَجَزَّأ، وَقد بَينا أَن الِاسْتِفْهَام لَا يعْمل فِيهِ مَا قبله، وَإِنَّمَا لم يحْتَج فِي الِاسْتِفْهَام إِلَى صلَة توضح الْمَوْصُول، والمستفهم لَا يعلم مَا يستفهم عَنهُ، فَلذَلِك لم يجز أَن توصل فِي الِاسْتِفْهَام.
وَكَذَلِكَ الشَّرْط وَالْجَزَاء لَا يجوز أَن يكون مَعْلُوما، لِأَنَّهُ مِمَّا يجوز أَن يكون، وَيجوز أَلا يكون، فَلم يحْتَج أَيْضا فِي الْجَزَاء إِلَى صلَة.
وَاعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يَلِي (أيا) إِذا كَانَت استفهاما من الْأَفْعَال، إِلَّا أَفعَال الْقُلُوب، لِأَنَّك تحْتَاج أَن تلغيها، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يعْمل فِي الِاسْتِفْهَام مَا قبله، وخصت أَفعَال الْقُلُوب بذلك، لِأَنَّهَا قد تلغى فِي الْخَبَر إِذا توسطت بَين المفعولين. وَيكون مَعْنَاهَا بَاقِيا، فَلذَلِك جَازَ أَن تدخل على الِاسْتِفْهَام، وَلَا تعْمل فِيهِ، وَيكون مَعْنَاهَا بَاقِيا.
وَأما الْأَفْعَال المؤثرة فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن تدخل على الِاسْتِفْهَام، لِأَنَّك إِن أدخلتها على الِاسْتِفْهَام، وَجب أَن تعملها، وَلَا يجوز أَن تعْمل مَا قبل الِاسْتِفْهَام فِيهِ، فَلَا يجوز لذَلِك دُخُولهَا عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ من شَرط الْعَامِل أَن يكون قبل الْمَعْمُول فِيهِ، إِذا قلت:

(1/423)


أَيهمْ تضرب؟ فَنصبت (أيا) ب (تضرب) ، وَتَقْدِير: أَيهمْ تضرب؟ أَن تكون (تضرب) قبل (أَي) فقد جَازَ أَن يعْمل مَا قبل الِاسْتِفْهَام فِيهِ وتعمل فِيهِ الْأَفْعَال المؤثرة؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (أيا) نائبة عَن شَيْئَيْنِ: أَولهمَا: الِاسْم، وَالثَّانِي: حرف الِاسْتِفْهَام، فَإِذا قلت: أَيهمْ تضرب؟ فالتقدير: أزيدا تضرب؟ فَصَارَ الْفِعْل حكمه بعد الِاسْتِفْهَام، فَلم يجز تَقْدِيمه - لما ذكرنَا - على (أَي) .
وَاعْلَم أَن (أيا) إِذا كَانَت بِمَعْنى (الَّذِي) ، فَصلتهَا تجْرِي مجْرى (الَّذِي) ، إِلَّا أَن بعض الْعَرَب قد اسْتعْمل حذف المبتدإ مَعَ (أَي) ، أَكثر من استعمالهم حذفه مَعَ (الَّذِي) ، كَقَوْلِك: لَأَضرِبَن أَيهمْ قَائِم، وَالْأَصْل: لَأَضرِبَن أَيهمْ هُوَ قَائِم، فَإِذا حذفوا الْمُبْتَدَأ، ألزموا (أيا) الضَّم، فَعِنْدَ سِيبَوَيْهٍ أَن الضَّم فِي (أَي) ضم بِنَاء، وَأَنَّهَا تجْرِي فِي هَذَا الْموضع مجْرى (قبل وَبعد) .
وَأما الْخَلِيل فَيَقُول: (أَي) مَرْفُوعَة، وَإِنَّمَا رفعت فِي هَذَا الْموضع على الْحِكَايَة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَأَضرِبَن الَّذِي يُقَال لَهُم أَيهمْ قَائِم، فالضرب وَاقع على (الَّذِي) (61 / أ) دون (أَي) .
وَأما يُونُس فَيَقُول: ألغوا الْفِعْل كَمَا ألفوا أَفعَال الْقُلُوب.
والأقوى عِنْدِي من هَذِه الْأَقْوَال قَول سِيبَوَيْهٍ.

(1/424)


وَإِنَّمَا وَجب بِنَاء (أَي) فِي هَذِه الْحَال لمخالفتها أخواتها فَلَمَّا خرجت عَن حكم نظائرها نقصت رُتْبَة، فألزمت الْبناء للنقص الَّذِي دَخلهَا من حذف المبتدإ.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد وجدنَا الْمُفْرد إِذا بني فِي حَال إِفْرَاده أعرب فِي حَال إِضَافَته، و (أَي) إِذا حذفت الْمُضَاف مِنْهَا أعربتها، كَقَوْلِك: لَأَضرِبَن أيا أَبوهُ قَائِم، وَهَذَا قلب حكم المبنيات؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْإِضَافَة إِنَّمَا ترد الْمَبْنِيّ فِي حَال الْإِفْرَاد إِلَى الْإِعْرَاب، وَإِذا اسْتحق الْبناء، لم يجز أَن يكون للإضافة تَأْثِير فِي حَال الْإِعْرَاب، وَنَظِير ذَلِك (لدن) هِيَ مَبْنِيَّة فِي حَال الْإِضَافَة، لِأَنَّهَا اسْتحقَّت ذَلِك فِي هَذِه الْحَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {من لدن حَكِيم عليم} وَكَذَلِكَ حكم (أَي) خصت بِالْبِنَاءِ على الضَّم، لِأَنَّهُ أقوى الحركات، فَتَصِير قوته كالعوض من الْمَحْذُوف، وَبَعض الْعَرَب يعربها على الأَصْل، لِأَن الْمَحْذُوف مُرَاد فِي النِّيَّة، فَكَأَنَّهُ مَوْجُود.
فَأَما قَول يُونُس فضعيف جدا، لما ذَكرْنَاهُ من ضعف إِلْغَاء الْأَفْعَال المؤثرة وَأما قَول الْخَلِيل فبعيد أَيْضا، قدر الْحَرَكَة، وَلَيْسَ الْكَلَام بمنقاد إِلَيْهَا، وَإِذا سَاغَ حمل الْكَلَام على ظَاهره، كَانَ أولى من عدوله إِلَى خلاف ظَاهره من غير ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى ذَلِك.

