عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس

باب المرتبة السادسة وهي مرتبة البلاغة
830- أبدأ إن شاء الله بذكر اشتقاق البلاغة, وما حقيقتها لتحصل توابعها وتتدبر لواحقها, ثم نأتي بذكر نعت البلاغة؛ ثم ذكر تفصيل البلاغة وترتيبها؛ ثم نذكر ما جاء في البلاغة من المواعظ؛ ثم نذكر مجانسة الألفاظ التي تدل على البلاغة؛ ثم نذكر ما في العفو من البلاغة, ثم نذكر البلاغة في الألفاظ المستحسنة في البلاء, ثم ذكر البلاغة في المعاني, ثم صحة التفسير في البلاغة, ثم التكافؤ في البلاغة, ثم الاشتقاق من اللغة في البلاغة, ثم ما جاء من اللغة في البلاغة, ثم ما جاء من البلاغة في الدعاء, ثم البلاغة من دعاء أهل البيت عليهم السلام, ثم الاشتقاق والمضارعة في البلاغة, ثم السجع والازدواج في البلاغة؛ ثم نذكر فقراً من البلاغة عن عليٍ صلى الله عليه؛ ثم نذكر أشياء من البلاغة مرويةً مما يحفظه الكتاب المتأدبون إن شاء الله.

(1/272)


ذكر اشتقاق البلاغة وحقيقتها
831- البلاغة اسمٌ ممدوحٌ مشتقٌ من بلغ صاحبها.
832- قال ابن المقفع: البلاغة الإيجاز, وهكذا مذاهب العرب وعاداتهم في العبارة يميلون إلى أن تكون الألفاظ أقل من المعاني في المقدار والكثرة.
833- قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: لمحةٌ دالةٌ.
834- ومذهب الكتاب في البلاغة أن تكون الألفاظ غير ناقصةٍ عن المعاني ولا زائدةً عليها.
835- وقيا لليوناني: ما البلاغة؟ فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
836- وقيل للرومي: ما البلاغة؟ فقال: حسن الاقتصاد عند البديهة, والغزارة يوم الإطالة.
837- وقيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل.
838- وقيل للهندي: ما البلاغة؟ فقال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة, وحسن الإشارة.
839- وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابيٍ: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز من غير عجزٍ, والإطناب من غير خطلٍ.

(1/273)


840- وقيل للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل من أفهمك حاجته من غير إعادةٍ ولا حبسةٍ ولا استعانةٍ فهو البليغ. قيل: ما الاستعانة؟ قال: اسمع مني, وافهم عني, أو لست تفهم عني؛ كل هذا عيٌ وفسادٌ.
841- قال المأمون: سمعت الرشيد يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة, والتقرب من معنى البغية, والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى.
842- وقيل لعمرو بن عبيدٍ: ما البلاغة؟ قال: ما أبلغك الجنة وعدل بك عن النار, وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع, ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء بكاءٌ)) , وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله؛ قال له: ليس هذا أريد؛ قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت؛ قال له: ليس هذا أريد؛ قال: فكأنكم تريدون تخير اللفظ في حسن إفهامٍ, إنكم إذاً أردتم تقرير حجة الله في عقول المتكلفين, وتخفيف المؤونة على المستمعين, وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ

(1/274)


المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان, رغبةً في سرعة استجابتهم, ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة =كنتم قد أوتيتم فصل الخطاب, واستوجبتم على الله حسن الثواب.
843- قال الجاحظ: إن أحسن ما اختبأه ودونه لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه, ولفظه معناه, فلا يكون لفظه إلى السمع أسبق من معناه إلى القلب.
نعت البلاغة
844- من نعتها أن تكون سليمةً من التكلف, بريئةً من التعقد.
845- وقيل: لها نعوتٌ ثلاثةٌ, منها: أن تكون متساويةً, وذلك أن يكون اللفظ كالقالب للمعنى, لا يفضل عنه ولا ينقص منه, وهذا النعت أحسنه أن يكون للنظراء والأكفاء.
ووصف رجلٌ كاتباً, فقال: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه.
والنعت الثاني: أن يكون كالإشارة أو كاللمحة الدالة. وموضع استعمال هذا عند أهل المراتب العالية من الأدب والفهم.
كما روي أن المأمون أمر عمرو بن مسعدة يكتب كتاباً إلى بعض العمال لرجلٍ يعنى به المأمون في قضاء حقه, وأمره يختصر كتابه في سطرٍ واحدٍ, فكتب: كتابي إليك أعزك الله كتاب واثقٍ بمن كتبت إليه,

(1/275)


معنيٍ بمن كتبت له, ولن يضيع بين العناية والثقة حامله.
والنعت الثالث: الإطالة وإعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه ويتوكد عند من فهمه, وسبيل هذا أن يستعمل في المواطن الجامعة, ومع العامة, ومن لا يسبق خاطره إلى أن يتصور المعنى في أول وهلةٍ, إما لبعده عن ذلك أو لقلة فطنته, لأن الموقف حافلٌ يكثر فيه اللغط والضجة, فيحتاج إلى إشباع المعنى وتوكيده وتكرير الألفاظ المترادفة, فتقول في نعت السيف: الحسام الباتر العضب؛ وفي نعت الشجاع: البطل الفاتك النجد الباسل؛ فيستحسن للكتاب أن يستعملوا مثل هذا في كتب الفتوح وعقد العهود, كما قال بعضهم في وصف كاتبٍ بليغٍ: إن أخذ شبراً كفاه, وإن أخذ طوماراً ملاه.
ذكر تفصيل البلاغة وترتيبها
846- من ذلك حسن الخطاب, ولطف الجواب.
قيل للعباس: أأنت أكبر أم النبي صلى الله عليه؟ قال: النبي أكبر وأنا أسن.
847- ولقي المنصور ليلاً يزيد بن حاتم, فقال المنصور: من هذا؟ فقال: يزيد, زادك الله حبوراً, وزاد عدوك ثبوراً.
848- وقال الرشيد لغلامٍ لبعض القواد –وكان فصيحاً-: إن مولاك

(1/276)


قد وهبك لنا, فقال: ما زلت لك مذ كنت له, وما زلت عن ملكه إذ صرت لك؛ فأعجب به.
849- وكان أبو العباس المبرد يعد في البلغاء بحسن عبارته وترتيب بلاغته.
850- وحكى أبو إسحاق عنه, أنه قال: ما رأيت في أصحاب السلطان مثل إسماعيل بن إسحاق, والحسن بن رجاءٍ, قال: كنت إذا رأيت الحسن بن رجاءٍ رأيت رجلاً كأنما خلق لذروة منبرٍ أو لصدر مجلسٍ, يتكلم كأنما يتنفس, يسهب ويطنب, ويعرب ويغرب, ولا يعجب ويعجب.
851- وحكى بعض أصحابنا أن علي بن عيسى سأل بعض الكتاب حاجةً، فقال: أنا وجاهي وما تنبسط فيه يدي لسيدنا الوزير أعزه الله، فليضع ما شاء من ذلك حيث شاء.
852- وقال القاسم بن عبيد الله للرياشي: أنا أرفعك ونفسك تضعك، وأظنها ستغلبني على رأيي فيك.
853- وقال لبعض الأمراء: أنا أستغفر الله لأبي من إحسانه إليك، وأستخيره فيما عزمت عليه في أمرك.
854- وقال رجلٌ لبعض الكتاب: والله لتعلمن ما عملت؛ إنك كثير السعاية، قليل النكاية.
855- ومر المهلب بن أبي صفرة يختال في مشيته بمالك بن دينارٍ، فقال له مالكٌ: إن الله عز وجل يبغض هذه المشية إلا بين الصفين؛ قال له المهلب: أما تعرفني؟ قال مالكٌ: إني لعارفٌ بك؛ قال المهلب:

(1/277)


فمن أنا؟ قال: أنت الذي أوله نطفةٌ قذرةٌ، وآخره جيفةٌ مذرةٌ، وهو بينهما يحمل العذرة! فاستحيا المهلب وقال: قد عرفتني حق المعرفة.
856- وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة، والخليفة يومئذٍ المهدي رضي الله عنه، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ فقال: رأيت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
857- وسأل محمد بن مروان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن يكون مع ابنه يقومه ويخرجه، فقال له بعد مدةٍ: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: ألزمتني رجلاً إن بعدت عنه عتب، وإن جئته حجب، وإن عاتبته غضب.
858- وحكى عمرو بن بحرٍ في ترتيب البلاغة عن بعض الهند: أول البلاغة اجتماع آلتها، وذلك أن يكون الخطيب رابض الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون معه من القوة ما يعرف به لفظه من كل طبقةٍ حتى لا يدقق المعنى إذا خاطب أوساط الناس، ولا يدع ذلك إذا خاطب حكيماً أو كاتباً فيلسوفاً.
859- ومن ترتيبها أن لا تستعمل فيها حوشي الكلام، وما تستثقله العوام، كما قيل: كفاك أدباً لنفسك ما كرهت من غيرك.
860- وقال الحسن البصري –وكان بليغاً فصيحاً-: سبقت اللحن.

