عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس باب المرتبة السابعة
1057- لقبنا هذه المرتبة بمرتبة الفهاهة, لما قدرنا أن نذكر فيها مما
يعاب على الكتاب ومن لحقته الفهاهة, فيكون ذلك مستجلباً لنشاط القارئ
وإصغاء المستمع, ولعل من يتصفح هذا الكتاب يقول: ما هذا من صناعة
الكتاب, فيخرج إلى الفهاهة لأن معرفة كثيرٍ مما يمر في هذا الباب
يستحسن للكاتب معرفته, ويعد حفظه إياه من أدبه.
1058- فأول ما نبدأ به ذكر معنى الفهاهة من اللغة, ثم باب ذكر من لحقته
الفهاهة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , ثم باب ذكر من لحقته
الفهاهة في زمن الصحابة, ثم باب ذكر ما يعد على من استعمله من الكتاب
فهاهةً, ثم باب ذكر الفهاهة في استعمال حوشي الكلام, ثم باب ذكر
الفهاهة في جعل الحرف في غير موضعه, ثم باب ذكر الفهاهة في المعاظل من
الكلام, ثم باب ذكر من لحقته الفهاهة من الكتاب وغيرهم.
فأول ذلك:
باب ذكر الفهاهة في اللغة
1059- قال الخليل: الفه: الرجل العيي عن حجته؛ والمرأة فهةٌ، وقد فههت
يا رجل فهاهةً وفهةً، ورجلٌ فهٌ وفهيهٌ، وذلك إذا
(1/325)
جاءت منه سقطةٌ أو جهلةٌ من العي وغيره.
وقال الشاعر، هو أبو قيس ابن الأسلت:
الكيس والقوة خيرٌ من الإشفاق ... والفهة والهاع
1060- وقال أبو زيدٍ: الفه العيي، الكليل اللسان، وأفهني عن حاجتي حتى
فههت.
ذكر من لحقته الفهاهة في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم
1061- روى تميم بن طرفة، عن عدي بن حاتم الطائي، قال: جاء رجلان إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهد أحدهما، فقال: من يطع الله ورسوله
فقد رشد، ومن يعصهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس الخطيب
أنت، فقم)) .
1062- وروي عن الفراء في قوله عز وجل: {إن الذين ينادونك من وراء
الحجرات أكثرهم لا يعقلون} قال: دخل رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال: إن حمدي زينٌ، وإن ذمي شينٌ؛ قال: ((ذاك الله عز وجل)) .
(1/326)
1063- وعن محمد بن الضحاك، عن أبيه قال:
قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد بني تميمٍ، وهم سبعون رجلاً أو
ثمانون رجلاً، منهم الأقرع بن حابسٍ، والزبرقان بن بدرٍ، وعطارد بن
حاجبٍ، وقيس بن عاصمٍ، وعمرو بن الأهتم، وانطلق معهم عيينة بن حصنٍ،
وكان يكون في كل سوءةٍ، فقدموا المدينة، فدخلوا المسجد، فوقفوا عند باب
النبي صلى الله عليه وسلم، فنادوا من وراء الحجرات بصوتٍ عالٍ جافٍ:
اخرج يا محمد حتى نفاخرك، وجئنا بشاعرنا وخطيبنا؛ فخرج النبي صلى الله
عليه وسلم، فجلس، فقام –يعني خطيبهم- فقال: والله إن مدحي لزينٌ، وإن
ذمي لشينٌ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الله عز وجل))
فقال: أنا أكرم العرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكرم منك
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) وذكر الحديث.
1064- ومما يدخل في هذا الباب خبر الزبرقان بن بدرٍ حين مدح، فلم يرض،
فذم؛ كما روى محمد بن إدريس الحنظلي، قال: دخل على النبي صلى الله عليه
وسلم عمرو بن الأهتم وقيس بن عاصمٍ والزبرقان بن بدرٍ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم لعمروٍ: ((أخبرني عن هذا –يعني الزبرقان- فأما هذا،
فإني لا أسألك عنه –لقيسٍ-)) فقال عمروٌ: مطاعٌ في أدنيه، شديد
العارضة، مانعٌ ما وراء ظهره؛ فقال: والله يا رسول الله، لقد قال، وهو
يعلم أني أفضل مما قال؛ فقال عمروٌ: والله إنك لزمر المروءة، ضيق
العطن، أحمق الأب، لئيم الخال؛ ثم قال:
(1/327)
يا رسول الله! لقد صدقت فيهما جميعاً،
أرضاني فقلت بأحسن ما أعلم، ثم أسخطني فقلت بأسوإ ما أعلم فيه؛ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحراً)) .