(1/425)


(41 - بَاب من)

اعْلَم أَن (من) مَبْنِيَّة، لِأَنَّهَا فِي الِاسْتِفْهَام نائبة عَن حرف الِاسْتِفْهَام، وَفِي الشَّرْط نائبة عَن حرف الشَّرْط، وَفِي الْخَبَر بِمَنْزِلَة (الَّذِي) فقد صَارَت كبعض اسْم، فَوَجَبَ بناؤها فِي جَمِيع الْمَوَاضِع، وخصت بِالسُّكُونِ لِأَنَّهَا لم تقع متمكنة، وَهِي تقع على من يعقل، كَقَوْلِك: من فِي الدَّار؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك أَن يُقَال: زيد أَو عَمْرو، وَلَا يُقَال: حمَار وَلَا ثوب. وَحكمهَا فِيمَا يعْمل فِيهَا، وَيمْنَع من الْعَمَل فِيهَا، كَحكم _ (أَي) ، فَإِذا قَالَ الرجل: رَأَيْت رجلا، فَقلت: منا، فِي الْجَواب، وَإِنَّمَا ألحقت (من) ألفا، لتبين أَنَّك تسْأَل عَن الرجل الْمَذْكُور، إِذْ كَانَ مَنْصُوبًا، وَكَذَلِكَ تزيد واوا فِي الرّفْع، وياء فِي الْجَرّ، وَإِنَّمَا زادوا هَذِه الْحُرُوف بدل الْإِعْرَاب، أَنهم يطْلبُونَ هَذِه العلامات فِي الدرج، فَلَو أعربوا (من) ، لسقط إعرابها فِي الْوَقْف، إِذْ كَانَ الْإِعْرَاب لَا يُوقف عَلَيْهِ، فعوضوا مِنْهُ هَذِه الْحُرُوف، إِذْ كَانَت تقع دلَالَة على الْإِعْرَاب فِي نَحْو قَوْلك: أَخُوك، وأخاك، وأخيك.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جعلُوا الْعَلامَة فِي لفظ (من) ، وَلم يَأْتُوا بِلَفْظ الرجل مَنْصُوبًا، فيقولوا: من رجلا؟ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِك فِي المعارف الْأَعْلَام؟ .
فَالْجَوَاب عَن ذَلِك: أَن النكرَة لَا تدل على شخص بِعَيْنِه، وتكررها يدل على أشخاص مُخْتَلفَة لما ذَكرْنَاهُ أَنَّهَا غير دَالَّة على شخص بِعَيْنِه، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: رَأَيْت رجلا، وَجَاءَنِي رجل، لَكَانَ الظَّاهِر أَن يكون الَّذِي جَاءَك غير الَّذِي رَأَيْته، فَلَو قَالُوا: من رجلا؟ لجَاز أَن يتَوَهَّم أَن المسؤول عَنهُ (رجلا) غير الْمَذْكُور،

(1/426)


فَلذَلِك لم يَأْتُوا بِلَفْظ النكرَة، (61 / ب) وَجعلُوا الْعَلامَة فِي (من) .
فَأَما المعارف والأعلام فَجَاز حكايتها، لِأَن الِاسْم الْعلم يدل على شخص بِعَيْنِه وَلَو كرر، فَلذَلِك جَازَ حكايتها.
وَاعْلَم أَن هَذِه العلامات إِذا لحقت (من) فِي حَال الْإِفْرَاد والتثنية وَالْجمع والتأنيث فَإِنَّمَا تثبت فِي الْوَقْف، فَإِذا وصلت سَقَطت، وَذَلِكَ أَنهم جعلُوا مَا اتَّصل بالْكلَام عوضا من هَذِه الزِّيَادَة، لِأَن هَذِه العلامات جعلت بدل الْإِعْرَاب فِي الِاسْتِفْهَام، وَمَا كَانَ من الْإِعْرَاب إِنَّمَا يثبت فِي الْوَصْل دون الْوَقْف، وَكَانَت هَذِه العلامات قد أُقِيمَت مقَام الْإِعْرَاب، فَوَجَبَ أَن تثبت فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَلِكَ وَجب إِثْبَاتهَا فِي الْوَقْف، إِذْ كَانَ فِي الْوَصْل قد وَقع مِنْهَا عوض، وَأما إِذا قلت فِي الْمُؤَنَّث: (مِنْهُ) ، فحركت النُّون، وَلم تحركها فِي التَّثْنِيَة، إِذا قلت: منتين، لِأَن هَاء التَّأْنِيث لَا يكون مَا قبلهَا إِلَّا مَفْتُوحًا، فَلذَلِك حركت النُّون فِي قَوْلك: منَّة، وَإِنَّمَا سكنتها فِي (منتين) ، لِأَن عَلامَة التَّأْنِيث قد صَارَت فِي وسط الْكَلِمَة، فَجَاز أَن يتَوَهَّم فِيهَا غير التَّأْنِيث، وَتجْعَل بِمَنْزِلَة (أُخْت) ، وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى ذَلِك تَحْرِيك نون (من) ، وَقد وجدنَا مساعداً إِلَى تسكينها، إِذْ كَانَت مَبْنِيَّة، وَلَا يجوز أَن تحرّك نون التَّثْنِيَة وَالْجمع وتاء الْمُؤَنَّث فِي قَوْلك: شَاءَت، لِأَن تحريكها إِنَّمَا يجب فِي الدرج، إِذا أدرجت، فَلَمَّا ثَبت لما ذَكرْنَاهُ أَنه لَا يجوز تَحْرِيك العلامات فِي الْوَصْل، وَكَانَت الحركات لَا يُوقف عَلَيْهَا، وَجب إسكانها على مَا ذَكرْنَاهُ.