(1/278)


861- وقال: كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيك من رشدك.
ذكر المواعظ في البلاغة
862- قرئ على القاسم بن بنت منيع، عن هدبة بن خالدٍ، حدثنا همامٌ، عن قتادة، عن مطرفٍ، عن أبيه، قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته يقرأ: {ألهكم التكاثر} قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) .
863- وفي حديثٍ آخر: ((يود أحدكم يوم القيامة لو كان رزقه أقل من القوت)) .
864- وفي حديثٍ آخر: ((يؤجر ابن آدم حتى في الشوكة يشاكها)) .
865- ووعظ شبيب بن شيبة المنصور، فقال: إن الله لم يجعل فوقك أحداً، فلا تجعل فوق شكرك شكراً.
866- ودخل عمرو بن عبيدٍ على المنصور وعنده المهدي، فقال له: هذا ابن أخيك المهدي، ولي عهد المسلمين؛ فقال: سميته اسماً

(1/279)


لم يستحقه عمله ويفضي الأمر إليه، وأنت عنه مشغولٌ؛ ثم وعظه فبكى، فقال له المهدي: حسبك! فقد أبكيت أمير المؤمنين؛ فقال: يا أمير المؤمنين! أغم ما تكون بنفسك أفرح ما يكون بنفسه؛ قال: سلني حاجتك، قال: أتقضيها؟ قال: نعم، قال: لا ترسل إلي حتى أجيئك؛ قال: أوترجع إلي؟ قال: نعم؛ وترك نعله وخرج، ثم عاد، فأخذها، ولم يرجع إليه، فتفقده وقال: لم يكن ليكذب؛ حتى أخبر خبر النعل.
867- ودخل ابن السماك على الرشيد، فقال له: تكلم وأوجز؛ قال: إن أخوف ما أخاف على نفسي الدخول إليك؛ فغضب الرشيد، وقال: لتخرجن مما قلت أو لأفعلن بك وأصنعن؛ قال: أنت ولي الله في عباده، فإن أنا لم أنصح لك فيهم وأصدقك عنهم خفت من الله عز وجل في ذلك، اتق الله في رعيتك، وخف المرجع إليه، لم أر أحسن من وجهك فلا تجعله للنار حطباً!
868- قال بعضهم: رب هالكٍ بالثناء عليه ومغرورٍ بالستر عليه، ومستدرجٍ بالإحسان إليه.
869- وقال الفضل بن عباسٍ: إذا قيل لك: أتخاف الله؟ فاسكت، فإن جئت بـ ((لا)) جئت بأمرٍ عظيمٍ، وإن قلت: ((نعم)) ، فالخائف لا يكون على ما أنت عليه من الأمان.
870- وقال الشعبي: سمعت الحجاج يتكلم بكلامٍ ما سبقه إليه أحدٌ، سمعته يقول: أما بعد؛ فإن الله كتب على الدنيا الفناء، وكتب

(1/280)


على الآخرة البقاء، فلا بقاء لما كتب عليه الفناء، ولا فناء لما كتب عليه البقاء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقصروا طول الأمل بقصر الأجل.
871- وقيل لأعرابيٍ اعتل: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي وأحتمي، إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فافتضحوا.
872- وقال أبو حازمٍ: كل ما تكره الموت من أجله فاتركه، ولا يضرك متى مت، وما أحببت أن يكون معك غداً فقدمه اليوم، وما كرهت أن يكون معك غداً فاتركه اليوم.
873- وكان بعض الحكماء يقول: اصبروا عباد الله على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه.
874- وقال سفيان: ينبغي لمن وعظ ألا يعنف ولمن وعظ ألا يأنف.
875- وكان مطرفٌ يقول: خوف النار يكاد أن يحول بيني وبين أن أسأل الله الجنة.
876- وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إن أناساً قبلي لا يؤدون ما عليهم إلا أن أمسهم بشيءٍ من العذاب؛ فكتب إليه عمر: العجب كل العجب في استئذانك إياي في عذاب عباد الله, كأني لك جنةٌ من عذابه, أو كأن رضاي ينجيك من سخطه؛ إذا وصل إليك كتابي فمن أعطاك عفواً, وإلا فاستحلفهم بالله, فوالله لأن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم.

(1/281)


877- وقال لقمان لابنه: زاحم العلماء بركبتك ولا تجادلهم فيمقتوك, وخذ من الدنيا بلاغك, واتق الله, وأنفق فضول كسبك لآخرتك, ولا ترفض الدنيا كل الرفض, فتكون عيالاً على أعناق الرجال كلاً, وصم صوماً تكسر به شهوتك, ولا تصم صوماً يضر بصلاتك, فإن الصلاة أفضل من الصوم, ولا تجالس السفيه, ولا تخالط ذا الوجهين.
878- حدثنا بكر بن سهلٍ, قال: حدثنا عبد الله بن يوسف, قال: أخبرنا مالكٍ, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شر الناس ذو الوجهين الذي يلقى هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ)) .
باب ذكر مجانسة الألفاظ التي تدل على البلاغة
879- كان ثابتٌ البناني يكثر أن يقول: الحمد لله, وأستغفر الله؛ فسئل عن ذلك, فقال: أنا بين نعمةٍ وذنبٍ, فأحمد الله على النعمة, وأستغفره من الذنب.

(1/282)


880- ومن حسن ما في التجانس أنه يروى أن رجلاً اعتذر إلى سليمان بن وهبٍ, فأكثر, فقال له سليمان: حسبك! فإن الولي لا يحاسب, وإن العدو لا يحتسب له.
881- قال أبو جعفرٍ: ولو قال: والعدو لا يعتد له بفعله, لم يكن في حسن ذلك التجانس.
882- وقال بعض البلغاء: لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً.
883- وقال ابن السماك: اللهم ارزقني حمداً ومجداً, فإنه لا حمد إلا بفعالٍ, ولا مجد إلا بمالٍ؛ اللهم إني لا يسعني القليل ولا أسعه.
884- وقال عند وفاته: اللهم إنك تعلم أني كنت إذ كنت أعصيك أحب أن أكون ممن يطيعك.
885- وقال إبراهيم المحلمي: كنت أقول: اللهم إني أستغفرك لما أملك, وأستصلحك لما لا أملك.
886- وكان علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه يدعو في حروبه: اللهم أنت أرضى للرضا, وأسخط للسخط, وأقدر أن تغير ما كرهت, وأعلم لما تقدر.
887- ومن دعاء علي بن الحسين عليهما السلام: اللهم ارزقني خوف الوعيد، وسرور رجاء الموعود، حتى لا أرجو إلا ما رجيت، ولا أخاف إلا ما خوفت.

(1/283)


888- وكان جعفر بن محمدٍ عليهما السلام يقول: أستلطف الله لكل عسيرٍ، فإن تيسير العسير على الله يسيرٌ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه.
889- وكان يقول: اللهم إنك بما أنت له أهلٌ من العفو أولى مني بما أنا له أهلٌ من العقوبة، اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك.
890- ولغيره: اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العجز والعي والحصر.
891- وقال أبو عبادٍ الكاتب: ما جلس بين يدي رجلٌ قط إلا ظننت أني بين يديه.
892- وقال آخر: العذر مع التعذر واجبٌ فاقبله.
893- وقيل لأخر: ما عندك في النكاح؟ فقال: ما يقطع حجتها، ولا يبلغ حاجتها.
894- ومن حسن ما في هذا المعنى من التجانس قول الأفوه الأودي:
فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدةٍ ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتادٌ وأعمدةٌ ... وساكنٌ بلغوا الأمر الذي كادوا

(1/284)


لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وإن تولى سراة القوم أمرهم ... نمى على ذاك أمر القوم فازدادوا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد
895- وسمع زيادٌ رجلاً يدعو عليه يقول: اللهم اعزل عنا زياداً، فقال: صل في دعائك: وأبدلنا به من هو خيرٌ منه.
896- وسب رجلٌ عابداً، فقال: والله لولا أن الله عز وجل يسمعك لأجبتك.
ذكر ما جاء في العفو من البلاغة
897- حدثني محمد بن أيوب بن حبيبٍ، قال: حدثنا عبد الله بن محمدٍ، وهو ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا عيسى ابن أبي حربٍ والمغيرة بن محمدٍ قال: حدثنا عبد الأعلى بن حمادٍ، قال: حدثني الحسن بن الفضل بن الربيع، قال: حدثني عبد الله بن الفضل بن الربيع قال: حدثني أبي، قال: حج أبو جعفرٍ في سنة سبعٍ وأربعين ومئةٍ، فقدم المدينة، فقال: ابعث إلى جعفر بن محمدٍ من يأتيني به سعياً، قتلني الله إن لم أقتله، فأمسكت عنه رجاء أن ينساه، فأغلظ لي في الثانية، فقلت: جعفر بن محمدٍ بالباب يا أمير المؤمنين؛ فقال: ائذن له! فأذنت له، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: لا سلام الله عليك يا عدو الله! تلحد في سلطاني وتبغيني الغوائل في ملكي؟! قتلني

(1/285)


الله إن لم أقتلك؛ قال: يا أمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت السنخ من ذلك؛ فنكس طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: إلي، وعندي يا أبا عبد الله البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله أفضل ما يجزي به ذوي الأرحام عن أرحامهم؛ ثم تناول يده، فأجلسه معه على السرير، وغلفه بيده، ثم قال له: في حفظ الله وكلاءته، يا ربيع! ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته؛ فانصرف. ولحقته، فقلت له: إني رأيت قبل ذلك ما لم تره، وسمعت ما لم تسمع، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك، فما الذي قلت؟ قال: نعم، إنك رجلٌ منا أهل البيت، ولك محبةٌ وودٌ؛ قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وأعزني بسلطانك الذي لا يضام، واغفر لي بقدرتك علي، ولا أهلك وأنت رجائي، رب كم من نعمةٍ أنعمت بها علي قل عندها شكري، وكم من بليةٍ ابتليتني بها قل عندها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني، ويا من يراني على الخطايا فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ويا ذا النعم التي لا تحصى عدداً، أسألك أن تصلي على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، وبك أدرأ في نحره وأعوذ بك من شره، اللهم أعني على ديني بدنيا وعلى آخرتي بتقوى، واحفظني في ما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي في ما حضرته، يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينقصك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً،

(1/286)


ورزقاً واسعاً، والعافية من جميع البلايا، وشكر العافية.
898- وبلغ هشاماً عن رجلٍ كلامٌ، فأتي به، فاحتج، فقال له هشامٌ: أتتكلم أيضاً؟ قال: إن الله قال: {يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها} أفيجادل الله عز وجل ولا تكلم أنت؟ قال: تكلم بما أحببت.
899- ولما تهدد المنصور الطالبيين حين أتي برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسنٍ، قال له ابن عياشٍ: إن الله عز وجل قد صنع الذي تحب في الظفر، فاصنع الذي يحب في العفو.
900- وقدم إلى الحجاج أسرى ليقتلوا، فقدم رجلٌ لتضرب عنقه، فقال: أما والله لئن كنا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو؛ قال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف! أما كان فيها من يحسن مثل هذا الكلام؟! وأمسك عن القتل.
901- وأتي الهادي برجلٍ من الحبس، فجعل يقرره بذنوبه، فقال الرجل: اعتذاري مما تقررني به ردٌ عليك، وإقراري يوجب لي ذنباً لم أجنه، ولكني أقول:
إن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
فعفا عنه.
902- ودخل جرير بن عبد الله على المنصور، وقد كان وجد عليه، فقال له: تكلم بحجتك؛ فقال: لو كان لي ذنبٌ لتكلمت بعذري،

(1/287)


وعفوك أحب إلي من براءتي.
903- قال إسحاق: واعتذر هارون بن نعيمٍ إلى الحسن بن سهلٍ من ذنبٍ كان له، فقال له الحسن: تقدمت لك طاعةٌ، وحدثت لك توبةٌ، وكانت لك بينهما هفوةٌ، ولن تغلب سيئةٌ حسنتين.
904- وقال إبراهيم بن المهدي:
فعفوت عن من لم يكن عن مثله ... عفوٌ ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكينٍ خاضع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والهةٍ كقوس النازع
ذكر البلاغة في الألفاظ
905- سئل أعرابيٌ: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهةً.
906- وقال الجاحظ: لم أر قوماً أمثل طبقةً في البلاغة من الكتاب، وذلك أنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً حوشياً ولا ساقطاً عامياً.
907- وقال غيره في بلاغة الألفاظ: أن تكون سمحةً سهلةً، لها حلاوةٌ وطلاوةٌ، وعليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاشة.
908- كما روي أن العتابي دخل على المأمون، فقال له: خبرت

(1/288)


بوفاتك فغمتني، وجاءتني وفادتك فسرتني؛ فقال العتابي: لو قسمت هذه الكلمات على أهل الأرض لوسعته؛ وذلك أنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك؛ قال: سلني؛ قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة.
909- ووقف أعرابيٌ على حلقة الحسن، فقال: رحم الله من تصدق من فضلٍ، أو آسى من كفافٍ، أو آثر من قوتٍ. قال الحسن: ما ترك أحداً إلا وقد سأله.
910- وقال أعرابيٌ آخر لعبد الملك: قد جهد الناس وأحاطت بهم السنون، جاءت سنةٌ فذهبت بالمال، ثم ردفتها أخرى برت اللحم، ثم ردفتها سنةٌ أخرى كسرت العظم، وعندك أموالٌ, فإن تكن لله فاقسمها بين عباده, وإن تكن لهم فلا تخزنها دونهم, فإن الله عز وجل بالمرصاد, وإن تكن لك فتصدق علينا, فإن الله يجزي المتصدقين.
911- وسئل بعض الحكماء عن أعدل الناس وأجور الناس, وأكيس الناس, وأحمق الناس, وأسعد الناس؛ فقال: أعدل الناس من أنصف من نفسه, وأجور الناس من رأى جوره عدلاً, وأكيس الناس من أخذ أهبة الأمر قبل نزوله, وأحمق الناس من باع آخرته بدنيا غيره, وأسعد الناس من ختم له في عاقبة أمره بخيرٍ.
912- وقيل للعتابي: فلانٌ بعيد الهمة, فقال: إذاً لا تكون له غايةٌ دون الجنة.
913- وقال بعض الأعراب: إن الله عز وجل رفع درجة اللسان

(1/289)


فأنطقه بتوحيده من بين الجوارح.
914- وقيل للأحنف: الناطق أفضل أم الصامت؟ قال: الناطق؛ قال: وكيف؟ قال: لأن الصامت لا يعدو منفعة نفسه، والناطق ينفع نفسه وغيره.
915- وسمع أعرابيٌ رجلاً يتكلم ويكثر، ثم التفت إليه، فقال: ما البلاغة عندكم؟ قال: خلاف ما أنت فيه منذ اليوم.
916- وقال الحسن: من علم أن الكلام عملٌ لم يتكلم إلا في ما يعنيه.
917- وضحك المعتصم من عبد العزيز المكي، وكان مفرط القبح لما دخل على المأمون للمناظرة؛ فقال المكي للمأمون: مم يضحك هذا؟ والله ما اصطفى الله يوسف لجماله, وإنما اصطفاه لبيانه, قال جل وعز: {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكينٌ أمينٌ} فبياني أحسن من وجه هذا؛ فضحك المأمون وأعجبه كلامه.
918- وقال بعضهم: الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل, فإذا اجتمعا فذاك البلاغة.
919- وقال بعض الحكماء: البلاغة أن يظهر المعنى صريحاً, والكلام صحيحاً.
920- وقال غيره: أفضل اللفظ بديهة آمنٍ وردت في مقام خوفٍ.
921- وأنشد بعضهم:

(1/290)


سأرفض ما تخاف علي منه ... وأترك ما هويت لما خشيت
لسان المرء ينبىء عن حجاه ... وعي المرء يستره السكوت
ذكر الألفاظ المستحسنة في البلاغة
922- يستحسن الكتاب أن تكون الألفاظ أقل من المعاني في المقدار والكثرة, فإذا كتبوا حسن عندهم أن تكون الألفاظ غير ناقصةٍ عن المعاني, ولا زائدةٍ عليها, إلا أن تكون في موضعٍ يحتاج فيه إلى الإسهاب.
923- ويستحسن في مثل هذا ما قاله جعفر بن يحيى, فإنه جمع ذلك في توقيع إلى كاتبه؛ وقع: إذا كان الإكثار أبلغ, كان الإيجاز تقصيراً؛ وإذا كان الإيجاز كافياً, كان الإكثار عياً.
924- ودخل عمرو بن سعيدٍ على معاوية بعد موت أبيه, فقال: يا عمرو! إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: أوصى إلي ولم يوص بي.
925- وقال عمر بن عبد العزيز لرجلٍ تكلم عنده, فأحسن: هذا والله السحر الحلال.
926- وقيل لقيس بن عاصمٍ: ما البلاغة؟ فقال: الإيجاز, فقيل: ما النعيم؟ قال: الأمن, قال: فما العز؟ قال: القدرة,

