علل النحو

44 - بَاب إِضَافَة أَسمَاء الزَّمَان إِلَى الْفِعْل وَالْفَاعِل والمبتدأ وَالْخَيْر

اعْلَم أَنه لَا يُضَاف من الْأَسْمَاء إِلَى الْجمل إِلَّا ظروف الزَّمَان، و (حَيْثُ) من ظروف الْمَكَان، وَإِنَّمَا خصت ظروف الزَّمَان بذلك لوجوه:
أَحدهَا: أَن الْفِعْل يدل على مصدر وزمان، وَالزَّمَان أحد الشَّيْئَيْنِ اللَّذين يدل عَلَيْهِمَا الْفِعْل، فَإِذا أضيفت الظروف من الزَّمَان إِلَى الْأَفْعَال، صَارَت بِمَنْزِلَة إِضَافَة الْبَعْض إِلَى الْكل، مثل: خَاتم حَدِيد.
وَآخر: يحْكى عَن الْأَخْفَش أَنه قَالَ: لما كَانَت ظروف الزَّمَان بأجمعها، خاصها وعامها لَا يمْتَنع أَن يكون ظرفا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَيْهَا بِغَيْر وَاسِطَة، وظروف الْمَكَان مَا كَانَ مِنْهَا خَاصّا لَا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَيْهِ، نَحْو: قُمْت فِي الدَّار، كَمَا تَقول: يَوْم الْجُمُعَة، أضيفت ظروف الزَّمَان إِلَى الْجمل عوضا من اخْتِصَاص ظروف الْمَكَان بِمَا ذَكرْنَاهُ.
وَلما جَازَ أَن تُضَاف ظروف الزَّمَان إِلَى الْفِعْل وَالْفَاعِل، جَازَ أَن تُضَاف إِلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، لِأَن الْفِعْل وَالْفَاعِل جملَة كالمبتدأ وَالْخَبَر.
وظروف الزَّمَان تَقْتَضِي الْفِعْل، فَصَارَت كشيء وَاحِد من هَذَا الْوَجْه، وَكَانَ الْفِعْل أَيْضا يدل على مصدره، فقولنا: (65 / أ) هَذَا يَوْم قيام زيد، كَقَوْلِنَا: هَذَا يَوْم يقوم زيد، فقد تضمن يَوْم الْقيام، فاعرفه.
وَأما (حَيْثُ) : فَجَاز إضافتها إِلَى الْجمل، لِأَنَّهَا ضارعت (إِذْ) بِسَبَب

(1/444)


أَنَّهَا مُبْهمَة فِي الْمَكَان، كإبهام (إِذْ) فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَكَمَا وَجب أَن تُضَاف (إِذْ) إِلَى الْجمل أوجبوا إِضَافَة (حَيْثُ) إِلَيْهَا، للشبه الَّذِي بَينهمَا والمضارعة.
وَاعْلَم أَن ظرف الزَّمَان إِذا أضفته إِلَى الْفِعْل الْمَاضِي، جَازَ لَك فِيهِ وَجْهَان: الْإِعْرَاب وَالْبناء، كَقَوْلِك: أعجبني يَوْم قُمْت، فَترفع (الْيَوْم) بِفِعْلِهِ، وَيجوز أَن تفتحه، وَيكون مَوْضِعه رفعا، وَإِنَّمَا جَازَ بِنَاؤُه، لِأَنَّهُ أضيف إِلَى فعل مَبْنِيّ، فأجري مجْرَاه، واختير فَتحه، لِأَن الْكسر وَالضَّم بعد الْوَاو مستثقلان، فعدلوا بِهِ إِلَى الْفَتْح، وَمن ذَلِك قَول الشَّاعِر:
(على حِين عاتبت المشيب على الصِّبَا ... وَقلت: ألما أصح والشيب وازع!)

وَأما من أعرب: فَلِأَن الظّرْف مُتَمَكن فِي نَفسه، وَهَذِه الْإِضَافَة اسْتحقَّهَا لما ذَكرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَن يبْقى على حَال تمكنه، لِأَن مَا اسْتَحَقَّه من الْإِضَافَة لعِلَّة أوجبت لَهُ ذَلِك، وَقد يجوز أَن يبْنى مَعَ الْمُضَارع أَيْضا، كَقَوْلِك: أعجبني يَوْم تقوم، إِلَّا أَن الْإِعْرَاب مَعَ الْمُضَارع أحسن لما ذَكرْنَاهُ.
وَأما جَوَاز الْبناء: فَلِأَن ظروف الزَّمَان قد خَالَفت جَمِيع الْأَسْمَاء بإضافتها إِلَى الْجمل، وَخُرُوج الشَّيْء عَن نَظَائِره نقص لَهُ، فَوَجَبَ لهَذَا النَّقْص أَن تبنى، وَالله أعلم.

(1/445)


45 - بَاب إِن وَأَن

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن تكسر (إِن) فِي الِابْتِدَاء؟
قيل: للفصل بَينهمَا، أَعنِي: بَين (إِن وَأَن) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الْحَاجة إِلَى الْفَصْل بَينهمَا؟
قيل لَهُ: لِأَن (أَن) الْمَفْتُوحَة وَمَا بعْدهَا فِي تَقْدِير اسْم، والمكسورة لَا تكون مَعَ مَا بعْدهَا اسْما، فَلَمَّا اخْتلف حكمهمَا، وَجب الْفَصْل بَينهمَا.
فَإِن قيل: فَلم خصت بِالْكَسْرِ، وخصت الْأُخْرَى بِالْفَتْح؟
قيل لَهُ: لِأَن الْكسر أثقل من الْفَتْح، و (أَن) الْمَفْتُوحَة قد قُلْنَا: إِنَّهَا وَمَا بعْدهَا اسْم، فقد طَالَتْ بصلتها، والمكسورة مُفْردَة الحكم، فَهِيَ أخف مِنْهَا، فَوَجَبَ أَن يفتح الأثقل، وَيكسر الأخف ليعتدلا.
فَإِن قيل: فَلم كسرت بعد القَوْل، وَإِذا كَانَ فِي خَبَرهَا اللَّام؟
قيل: لِأَنَّهَا فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ مُبتَدأَة فِي الحكم، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لِأَن القَوْل إِنَّمَا وضع فِي الْكَلَام ليحكى بِهِ، والحكاية من شَأْنهَا أَلا تغير لفظ المحكي، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: إِن زيدا منطلق، فَأَرَدْت أَن تحكي كَلَامه، وَجب أَن تَقول: قَالَ عَمْرو: إِن زيدا منطلق، كَمَا تَقول: قَالَ عَمْرو: زيد منطلق، فَصَارَ مَا بعد القَوْل يجْرِي مجْرَاه فِي حَال الِابْتِدَاء، فَلذَلِك كسرت بعد القَوْل.