(1/427)


وَأما (أَي) إِذا استفهمت بهَا عَن نكرَة، فَإنَّك تعربها، لِأَنَّهَا متمكنة يدخلهَا الْإِعْرَاب، فَوَجَبَ أَن يلْحقهَا الْإِعْرَاب عَلامَة للحكاية، إِذْ كَانَت متمكنة، فَتَقول، إِذا قَالَ الرجل رَأَيْت رجلا: أيا يَا هَذَا؟ وأيين؟ فِي التَّثْنِيَة، وأيين؟ فِي الْجمع، وَكَذَلِكَ: أَيَّانَ وأيون فِي الرّفْع.
وَاعْلَم أَن بعض الْعَرَب يصل وَيبقى الْعَلامَة، وَذَلِكَ قَلِيل، من ذَلِك قَول الشَّاعِر:
(أَتَوا نَارِي فَقلت: منون أَنْتُم؟ ... فَقَالُوا الْجِنّ، قلت: عموا ظلاما)

وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك على التَّشْبِيه ب (أَي) ، لاشْتِرَاكهمَا فِي الِاسْتِفْهَام وَالْجَزَاء وَالْخَبَر.
وَبَعض الْعَرَب يوحد (من) فِي جَمِيع الْجِهَات، فَيَأْتِي بِالْوَاو وَالْألف وَالْيَاء، فَيَقُول: منا، للْوَاحِد الْمَنْصُوب والمثنى وَالْمَجْمُوع، وَكَذَلِكَ: منو ومني، فِي الرّفْع والجر، وَإِن ثنى وَجمع، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن (من) فِيهَا معنى الْعُمُوم، فَلَمَّا كَانَت تقع على الْجَمَاعَة ولفظها وَاحِد، جَازَ أَيْضا أَن تقع هَا هُنَا هَذَا الْموقع.
وَأما المعارف الْأَعْلَام فقد بَينا جَوَاز الْحِكَايَة فِيهَا، وَبَعض الْعَرَب لَا يَحْكِي اكْتِفَاء بِوُقُوع السُّؤَال عقب الْكَلَام للمخاطب، وَمن يَحْكِي فغرضه الْبَيَان عَن الْمخبر

(1/428)


عَنهُ بِعَيْنِه، لِئَلَّا يتَوَهَّم سواهُ، فَأَما إِذا عطفت بِالْفَاءِ وَالْوَاو، فَقلت: وَمن زيد؟ أَو: فَمن زيد؟ فكلهم يبطل الْحِكَايَة، لِأَن حُرُوف الْعَطف لَا يبتدأ بهَا، وفيهَا دَلِيل على أَن هَذَا السُّؤَال مَعْطُوف بِهِ على كَلَام الْمُخَاطب، فاستغنوا عَن الْحِكَايَة. وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: رَأَيْت زيدا، فَقلت: من زيدا؟ ف (من) فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَزيد: مَوْضِعه أَيْضا رفع، لِأَنَّهُ خبر (62 / أ) الِابْتِدَاء، وَإِنَّمَا نصبته بالحكاية.
فَأَما مَا لم يكن اسْما علما: فَأكْثر الْعَرَب لَا تحكيه، وَإِن كَانَ معرفَة، لِأَنَّهُ لم يكثر الْكَلَام بِهِ كَثْرَة الْأَسْمَاء الْأَعْلَام، فَجَاز فِي الْأَسْمَاء الْأَعْلَام الْحِكَايَة، وَتعْتَبر مَا تستحقه من الْإِعْرَاب، لكثرتها فِي كَلَامهم، فَأَما مَا سواهُ فَلم يكثر، فَبَقيَ على الأَصْل، لِأَن مَا بعد (من) يجب أَن يكون مَرْفُوعا على خبر (من) ، وَبَعض الْعَرَب يَحْكِي مَا لم يكن سَمَاعا، حملا على الْأَسْمَاء والأعلام، وَاعْلَم أَنَّك إِذا عطفت، فَقلت: رَأَيْت زيدا وعمراً، أَو نعت الِاسْم، فَقلت: رَأَيْت زيدا الظريف، لم يجز فِي الْكَلَام الْحِكَايَة، لِأَن طول الْكَلَام قد دلّ على أَن المسؤول عَنهُ هُوَ الَّذِي يقوم بِنَفس الْخَبَر، يبعد الْوُقُوع سُؤال آخر عَن غير الْمَذْكُور، فَأَما الِاسْم الْعلم إِذا نَعته ب (ابْن) وأضفت إِلَى الِاسْم أَبَا الأول، أَو كنيته نَحْو: رَأَيْت زيد بن عَمْرو، فالحكاية جَائِزَة فِيهِ، لِأَنَّهُ قد صَار مَعَ (ابْن) كالشيء الْوَاحِد فَفَارَقَ سَائِر النعوت، لِأَنَّهَا لم تكْثر فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ الْمَوْصُوف بهَا، ككثرة (ابْن) إِذا كَانَ مُضَافا إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.