1065- ومن هذا الباب ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن
رجلاً استأذن عليه, فقال: ((من ذا؟)) فقال: أنا! كأنه كره ذاك.
1066- قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول –كأنه لم يبلغه هذا
الحديث- دق رجلٌ على الخليل الباب, فقال: من ذا؟ فقال: أنا! فقال: أنت
والصوت واحدٌ.
ذكر من لحقته الفهاهة في وقت الصحابة
1067- روي عن سماك بن حربٍ, عن أبي العافية, قال: قدمت بحلوبةٍ إلى
المدينة, فأتاني أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه, فساومني بناقةٍ, فقال:
بكم؟ فقلت: بكذا؛ فقال: أتبيع بكذا؟ فقلت: لا, عافاك الله؛ فقال: لا
تقل كذا, ولكن قل: لا وعافاك الله.
1068- وعن مالكٍ, عن يحيى بن يحيى بن سعيدٍ, أن رجلاً سلم على عبد الله
بن عمر, فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات؛
فقال عبد الله: عليك ألفاً؛ ثم إنه كره ذلك.
(1/328)
1069- والكتاب يستحسنون حسن الجواب, كما
حكي عن بعضهم, قيل له: ما اسمك؟ قال: أحمد, أحمدك الله العاقبة في جميع
أمورك.
1070- وضد هذا مستقبحٌ, كما روى مالكٌ, عن يحيى بن سعيدٍ, أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه, قال لرجلٍ: ما اسمك؟ قال: جمرة؛ قال: ابن من؟
قال: ابن شهابٍ, قال: ممن؟ قال: من الحرقة؛ قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة
النار؛ قال: بأيها؟ قال: بذات لظىً؛ قال له: أدرك أهلك فقد احترقوا,
فكان كما قال.
باب ما يعد على من استعمله فهاهةً من الكتاب
1071- كان عبيد الله بن سليمان يرى أن من فهاهة الكتاب كتبهم: وعرفتك
ذلك لتعلمه, لأنه لا فائدة فيه.
1072- وروي عن محاربٍ أنه مر به صديقٌ له, فسلم عليه, ثم مر به آخر,
فقال: أرأيت لي فلاناً؟ يعني الذي سلم عليه؛ فقال: لا؛ فقيل له: سبحان
الله! ما دعاك إلى هذا الكذب؟ فقال: إنما قال لي: أرأيته لي, وليس له
رأيته.
(1/329)
1073- وقال رجلٌ لموسى بن عبد الملك لما
لقيه: أطال الله بقاءك, وأدام عزك, وأتم نعمته عليك وعندك؛ فالتفت موسى
إلى بعض كتابه, فقال: اكتب إليه: إني في عافيةٍ؛ أراد أنه لقيه بصدر
كتابٍ.
1074- ونظر عبيد الله بن سليمان في كتاب بعض الكتاب, فإذا فيه حرفٌ
مصلحٌ, وقد لهوت عن جباية الخراج؛ فاغتاظ, وقال: لا يحكه غيري, فحكه
وأصلحه: وقد لهيت.
1075- وهم يعيبون تكرير الألفاظ وليس ذلك عند كثيرٍ من أهل العربية كما
يذهبون إليه, وقد يقع من ذلك التوكيد وغيره.
1076- وقد عابوا سعيد بن حميدٍ على محله من الكتابة بأنه كتب إلى بعض
الرؤساء: وميل خادمك بين ما يملك فلم يجد فيه شيئاً يفي بحقك، ورأى أن
تقريظك بما يبلغه اللسان وإن كان دون حقك أبلغ في أداء ما يجب لك.
فأعاد ((حقك)) في مقدار هذا اليسير من الكلام مرتين.
1077- وكذا أقمت شهيداً به عليه، والأحسن: أقمت عليه شهيداً به.
1078- وكذا عابوا: لفلانٍ ولي به حرمةٌ مظلمةٌ، وكان الأجود أن يقال:
لفلانٍ وأنا أرعى حرمته مظلمةً.