(1/446)


وَأما كسرهَا إِذا كَانَت اللَّام فِي خَبَرهَا، فَإِن هَذِه اللَّام هِيَ لَام الِابْتِدَاء، كَقَوْلِك: لزيد أفضل من عَمْرو، فَإِذا أدخلت وَجب أَن تكسر (إِن) قبلهَا، لِأَن (إِن) من عوامل الْأَسْمَاء، فَلَا يجوز أَن تدخل على اللَّام، وَإِنَّمَا تدخل على الِاسْم، فَإِذا كَانَ الْأَمر على مَا ذَكرْنَاهُ، صَار الأَصْل: إِن زيدا منطلق، فَإِذا أدخلت اللَّام لم يجز أَن تغير (إِن) عَن حَالهَا، كَمَا لَا تغير اللَّام الْمُبْتَدَأ عَن حَاله، فَيصير اللَّفْظ: لِأَن زيدا منطلق، إِلَّا أَن اللَّام (65 / ب) و (إِن) مَعْنَاهُمَا وَاحِد، لِأَنَّهُمَا للتوكيد، ويقعان جَوَابا للقسم، فَلَمَّا اتّفق مَعْنَاهُمَا، كَرهُوا الْجمع بَينهمَا، فأخروا اللَّام، وَإِنَّمَا كَانَت أولى بِالتَّأْخِيرِ، لِأَن (إِن) عاملة، وَالْعَامِل أقوى مِمَّا لَيْسَ بعامل، فَوَجَبَ تَأْخِير الأضعف، وَهُوَ اللَّام، فَإِذا أخرتها جَازَ أَن تدْخلهَا على الِاسْم، إِذا فصلت بَينه وَبَين (إِن) بظرف أَو حرف جر، كَقَوْلِك: إِن فِي الدَّار لزيداً، وَإِن شِئْت أدخلتها على الْخَبَر، إِذا كَانَ مُتَأَخِّرًا، كَقَوْلِك: إِن زيدا لفي الدَّار.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا خففت هَذِه الْمَكْسُورَة، جَازَ أَن تعملها وتنوي التَّشْدِيد، لِأَنَّك لم تحذف التَّشْدِيد حذفا لَازِما، فَصَارَ حكمهَا مراعى، فَلذَلِك جَازَ أَن تحذفها وَيبقى الحكم (إِن) على الْعَمَل، كَقَوْلِك: لم يَك زيد مُنْطَلقًا، وَمن أبطل عَملهَا، فَإِنَّهُ شبهها بِالْفِعْلِ من جِهَة اللَّفْظ دون الْمَعْنى، فَلَمَّا زَالَ لَفظهَا سقط شبهها بِالْفِعْلِ، فَوَجَبَ أَن يبطل عَملهَا، وَحكم الْمَفْتُوحَة الْمُشَدّدَة فِي التَّخْفِيف

(1/447)


والتثقيل وَجَوَاز الْعَمَل، إِلَّا فِي خصْلَة وَاحِدَة، وَهُوَ أَن (إِن) الْمَكْسُورَة إِذا خففت ارْتَفع مَا بعْدهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر، و (أَن) الْمَفْتُوحَة الْمُشَدّدَة إِذا خففت أضمر فِيهَا اسْمهَا، كَقَوْلِك: قد علمت أَن زيد قَائِم تَقْدِيره: أَنه زيد قَائِم، فالهاء المضمرة اسْم (أَن) .
وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك فِي (أَن) الْمَفْتُوحَة، وَلم يجب ذَلِك فِي الْمَكْسُورَة، لِأَن الْمَفْتُوحَة قد قُلْنَا: إِنَّهَا وَمَا بعْدهَا اسْم، فَلَا تَخْلُو من عَامل يعْمل فِيهَا، فَلم يجز إِلْغَاء حكمهَا، فَلذَلِك وَجب أَن يضمر اسْمهَا، لثبات حكمهَا فِي الْكَلَام، وَأما الْمَكْسُورَة فَهِيَ تقع فِي صدر الْكَلَام، فَإِذا ارْتَفع مَا بعْدهَا، لم تكن بِنَا ضَرُورَة إِلَى تَقْدِير اسْم فِيهَا، لِأَنَّهُ يُمكن أَن تقدرها حرفا غير عَامل من الْحُرُوف غير العوامل، نَحْو هَل وبل، وَمَا أشبهه.
وَاعْلَم أَن أَفعَال الْقُلُوب تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام:
أَحدهَا: يَقِين، نَحْو: عرفت وَعلمت.
وَالثَّانِي: شكّ ورجاء، نَحْو: رَجَوْت وَخفت.
وَالثَّالِث: متوسط بَين الْيَقِين وَالشَّكّ، وَهُوَ الظَّن والحسبان.
وَأما (علمت) وَنَحْوهَا فَلَا يجوز أَن تقع بعْدهَا (أَن) المخففة من الثَّقِيلَة مُشَدّدَة وَغير مُشَدّدَة، نَحْو: قد علمت أَنَّك تقوم، فَإِذا خففتها - وَبعدهَا الْفِعْل - أضمرت الِاسْم، على مَا ذكرنَا، وعوضت من التَّخْفِيف، إِذا كَانَ بعْدهَا الْفِعْل أحد أَرْبَعَة أَشْيَاء:

(1/448)


أَحدهَا: السِّين، وَالْآخر: سَوف، وَالثَّالِث: قد، وَالرَّابِع: لَا، كَقَوْلِك: قد علمت أَن ستقوم، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} ، وَكَذَلِكَ: علمت أَن سَوف تقوم، وَعلمت أَن قد قُمْت، وَهَذِه الْأَعْرَاض الثَّلَاثَة مَتى دخلت بعد (أَن) لم تكن إِلَّا مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة.
وَأما (لَا) : فقد تقع عوضا وَغير عوض، فَإِذا كَانَت عوضا ارْتَفع الْفِعْل بعْدهَا، لِأَنَّهَا فِي مَوضِع خبر (أَن) ، وَإِذا لم تكن عوضا وَكَانَت (أَن) خَفِيفَة انتصب الْفِعْل بعْدهَا، كَقَوْلِه عز وَجل: {وَحَسبُوا أَن لَا تكون فتْنَة} ، وَقُرِئَ بِالرَّفْع، فَمن رفع جعل (أَن) مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وأضمر اسْمهَا، وَجعل (لَا) عوضا، فارتفع الْفِعْل، لِأَنَّهُ فِي مَوضِع خبر (أَن) وَمن نصب جعل (أَن) خَفِيفَة نَفسهَا، وَلم يَجْعَل (لَا) عوضا، فَعمِلت (أَن) فِي الْفِعْل فنصب بهَا، وَهَذَا الْقسم الثَّانِي (66 / أ) من الْأَفْعَال يجوز أَن تقع بعده الْمُشَدّدَة والمخففة، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهِ وَجْهَان، لِأَنَّهُ متوسط بَين الْعلم وَالْخَوْف، فَإِذا غلب أحد طَرفَيْهِ، وَهُوَ الْعلم، صَار بِمَنْزِلَة لَو شددت (أَن) بعده، وَإِذا غلب الطّرف الثَّانِي، وَهُوَ الرَّجَاء

(1/449)