(1/429)


42 - بَاب الْجَواب بِالْفَاءِ

اعْلَم أَن الْفَاء أَصْلهَا الْعَطف، وحروف الْعَطف لَا يجوز أَن تعْمل، لِأَنَّهَا من الْحُرُوف الَّتِي يَليهَا الِاسْم مرّة، وَالْفِعْل مرّة، وَقد بَينا أَن من الْحُرُوف مَا كَانَ على هَذَا السَّبِيل لم يعْمل شَيْئا، فَإِذا كَانَ الْأَمر على مَا ذَكرْنَاهُ، وَوجدنَا الْعَرَب تنصب الْفِعْل بعد الْفَاء فِي جَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ، علمنَا أَن النصب إِنَّمَا وَجب بغَيْرهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بإضمار (أَن) ، وَوجه تَقْدِير (أَن) بعد الْفَاء أَن تقدر مَا قبلهَا تَقْدِير الْمصدر الْمُقدم قبلهَا، كَقَوْلِك: مَا تَأتِينِي فتحدثني، وَالتَّقْدِير: مَا يكون مِنْك إتْيَان فَحَدِيث، وَإِنَّمَا وَجب أَن تقدر مَا قبل الْفَاء بِتَقْدِير الْمصدر، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَن يكون مَا قبلهَا فعلا وفاعلاً، أَو مُبْتَدأ وخبراً، وَالْفِعْل يدل على الْمصدر، وَالْجُمْلَة أَيْضا يجوز أَن تجْعَل فِي تَقْدِير فعل وفاعل، كَقَوْلِك: لَيْت زيدا عندنَا فنكرمه، أَي: لَيْت كونا من زيد فإكراماً. وعَلى هَذَا يجْرِي جَمِيع مَا يَقع قبل الْفَاء، إِذا نصبت مَا بعْدهَا، وَإِنَّمَا كَانَت (أَن) بالإضمار أولى، لِأَن الأَصْل فِي حُرُوف النصب أَن يَليهَا الْمَاضِي والمضارع، فلقوتها كَانَت أولى بالإضمار من أخواتها، وَجَاز أَن تضمر، وتعملها وَإِن كَانَت حرفا، لِأَن الْفَاء قد صَارَت عوضا مِنْهَا، وَلم يجز إظهارها، لِأَن مَا قبلهَا فِي تَقْدِير الْمصدر من غير إِظْهَار اللَّفْظ، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مصدرا غير مظهر، اخْتَارُوا أَن تكون (أَن) مضمرة بعد الْفَاء، ليشاكل مَا قبلهَا.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: مَا تَأتِينِي فتحدثني، فلك فِيهِ وَجْهَان: النصب

(1/430)


وَالرَّفْع، فالنصب على مَا قدرناه، وَمعنى الْكَلَام إِذا نصبت على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون مَعْنَاهُ: مَا تَأتِينِي فَكيف تُحَدِّثنِي؟ أَي: الَّذِي يمْنَع من الحَدِيث ترك الْإِتْيَان، وَإِنَّمَا دخل هَذَانِ المعنيان فِي معنى حكم الْمَنْصُوب، لِأَن الْفَاء قد بَينا أَنَّهَا للْعَطْف، وَيجب أَن يكون الثَّانِي بعد الأول، فَلَمَّا كَانَ (62 / ب) معنى قَوْلك: مَا يكون مِنْك إتْيَان فَحَدِيث، مُنْقَطِعًا من الأول، مُتَّصِلا من أصل اللَّفْظ، جَازَ أَن يَنْفِي الْإِتْيَان، وَيتَعَلَّق الحَدِيث بِهِ، وينتفي مَعَه، لدُخُول معنى الِاتِّصَال فِي الْفَاء.
وَأما الرّفْع فعلى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون الْفِعْل مَعْطُوفًا على مَا قبله، وَيكون النَّفْي قد تنَاول الْإِتْيَان على حِدة، والْحَدِيث على حِدة، أَي: مَا تَأتِينِي، وَمَا تُحَدِّثنِي.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون الْإِتْيَان منفياً، وَيكون مَا بعد الْفَاء مُبْتَدأ وخبراً على طَرِيق الِاسْتِئْنَاف، كَأَنَّك قلت: مَا تَأْتِينَا فَأَنت تحدثنا، فَيكون الحَدِيث كَائِنا، والإتيان منفياً، وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون} ، وَقَوله: {لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا} ، فَإِنَّمَا رفع (يَعْتَذِرُونَ) بالْعَطْف على (يُؤذن) ، أَي: لَيْسَ يُؤذن لَهُم، وَلَا يَعْتَذِرُونَ وَقد قرئَ بِالنّصب على تَقْدِير: لَا يكون إِذن فعذر، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَو أذن لَهُم اعتذروا، وَلَكِن سَبَب الْعذر ارْتِفَاع الْإِذْن، فَفِي نصب الثَّانِي يجب الأول، وَفِي الرّفْع لَيْسَ لأَحَدهمَا تعلق بِالْآخرِ.

(1/431)


وَأما قَوْله تَعَالَى: {لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا} ، فَإِنَّمَا جَاءَ مَنْصُوبًا، لِأَن الْمَوْت لَيْسَ بفعلهم، وَلَا يَقع مُبْتَدأ مِنْهُ، كَمَا يَصح وُقُوع الِاعْتِذَار مِنْهُ من المعتذر، فَصَارَ الْقَضَاء سَببا للْمَوْت، فَلذَلِك وَجب النصب، وَلَا يحسن رَفعه لِأَنَّهُ. وَجب أَن يكون الْمَوْت وَقع مُبْتَدأ الحكم فِيهِ من الميتين، وَيجوز الرّفْع فِيهِ بالْعَطْف على (يقْضى) ، ويستدل بِالْمَعْنَى، إِذا كَانَ قد ينْسب فعل الْمَوْت إِلَى الْإِنْسَان، وَأَن الله تَعَالَى هُوَ الْفَاعِل، فَيصير التَّقْدِير: لَا يقْضى عَلَيْهِم وَلَا يموتون، لِأَن الله عز وَجل لَا يُرِيد مَوْتهمْ.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ} ، فَوجه الرّفْع فِيهِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون خبر ابْتِدَاء مَحْذُوف، فَهُوَ يضاعفه، وَيكون مَعْنَاهُ: وَإِن مُبْتَدأ أَنه يضاعفه إِذا أقْرض.
وَأما وَجه النصب: فتقديره: من يكون مِنْهُ قرض فيضاعف لَهُ، فَيكون سَبَب المضاعفة هُوَ الْقَرْض من جِهَة اللَّفْظ، وَفِي الرّفْع يكون من جِهَة الْمَعْنى، إِذا حَملته على الِابْتِدَاء، وَإِن حَملته على الْعَطف أردْت معنى النصب، وَأما قَول الشَّاعِر:

(1/432)


(فَلَا زَالَ قبر بَين بصرى وجاسم ... عَلَيْهِ من الوسمي جود ووابل)

(فينبت حوذانا وعوفاً منوراً ... سأتبعه من خير مَا قَالَ قَائِل)

فَإِنَّمَا اختير الرّفْع فِي (ينْبت) ، وَإِن كَانَ النصب جَائِزا، لِأَن النصب اخْتِيَار عَن حُصُول الإنبات، وَفِي النصب يصير دُعَاء وسبباً للإنبات، فَلَمَّا كَانَ الرّفْع أبلغ لثبات النَّبَات بالضمير اختير الرّفْع، وَالنّصب جَائِز.
وَاعْلَم أَن الْجَواب بِالْوَاو يُوجب (أَن) ، لِأَن الْوَاو للْعَطْف، وَقد بَينا أَن حُرُوف الْعَطف لَا تعْمل شَيْئا، وَإِذا وجدنَا الْفِعْل مَنْصُوبًا بعْدهَا، وَجب أَن يكون مَنْصُوبًا بغَيْرهَا، وَهُوَ (أَن) ، كَمَا قُلْنَا فِي الْفَاء، وَأَنَّك تقدر مَا قبلهَا تَقْدِير الْمصدر، كَقَوْلِك: (لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن) ، أَي: لَا يكن مِنْك أكل وَشرب، وَمَعْنَاهُ: لَا يجمع بَينهمَا، لِأَن الْوَاو مَعْنَاهَا الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ، فعلى هَذَا يجْرِي حكمهَا، (63 / أ) وَأما قَول طفيل الغنوي:
(وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي ... ويغضب مِنْهُ صَاحِبي بقؤول)

(1/433)


فَعِنْدَ سِيبَوَيْهٍ: أَن الِاخْتِيَار نصب (يغْضب) ، وَالرَّفْع جَائِز.
وَعند أبي الْعَبَّاس الْمبرد: أَن الرّفْع هُوَ الْمُخْتَار، وَالنّصب جَائِز.
فحجة سِيبَوَيْهٍ أَن الْوَاو مُتَعَلقَة بِالنَّفْيِ الَّذِي فِي صدر الْكَلَام، وَالتَّقْدِير: مَا أَنا بقؤول للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي، وَاللَّام الَّتِي فِي قَوْله: (للشَّيْء) فِي مَوضِع نصب ب (قؤول) ، فَلَمَّا كَانَ اسْتِقْرَار الْكَلَام على هَذَا الْمَعْنى، صَار تَقْدِيره أَنه مِمَّا يَقع من الشَّيْء الَّذِي هَذِه حَاله.
وَأما الرّفْع: فبالعطف على (نافعي) .
وَإِنَّمَا ضعف النصب عِنْد أبي الْعَبَّاس، لِأَن الْغَضَب لَيْسَ مِمَّا يُقَال، وَأَن مَا يُقَال الشَّيْء الَّذِي يَقع مِنْهُ الْغَضَب.
وَأما الرّفْع فَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، فَلذَلِك اخْتَار أَبُو الْعَبَّاس الرّفْع، وَعدل عَن النصب.

(1/434)


43 - بَاب المجازاة

اعْلَم أَن أصل حُرُوف المجازاة (إِن) ، وَإِنَّمَا وَجب أَن تكون الأَصْل، لِأَنَّهَا لَا تخرج عَن الْجَزَاء، وَلَا تخْتَص بِالِاسْتِعْمَالِ فِي بعض الاشياء دون بعض، وَسَائِر مَا يجازى بِهِ سواهَا قد يخرج من بَاب الْجَزَاء إِلَى غَيره.
وَمن الْجَزَاء: (من، وَمَا، واي، وَمَتى، وَأَيْنَ، وأنى) وكل هَذِه تسْتَعْمل استفهاماً، وَتخرج من بَاب الْجَزَاء.
وَأما (مهما) : فَفِيهَا وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن يكون الأَصْل فِيهَا (مَا) ، فزيدت عَلَيْهَا (مَا) ، كَمَا تزاد على (إِن) ، فَصَارَ اللَّفْظ (ماما) ، فأبدلوا من الْألف الأولى (هَاء) ، لِأَنَّهَا من مخرجها، كَرَاهَة لتكرار اللَّفْظ، فَصَارَ اللَّفْظ (مهما) ، وَقد بَينا أَن (مَا) تسْتَعْمل فِي غير المجازاة.
وَالثَّانِي: أَن يكون الأَصْل فِيهَا (مَه) ، مثل (صه) بِمَعْنى: اسْكُتْ، ثمَّ زيد عَلَيْهَا (مَا) ، وَهَذِه أَيْضا لَا تخْتَص بالجزاء.
وَإِنَّمَا سَاغَ دُخُولهَا فِي الْجَزَاء، لِأَن الْجَزَاء قد يُجَاب بِجَوَاب الشَّرْط وَهُوَ غير وَاجِب، فَجَاز أَن يسْتَعْمل بعد أَلْفَاظه.