(1/291)


قال: فما المروءة؟ قال: الإنصاف.
927- قيل للأصمعي: ما حد الاختصار؟ قال: حذف الفضول, وتقريب البعيد.
928- وسئل رجلٌ عن البلاغة, فقال: سهولة اللفظ, وحسن البديهة.
929- وقال آخر: أحسن القول أوجزه, وأهنأ المعروف أوحاه.
930- ودخل رجلٌ من بني شيبان على معن بن زائدة, فقال: ما هذه الغيبة المنسأة؟ قال: أبقى الله الأمير في نعمٍ زائدةٍ, وكرامةٍ دائمةٍ, ما غاب أيها الأمير عن العين من ذكره القلب, وما زال شوقي إلى الأمير شديداً, وهو دون ما يجب له علي؛ وذكري له كثيراً, وهو دون قدره عندي؛ ولكن جفوة الحجاب, وقلة بشر الغلمان, يمنعانني من الإتيان, فأمر بتسهيل أمره وأحسن مثواه.
931- وقال أعرابيٌ لعمر بن عبد العزيز: ساقتني إليك الحاجة, وانتهت بي إليك الفاقة, والله سائلك عن مقامي هذا؛ فبكى عمر, وقال: ما سمعت قولاً أبلغ من هذا, ولا وعظاً أوجع منه.
932- ولزم بعض الحكماء باب بعض الملوك من العجم دهراً, فلم يصل إليه, فلطف الحاجب في إيصال رقعةٍ فيها أربعة أسطرٍ, في

(1/292)


الأول: الضرورة والأمل أقدماني عليك, وفي الثاني: العدم لا يكون معه صبرٌ على المماطلة, وفي الثالث: الانصراف بغير فائدةٍ شماتة الأعداء, وفي الرابع: فإما نعمٌ مثمرةٌ وإما لا مريحةٌ. فلما قرأها وقع تحت كل سطرٍ: ز هـ ز هـ, وأعطاه ستة عشر ألف مثقالٍ ذهباً.
933- وقال الجاحظ: كان جعفر بن يحيى يتحدث ولا يتوقف, ولا يستدعي معنىً من بعدٍ إلى غير ذلك.
934- وكتب إبراهيم بن المهدي إلى بعض كتابه ورآه يتبع حوشي الكلام وغريبه في كتبه: إياك والتتبع لحوشي الكلام طمعاً في نيل البلاغ, فإن ذلك العي الأكبر, وعليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل.
935- وقال معاوية للضحاك العبدي: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز؛ قال: وما الإيجاز؟ قال: أن تقول فلا تخطئ, وتجيب فلا تبطئ؛ ثم قال: أقلني, هو ألا تخطئ ولا تبطئ.
936- واعتذر رجلٌ, فقال: إن كان ما حفظ من جرمي دون قدر الحرمة بك, فالصفح لي عنه واجبٌ, وإن كان موازياً له, فالحسنة تذهب السيئة, وإن كان فوقه فإن الله عز وجل يقول: {ولا تنسوا الفضل

(1/293)


بينكم} والفضل أعلى منزلةً من العدل, وأولى بأولي النهى.
937- ووصف سهلٌ رجلاً بليغاً, فقال: ما رأيت أحسن فهماً منه لجليلٍ, ولا أحسن تفهماً لدقيقٍ.
938- وأخذ الطائي هذا المعنى, فقال:
وكنت أعز عزاً من قنوعٍ ... تعوضه صفوحٌ من ملول
فصرت أذل من معنىً دقيقٍ ... به فقرٌ إلى ذهنٍ جليل
ذكر البلاغة في المعاني
939- البلاغة في المعاني ألطف من البلاغة في الألفاظ, ويستحسن منها صحة التقسيم.
940- من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول ابن آدم: مالي! مالي! وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو أعطيت فأمضيت)) .
941- ولبعض الكتاب: فإنك لم تخل فيما بدأتني به من مجدٍ أثلته، أو شكرٍ تعجلته، أو أجرٍ ادخرته، أو متجرٍ تجرته، أو من أن يكون ذلك كله؛ فلم يبق في هذا الباب قسم لم يأت به.

(1/294)


942- وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين متينٌ، فأوغل فيه برفقٍ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)) .
943- ومن حسن البلاغة في المعاني صحة المقال، وذلك أن يؤتى بمعانٍ موافقةٍ يراد بها التوفيق، وبمعانٍ أخر للمضادة، فيؤتى في الموافق بموافقةٍ وفي المضاد بمضادةٍ. كقول بعض الكتاب: فإن أهل الرأي والنصح لا يساويهم ذو الأفن والغش، وليس من جمع إلى الكفاية أمانةً كمن أضاف إلى العجز خيانةً.
قال بعض الكتاب: إذا تؤملت هذه المقالة وجدت غاية المعادلة، لأنه جعل بإزاء الرأي الأفن، والأفن سوء الرأي؛ وبإزاء النصح الغش، وقابل العجز بالكفاية، والأمانة بالخيانة.
944- ومن حسن هذا الجنس ما دعت به هند بنت النعمان وقد أحسن إليها فقالت: شكرتك يدٌ نالتها خصاصةٌ بعد ثروةٍ، وأغناك الله عن يدٍ نالت ثروةً بعد فاقةٍ.
945- وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رحمه الله وقد ذكر أمر الخلافة: ومن يصلح لها؟ فقال: يصلح لها من كان فيه لينٌ في غير مهانةٍ، وشدةٌ في غير عنفٍ.
وأنه كتب إلى أبي موسى: إن أسعد الولاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم من شقيت به رعيته.
946- وحكى المازني، عن الشافعي، عن بعض الحكماء: ليس

(1/295)


من أحدٍ وإن ساعدته المقادير بمستخرجٍ من الدنيا غضارة عيشٍ إلا من خلال مكروهٍ، ومن انتظر بمعاجلة الدرك مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته.
947- وعن مكحولٍ، قال: قال داود صلى الله عليه للقمان بعدما كبرت سنه: ما بقي من عقلك؟ قال: لا أنطق فيما [لا] يعنيني، ولا أتكلف ما كفيته.
948- وعن محمد بن السائب، عن أبيه، قال: قدم الأحنف –واسمه الضحاك بن قيسٍ- الكوفة في زمن مصعب بن الزبير، فرأى رجلاً دميماً أعور قصيراً أحنف الرجلين، فقال له رجلٌ: يا أبا بحرٍ! بأي شيءٍ بلغت ما بلغت؟ فوالله ما أنت بأشرف قومك، ولا أشجعهم، ولا أجودهم؛ فقال: يا بن أخي بخلاف ما أنت فيه، قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: تركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
949- وقال لهيعة بن عياشٍ: قال راهبٌ لشيخٍ منهم: أريد أن أحفظ قلبي, قال الشيخ: كيف تحفظ قلبك ولسانك الذي هو باب قلبك مفتوحٌ؟
950- وأجل هذه الأشياء حديث مالكٍ, عن الزهري, عن علي بن حسينٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) .
951- وروى أبو هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد يتكلم

(1/296)


بكلمةٍ من سخط الله لا يرى بها بأساً, فيهوي في النار سبعين خريفاً)) .
ذكر صحة التفسير في البلاغة
952- أصل هذا الباب أن توضع معانٍ ثم تشرح, فيأتي الشرح على تلك المعاني من غير عدولٍ عنها, ولا زيادةٍ عليها, ولا نقصانٍ منها, كما قال بعضهم: وأنا واثقٌ بمسالستك في حالٍ مثل ما أعلمه من مشارستك في أخرى, ثم فسر ذلك فقال: لأنك إن عطفت وجدت لدناً وإن غمزت ألفيت شثناً.
953- ولبعضهم: قد أنكرت نفسي لنومي في البلاء ويقظتي في الخلاء, وأنسى الحديث وأذكر القديم.
954- ولبعضهم: من صنف كتاباً فقد استشرف بالمدح والذم, لأنه إن أحسن فقد استهدف للحسد, وإن أساء فقد تعرض للذم.
955- ولبعض البلغاء: وأين يذهب بك عزيز أنعامك, وسديد أحكامك, وأليم انتقامك, أن تكون مشباعاً للضيف, ومدفاعاً للحيف, وممناعاً من الخوف.