أَو الْخَوْف، لم يجز أَن يَقع بعده إِلَّا (أَن) الْخَفِيفَة نَفسهَا الناصبة للأفعال، لِأَن بَاب الرَّجَاء وَالْخَوْف لَيْسَ بِأَمْر مستو، والمشددة إِنَّمَا تدخل لتحقيق الْكَلَام، فَجَاز أَن تدخل بعد الْعلم، وَمَا جرى مجْرَاه، لِأَنَّهُ شَيْء ثَابت فتحققه ب (أَن) . وَأما الرَّجَاء وَالْخَوْف فَلَمَّا لم يكن شَيْئا ثَابتا، اسْتَحَالَ تَحْقِيقه، فَلذَلِك لم يجز أَن تدخل بعده الْمُشَدّدَة، إِلَّا على ضرب من التَّأْوِيل، وَحمله على بَاب الظَّن، إِذْ كَانَ قد أجري مجْرى الْعلم لما ذَكرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ يجوز أَن تجْرِي الْحُرُوف مجْرى الظَّن، لما بَينهمَا من المشابهة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم زعمتم أَن (أَن) لَيست باسم، وَأَنَّهَا مَعَ بعْدهَا اسْم، وخالفت حكم (الَّذِي) بِالْفَصْلِ بَينهمَا؟
قيل لَهُ: إِن (أَن) لَو كَانَت فِي نَفسهَا اسْما، لم يجز أَن تَخْلُو صلتها من ضمير يرجع إِلَيْهَا، كَمَا أَن (الَّذِي) لما كَانَ اسْما فِي نَفسه، لم يجز أَن يُوصل بجملة إِلَّا وفيهَا ذكر يرجع إِلَيْهِ، أَلا ترى أَنَّك تَقول: قد علمت أَنَّك تقوم، وَلَا يجوز: علمت الَّذِي أَنْت تقوم، حَتَّى تَقول: إِلَيْهِ، فَلذَلِك افْتَرقَا.
وَاعْلَم أَن (إِن) الَّتِي تزاد بعد (مَا) ، إِنَّمَا زيدت بعد (مَا) لتلغي مَعهَا (مَا) ، فَلَا تعْمل، أَعنِي (مَا) فِي لُغَة أهل الْحجاز، وَإِنَّمَا وَجب إبِْطَال عَملهَا عِنْد دُخُول (إِن) عَلَيْهَا، كَمَا وَجب إبِْطَال عمل (إِن) ، إِذا دخلت (مَا) عَلَيْهَا، وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا مضى، وَيجوز أَن يكون زادوها بعد (مَا) لتوكيد معنى النَّفْي، إِذْ كَانَت (إِن) قد تسْتَعْمل للنَّفْي.
وَاعْلَم أَن (إِن) الَّتِي بِمَعْنى (مَا) مُخْتَلف فِيهَا، فبعض النَّحْوِيين يعملها

(1/450)


عمل (مَا) فِي لُغَة أهل الْحجاز، كَقَوْلِك: إِن زيد قَائِما، وَبَعْضهمْ لَا يعملها، فَمن أعملها فلمشاركتها ل (مَا) فِي الْمَعْنى، وَإِنَّمَا أعملت عمل (لَيْسَ) من جِهَة النَّفْي، لَا من جِهَة اللَّفْظ، فَلَمَّا شاركت (إِن) ل (مَا) فِي الْمَعْنى، وَجب أَن يَسْتَوِي حكمهمَا، وَمن لم يجز ذَلِك، فحجته أَن الْقيَاس فِي (مَا) أَلا تعْمل شَيْئا، فَإِذا خَالَفت الْعَرَب جِهَة الْقيَاس، فَلَيْسَ لنا أَن نتعدى ذَلِك، لِأَن الْقيَاس لَا يُوجِبهُ، وَالْأَصْل أَن يكون مَا بعْدهَا مُبْتَدأ وخبراً، فَلذَلِك لم تعْمل.
وَاعْلَم أَن (أَن) الْمَفْتُوحَة تقع بِمَنْزِلَة (أَي) الَّتِي تسْتَعْمل على طَرِيق الْعبارَة والحكاية، وَيجب أَن يكون مَا بعْدهَا كلَاما تَاما، وَالَّذِي بعْدهَا عبارَة عَنهُ، فَإِن لم يكن فِي مَعْنَاهُ لم يجز، وَجعلُوا (أَي) لهَذَا الْمَعْنى ليَكُون لَهُم حرف يعبر عَن الْمَعْنى، وَيكون بَاب القَوْل يحْكى بِهِ اللَّفْظ بِعَيْنِه، فَلذَلِك وضعت (أَن) بِمَنْزِلَة (أَي) للعبارة.
وَأما (إِن) الَّتِي بِمَعْنى (نعم) فَإِنَّمَا اسْتعْملت على هَذَا الْوَجْه، لِأَن (نعم) إِيجَاب واعتراف، و (إِن) تَحْقِيق وَإِثْبَات، فلتضارعهما فِي الْمَعْنى حملت (إِن) على (نعم) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم زيدت (أَن) الْمَفْتُوحَة بعد (لما) ، وَلم تزد الْمَكْسُورَة وزيدت الْمَكْسُورَة بعد (مَا) ، وَلم (66 / ب) تزد الْمَفْتُوحَة؟

(1/451)


فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (مَا) لما زيدت على الْمَكْسُورَة، وَجب أَن تزاد هِيَ على (مَا) لتشاكلها لفظ الْمَكْسُورَة، وَفِي ذَلِك أَيْضا تَحْقِيق للنَّفْي، إِذْ كَانَ أصل النَّفْي ب (مَا) ، و (إِن) قد اسْتعْملت للنَّفْي، فَصَارَ إدخالها عَلَيْهَا مؤكداً لمعناها.
فَأَما (لما) : فَفِيهَا من الشَّرْط، كَقَوْلِك: لما جَاءَ زيد جِئْت، و (إِن) هِيَ أصل الْجَزَاء فَلم تزد (إِن) على (لما) ، لِئَلَّا يكون الأَصْل تَابعا للفرع، أَعنِي بالفرع: (لما) المشهبة لبَعض حُرُوف الْجَزَاء، لما فِيهَا من معنى الْجَزَاء، وخصوا (لما) بالمفتوحة، أَعنِي: (أَن) ، لِأَنَّهُ لما كَانَ فِيهَا معنى التوقع، أَعنِي: فِي (أَن) ، وَكَانَت غير مُحَققَة للشَّيْء، وَتدْخل بعد أَفعَال الرَّجَاء وَالْخَوْف، خصت بِالزِّيَادَةِ بعد (لما) لتوكيد مَعْنَاهَا، وَالله أعلم.

(1/452)


46 - بَاب أَم وأو

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن يكون الْجَواب فِي (أم) بِأحد الاسمين، وَيَقَع الْجَواب فِي (أَو) ب (لَا أَو نعم) ؟
قيل لَهُ: أَن تَرْتِيب (أم) أَن تقع سؤالا بعد سُؤال ب (أَو) وَذَلِكَ أَن (أَو) مَعْنَاهَا أحد الشَّيْئَيْنِ، وَلَا تنْتَقل عَن هَذَا الْمَعْنى، استفهاماً كَانَت أَو خَبرا، كَقَوْلِك: جَاءَنِي زيد أَو عَمْرو، فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام: جَاءَنِي أَحدهمَا، وَإِنَّمَا تخبر أَن أحد الشخصين جَاءَك، فَإِذا استفهمت عَن هَذَا فَقلت: أجاءك زيد أَو عَمْرو؟ فَإِنَّمَا تسْأَل عَن أَحدهمَا، لِأَن الْمَعْنى: أَحدهمَا جَاءَك، فَلَمَّا كَانَت فِي الِاسْتِفْهَام سؤالا عَن وَاحِد غير معِين، جرت مجْرى السُّؤَال عَن وَاحِد معِين، كَقَوْلِك: هَل زيد عنْدك؟ فَلَمَّا كَانَ الْجَواب ب (لَا) ، إِن لم يكن عِنْده زيد، أَو ب (نعم) إِن كَانَ عِنْده زيد، وَجب أَيْضا أَن يكون الْجَواب على هَذَا السَّبِيل، لحُصُول أحد الشَّيْئَيْنِ عِنْده بِغَيْر عينه، فَبينا لَهُ بعد ذَلِك ب (أم) ، لتعيين الشَّخْص، فَيَقُول: أَزِيد أم عَمْرو؟ فَلَمَّا كَانَت (أم) ترتيبها على مَا ذَكرْنَاهُ، لم يجز أَن يَقع الْجَواب ب (لَا) ، لِأَن المستفهم قد اسْتَقر عِنْده حُصُول شخص من الشخصين، وَلَا يبْقى هَذَا الِاعْتِقَاد الَّذِي أوجبه حكم اللَّفْظ أَلا يكون عِنْد المسؤول أَحدهمَا، فَلذَلِك لم يجز أَن يَقع الْجَواب فِي (أم) إِلَّا بِأحد الشخصين، فَإِن كَانَ المسؤول يعْتَقد أَن السَّائِل قد أَخطَأ فِي هَذَا الِاعْتِقَاد أَنه لَيْسَ عِنْده وَاحِد من الشخصين، أَجَابَهُ