(1/435)


فَأَما (حَيْثُ) : فظرف من الْمَكَان، وَلَا تسْتَعْمل فِي بَاب الْجَزَاء إِلَّا بِزِيَادَة (مَا) عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ (إِذْ) : هِيَ ظرف من الزَّمَان، وَلَا تسْتَعْمل فِي الْجَزَاء إِلَّا بِدُخُول (مَا) عَلَيْهَا.
فقد بَان بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن جَمِيع مَا يسْتَعْمل فِي بَاب الْجَزَاء مدْخل فِيهَا، وَغير مُخْتَصّ بِهِ، فَلذَلِك وَجب أَن تكون (إِن) الأَصْل، وَمَا سواهَا مَحْمُول عَلَيْهَا.
وَاعْلَم أَن الْأَسْمَاء كَانَ حَقّهَا أَلا تسْتَعْمل فِي بَاب الْجَزَاء، إِلَّا أَن هَذِه الْمعَانِي حَقّهَا أَن تخْتَص بالحروف، وَتَكون الْأَسْمَاء دَالَّة على المسميات فَقَط، وَإِنَّمَا أدخلوها فِي بَاب الْجَزَاء لفوائد.
وَأما (من) : فَجَاز اسْتِعْمَالهَا فِي الْجَزَاء، لِأَن (من) فِيهَا معنى الْعُمُوم لجَمِيع من يعقل، فَلَو اسْتعْملت (إِن) وَحدهَا وغرضك الْعُمُوم، لم يمكنك أَن تقدر جَمِيع الْأَسْمَاء الَّتِي للأشخاص، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: من يأتني أكْرمه، أَن هَذَا اللَّفْظ انتظم الْجَمِيع، أَعنِي: جَمِيع من يعقل، وَإِذا قلت: إِن يأتني زيد أكْرمه، وعددت أشخاصاً كَثِيرَة على التَّفْصِيل، لم يسْتَغْرق جَمِيع من يعقل (63 / ب) وَإِن

(1/436)


توسع فِي ذكر أَقوام، و (من) تَقْتَضِي الْعُمُوم من غير تَكْرِير، فَلذَلِك اسْتعْملت فِي بَاب الْجَزَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الْفَائِدَة فِي اسْتِعْمَال (أَي) فِي بَاب الْجَزَاء وَهِي لَا تخْتَص لشَيْء، فَهَلا اكْتفي بإضافتها؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنَّهَا اسْتعْملت لِمَعْنى الِاخْتِصَار، وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت: أَي يَأْتِي أكْرمه، نَاب (أَي) عَن قَوْلك: إِن يأتني بعض الْقَوْم أكْرمه، فَلَمَّا كَانَت اخْتِصَار لفظ من (إِن) ، تضمنها معنى الْإِضَافَة، وَلم يكن بُد - أَي: للْقَوْم - من ذكر الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ، اسْتعْملت فِي بَاب الْجَزَاء لما ذَكرْنَاهُ من الِاخْتِصَار.
وَأما (مَتى) فقد اسْتعْملت فِي الْجَزَاء، لاختصاصها بِالزَّمَانِ، وفيهَا معنى الْعُمُوم لجَمِيع الْأَوْقَات، فجرت مجْرى (من) فِي جَمِيع من يعقل، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: مَتى تقم أقِم، جمع هَذَا اللَّفْظ جَمِيع الْأَوْقَات، وَلنْ تحْتَاج أَن تخص وقتا بِعَيْنِه، وَلَا يمكنك أَن تقدر جَمِيع الْأَوْقَات.
وَحكم (أَيْن) فِي الْمَكَان، كَحكم (مَتى) فِي الزَّمَان.
وَأما (أَنى) : فتستعمل بِمَعْنى (كَيفَ) ، وفيهَا معنى الْحَال، وَهِي تَقْتَضِي الْعُمُوم، ويدخلها أَيْضا مَعَ ذَلِك معنى التَّعَجُّب، كَقَوْلِه فِي الِاسْتِفْهَام: {أَنى يكون لي غُلَام} ، كَيفَ يكون لي غُلَام، وفيهَا معنى التَّعَجُّب، فَلَمَّا كَانَت قد تسْتَعْمل فِي الِاسْتِفْهَام على مَا ذَكرْنَاهُ، كَانَ الِاسْتِفْهَام يضارع الْجَزَاء، اسْتعْملت فِيهِ أَيْضا.

(1/437)


وَأما (حَيْثُ) : فَهِيَ مُبْهمَة فِي الْمَكَان، واستعملت فِي بَاب الْجَزَاء، لإحاطتها بالأمكنة.
وَأما (إِذْ) : فاستعملت فِي الْجَزَاء بإضمام (مَا) إِلَيْهَا، وَخرجت من حكم الظّرْف، وَإِنَّمَا حكمنَا عَلَيْهَا بالحروف، لِأَن مَعْنَاهَا قد زَالَ، فاستعملت اسْتِعْمَال (إِن) ، أَلا ترى أَنَّهَا تسْتَعْمل فِي المجازاة للمستقبل، كَقَوْلِك: إِذْ مَا تقل أقل، أَي: كَمَا تَقول أَقُول، فَلَمَّا زَالَ عَن حكم الْوَقْت، أجريت مجْرى (إِن) ، فَهَذِهِ فَائِدَة دخلوها، ليكْثر بَاب الْجَزَاء بهَا، وتقوى (إِن) بانضمام حُرُوف إِلَيْهَا، وَلذَلِك أضافوا (إِذْ) وَغَيرهَا، وَإِنَّمَا لَزِمت (إِذْ) مَا، و (حَيْثُ) مَا، فِي بَاب المجازاة، لِأَنَّهُمَا ظرفان يضافان إِلَى الْجمل، فَجعلت (مَا) لَازِمَة لَهما، لتمنعهما من حكم الْإِضَافَة، وتخلصهما من بَاب الْجَزَاء.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي اسْتعْملت فِي بَاب الْجَزَاء، إِنَّمَا يجْزم مَا بعْدهَا بِتَقْدِير (إِن) ، وَلَكِن حذف لفظ (إِن) اختصاراً واستدلالاً بِالْمَعْنَى، لِأَن الأَصْل أَن تعْمل الْأَفْعَال والحروف، فَأَما الْأَسْمَاء فَلَيْسَ أَصْلهَا أَن تعْمل، وَلذَلِك وَجب تَقْدِير (إِن) ، وَالله أعلم.
وَاعْلَم أَن الْجَازِم للشّرط (إِن) ، فَأَما الْجَواب فقد اخْتلف فِيهِ، فَمن