(1/297)


956- وقال أبو علي البصير –وهو أحد البلغاء- لبعض الطالبيين وقد شتمه: إنا والله ما نعيا عن مساءتك؛ ثم فسر: ولكنا نكون خيراً لنسبك منك, ونحفظ منه ما ضيعت, فاشكر توقيرنا منك, ولا يغرنك بالجهل علينا حلمنا عنك.
ذكر التكافؤ في البلاغة
957- التكافؤ المماثلة, وفلانٌ كفيءٌ لفلانةٍ, وكفؤٌ, وكفاءٌ ممدودٌ؛ فمعنى التكافؤ في هذا الباب أن يؤتى بمعانٍ متقاومةٍ, كما كتب بعض الكتاب: وكان اعتدادي بذلك اعتداد من لا تنضب عنه نعمةٌ تغمرك, ولا يمر عليه عيشٌ يحلو لك.
لما قال: ((تنضب)) قال: ((تغمر)) , ولما قال: ((يمر)) قال: ((يحلو)) .
958- وقيل لبعض القراء: إن أخاك قد ولي ولايةً, فلم لا تهنئه؟ فقال: ما سرتني فأهنئه, ولا ساءته فأعزيه.
959- وقال رجلٌ لرجلٍ: قد كثرت عليك المؤن، قال: ما أحدٌ لله عز وجل عليه نعمةٌ إلا وللناس عليه مؤونةٌ، فإن ضجر بهم تعرض لزوالها.
960- وذكر لمالك بن أنسٍ رجلٌ شريفٌ لا يفيق من الشراب، فقال: العجب لمن فقد عقله مرةً كيف لم يشغله الاهتمام لما فقد من عقله عن معاودة مثله.

(1/298)


ذكر الاستعارة في البلاغة من اللغة
961- العرب تقول: الطم والرم إذا أرادوا المبالغة في الكثرة، وهذا من الاستعارة البليغة، لأن الطم البحر، والرم الثرى، وهذا لا يملكه إلا الله عز وجل وحده، وليس هو كذباً، لأنه قد عرف معناه.
962- ومحفوظٌ عن مالك بن أنسٍ أنه سئل عن رجلٍ قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً إن كان هذا الطائر يسكت؛ فقال: لا يحنث، لأن معناه التكثير.
963- ومن البلاغة في هذا: فلانٌ دون نائله العيوق.
964- ويقال: له الضيح والريح، أي: له ما طلعت عليه الشمس وما جرت عليه الريح.
965- ومنه: فلانٌ يثير الكلاب عن مرابضها، للشديد الشر، أي: يثيرها عن مرابضها، يطلب تحتها شيئاً فاضلاً.
966- ومنه: ما له سبدٌ ولا لبدٌ، أي: ما له شيءٌ، والسبد الشعر، واللبد الصوف.
967- ومنه: ما يعرف قبيله من دبيره؛ فالقبيل ما أقبلت به المرأة من غزلها حين تفتله، والدبير: ما أدبرت به، أي: هو أبله.
968- وذهب الأصمعي إلى أنه استعارةٌ من الإقبالة والإدبارة، وهو شقٌ في الأذن يقبل فإذا أقبل به فهو الإقبالة، وإذا أدبر به فهو الإدبارة،

(1/299)


والجلدة المعلقة هي الإقبالة والإدبارة.
969- ويقال: إذا وصف الإنسان بالمنع: هو مشجبٌ، من حيث جئته وجدت لا.
970- ويقال: فلانٌ لا يدالس ولا يؤالس، مستعارةٌ من الدلس، وهي: الظلمة، أي لا يخفي عنك الشيء، فكأنه لا يأتي به في الظلمة، ومنه دلس على فلانٍ. ويوالس من الألس، وهي الخيانة.
971- وكذا فلانٌ يداجي فلاناً مستعارٌ من الدجى، أي: يساتره العداوة.
972- ومنه أرغم الله أنفه، أي: أذله حتى كأنه قد لزق بالتراب، وهو الرغام.
973- ومنه: قمقم الله عصبه، قبضه، فجعله بمنزلة القمقام الجامع للماء، وهو: البحر.
974- ومنه: حلب فلانٌ الدهر أشطره، أي: مرت عليه صروفه من خيره وشره، مستعارٌ من أخلاف الناقة، ولها شطران قادمان وآخران، فكل خلفين شطرٌ.
975- ويستحسن من هذا ما كتب به عبد الله بن المعتز يصف القلم: يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفاً، وينطق سائراً، على أرضٍ بياضها مظلمٌ، وسوادها مضيءٌ.
976- والعرب تقول: ما بفلانٍ طرقٌ؛ وأصل الطرق الشحم، فاستعير مكان القوة، لأن القوة أكثر ما تكون عنه.

(1/300)


977- قال الله عز وجل: {ما من دابةٍ إلا هو ءاخذٌ بناصيتها} أي: يقهرها ويذلها بالملك والسلطان.
وأصل هذا أن من أخذت بناصيته فقد أذللته وقهرته.
978- ومنه: ناصيتي بيدك، أي: أنت مالكٌ لي قاهرٌ.
979- ويقال: فلانٌ أذنٌ، أي: يقبل كل ما قيل له. والأصل أن الأذن هي السامعة.
980- قال الله عز وجل: {إلا ما دمت عليه قائماً} أي: مواظباً بالاقتضاء والمطالبة، وأصله أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرف، والتارك له يبتعد عنه؛ قال الأعشى:
يقوم على الوغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم
ذكر ما جاء من البلاغة في الدعاء
981- روى القعنبي، عن سلمة بن وردان، قال: سمعت أنساً يقول: أتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! أي الدعاء أفضل؟ قال: ((سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة)) ثم أتاه

(1/301)


بعد، فقال: يا نبي الله! أي الدعاء أفضل؟ قال: ((سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت)) .
982- وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيبٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى جلس فهمس، ولم يكن يفعله قبل ذلك، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفطنتم لما أصنع؟)) فقلنا: نعم؛ قال: ((إني ذكرت نبياً أعجبه كثرة قومه، فقال: لن يغلب هؤلاء شيءٌ، أو لن يغلب هؤلاء؛ فقيل له: خير قومك إحدى ثلاثٍ: إما أن أسلط عليهم عدواً من غيرهم فيستبيحوهم، وإما أن أسلط عليهم الجوع، وإما أن أسلط عليهم الموت، فأخبر بذلك قومه، قالوا: فاختر لنا، فقد وكلنا ربنا إليك)) ؛ قال: ((فتوضأ وصلى، وكانوا يفزعون إلى الصلاة، فقال: يا رب! أما أن تسلط عليهم عدواً يستبيحهم فلا، وأما أن تسلط عليهم الجوع فلا، ولكن الموت، فمات في ثلاثة أيامٍ سبعون ألفاً)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فهمسي الذي ترون، أقول: اللهم بك أصول، وبك أجول؛ اللهم بك أقاتل)) قال المحدث: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
983- وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ قال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً

(1/302)


من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)) .
984- ومن بليغ ما روي في هذا، أن بلال بن أبي بردة، قال لمالك بن دينارٍ: يا أبا يحيى! ادع لي؛ قال: وما ينفعك أن أدعو لك، وبالباب مئتان يدعون عليك؟!
985- وكان يقال: الدعاء في الرخاء تقضى به الحوائج في البلاء.
986- وعن عائشة رضي الله عنها: لا تطلبوا ما عند الله، من غير الله، بما يسخط الله عز وجل.
987- وسمع مالك بن دينارٍ قوماً يدعون، وقد استبطؤوا المطر، فقال: إنهم يستبطؤون المطر، وأنا أستبطئ الحجارة.
988- وكان ابن منيعٍ يقول في دعائه: اللهم إني أستعد بك على نفسي عدوى لا عقوبة فيها.
989- وكان عمرو بن عبيدٍ يقول: اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك.
990- وعن عمر رضي الله عنه، أنه كان يقول: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة، وعلى الدين بالعصمة.
991- وعن قيس بن سعد بن عبادة: اللهم ارزقني حمداً ومجداً، فإنه لا حمد إلا بفعالٍ، ولا مجد إلا بمالٍ؛ اللهم إني لا يسعني القليل

(1/303)


ولا أسعه.
992- وقال ابن السماك عند وفاته: اللهم إنك كنت تعلم أني كنت حيث كنت أعصيك أحب أن أكون ممن يطيعك.
993- وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً قد صار كالفرخ، فقال: ((هل كنت تدعو بشيءٍ؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: ((إذاً لا تطيق ذلك، ولكن قل: {ربنا ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار} .
ذكر البلاغة من دعاء أهل البيت رضوان الله عليهم
994- روى ابن أبي ليلى، عن عليٍ رضي الله عنه، قال: كلمات الفرج: لا إله إلا هو العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو جعفرٍ: وهذا أخذه علي بن أبي طالبٍ عن النبي عليه السلام.
995- وروى القعقاع، عن علي بن الحسين، عن أبيه عبد الله بن