(1/453)


بِأَن يَقُول: لَيْسَ عِنْدِي وَاحِد مِنْهُمَا، ليبين لَهُ فَسَاد اعْتِقَاده.
وَاعْلَم أَن (أم) - الَّتِي تكون مَعَ ألف الِاسْتِفْهَام - بِمَنْزِلَة (أَي) ، امتحانها أَن يحذف لفظ الْألف وَأم، وَيجمع مَا يَلِي الْألف وَأم إِلَى جَانب، وَيصِح الْكَلَام، فَمَتَى كَانَت أم مَعَ ألف الِاسْتِفْهَام على هَذَا السَّبِيل، فَهِيَ بِمَنْزِلَة (أَي) وَالْجَوَاب يَقع فِيهَا بِأحد الاسمين، كَقَوْلِك: أَزِيد عنْدك أم عَمْرو؟ أَلا ترى أَنه يَصح أَن تَقول: أَيهمَا عنْدك؟ فَلَو قلت: أَزِيد عنْدك أم عَمْرو؟ لَكَانَ هَذَا الْكَلَام سؤالين، وَلم تكن (أم) مَعَ الْألف بِمَنْزِلَة (أَي) ، أَلا ترى أَنَّك لَو جمعت الاسمين إِلَى جنب (أَي) ، لصار اللَّفْظ: أَيهمَا عنْدك عنْدك؟ فَيكون الظرفان من غير فَائِدَة، وتكريرهما على هَذَا السَّبِيل فَاسد، فَلَا يصير بِمَنْزِلَة (أَي) ، وَصَارَ السؤالان مفردين، وَكَذَلِكَ (67 / أ) إِذا كَانَ قبل الِاسْتِفْهَام ألف، فَهُوَ سُؤال مُبْتَدأ، وَفِيهِمَا إضراب عَمَّا قبلهَا، خَبرا كَانَ أَو استفهاماً، فَلذَلِك شبهوها ب (بل) ، لِأَن فِيهَا إضراباً عَمَّا قبلهَا.
وَأما (أم) : فَهِيَ وَإِن دَخلهَا معنى الإضراب عَمَّا قبلهَا فَمَعْنَى الِاسْتِفْهَام حَاصِل، وتخالف الْألف من جِهَة أَن الْألف مُبْتَدأ بهَا فِي الِاسْتِفْهَام كَقَوْلِك: أَزِيد عنْدك؟ فَأم لَا يبتدأ بهَا، لِأَنَّهَا قد أدخلت بعد الْألف عاطفة مَا بعْدهَا على مَا يَلِي الْألف، فَلَمَّا أَدخل (أم) فِي حُرُوف الْعَطف - وحروف الْعَطف لَا يبتدأ بهَا - لم يجز الِابْتِدَاء بهَا لما ذَكرْنَاهُ.
وَاعْلَم أَن (أم) لما دَخلهَا معنى التَّسْوِيَة بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الْجَهَالَة، نَحْو قَوْلك:

(1/454)


أَزِيد عنْدك أم عَمْرو؟ فَلَمَّا سَاغَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنى، جَازَ أَن يستعان فِي كل مَوضِع أردنَا فِيهِ التَّسْوِيَة بَين الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِك: قد علمت أَزِيد عنْدك أم عَمْرو، فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام خبر وَلَفظه اسْتِفْهَام، وَإِنَّمَا دخل الِاسْتِفْهَام هَا هُنَا لما أردنَا من معنى التَّسْوِيَة بَين الاسمين فِي الْعلم، والفائدة فِي ذَلِك أَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ أَن يعلم المسؤول أَنه قد علم مَا كَانَ يسْأَل عَنهُ، وَلم يخرج فِي اللَّفْظ معينا على الشَّخْص بِعَيْنِه، ليخرج المسؤول أَن يسْأَله عَن ذَلِك ولضرب من الْعِوَض، فَلذَلِك دخلت أم وَالْألف فِي هَذَا الْموضع، إِن شَاءَ الله.

(1/455)


47 - بَاب مَا ينْصَرف وَمَا لَا ينْصَرف

إِن قَالَ قَائِل: من أَيْن زعمتم أَن أصل الْأَسْمَاء الصّرْف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْأَسْمَاء كلهَا نوع وَاحِد، وَإِنَّمَا منع الصّرْف بَعْضهَا بشبهها فِي الْفِعْل، وَالْفِعْل حَادث لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الِاسْم، فَإِذا اسْتَقر التَّنْوِين لبَعض الْأَسْمَاء، وَجب أَن يكون لجميعها، لاشتراكها فِي الاسمية، وَصَارَ مَا منع التَّنْوِين إِنَّمَا هُوَ من أجل شبهه بِالْفِعْلِ الْحَادِث.
فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى دُخُول التَّنْوِين؟
قيل لَهُ: لِأَن وَاضع اللُّغَة لما علم أَن بعض الْأَسْمَاء مشبهة بِالْفِعْلِ وَبَعضهَا لَا يشبه الْفِعْل، ألحق التَّنْوِين مَا لم يشبه الْفِعْل، ليَكُون لحاق التَّنْوِين فصلا بَين مَا ينْصَرف وَمَا لَا ينْصَرف، فَصَارَ للاسم أصلان، أَحدهمَا: أَن الْأَسْمَاء تسْتَحقّ التَّنْوِين لَو لم تشبه الْفِعْل، لِأَنَّهُ زِيَادَة لَا يحْتَاج إِلَيْهَا، فَلَمَّا قدر حُدُوث الْفِعْل ألحق التَّنْوِين لبَعض الْأَسْمَاء، فَصَارَ هَذَا الأَصْل الثَّانِي، وَهُوَ لحاق التَّنْوِين فِي الِاسْتِعْمَال، لِأَن الأَصْل الْمُسْتَحق لما قبل حُدُوث الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن صَارَت الْعِلَل التسع توجب منع الصّرْف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْفِعْل لما ثَبت أَنه فرع على الِاسْم، وَكَانَت هَذِه

(1/456)