1079- وكذا: بفلانٍ وبه غلة حاجةٍ إلى لقائك.
(1/330)
1080- يعيبون مثل هذا، ويعيبون التجميع،
وهو أن يكون الجزء الثاني منافراً للأول في النظم، كما كتب سعيد بن
حميدٍ: وصل كتابك، فوصل به ما يستعبد الحر، وإن كان قديم العبودية. ثم
قال: ويستغرق الشكر، وإن كان سالف فضلك لم يبق شيئاً منه منافراً
للعبودية.
1081- ويعيبون اختلاف الأجزاء، فيقع التعمل؛ كما كتب إبراهيم بن المدبر
إلى عبيد الله بن سليمان يعزيه: إذا كان للمحزون في لقاء مثله أكبر
الراحة كان في العاجل، ثم قال: كان الحزن راتباً إذا رجع إلى الحقائق
وغير زائلٍ. فبين في الكلام التكلف في قوله: وغير زائل.
باب الفهاهة في استعمال حوشي الكلام
1082- قال بشر بن المعتمر: إياك والتوعر، فإنه يسلمك إلى التعقيد،
والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويمنعك مراميك.
1083- وممن كان يستعمل حوشي الكلام أبو علقمة النحوي، ثار به مرارٌ،
فقرأ رجلٌ في أذنه، فلما أفاق قال: ما لكم تتكأكؤون علي كأنكم تتكأكؤون
على ذي جنةٍ؟ افرنقعوا عني! فقال بعضهم لبعضٍ: وجنيته أيضاً هنديةٌ.
1084- وقال لحجامٍ يحجمه: انظر ما آمرك به فاصنعه، ولا تكن
(1/331)
كمن أمر بأمرٍ فضيعه؛ أنق غسل المحاجم،
واشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع،
وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن أتياً؛ فوضع
الحجام محاجمه في جونته وانصرف.
1085- وهذا مستثقلٌ من كل مستعملٍ، فأما من لا يتعمل من الفصحاء
المتقدمين، فإن ذلك مستحسنٌ منهم، كيحيى بن يعمر، وهو من جلة التابعين،
يروى أنه اختصم إليه رجلٌ وامرأةٌ، فأقبل على الرجل، فقال: أإن سألتك
ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها، الشكر: الفرج، وشاةٌ شكراء:
محفلةٌ؛ والشبر: النكاح؛ وتطلها: تدفعها عن حقها لتبطله, ومنه: دمٌ
مطلول, وقد طل دمه؛ وتضهلها: لا توفيها حقها, ولكن تدفع إليها اليسير,
وبئرٌ ضهولٌ: إذا كان الماء يأتي من جرفها فقط.
1086- ومن المطبوعين في مثل هذا عيسى بن عمر النحوي, سئل عن مسألةٍ من
النحو, فقال: مسألتك هذه يتنٌ, أي: ليست مستويةً, وأصل اليتن خروج رجل
الصبي قبل رأسه.
1087- وقال: لقد كتبت حتى انقطع سوائي؛ والسواء: الوسط.
1088- وضربه عمر بن هبيرة ضرباً كثيراً من أجل وديعةٍ, فكان يقول وهو
يضرب: ما هي إلا أثيابٌ في أسيفاطٍ قبضها عشاروك.
(1/332)
باب ذكر الفهاهة في
جعل الحرف في غير موضعه
1089- من ذلك اللفف, وهو: إدخال بعض الحروف في بعضٍ, ويقال: رجلٌ ألف,
إذا كان عيياً.
1090- ويقال: به عقلةٌ, إذا كان به التواءٌ عند إرادته الكلام.
1091- والأعجمي والأعجم: الذي لا يبين ويلحن, وإن كان أصله من العرب,
والعجمي: الذي نسبه من العجم, وإن كان فصيحاً.
1092- والطمطماني والطمطماني والطمطم: الذي كلامه كلام العجم, وبه
طمطمةٌ.
1093- والألكن, وبه لكنةٌ: إذا كان يعترض في كلامه اللغة العجمية.
كما يروى عن زيادٍ الأعجم أنه كان إذا أراد أن يقول: السلطان, قال:
السلتان.
1094- ورجلٌ تمتامٌ, وبه تمتمةٌ, إذا كان يكرر التاء.