(1/304)


جعفرٍ، عن أبيه، عن عليٍ عليه السلام، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ عند الخوف تصيبه والأمر تتخوفه: لا إله إلا الله الحكيم الحليم الكريم، تبارك الله، تبارك رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين.
996- وكان عليٌ رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات، وجبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك على محمدٍ عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما أغلق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ جيشات الأباطيل، كما حمل فاضطلع بأمرك وطاعتك، مستوفزاً في مرضاتك بغير نكلٍ في قدمٍ، ولا وهنٍ في عزمٍ، داعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على إنفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، آلاء الله تصل بأهله وأسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم بموضحات الأعلام ومنيرات الإسلام، ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمةٍ، ورسولك بالحق رحمةً؛ اللهم افسح له مفسحاً في عدلك واجزه مضاعفات الخير من عندك وفضلك، مهناتٍ غير مكدراتٍ، من فوزِ ثوابك المحلول، وجزيل عطائك المعلول، أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم مثواه لديك

(1/305)


ونزله، وأتمم له نوره، واحشره من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطقٍ عدلٍ، وخطةٍ فصلٍ، وحجةٍ وبرهانٍ عظيمٍ.
معنى قوله: يا داحي المدحوات: يا باسط الأرضين, ويروى أن الله عز وجل خلقها ربوةً ثم بسطها, قال عز وجل: {والأرض بعد ذلك دحاها} ودحوت الشيء بسطته ووسعته. ومنه قيل: أدحيٌ لموضع بيض النعامة لأنها تدحوه للبيض.
وبرأ الله الخلق: خلقهم.
وسمكت الحائط, أي: رفعته, وسمك البيت ارتفاعه.
ومعنى: جبار القلوب: مقيمها ومثبتها على ما فطرها عليه من معرفته والإقرار به, من جبرت العظم: لأمته وجبرت الفقير, وليس من أجبرت فلاناً على الأمر: إذا أدخلته فيه كرهاً, لأنه لا يجوز من أفعل فعالٌ, ولو كان هذا يجوز في العربية لتأولنا قوله عليه السلام, إلا أنه قد حكي في لغةٍ شاذةٍ: جبرته على الأمر, فإن حملته على هذا, فالمعنى أنه أجبر القلوب على ذلك.
ومعنى ((دامغ جيشات الأباطيل)) : مهلك لما ارتفع من الأباطيل, ومنه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} أي: يبطله, وأصله من دمغه, إذا أصاب دماغه, وجيشات من جاش يجيش: إذا ارتفع, ومنه جاشت نفسه تجيش.
فاضطلع, أي: قوي, ومنه: فلانٌ مضطلعٌ بحمله, مأخوذٌ من

(1/306)


الضلاعة, وهي القوة, وأصله من الضلع, لأن الجنبين إذا قويا فالإنسان قويٌ.
وقوله: بغير نكلٍ؛ النكل: النكول, وهو مصدر نكل عن الشيء ينكل, والفصيح ينكل.
والقدم: التقدم.
ومعنى: ولا وهنٍ في عزمٍ: ولا ضعفٍ في رأيٍ.
ومعنى: حتى أورى قبس القابس: أظهر نوراً من الحق, وأوريت النار: قدحت فأظهرتها.
وآلاء الله: نعمه, واحدها إلىً وألىً وأليٌ, ومعنى: آلاء الله تصل بأهله وأسبابه: نعم الله تصل بأهل ذلك القبس, وهو الإسلام والحق, وأسبابه فأهله المؤمنون.
به هديت القلوب بعد خوضات الفتن, أي: بعد الكفر.
موضحات الأعلام: نائرات, من نار الشيء, ويقال: أنار, إذا وضح, فأتى باللغتين جميعاً.
شهيدك يوم الدين, أي: الشاهد على أمته يوم القيامة.
وبعيثك, بمعنى مبعوثك.
افسح له مفسحاً, أي: أوسع له سعةً.
ومعنى في عدلك, أي: في دار عدلك, مثل: {وسئل القرية} يعني: يوم القيامة.

(1/307)


وإن كان في عدنك, أي: في جنتك, جنة عدنٍ.
وقوله: ((وجزيل عطائك المعلول)) هو: من العلل, وهو الشرب بعد الشرب, فالشرب الأول نهلٌ, والثاني عللٌ, أي: عطاءً مضاعفاً يعل به عباده, أي: يعطيهم عطاءً بعد عطاءٍ.
ومعنى ((أعل على بناء البانين بناءه)) : ارفع فوق عمل العاملين عمله.
والمثوى: المنزل لا يعرف فيه الأصمعي إلا: ثوى بالمكان: إذا نزله وأقام به, وحكى غيره: ثوى وأثوى.
ونزله: رزقه.
997- وقرئ على أحمد بن عمرو بن عبد الخالق, وأبي بكر بن محمد بن جعفر بن حفص بن راشدٍ؛ واللفظ لفظ أحمد بن عمروٍ؛ عن يوسف بن موسى, قالا: حدثنا محمد بن فضيلٍ, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن أبيه, عن علي بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه, أنه قصد فاطمة رضي الله عنها, فقال لها: إني لأشتكي صدري مما أمد بالغرب, فقالت: وأنا والله أشتكي يدي مما أطحن بالرحى؛ فقال لها عليٌ: ائت النبي صلى الله عليه؛ وفي حديث محمد بن جعفرٍ: فإنه قد أتاه سبيٌ؛ ثم رجع اللفظ إلى أحمد بن عمروٍ: فاسأليه أن يخدمك خادماً؛ فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه, فسلمت عليه, ثم رجعت, فقال رسول الله صلى الله عليه: ((ما جاء بك؟)) قالت: جئت لأسلم على

(1/308)


رسول الله؛ فلما رجعت إلى عليٍ, قال: ما لك؟ قالت: والله ما استطعت أن أكلم رسول الله صلى الله عليه من هيبته؛ فانطلقا إليه جميعاً, فقال لهما رسول الله صلى الله عليه: ((ما جاء بكما؟ ولقد جاء بكما حاجةٌ)) قال له عليٌ رضي الله عنه: أجل يا رسول الله! شكوت إلى فاطمة صدري مما أمد بالغرب, فشكت إلي يدها مما تطحن بالرحى, فأتيناك لتخدمنا خادماً مما آتاك الله؛ قال: ((لا والله! لكني أبيعهم فأنفق أثمانهم على أصحابي أصحاب الصفة الذين تطوى أكبادهم من الجوع, ولا أجد ما أطعمهم)) قال: فلما رجعا, فأخذا مضاجعهما من الليل, أتاهما النبي صلى الله عليه وهما في خميلٍ, والخميل القطيفة البيضاء من الصوف, وكان رسول الله صلى الله عليه جهزها بها وبوسادةٍ حشوها إذخرٌ, وقد كان عليٌ وفاطمة رضي الله عنهما حين ردهما شق ذلك عليهما, فلما سمعا حس رسول الله صلى الله عليه ذهبا ليقوما, فقال لهما النبي صلى الله عليه: ((مكانكما)) ثم جاء حتى جلس على طرف الخميل, ثم قال: ((إنكما جئتماني لأخدمكما خادماً, وإني سأدلكما –أو كلمةً نحوها- على ما هو خيرٌ لكما من الخادم: تحمدان الله عز وجل في دبر كل صلاةٍ عشراً, وتسبحان عشراً, وتكبران عشراً, وتسبحانه ثلاثاً وثلاثين, وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين, وتكبرانه أربعاً وثلاثين, فذلك مئةٌ, إذا أخذتما مضاجعكما من الليل)) قال عليٌ رضوان الله عليه: فما أعلم أني تركتهما بعد, فقال له عبد الله بن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال له عليٌ: قاتلك الله! ولا ليلة صفين)) .

(1/309)


998- ويروى أن علياً رضي الله عنه كان يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي لا تضرك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينقصك.
999- وكان رضي الله عنه يقول في حروبه: اللهم إنك أرضى للرضا، وأسخط للسخط، وأقدر على تغيير ما كرهت، ولا تغلب على باطلٍ، ولا تعجز عن حقٍ، وما أنت بغافلٍ عما يعمل الظالمون.
1000- وكان علي بن الحسين رضوان الله عليهما يقول في دعائه: اللهم ارزقني خوف الوعيد، وسرور رجاء الموعود، حتى لا أرجو إلا ما رجيت، ولا أخاف إلا ما خوفت.
1001- وكان محمد بن علي بن الحسين صلى الله عليهم يقول في دعائه: اللهم أعني على الدنيا بالغنى، وعلى الآخرة بالتقوى.
1002- وكان يقول: اللهم إنك بما أنت له أهلٌ من العفو أولى بما أنا له [أهلٌ] من العقوبة.