الْعِلَل فروعاً، أَن التَّعْرِيف دَاخل على التنكير، وَذَلِكَ أصل فِي الْأَسْمَاء وَتلك الْأَسْمَاء الْأَجْنَاس، وَهِي نكرات، حَتَّى يدْخل عَلَيْهَا مَا يعرف الْعين الْوَاحِد من الْجِنْس، فَثَبت أَن التَّعْرِيف فرع على التنكير، وَكَذَلِكَ التَّأْنِيث فرع على التَّذْكِير، لِأَن كل شَيْء يَقع عَلَيْهِ اسْم، وَالشَّيْء مُذَكّر، فَوَجَبَ بِهَذَا (67 / ب) أَن يكون الأَصْل التَّذْكِير، وَمَعَ ذَلِك فَإِن لفظ التَّأْنِيث زَائِد على لفظ التَّذْكِير، كَقَوْلِك: قَائِم وقائمة، وَمَا كَانَ زَائِدا فَهُوَ مَرْفُوع عَن الأَصْل، لزيادته عَلَيْهِ، والعجمة فرع، لِأَنَّهَا دخيلة فِي كَلَام الْعَرَب.
وَالْجمع فرع على الْوَاحِد لِأَنَّهُ مركب مِنْهُ.
وَمِثَال الْفِعْل فرع، وَمَا أشبه الْفَرْع فَحكمه حكم الْفَرْع، إِذْ كَانَ أصل الْبناء الَّذِي يمْنَع الصّرْف هُوَ الْأَفْعَال دون الْأَسْمَاء، أَلا ترى أَن الْمِثَال الَّذِي يشْتَرك فِيهِ الْفِعْل حكمه حكم الْفَرْع، وَالِاسْم لَا يمْتَنع الصّرْف، كَرجل سميته ب (ضرب) ، لِأَن نَظِيره من الْأَسْمَاء جمل، فَصَارَ الْمثل الَّذِي يُوجب منع الصّرْف مُخْتَصًّا بِالْفِعْلِ، فَلذَلِك كَانَ فرعا فِي الأسم.
وَالصّفة فرع، لِأَنَّهَا تَابِعَة للموصوف، وَمن أَجله دخلت، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْأَشْيَاء فروعاً، شابهت الْفِعْل لما ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم يمْتَنع الِاسْم من الصّرْف بِوُجُود هَذِه الْفُرُوع فِيهِ؟
قيل لَهُ: لِأَن الشّبَه من وَجه وَاحِد لَيْسَ بِقَوي، وَذَلِكَ أَن شَيْئَيْنِ متشابهين يتشابهان من وَجه وَاحِد فَصَاعِدا، فَلَمَّا كَانَ الشّبَه من وَجه وَاحِد لَا تَأْثِير لَهُ، لم يثقل الِاسْم بِهَذَا الشّبَه، فيزول عَن أَصله، وَهُوَ الصّرْف، فَإِذا اجْتمع فِي الِاسْم فرعان مِمَّا ذكرنَا، أَو فروع مِمَّا تقوم مقَام فرعين ثقل الِاسْم، والتنوين زِيَادَة عَلَيْهِ، فمنعوه وشبهوه بِالْفِعْلِ، وَجعلُوا جَرّه كنصبه، إِذْ كَانَ الْجَرّ لَا يدْخل

(1/457)


الْأَفْعَال، فَلَمَّا أشبه هَذَا النَّوْع الْأَفْعَال منعُوهُ مَا لَا يدخلهَا، وَهُوَ الْجَرّ، وَجعلُوا لَفظه كَلَفْظِ الْمَنْصُوب، كَمَا جعلُوا النصب فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع كالجر لما بَينهمَا من المشابهة.
وَاعْلَم أَن (أفعل) إِذا كَانَ صفة مثل: أصفر وأحمر، وَسميت بِهِ لم ينْصَرف عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وَالصرْف فِي النكرَة عِنْد الْأَخْفَش.
فحجة سِيبَوَيْهٍ: أَن (أفعل) قبل أَن سمي بِهِ اسْم، وَإِن كَانَ صفة وَقد كَانَ فِي حَال التنكير غير منصرف، فَإِذا سميت بِهِ فَحكم الصّفة لم يرْتَفع عَنهُ، وَتصير التَّسْمِيَة بِهِ كالعارية، فَإِذا نكر عَاد إِلَى مَوضِع قد كَانَ لَا ينْصَرف فِيهِ، وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك إِجْمَاع النَّحْوِيين على قَوْلهم: مَرَرْت بنسوة أَربع، فيصرفون أَرْبعا، لِأَنَّهُ اسْم اسْتعْمل وَصفا، وَلَو راعوا فِيهِ حكم الْوَصْف، لم ينْصَرف فِي هَذِه الْحَال، لِأَنَّهُ على وزن الْفِعْل وَهُوَ صفة، فَلَمَّا تقوى حكم الِاسْم، بِأَن استعملوه صفة، وَكَذَلِكَ أَنه وَإِن اسْتعْمل اسْما فَحكم الصّفة بَاقٍ، فَلذَلِك انْصَرف.
وَأما الْأَخْفَش: فَذهب إِلَى أَن (أَحْمَر) إِنَّمَا امْتنع من الصّرْف فِي النكرَة، لِأَنَّهُ على وزن الْفِعْل وَهُوَ صفة، فَإِذا سمي بِهِ زَالَ عَنهُ حكم الصّفة، فَامْتنعَ من الصّرْف لِأَنَّهُ معرفَة، وَلِأَنَّهُ على وزن الْفِعْل، فَإِذا نكرته بقيت عِلّة وَاحِدَة، وَهِي وزن الْفِعْل، فَلذَلِك انْصَرف، وَقد بَينا فَسَاد هَذَا القَوْل.
وَأما إِن سميت رجلا: يشْكر أَو يزِيد، وَمَا أشبه ذَلِك فَإِنَّهُ ينْصَرف فِي النكرَة،

(1/458)


لِأَن (يزِيد ويشكر) وأشباههما قبل التَّسْمِيَة أَفعَال، فَلَو سميت بهَا، انْتَقَلت عَن أَصْلهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَت الْأَسْمَاء لَا يتَعَلَّق الْفِعْل بهَا، وامتنعت من الصّرْف بِوُجُود التَّعْرِيف وَمِثَال الْفِعْل، فَإِذا (68 / أ) نكرتها انصرفت، لبَقَاء عِلّة وَاحِدَة فِيهَا.
وَأما أَحْمَر وَمَا كَانَ على وزن (أفعل) من فلَان، مِمَّا يسْتَعْمل فِي التَّفْضِيل، نَحْو قَوْلك: زيد أفضل من عَمْرو، وَأحسن من فلَان، فَإنَّك إِن سميت بهَا - أَعنِي بِوَاحِد من هَذِه الصِّفَات - فَحكمه كَحكم (أَحْمَر) ، وَالْخلاف كالخلاف فِي (أَحْمَر) ، أَعنِي إِن سميت بِهَذِهِ الصِّفَات مَعَ (من) فَإِن سميت بإحداها دون (من) انْصَرف فِي النكرَة فَلَا خلاف، وَإِنَّمَا انْصَرف فِي النكرَة، لِأَنَّهُ قد زَالَ عَن حكم الصّفة، لِأَنَّهُ اسْتعْمل صفة ب (من) ، فَلَمَّا سميته ب (أفعل) دون (من) كَانَ كَأَن لم تسمه بِالصّفةِ، وَكَانَ الَّذِي مَنعه من الصّرْف فِي حَال التَّسْمِيَة: التَّعْرِيف وَوزن الْفِعْل، فَإِذا نكرته زَالَت عَنهُ إِحْدَى العلتين، فَانْصَرف فِي النكرَة.
وَاعْلَم أَن مَا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف من أَسمَاء الْمُؤَنَّث أوسطه سَاكن فبعض الْعَرَب يصرفهُ، وَبَعض الْعَرَب لَا يصرفهُ، وَالْفرق بَينهمَا أَن العجمة فِي الِاسْم لَيست كَحكم الزَّائِد عَلَيْهِ، لِأَن لُغَة الْعَجم مُشْتَركَة بِسَائِر اللُّغَات، فَلهَذَا لم يثقل حكمهَا، وَانْصَرف الِاسْم، إِذْ كَانَ على ثَلَاثَة أحرف، متحركاً أوسطها أَو سَاكِنا. وَأما التَّأْنِيث فَحكمه زَائِد على حكم الْمُذكر، وَإِن لم يكن لفظ