(1/438)


النَّحْوِيين من يَجْعَل الْعَامِل فِيهِ (إِن) أَيْضا، لِأَنَّهُ قد اسْتَقر عَملهَا فِي الشَّرْط، وَالشّرط مفتقر للجواب، فَلَمَّا كَانَت (إِن) عاقدة للجملتين، وَجب أَن تعْمل فيهمَا، وَمن النَّحْوِيين من يَجْعَل الْعَامِل فِي الْجَواب (إِن) وَالشّرط مَعًا، إِذْ كَانَ الْجَواب لَا يَصح مَعْنَاهُ إِلَّا بتقدمهما جَمِيعًا، وَلَيْسَ أَحدهمَا بمنفك من الآخر، فَصَارَ حكمهَا كالنار والحطب فِي بَاب إسخان المَاء بهما، وَهَذَا الْمَذْهَب مَذْهَب أبي الْعَبَّاس.
وَاعْلَم أَن الأَصْل فِي بَاب الشُّرُوط وَالْجَزَاء أَن يَكُونَا مضارعين، كَقَوْلِك: إِن تضرب أضْرب، لِأَن (64 / أ) حَقِيقَة الشَّرْط بالاستقبال، فَوَجَبَ أَن يكون اللَّفْظ على ذَلِك، وَيجوز أَن يقعا ماضيين، لِأَن الْمَاضِي أخف من الْمُضَارع، فاستعملوه لخفته، وأمنوا اللّبْس، إِذْ كَانَت حُرُوف الشَّرْط تدل على الِاسْتِقْبَال، وَيجوز أَن يكون الأول مَاضِيا، وَالْجَوَاب مضارعاً، وَلَيْسَ كحسن الْأَوَّلين، لِأَنَّك خَالَفت بَين الشَّرْط وَالْجَوَاب، وهما متساويان فِي الحكم.
وَأما إِن جعلت الشَّرْط مضارعاً، وَالْجَوَاب مَاضِيا، فَهُوَ قَبِيح، والفصل

(1/439)


بَينهمَا: أَن الشَّرْط إِذا كَانَ مضارعاً، وَقد عملت فِيهِ (إِن) ، فقبيح أَن يَأْتِي لفظ الْجَواب مُخَالفا لما أوجبه الْحَرْف الْعَامِل.
وَأما إِذا كَانَ الأول مَاضِيا، فقد حصل لفظ الأول غير مَعْمُول فِيهِ، وَالْأَصْل أَن يعْمل فِيهِ، فَإِذا جَاءَ الْجَواب مُخَالفا لَهُ فِي اللَّفْظ، فقد جَاءَ مُسْتَعْملا على الأَصْل اسْتِعْمَال الْمُضَارع، فَصَارَ اسْتِعْمَال الأَصْل مقاوماً للْخلاف، فَلذَلِك افْتَرقَا.
وَاعْلَم أَن جَوَاب الشَّرْط قد يَقع مُبْتَدأ وخبراً، إِلَّا أَنه مَتى وَقع على هَذَا الْوَجْه، فَلَا بُد من الْفَاء، كَقَوْلِك: إِن يأتني زيد فَأَنا أكْرمه، فَإِن حذفت الْمُبْتَدَأ بَقِي الْفِعْل مَرْفُوعا، لِأَنَّهُ فِي مَوضِع خبر الْمُبْتَدَأ، كَقَوْلِك: إِن يأتني زيد فَأكْرمه، وَالْمعْنَى: فَأَنا أكْرمه، وَإِنَّمَا وَجب إِدْخَال الْفَاء، لِأَن الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر جملَة تقوم بِنَفسِهَا، وَلَيْسَ ل (إِن) فِيهَا تَأْثِير، لِأَنَّهَا لَيست من عوامل الْأَسْمَاء فَلَو جَازَ أَن يَلِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر الشَّرْط، لم يعلم أَنه مُتَعَلق بِهِ، وَجَاز أَن يعْتَقد انْقِطَاعه مِمَّا قبله، فأدخلوا الْفَاء ليتصل مَا بعْدهَا بِمَا قبلهَا، وَإِنَّمَا كَانَت أولى من سَائِر حُرُوف الْعَطف، لِأَنَّهَا توجب أَن يكون مَا بعْدهَا عقيب مَا قبلهَا، وَلَيْسَ (الْوَاو) كَذَلِك، لِأَنَّهَا توجب الْجمع بَين شَيْئَيْنِ، وَلَا يكون لَفظهَا دلَالَة على أَن الْجَواب يسْتَحق بِوُقُوع الشَّرْط، وَلم يجز اسْتِعْمَال (ثمَّ) ، لِأَنَّهَا للتراخي، فَإِذا اعْتقد الْمَشْرُوط لَهُ تراخي الْجَزَاء عَن وُقُوع فعله، لم يحرص على الْفِعْل، فَلذَلِك لم يجز اسْتِعْمَال (ثمَّ) ، واستعملت الْفَاء لما ذَكرْنَاهُ، وَقد يجوز حذفهَا فِي الشّعْر، قَالَ الشَّاعِر:
(من يفعل الْحَسَنَات الله يشكرها ... وَالشَّر بِالشَّرِّ عِنْد الله مثلان)

أَرَادَ: فَالله يشكرها.