(1/310)


ذكر الاشتقاق والمضارعة في البلاغة، وهما مما كان يستعمله البلغاء من الكتاب قديماً ويستحسنونه لحلاوته وحسنه
1003- روى ابن المبارك، عن معمرٍ، قال: سئل الأحنف عن مودةٍ بغير مالٍ، فقال: الخلق السجيح، والكف عن القبيح، أولا أخبركم بأدوإ الداء: اللسان البذيء والخلق الدنيء.
1004- واعتد الوليد على نوفل بن مساحقٍ بالإذن له على نفسه وهو يلعب بالحمام، فقال: خصصتك بهذه المنزلة فقال: ما خصصتني، ولكن خسستني، لأنك كشفت لي عن عورةٍ من عوراتك.
1005- ومن الاشتقاق كتب بعض الكتاب: العذر مع التعذر واجبٌ فرأيك فيه.
1006- ومن المضارعة، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والمشارة، فإنها تميت الغرة، وتحيي العرة)) .
1007- ومما يدخل في هذا الباب غير أن الكتاب يسمونه التبديل، لأن الكاتب يجعل ما كان مقدماً في الأول مؤخراً في الثاني، وما كان مؤخراً مقدماً= كما روي عن عبد الملك بن عمير، قال: انطلق

(1/311)


عمرو بن حريثٍ إلى الهيثم بن الأسود يعوده، فقال: كيف أصبح أبا العريان؟ قال: بخيرٍ أبيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض؛ ولان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين؛ ثم أنشأ يقول:
اسمع أخبرك بآيات الكبر
تقارب الخطوة وضعفٌ في البصر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر
وكثرة النسيان في ما يدكر
وفركك الحسناء في قبل الطهر
والناس يبلون كما تبلى الشجر
1008- ومن حسن ما في هذا قول بعض الكتاب: اشكر من أنعم عليك, وأنعم على من شكرك.
ذكر السجع والازدواج في البلاغة
1009- هذان مستحسنان عند الكتاب القدماء إذا نجوا من الاستكراه والتعسف, على أن قوماً كرهوهما, فمنهم من تعمى عليهم ولم يدركوهما, ومنهم من أظهر التدين لتركهما.
1010- كما روي عن أبي هريرة, قال: اقتتلت امرأتان من هذيلٍ,

(1/312)


فضربت إحداهما الأخرى بحجرٍ, فقتلتها وما في بطنها, فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقضى أن دية جنينها عبدٌ أو وليدةٌ, وقضى بدية المرأة على عاقلتها, وورثها ولدها ومن معهم, فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: يا رسول الله! أأغرم من لا شرب ولا أكل, ولا نطق ولا استهل, فمثل ذلك قد بطل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هذا من إخوان الكهان)) , من أجل سجعه الذي سجع.
1011- قال أبو جعفرٍ: وهذا لا يلزم, وقد قلنا: إن السجع حسنٌ إذا خلا من الاستكراه والتعسف, وهذا السجع مستكرهٌ متعسفٌ مكروهٌ, لأنه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو لعمري مكروهٌ محظورٌ, ومثل هذا السجع مكروهٌ محظورٌ.
فأما أن يقول القائل: السجع كله مكروهٌ, وقد أتى به كلام الله عز وجل وكلام رسوله, كما قال صلى الله عليه: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم, ويسعى بذمتهم أدناهم, وهم يدٌ على من سواهم)) , الأدنى ها هنا العبد, وقال عليه السلام يعوذ الحسن والحسين رضوان الله عليهم: ((أعيذكما من السامة والهامة, وكل عينٍ لامةٍ)) والأصل ملمةٍ, فقيل: ((لامة)) للازدواج.
وهكذا يقول بعض النحويين في قوله صلى الله عليه: ((ارجعن

(1/313)


مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ)) والأصل موزوراتٍ.
1012- ومن حسن ما في هذا قول أبي عليٍ البصير: حتى عاد تعريضك تصريحاً وتمريضك تصحيحاً.
قال بعض الكتاب واستحسن هذا، قال: أتى بوزنين متوازنين ومسجوعين بالحرف نفسه، وهو الحاء، من غير الدليل على استكراهٍ وتعسفٍ، وجعل بإزاء التعريض من الجزء الأول التمريض من الجزء الثاني، وذلك تسجيعٌ في هاتين اللفظتين بالضاد من غير استكراهٍ، وبإزاء التصريح التصحيح، وهما مسجوعان بالحاء أيضاً.
1013- ومن حسن ما في هذا ما روي أنه قيل لكثير عزة: ما لك تركت قول الشعر؟ فقال: مات ابن ليلى فما أرغب، وذهب شبابي فما أطرب، وماتت عزة فما أنسب. وهذا تسجيعٌ جيدٌ.
ذكر فقرٍ من الحكم تدخل في البلاغة
1014- قرئ على أحمد بن محمد بن حجاجٍ، عن يعقوب بن حميد بن كاسبٍ، عن علي بن أبي علي بن محمدٍ الهاشمي، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفرٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه فقال: ((يا فتى! ألا أهب لك وأعلمك كلماتٍ ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم

(1/314)


أن قد جف القلم بما هو كائنٌ، واعلم أن الخلائق لو أرادوك بخيرٍ لم يردك الله به لم يقدروا عليه، ولو أرادوك بشرٍ لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) .
1015- وقال زيادٌ، أو عبيد الله بن زياد يوماً لأصحابه: من أنعم الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وأصحابه؛ قال: كلا، إن لصعود المنابر روعاتٍ، وإن لحلق البريد فزعاتٍ، ولكن أنعم الناس عيشاً رجلٌ في دارٍ لا يجري عليه فيها كراءٌ، وله زوجةٌ قد قنع بها وقنعت به، لا يعرفنا ولا نعرفه، إنا إن عرفناه أفسدنا عليه دينه ودنياه، وأتعبنا ليله ونهاره.
1016- قال ابن عائشة: أتي فحدث بهذا الحديث عبيد الله بن الحسين العنبري، فقال: هذا والله كلامٌ من ذهبٍ، فمن أحب أن يسمع كلاماً من ذهبٍ فليسمع هذا.
1017- ومن الفقر البليغة قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً.
1018- ونظيره قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما؛ وأبغض بغيضك يوماً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
1019- وقال بعض الحكماء: بقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة.

(1/315)


1020- وقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية المازني، فقال: رحمك الله أبا المؤرق! كنت لا تحقر ضعيفاً، ولا تحسد شريفاً.
1021- وقال بعض الحكماء: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم.
1022- وقال معاوية لابنه: ما المروءة؟ فقال: إذا أنعم عليك شكرت، وإذا ابتليت صبرت، وإذا قدرت غفرت.
قال: أنت مني، وأنا منك.
1023- ولبعض البلغاء: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فما كل من حكى عنك شراً يوسعك عذراً.
1024- ووصف إسحاق الموصلي رجلاً، فقال: ظاهره مروءةٌ، وباطنه فتوةٌ.
ذكر فقرٍ من البلاغة عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه
1025- روي عن أوفى بن دلهمٍ، قال: قال لي عليٌ رضوان الله عليه: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه يأتي بعدكم زمانٌ ينكر فيه الحق تسعة أعشارهم.