(1/459)


التَّأْنِيث مَوْجُودا فِيهِ، إِلَّا أَنه مراعى من جِهَة الحكم، وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنَّك لَو صغرت هنداً، اسْم امْرَأَة، لَقلت: هنيدة، فَعلمت أَن عَلامَة التَّأْنِيث مُرَاعَاة فَصَارَ التَّأْنِيث أثقل لفظا وَمعنى، فَلذَلِك صَار حكم التَّأْنِيث أقوى من حكم العجمة.
وَأما إِذا سميت امْرَأَة ب (زيد) فكثير من النَّحْوِيين لَا يصرفون، ويفرقون بَينه وَبَين هِنْد، وَالْفرق بَينهمَا أَن (زيدا) من أَسمَاء الْمُذكر، وخفيف فِي الِاسْم، فتسميتك الْمُؤَنَّث بِهِ إِخْرَاج لَهُ من حكم الأخف، فَصَارَت عِلَّتَانِ، التَّعْرِيف والتأنيث، فَلذَلِك لم ينْصَرف فِي الْمعرفَة، وَلَيْسَ كَذَلِك حكم (هِنْد) ، لِأَنَّهُ من أَسمَاء الْمُؤَنَّث، لم يحصل فِيهِ حكم يُوجب ثقله، فَلذَلِك جَازَ أَن تجْعَل خفته مقوامة لأحد الثقيلين.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الْفرق بَين تَسْمِيَة الْمُذكر بمؤنث على ثَلَاثَة أحرف، وَبَين تَسْمِيَة بِمَا زَاد على الثَّلَاثَة؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن مَا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف ينْصَرف، متحرك الْأَوْسَط كَانَ أَو سَاكِنا، وَلَا ينْصَرف مَا زَاد على ثَلَاثَة أحرف، كَرجل سميته ب (قدم) ، فَإِنَّهُ ينْصَرف، وَلَو سميته ب (عقرب) لم ينْصَرف،

(1/460)


والفصل بَينهمَا أَن الْمُؤَنَّث إِذا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف فَسُمي مذكراً، فَإِنَّهُ ينْتَقل عَن حكم التَّأْنِيث بِالْكُلِّيَّةِ، وَيصير إِلَى الْمُذكر، وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنَّك لَو صغرته بعد التَّسْمِيَة لم تزد الْهَاء فِيهِ، وَلَو كَانَ حكم التَّأْنِيث فِيهِ بَاقِيا، لظهرت هَاء التَّأْنِيث فِي التصغير، فَهَذِهِ الدّلَالَة أعلمتنا أَنه قد انْتقل عَن حكم التَّأْنِيث، وَصَارَ مذكراً.
وَأما مَا زَاد على ثَلَاثَة أحرف، وَهُوَ مؤنث، فَإِن الْحَرْف الرَّابِع جعل مثل هَاء التَّأْنِيث، وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنَّك لَو صغرت عقربا قبل التَّسْمِيَة وَبعدهَا، لم يثبت فِيهَا هَاء، فَعلمنَا أَن الْحَرْف الرَّابِع قد أجري مجْرى حرف التَّأْنِيث، فَإِذا سميت بِهِ مذكراً، فَإنَّك سميته بِمَا فِيهِ عَلامَة التَّأْنِيث، فَلذَلِك لم ينْصَرف، وَفَارق حكم الثَّلَاثَة.
(68 / ب) وَاعْلَم أَن مَا عدل من الْعدَد نَحْو: أحاد وثناء إِلَى معشر وعشار، فَفِي منع صرفه وُجُوه:
أَحدهَا: قد ذَكرْنَاهُ فِي الشَّرْح.
وَالثَّانِي: أَنه عدل عَن اللَّفْظ وَالْمعْنَى، فَقَامَ هَذَا الْعدْل مقَام علتين، وَالدَّلِيل على أَنه عدل عَن مَعْنَاهُ، أَنه لَا يسْتَعْمل فِي مَوضِع مَا يسْتَعْمل فِيهِ الْأَعْدَاد غير

(1/461)


المعدولة، أَلا ترى أَنَّك تَقول: جَاءَنِي اثْنَان وَثَلَاثَة، وَلَا يجوز أَن تَقول: جَاءَنِي مثنى وَثَلَاث، حَتَّى تقدم قبله جمعا، لِأَنَّهُ جعل بَيَانا لترتيب الْفِعْل.
فَإِذا قَالَ الْقَائِل: جَاءَنِي الْقَوْم مثنى، فقد أخبرنَا أَن تَرْتِيب مجيئهم قد وَقع اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا الْأَعْدَاد أَنْفسهَا فَإِنَّمَا الْأَغْرَاض فِيهَا الْأَخْبَار عَن مِقْدَار الْمَعْدُود دون غَيره، فقد بَان بِمَا ذكرنَا اخْتِلَافهمَا فِي الْمَعْنى، فَلذَلِك جَازَ أَن تقوم الْعلَّة مقَام علتين، لأيجاب حكمين مُخْتَلفين.
وَوجه ثَالِث: أَن الظَّاهِر فِي هَذِه الْأَعْدَاد المعدولة أَن تكون معدولة من الْمُؤَنَّث، فَإِذا كَانَ المعدول من الْمُؤَنَّث الَّذِي لَا هَاء فِيهِ، كَانَ أخف، فَصَارَ معنى التَّأْنِيث الَّذِي فِيهَا مَعَ الصّفة علتين، فَلذَلِك لم ينْصَرف.
فَأَما (آخر) : فَالَّذِي أوجب أَن يكون معدولاً عَن الْألف وَاللَّام، أَن الْوَاحِدَة مِنْهُ (أُخْرَى) ، مثل (الفعلى) ، وَبَاب (الفعلى والأفعل) تسْتَعْمل بِالْألف وَاللَّام أَو ب (من) ، كَقَوْلِك: زيد أفضل من عَمْرو، وَإِن شِئْت قلت: زيد الْأَفْضَل، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: زيد آخر من عَمْرو، كَمَا يُقَال: أقدم من عَمْرو، إِلَّا أَنهم حذفوا (من) ، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن معنى (الآخر) بعد أول، فَلَمَّا صَار لَفظهَا مقتضياً لِمَعْنى (من) ، أسقطوا (من) اكتفاءاً بِدلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهَا، وَالْألف وَاللَّام تعاقب (من) ، فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالهَا بِغَيْر (من) جَازَ اسْتِعْمَالهَا أَيْضا بِغَيْر ألف وَلَام، فَصَارَ (الآخر وَالْأُخْرَى) معدولين عَن حكم نظائرهما، لِأَن الْألف وَاللَّام استعملا فيهمَا، ثمَّ حذفا، وَالدَّلِيل أَن الْعدْل إِنَّمَا كَانَ على طَرِيق الَّذِي ذَكرْنَاهُ دون الآخر وَالْأُخْرَى، أَنه لَو كَانَ الآخر وَالْأُخْرَى قد استعملا بِالْألف وَاللَّام، ثمَّ