1095- ورجلٌ فأفاءٌ, وبه فأفأةٌ: إذا كان يكرر الفاء.
1096- وبه حبسةٌ: إذا تعذر عليه الكلام عند إرادته. ويقال: إنها
(1/333)
تعترض من كثرة السكوت.
1097- والرتة والرتت كالريح تعرض في أول الكلام, فإذا مر فيه انقطع
ذلك, ويقال: إنها تكون غريزةً.
1098- والغمغمة: أن تقطع الحروف, وهي تستعمل في كل صوتٍ لا يفهم للناس
وغيرهم.
1099- واللثغة: أن يدخل بعض الحروف في بعضٍ.
1100- والغنة: أن يخرج الصوت من الخياشيم, وهي تستحسن في الحديثة.
1101- فإن اشتدت, قيل لها: خنةٌ, وبها خننٌ.
1102- والترخيم: حذف آخر الكلام, غير أني سمعت محمد بن الوليد, يقول:
قال الأصمعي: أخذ عني الخليل بن أحمد معنى الترخيم, وذلك أنه سألني: ما
الترخيم؟ فقلت: العرب تقول: جاريةٌ رخيمةٌ إذا كانت حسنة الكلام لينته.
(1/334)
ذكر الفهاهة في
المعاظلة بين الكلام
1103- قال ابن السكيت: تعظل القوم: اجتمعوا.
1104- وحكى غيره: تعاظلت الكلاب، أي: تسافدت.
1105- قال ثعلبٌ: المعاظلة: مداخلة الشيء في الشيء، يقال: تعاظلت
الجرادتان، وعاظل الرجل المرأة.
1106- وفي حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر زهيراً، فقال: كان [لا] يعاظل
بين الكلام.
1107- فالناس في المعاظلة على وجهين أصلهما واحدٌ، وهو: الاجتماع
والمداخلة.
1108- فمنهم من قال: المعاظلة: اجتماع الحروف، يعني تكريرها، وذلك عيبٌ
عند الكتاب. كما كتب سعيد بن حميدٍ إلى بعض الرؤساء في يوم المهرجان:
وميل خادمك بين ما يملك فلم يجد فيه شيئاً يفي بحقك، فرأى أن تقريظك
بما يبلغه اللسان، وإن كان مقصراً عن حقك أبلغ في أداء ما يجب لك.
فأعاد ((حقك)) مرتين، وليس هذا مما يعاد توكيداً، وقد مضى هذا الفصل في
ما تقدم.
1109- ومن الكتاب من يسمي هذا التكرير، ويقول: المعاظلة أن
(1/335)
تدخل بعض الكلام في بعض مما ليس من جنسه،
أو فيما نافره ولم يلق به، فتقول: فلانٌ فقيهٌ طويلٌ.
1110- ومن هذا فاحش الاستعارة، كما قال الشاعر:
فما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساقٍ وحافر
فاستعار الحافر مكان القدم.
1111- وقال آخر:
سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملكٍ أظلافه لم تقلم
وإنما الأظلاف للشاء والبقر، ولو استعار فجعل لغير الإنسان الظفر لكان
حسناً، ولم يكن كقبح هذا.
1112- كما يقال: مات الإنسان، ونفقت الدابة، وتنبل البعير، ولو قلت في
كله: مات، لصلح، ولو قلت: نفق الإنسان، لكان هذا عند قائل هذا
المعاظلة، وإنما تقع المعاظلة في الاستعارة القبيحة البعيدة.
1113- فأما الاستعارة المستعملة فكثيرةٌ حسنةٌ، نحو: لقيت من فلانٍ عرق
الجبين، أي: شدةً= ونحو: ضحكت الأرض إذا أنبتت، لأنها تبدي حسن النبات،
وتشقق عن الزهر كما يفتر عن الثغر= ويقال: النور يضاحك الشمس، لأنه
يدور معها، كما قال الأعشى يذكر روضةً:
يضاحك الشمس منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزٌ بعميم النبت مكتهل
(1/336)
ذكر من لحقته
الفهاهة من الكتاب وغيرهم
1114- يروى أن كاتباً لأبي موسى كتب إلى عمر رضي الله عنه: من أبو
موسى؛ فكتب إليه عمر: اضربه سوطاً, واعزله عن عملك.