(1/440)


وَاعْلَم أَن جَوَاب الشَّرْط فعلا كَانَ، أَو مُبْتَدأ وخبراً، كَانَ الْغَرَض فِي الْجَواب اسْتغْنَاء الْكَلَام، فاستغنى الْكَلَام بِهِ، إِلَّا أَنه لَا يجوز أَن تعْمل فِيهِ (إِن) ، لِأَنَّهَا حرف، والحروف ضَعِيفَة الْعَمَل، فَلَا يجوز أَن تعْمل فِيمَا قبلهَا، كَقَوْلِك: أكرمك إِن تأتني، وَالْأَحْسَن إِذا قدمت الْجَواب أَن يكون مَا بعد (إِن) فعلا مَاضِيا، ليَكُون مَا بعْدهَا غير مَعْمُول فِيهِ كجوابها، وَيحسن أَن يكون مضارعاً، لِأَن الْجَواب قد تقدم، وَجَاءَت على أَصْلهَا، وَلَيْسَ ذَلِك كتأخير الْجَواب لما ذَكرْنَاهُ من مُخَالفَة الأَصْل.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل لَيْسَ لَهُ من الْأَحْكَام فِي بَاب التَّبْعِيض مَا للأسماء، فَلذَلِك لم يدْخل فِيهِ بدل التَّبْعِيض من الْكل، وَلم يجز أَن يُبدل الْفِعْل من الْفِعْل، إِلَّا أَن يكون فِي مَعْنَاهُ، لِأَن الْبَدَل تَبْيِين، فَلَا يجوز أَن يبين الشَّيْء بِمَا لَا تعلق بَينه وَبَين الْمُبين لَهُ، وَلَا يجوز أَن يُبدل الْفِعْل من الْفِعْل، إِذْ لم يكن فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا على طَرِيق الْغَلَط، (64 / ب) كَمَا يَقع ذَلِك فِي الْأَسْمَاء.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل الْمُضَارع إِنَّمَا يرْتَفع إِذا وَقع موقع الْحَال، لِأَنَّهُ قد وَقع موقع الِاسْم، وَمَعَ ذَلِك فعوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي الْأَفْعَال، وَلذَلِك اسْتحقَّت الرّفْع، وَقد بَينا هَذَا فِيمَا مضى.
وَاعْلَم أَن جَوَاب الْأَمر وَالنَّهْي وَالنَّفْي والاستفهام وَالتَّمَنِّي وَالْعرض، إِنَّمَا الْجَزْم، لِأَن مَا تقدمه يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، أَلا ترى أَن قَوْلك: أَيْن بَيْتك أزرك؟ مَعْنَاهُ: إِن تعلمني بَيْتك أزرك، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: ائْتِنِي أكرمك، وَكَذَلِكَ: لَا تأتني أضربك، مَعْنَاهُ: إِن تأتني أضربك، وليت زيدا عندنَا نكرمه، مَعْنَاهُ: لَو كَانَ زيد عندنَا أكرمناه.

(1/441)


و (لَو) : تضارع (إِن) لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَابا، كَقَوْلِك: لَو تكون عندنَا لأكرمناك، فَصَارَ بِمَنْزِلَة: إِن تكن عندنَا أكرمناك.
وَكَذَلِكَ حكم الْعرض، فَلَمَّا تَضَمَّنت هَذِه الْأَسْمَاء معنى الشَّرْط، قدر مَعهَا (إِن) فانجزم الْجَواب بِتَقْدِير حرف الشَّرْط، فَإِن رفعت الْفِعْل فِي جوابها فعلى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون الْفِعْل فِي مَوضِع الْحَال، كَقَوْلِك: ائْتِنِي أكرمك.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فعلى تَقْدِير خبر ابْتِدَاء، كَأَنَّك قلت: ائْتِنِي فَأَنا أكرمك؟
وَأما جَوَاز حذف (أَن) وَنصب الْفِعْل بإضمارها فَهُوَ قَبِيح عِنْد الْبَصرِيين، وَذَلِكَ مثل قَول طرفَة:
(أَلا أَيهَا ذَا الزاجري أحضر الوغى ... وَأَن أشهد اللَّذَّات هَل أَنْت مخلدي)

فَالْوَجْه الرّفْع فِي (أحضر) ، لِأَن (أَن) مَوْصُولَة بِالْفِعْلِ، وَلَا يجوز حذف الْمَوْصُول وتبقية الصِّلَة، وَمَعَ ذَلِك فَهِيَ عَامل ضَعِيف، لِأَنَّهُ حرف من الْحُرُوف، وَلَا يجوز أَن تعْمل الْحُرُوف مضمرة، وَقد أَجَازُوا النصب فِيهِ، وَوجه جَوَازه إِظْهَار (أَن) فِي آخر الْبَيْت، وَهُوَ قَوْله:
(وَأَن أشهد اللَّذَّات)

(1/442)


فَصَارَت (أَن) فِي هَذَا الْموضع كالعوض من الْمَحْذُوف.
وَأما إِذا لم يكن فِي الْكَلَام (أَن) تنعطف على المضمرة، فَهُوَ غير جَائِز. والكوفيون يجيزون مثل هَذَا، ويجعلون هَذَا مثل (أَن) بعد الْفَاء فِي الْجَواب، إِن شَاءَ الله.

(1/443)