(1/462)


عدلا عَن الِاسْتِعْمَال، لوَجَبَ أَن يبْقى حكم التَّعْرِيف بِالْألف وَاللَّام فيهمَا، كَمَا أَن (سحر) لما عدل عَن اسْتِعْمَال الْألف وَاللَّام بَقِي معرفَة فَدلَّ تنكير آخر وَأُخْرَى أَنَّهُمَا لم يعدلا عَمَّا استعملا فِيهِ، وَإِنَّمَا عدلا عَن نظائرهما.
فَإِن قَالَ قَائِل: فالخروج عَن الأَصْل يُوجب للاسم الْبناء، فَهَلا بنيتم أخر وَأُخْرَى لخروجها عَن نظائرهما؟
قيل لَهُ: إِن آخر وَأُخْرَى، وَإِن خرجا عَن حكم نظائرهما، فَلَيْسَ هُوَ خُرُوجًا مبايناً لما عَلَيْهِ الْأَسْمَاء، وَإِنَّمَا خُرُوج عَن تَعْرِيف إِلَى حكم تنكير، وَأكْثر الْأَسْمَاء يلْحقهَا التَّعْرِيف والتنكير، فَلم يكن لهَذِهِ الْمُخَالفَة قُوَّة توجب فِي آخر وَأُخْرَى.
وَأما مَا خرج من الْأَسْمَاء عَن نَظَائِره، وَصَارَ بِهَذَا الْخُرُوج مشبها للحروف، فَهَذَا الْمُسْتَحق للْبِنَاء، فَلذَلِك لم يسْتَحق آخر وَأُخْرَى الْبناء، لِأَنَّهُ قد نقص بِهَذَا الْعدْل دَرَجَة عَن حكم فِي أخواته، فَجعل هَذَا من أَقسَام الْعِلَل الْمَانِعَة للصرف، فَاجْتمع فِي أخر وَأُخْرَى فِي حَالَة التنكير الْعدْل على مَا ذَكرْنَاهُ وَالصّفة، فَلذَلِك لم ينصرفا.
فَإِن قَالَ قَائِل: (69 / أ) فَكيف جَازَ أَن تَقول: جَاءَتْنِي امْرَأَة أُخْرَى، وَلم يجز أَن تَقول: جَاءَتْنِي امْرَأَة فضلى؟
قيل لَهُ: لما كَانَ أُخْرَى قد أجري مجْرى مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام اللَّتَان تعاقبان (من) جَازَ أَن تَقول: جَاءَتْنِي الْمَرْأَة الفضلى، صَار (أُخْرَى) - وَإِن لم يكن فِيهِ

(1/463)


الْألف وَاللَّام - بِمَنْزِلَة مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام من أخواته، وَإِنَّمَا لم يجز أَن تَقول: جَاءَتْنِي امْرَأَة فضلى، لِأَنَّهُ يجب أَن تستعمله بِالْألف وَاللَّام، فَتَقول: جَاءَتْنِي الْمَرْأَة الفضلى. فَأَما إِذا استعملتها ب (من) لم يجز فِيهِ لفظ التَّأْنِيث وَكَانَ على لفظ التَّذْكِير فِي الْمُذكر والمؤنث، كَقَوْلِهِم: مَرَرْت بِرَجُل أفضل مِنْك، وبامرأة أفضل مِنْك، وَكَذَلِكَ حكمه فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع إِذا اسْتعْمل ب (من) ، وافترقا إِذا اسْتعْمل بِالْألف وَاللَّام، فثني وَجمع وأنث، قيل لَهُ: الْفَصْل بَينهمَا أَنَّك إِذا قلت: زيد أفضل من عَمْرو، فَإِنَّمَا تقصد إِلَى فضل زيد على عَمْرو، فَصَارَ الْفضل هَا هُنَا: بِمَعْنى الْمصدر، والمصدر قد بَينا أَنه لَا يثنى وَلَا يجمع وَلَا يؤنث، فَلذَلِك لزم طَريقَة وَاحِدَة.
وَأما مَا دَخلته الْألف وَاللَّام فَيصير وَصفا للذات، كَقَوْلِك: زيد الْأَفْضَل، فَلَمَّا صَار صفة للذات جرى مجْرى أصفر وأحمر، فَكَمَا أَن أصفر وأحمر يثنى وَيجمع، فَكَذَلِك الأفعل والفعلى.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار مَا فِي آخِره ألف وَنون، نَحْو: عُثْمَان، وبابه يمْتَنع من الصّرْف؟
قيل لَهُ: لِأَن الْألف وَالنُّون فِي آخِره زائدتان، كالألف وَالنُّون فِي سَكرَان، وهاء التَّأْنِيث لَا تدخل على مَا كَانَ مثل عُثْمَان من الْأَسْمَاء، كَمَا لَا تدخل هَاء التَّأْنِيث على سَكرَان، فَجرى مجْرَاه، فَلذَلِك لم ينْصَرف فِي الْمعرفَة، وَانْصَرف فِي النكرَة، لِأَنَّهُ لم يبلغ بالشبه مبلغ سَكرَان، وَذَلِكَ أَن سَكرَان مشابه لباب (حَمْرَاء)

(1/464)


من أَكثر الْوُجُوه، وَعُثْمَان أشبه مَا أشبه الْمُؤَنَّث، فَلذَلِك صَارَت عِلّة الشّبَه فِي عُثْمَان أقل حكما مِنْهَا فِي سَكرَان.
فَأَما (عُرْيَان) فمنصرف وَإِن كَانَ صفة، وَفِيه ألف وَنون، لِأَن الْألف وَالنُّون فِي عُرْيَان ليسَا بمنزلتهما فِي (سَكرَان) ، وَذَلِكَ أَن هَاء التَّأْنِيث تدخل فِيهِ كَقَوْلِك امْرَأَة عُرْيَانَة، وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِك لِأَنَّهُ صفة، وَعُثْمَان وبابه أَسمَاء لَا تغير عَن موضعهَا، فَلَمَّا خَالَفت الْألف وَالنُّون فِي (عُرْيَان) الْألف وَالنُّون فِي (سَكرَان) لم تشبها ألفي التَّأْنِيث، فَلذَلِك انْصَرف.
وَاعْلَم أَن مَا جعل من الْأَسْمَاء اسْما وَاحِدًا نَحْو: حَضرمَوْت، ومعدي كرب، وقالي قلا، وبعل بك، وَمَا أشبه ذَلِك فِيهِ وَجْهَان:
إِن شِئْت جعلت الْإِعْرَاب فِي آخر الِاسْم الثَّانِي، فبينت الِاسْم الأول على الْفَتْح، إِلَّا أَن يكون فِي آخِره يَاء فتبنيه على السّكُون، نَحْو: معدي كرب.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تضيف وَتجْعَل الْإِعْرَاب فِي آخر الِاسْم الأول.