1115- وزعم عمرو بن بحرٍ الجاحظ أن ممن أدخل نفسه في الكتابة وتسمى
باسمها, وكان غثاً أنوك= صالح بن سير, وجعفر بن معروفٍ, والفضل بن
مروان ابن أخت أبي الوزير, وغيرهم.
1116- وأحمد بن الخطيب رأى جراداً كثيراً يطير, فقال: ما أحسنه! إلا أن
أكثره ميتٌ.
1117- وأنشد عمروٌ:
حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ من زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك بالمداد
1118- حدثني ميمون البري, قال: قرأ محمد بن الفضل الكاتب على صاحبه
كتاباً فيه: ومطرنا مطراً كثر عنه الكلأ؛ فقال له: ما الكلأ؟ فتردد في
الجواب, وتعثر لسانه, ثم قال: لا أدري؛ فقال: سل عنه.
(1/337)
1119- وقرأ محمد بن عيسى الكاتب على بعض
الخلفاء كتاباً يذكر فيه حاضر طيىءٍ, فصحفه تصحيفاً أضحك منه الحاضرين,
وذلك أنه قال: جاء ضرطي.
1120- وحكى القتبي أن بشراً المريسي كان يقول لجلسائه: قضى الله لكم
الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها. وسمع قاسمٌ التمار قوماً يضحكون؛
فقال: هذا كما قال الشاعر:
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيءٍ ما كان يرزؤها
فالاحتجاج أعجب من اللحن.
1121- ويروى أن بعض كتاب الدواوين ألزم بعض العمال مالاً وجب إلزامه
إياه من حسابه, فوقع عبيد الله بن سليمان على رقعته إلى كتاب الدواوين:
هذا هذاءٌ؛ فقدر العامل لضعف أدبه وعلى سبيل التمويه منه أن الوزير قد
قبل حجته وقبل في الرقعة قوله كما يقال تثبيت الشيء: هو هو, كما قال
الله: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} ؛ فأخرج التوقيع إلى الكتاب, وناظرهم
على أنه يوجب إزالته عنه, فما منهم أحدٌ درى ما أراد عبيد الله, فرد
صاحب الديوان التوقيع إلى عبيد الله, فلم يزده على أن شدد الكلمة
الأخيرة, ووقع: الله المستعان.
(1/338)
1122- وحدثني العباس بن أسدٍ, أن أبا
الحسين علي بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن علي كتاباً من مكة,
فقرأه, ثم رمى به إلي, فقال: اقرأه! فلما ابتدأت أوله أرتج علي حرفٌ
منه, ثم قرأت: كتابي إليك يوم القر؛ فوبخني, وقال: وما معنى يوم القر؟
قلت: القر البرد؛ وقال: إنما هو يوم القر حين يقر الناس بمنىً, وهو
اليوم الثاني من النحر.
1123- وحكى محمد بن يزيد، أن المأمون عقد لرجلٍ أربعةً، وقال: كم هذه؟
فقال: أيهما يريد أمير المؤمنين، آلقائمة أم النائمة؟
1124- وحضر رجلٌ ذو هيئةٍ ولحيةٍ ونبلٍ مجلس بعض الولاة، فرفعه وهاب
مجلسه، فلما استقر به المجلس، قال: أعزك الله! إن أبيك كان صديقٌ لأبي؛
فقال لحاجبه: أقم هذا الماص كذا من أمه من مجلسي؛ فانصرف القوم بسببه
بغير حاجةٍ.
1125- قال أبو بكرٍ: وحضرت مجلس رجلٍ، فأفحمت عن مسألة حاجتي لكثرة
حمقه، فرأيته وقد أنكر على كاتبه وقد أملى عليه: ولم أكتب إليك بخطي
خوفاً من أن تقف على رداوته؛ فكتب كاتبه: على راءته؛ كما يجب، فقال:
أما تحسن الهجاء، أين الواو؟ فأثبتها الكاتب، فخس في عيني، فاجترأت
عليه، ودنوت منه، فسألته حاجتي.
(1/339)
1126- وقال عمرو بن بحران للرشيد: قد هجوت
الرافضة؛ فقال: هات، فقال:
رغماً وشنغماً وزيتوناً ومظلمةً ... من أن ينالوا من الشيخين طغيانا
فقال له الرشيد: فسره لي! فقال: أنت يا أمير المؤمنين معك مئة ألفٍ من
الجند لا تعرفه، أعرفه أنا وحدي!؟
1127- وقال رجلٌ للأحنف: ما أبالي أهجيت أم مدحت؛ فقال له الأحنف: لقد
استرحت من حيث تعب الكرام.