(1/316)


1026- وقال عليٌ رضي الله عنه: إن الدنيار دارٌ قد ارتحلت مدبرةً، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلةً، ولكل واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً، والتراب فراشاً، والماء طيباً، ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.
1027- وقال عليٌ رضي الله عنه: العلم أوديةٌ، في أي وادٍ أخذت حسرت، فخذ من كل شيءٍ طرفاً، أي: خياراً.
ومنه {ننقصها من أطرافها} . قال: موت العلماء، والعلماء هم الخيار الكرماء.
ومنه: ((ما يدري أي طرفيه أطول)) ، أي: ما يدري الكرم يجيئه من ناحية أبيه أو من ناحية أمه.
1028- وعنه: إن الله عز وجل جعل حسن الخلق وصلةً بينه وبين خلقه، فحسنكم شيءٌ يتصل بالله عز وجل.
1029- وعنه رضوان الله عليه: قيمة كل امرىءٍ ما يحسن.
وهذا إذا تدبر كان فيه أعظم الفائدة والحكمة، لأن الإنسان الفرق بينه وبين البهيمة تمييزه وما يحسن، وهم يجتمعون في القوة والشهوة.
1030- وكذا، قوله: الفرص تمر مر السحاب.
1031- وقال قنبرٌ: دخلت على عليٌ وعثمان رضي الله عنهما،

(1/317)


فأحبا الخلوة، فأومأ إلي عليٌ، فتنحيت غير بعيدٍ، فجعل عثمان يعاتب علياً وعليٌ مطرقٌ، فقال عثمان: ما لك لا تقول؟ فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب.
ومن كلامه رضوان الله عليه
1032- من لانت كلمته وجبت حرمته.
1033- وقال لبعض أصحابه ورآه جزعاً: عليك بالصبر، فبه يأخذ الحازم، وإليه يرجع الجازع.
1034- ومن حسن ما روي عنه، أن رجلاً قال له وهو يخطب: يا أمير المؤمنين! صف لنا الدنيا؛ فقطع الخطبة، ثم أقبل عليه، فقال: أولها عناءٌ، وآخرها فناءٌ، حلالها حسابٌ، وحرامها عذابٌ؛ من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أهمته، ومن تهاون بها نصرته.
1035- وسمع رجلاً يذم الدنيا، وكان مطرقاً فرفع رأسه، وقال: الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار غنىً لمن تزود منها؛ ودار عافيةٍ لمن فهم عنها، مهبط وحي الله عز وجل، ومسجد أحبابه، ومصلى أنبيائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، تخويفاً وترهيباً، مثلت ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى السرور، فأيها الذام الدنيا، المغتر بغرورها؛ متى

(1/318)


استذمت إليك الدنيا؟ أم متى غرتك بمصارع آبائك من الثرى، أم بمضاجع أمهاتك من البلى، كم عللت بيديك، وكم مرضت بكفيك، تبتغي له الشفاء، وتستوصف له الأطباء، لم ينجه شفقتك، ولم يشفع فيه طلبتك، ولم ينجع فيه دواؤك، ولم يغن عنه أطباؤك، ومثلت الدنيا بنفسه نفسك، وبمصرعه مصرعك، حين لا يغني عنه بكاؤك، ولا يدفع عنه أحباؤك؛ ثم التفت إلى أهل التربة، فقال: يا أهل التربة! يا أهل الغربة! أما المنازل فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟! ثم التفت إلى أصحابه، فقال: والذي نفسي بيده، لو أذن لهم في الجواب لخبروا أن خير الزاد التقوى.
وعنه رضوان الله عليه: اعقلوا الخبر إذا سمعتموه، ولا تعقلوه عقل روايةٍ، فإن رواة الكتاب كثيرٌ، ووعاته قليلٌ.
1036- وعنه: المعروف أفضل الكنوز، وأحصن الحصون، لا يزهدنك فيه كفر من كفره، فقد شكر لك عليه من لم يستمتع بشيءٍ منه.

(1/319)


ومن مشهور كلامه رضي الله عنه
1037- الدنيا دار ممرٍ إلى دار مقرٍ، والناس فيها رجلان: رجلٌ باع نفسه فأوبقها، ورجلٌ ابتاع نفسه فأعتقها.
1038- وعنه: مثل الدنيا كمثل الحية، لينٌ مسها، وفي جوفها السم الناقع، يهوي إليها الصبي الجاهل، ويحذرها ذو اللب الحاذر.
1039- ومن كلامه: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.
1040- وعنه: عليكم بالنمط الأوسط، فبه يلحق التالي، وإليه يرجع الغالي.
1041- وعن أبي الأسود الدؤلي، أن علي ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه مر بأهل القبور فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يا أهل التربة! يا أهل الغربة! اعلموا أن المنازل قد سكنت، وأن الأموال بعدكم قد قسمت، وأن الأزواج بعدكم قد نكحت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ فأجابه هاتفٌ يقول: ((السلام عليكم ورحمة الله، يا أمير المؤمنين! أما ما عندنا فما أكلنا ربحنا، وما قدمنا وجدنا، وما تركنا خسرنا؛ فالتفت إلى أصحابه وتلا هذه الآية: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} .

(1/320)


قرئ على الحسن بن علي بن سعيد، عن مؤمل بن هشامٍ البصري، عن امرأة ابن علية، عن ابن برقان، عن ميمون بن مهران، عن أبي الأسود الدؤلي.
ذكر أشياء من البلاغة مرويةٍ مما يحفظها الكتاب والمتأدبون
1042- فمن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى معاذ بن جبلٍ يعزيه عن ابنه: أما بعد؛ فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثم إن أنفسنا وأموالنا وأهلينا من مواهب الله عز وجل الهنيئة، وعواريه المستودعة، نمتع بها في غبطةٍ وسرورٍ، ثم يقبضها لأجر كبير، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، أمتعك به في غبطة وسرور، وقبضه لأجرٍ كبيرٍ؛ فإن صبرت واحتسبت يا معاذ فلا يحبطن أجرك جزعك، فتندم على ما فاتك، فلو كشف لك عن ثواب مصيبتك علمت أن المصيبة قد قصرت عنه، واعلم أن الجزع لا يرد ميتاً، ولا يذهب حزناً، فليذهب أسفك على ما هو نازلٌ بك، فكأن قد، والسلام.
1043- وفي حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ منجياتٌ، وثلاثٌ مهلكاتٌ؛ فأما المنجيات: فالإخلاص لله عز وجل في

(1/321)


السر والعلانية، والحكم بالعدل عند الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى؛ وأما المهلكات: فشحٌ مطاعٌ، وهوىً متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه)) .
1044- وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من الفواقر: امرأة سوءٍ إن دخلت إليك لسنتك، وإن خرجت عنها لم تأمنها؛ وجار سوءٍ إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه؛ وأمير سوءٍ إن أطعته أكفرك، وإن عصيته قتلك)) .
1045- ودعا أعرابيٌ، فقال: اللهم إني أعوذ بك من فقرٍ مكبٍ، وضرعٍ إلى غير محبٍ.
1046- وقال رجلٌ لصديقٍ له: اقعد! فعندي تكأٌ وطيءٌ، وطعامٌ غير بطيءٍ.
1047- وذكر إدريس بن معقلٍ أبا مسلمٍ، فقال: بمثل أبي مسلمٍ يدرك الثأر، وينفى العار، ويبين عقدٌ، ويؤكد عهدٌ، ويسهل وعرٌ، ويخاض غمر، ويفل نابٌ، ويفتح بابٌ.
1048- وقال رجلٌ لخالد بن صفوان: كيف أسلم على الإخوان؟ قال: لا تبلغ بهم النفاق، ولا تقصر بهم عن الاستحقاق.
1049- وقيل للأحنف بن قيسٍ: كيف يسود الرجل؟ فقال: بالخلق السجيح، والكف عن القبيح.
1050- وقيل لبعضهم: أي إخوانك أوجب عليك حقاً؟ فقال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقيل عللي.

(1/322)


1051- وقال محمد بن سليمان لابن السماك: بلغني عنك شيء كرهته؛ قال: لست أبالي ذاك؛ قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان حقاً غفرته, وإن كان باطلاً كذبته.
1052- وقال أعرابيٌ في وصف الحرب: أولها شكوى, وأوسطها نجوى, وآخرها بلوى.
1053- ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المحسن المذموم مرحومٌ)) .
1054- وعنه صلى الله عليه: ((لا تظهر الشماتة بأخيك, فيرحمه الله ويبتليك)) .
1055- ويروى أن أرسطا طاليس كتب إلى الإسكندر في بعض رسائله: سس الناس بالإحسان إليهم تحظ بالمودة منهم, واعلم أن طلبك طاعتهم بالرفق بهم أدوم بقاء منه باعتسافك إياهم, واعلم أنك إنما تملك الأجساد فتخطها إلى القلوب بالمعروف, واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل, فاحرص على أن لا تقول تسلم من أن تفعل.
1056- وقرئ على محمد بن هارون, عن أبيه, قال: أخبرني أبو يوسف, قال: وذكره صالحٌ أيضاً, عن أحمد بن عبد الله, عن يونس, قال: حدثنا حيان, عن مجالدٍ, عن الشعبي, عن ابن عباس, قال: قال لي أبي: إن هذا الرجل –يعني عمر- يدنيك, أو قال: يخصك

(1/323)


فيدخلك مع أهل بدرٍ, فاحفظ عني خصالاً ثلاثاً: لا تفشين له سراً, ولا تغتابن عنده أحداً, ولا يجربن عليك كذباً. قال الشعبي: فقلت: كل كلمةٍ خيرٌ من ألفٍ؛ قال ابن عباسٍ: إي والله ومن عشرة آلافٍ. قال ابن حيان: فذكرته لابن شبرمة, فقال: رحمهما الله, كانت الأموال إذ ذاك قليلةً.

(1/324)