(1/465)


وَإِنَّمَا جَازَ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا: لِأَن أحد الاسمين غير الآخر، فَجَاز أَن تشبهه بالمضاف والمضاف إِلَيْهِ، وَلِأَن الاسمين جَمِيعًا هما لشخص وَاحِد، فَيجوز أَن تقدر الِاسْم الأول فِي حَشْو الْكَلِمَة الثَّانِيَة، فَإِذا صَار الِاسْم الأول فِي تَقْدِير بعض اسْم، وَجب أَن يبْقى، إِذْ كَانَ بعض الِاسْم مُبينًا (69 / ب) وَإِنَّمَا بني على الْفَتْح، لِأَن تركيب الاسمين اسْما وَاحِدًا مستثقل، فَوَجَبَ أَن يخْتَار لَهُ أخف الحركات لثقله، وَإِنَّمَا وَجب أَن يبْنى الِاسْم الأول على حركته، لِأَنَّهُ كَانَ آخر الْحُرُوف حرف إِعْرَاب، وحرف الْإِعْرَاب يسْتَحق الحركات لما أزيل الْإِعْرَاب، لما دخله من الْبناء، لم يخل من الْحَرَكَة ليدل بحركته أَنه مِمَّا اسْتحق الْإِعْرَاب، إِذْ كَانَ يَاء قبلهَا كسرة، لم يدخلهَا من الحركات إِلَّا الْفَتْح، فَلَمَّا كَانَ حكم هَذِه الْيَاء فِي حَال الْإِعْرَاب أنقص رُتْبَة من غَيرهَا، وَكَانَت الْحُرُوف الَّتِي تستثقل فِيهَا الحركات تبنى على الْفَتْح، وَجب أَن تنقص الْيَاء رُتْبَة من الْفَتْح فِي هَذِه الْحَال، وَلَيْسَ بعد الْفَتْح أنقص رُتْبَة من السّكُون، فَلذَلِك ثبتَتْ على السّكُون، وَبَعض الْعَرَب يسكنهَا أَيْضا فِي حَال الْإِضَافَة، لتدل بإسكانها أَنَّهَا مِمَّا يسْتَحق السّكُون فِي حَال الْبناء، ومساغ الْإِضَافَة فِي هَذِه الْأَسْمَاء غير وَاجِب، فَجَاز أَن تُعْطى الْبناء، لجَوَاز الْأَمريْنِ فِيهَا، وَاعْلَم أَن الِاسْم الثَّانِي إِذا كَانَ مِمَّا يعلم تنكيره انْصَرف فِي حَال الْإِضَافَة، نَحْو: بعلبك وحضرموت.
وَأما معدي كرب: فبعض الْعَرَب يصرف كرباً، وَبَعْضهمْ لَا يصرفهُ، فَمن صرف فَلِأَن لَفظه لفظ مُذَكّر، فَحَمله على أصل الْأَسْمَاء من الصّرْف، وَمِنْهُم من لَا يصرف لِأَنَّهُ اعْتقد فِي (كرب) أَنه مؤنث.

(1/466)


وَاعْلَم أَنَّك إِذا سميت رجلا بِفعل لَا نَظِير لَهُ فِي الْأَسْمَاء لم ينْصَرف، نَحْو: دحرج، وَضرب، إِذا لم تسم فَاعله، فَإِن سميته بِفعل على لفظ مَا سمي فَاعله، وَله نَظِير فِي الْأَسْمَاء انْصَرف، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لِأَن أصل الْأَسْمَاء الصّرْف، وَإِنَّمَا تثقل الْأَسْمَاء إِذا كَانَت على وزن يخْتَص بِالْفِعْلِ، فتثقل لثقل الْفِعْل، فَإِذا كَانَ الْمثل مُشْتَركا للاسم وَالْفِعْل، كَانَ حمل الِاسْم على أَصله أولى من نَقله عَنهُ، إِذا لم يغلب عَلَيْهِ مَا يُوجب الثّقل، وَقد حُكيَ عَن عِيسَى بن عمر أَنه لَا يصرف رجلا سمي ب (ضرب) ، ويحتج بقول الشَّاعِر:
(أَنا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتى أَضَع الْعِمَامَة تعرفوني)

فَحكى أَن الشَّاعِر لم ينون، وَهُوَ على وزن (ضرب) ، فَدلَّ على أَن (ضرب) لَا ينْصَرف.
وَفِي هَذَا الْبَيْت وَجْهَان غير مَا ذهب إِلَيْهِ عِيسَى بن عمر:
أَحدهمَا: أَن يكون أَرَادَ الشَّاعِر الْحِكَايَة، لِأَنَّك إِذا سميت رجلا

(1/467)


ب (ضرب) جَازَ أَن تحكي حَال التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك، لِأَنَّهُ قد كَانَ قبل التَّثْنِيَة لَهُ حَال مُسْتَقِرَّة فِي الِاسْتِعْمَال، فَصَارَت فِي التَّسْمِيَة كالمستعارة، فَلذَلِك جَازَ أَن يحْكى حَاله، فَكَانَ التَّقْدِير: أَنا ابْن الَّذِي يُقَال لَهُ جلا الْأُمُور وكشفها.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تقدر فِي (جلا) ضميراً، وَإِذا قدر فِيهِ ضمير، لم تجز فِيهِ إِلَّا الْحِكَايَة، لِأَنَّهُ جملَة، وَالتَّسْمِيَة بالجمل لَا تجوز فِيهَا إِلَّا الْحِكَايَة.
فَإِذا سميت رجلا ب (قيل أَو رد) صرفته، لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِي الأَصْل وَزنه (فعل) فالكسرة فِي وَسطه قد زَالَت، وَخرج إِلَى نَظِير الْأَسْمَاء، نَحْو: ديك وبر، وَالِاعْتِبَار فِي منع الصّرْف ثقل الْفِعْل، فَلَمَّا زَالَ اللَّفْظ الَّذِي يخْتَص بِاللَّفْظِ زَالَ حكم الْفِعْل، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك لَو سميت رجلا (مَسَاجِد) لم تصرفه، لثقل اللَّفْظ، فَلَو صغرته انْصَرف، لِأَنَّهُ يصير على لفظ (مسيجد) ، (70 / أ) فيزول عَنهُ الثّقل الَّذِي أوجب منع الصّرْف، وَهُوَ الشّبَه بِالْجمعِ، وَلَيْسَ كَذَلِك ثقل التَّأْنِيث، لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر فِي التَّأْنِيث ثقل لفظ الْمَعْنى، فَلذَلِك افترق حكم التَّأْنِيث وَحكم الشّبَه بِالْفِعْلِ، إِذْ كَانَ الْفِعْل لَيْسَ لَهُ إِلَّا حكم وَاحِد، وَهُوَ ثقل اللَّفْظ.
وَاعْلَم أَن تَقْدِير المعدول من بَاب (فعل) أَن يكون المعدول عَنهُ معرفَة نَحْو:

(1/468)


عمر، من عَامر، وَزفر، من زَافِر، عدل إِلَى هَذَا اللَّفْظ للتَّخْفِيف، فَبَقيَ حكم التَّعْرِيف الَّذِي كَانَ فِي أصل، فَلذَلِك لم ينْصَرف.

(1/469)