1128- وحكي عن أحمد بن إسرائيل مع تقدمه في الكتابة أنه كتب: كانت
رسومهم مساناةً، ثم صارت مشاهرةً، ثم صارت مياومةً، ثم صارت مساعاةً؛
فأخطأ، وكان يجب أن يقول مساوعةً.
1129- وعن آخر، قيل له: خير الغداء بواكره، فكيف تقول في العشاء؟ فقال:
لا أدري؛ فقيل: بواصره.
1130- وعن آخر، قال: ولى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل صنعاء
والجند، أراد الجند، وهو أحد مخاليف اليمن.
1131- وقال آخر: بنو حجحبى، وإنما هو جحجبى حيٌ من الأنصار.
(1/340)
1132- وعن آخر تعجب من حسن دارٍ دخلها،
فقال: قد كنت أعرفها في موضع غير هذا.
1133- وعن آخر، لم يفرق بين عرض الحائط وطوله وسمكه.
1134- وعن آخر، لم يعرف يمين القبلة وشمالها.
1135- وربما سألوا عما لا يلزمهم معرفته، نحو قولهم: كم في {العصر}
واوأً؟ وكم في {إنا أنزلناه} ؟ وعن آيتين تجمع كل واحدة منهما اب ت ث؟
وكم في آية الكرسي من لام ألفٍ؟ وعن بيتٍ يجمع اب ت ث؟ وهذا تفسير ما
مضى مما سألوا عنه.
1136- أما الذي لا يفرق بين عرض الحائط وطوله وسمكه؛ فعرضه البناء
المبني, وطوله نواحيه, وسمكه ارتفاعه.
1137- وأما يمين القبلة وشمالها, فما كان عن يمينك إذا قابلتها فهو
شمالها, وما كان عن شمالك إذا قابلتها فهو يمينها.
1138- وفي {العصر} عشر واواتٍ.
1139- وفي {إنا أنزلناه} ثلاثٌ.
1140- وأما الآيتان اللتان تجمع كل واحدةٍ منهما حروف اب ت ث, فقوله جل
وعز {محمدٌ رسول الله} {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاساً} .
1141- وفي آية الكرسي لام ألفٍ اثنا عشر موضعاً.
(1/341)
1142- والبيت الذي يجمع حروف اب ت ث
أنشدنيه علي بن سليمان:
صف خلق خودٍ كمثل الشمس إذ بزغت ... يحظى الضجيع بها شنباء معطارا
1143- وقال آخر:
هلا سكنت بذي ضغثٍ فقد زعموا ... شخصت تطلب ظبياً راح مجتازا
1144- وكتب الحسين بن علي بن العباس, على محله وعلمه ورئاسته: وهم
مجانون؛ توهم أنه جمعٌ مسلمٌ.
1145- وشك آخر في صرف خفيفٍ, فقيل له: إن الشيء إنما يصرف لأنه خفيفٌ.
1146- وصحف بعضهم فأنشد:
إن الذنوب تنفع المغلوبا
وإنما هو تنقع, أي: تروي. ومنه يقال: الرشيف أنقع للظمآن, والعرب تقول:
إنه لشرابٌ بأنقعٍ, أي فطنٌ, حسن التدبير, وأصله أن الطائر الفطن يأتي
إلى القيعان من الماء ليشرب منها ويتخلص.
1147- قال أبو العيناء في أسد بن جهورٍ الكاتب:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... وأمات أهل العلم والآداب
وأتى بكتابٍ لو انطلقت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
(1/342)
جيلٌ من الأنعام إلا أنهم ... من بينها
خلقوا بلا أذناب
لا يفرقون إذا الجريدة جردت ... مابين عتاب إلى عناب
أو ما ترى أسد بن جهورٍ قد غدا ... متشبهاً بأجلة الكتاب
لكن يخرق ألف طومارٍ إذا ... ما احتيج منه إلى جواب كتاب
وإذا أتاه سائلٌ في حاجةٍ ... رد الجواب له بغير جواب
وسمعت من غث الكلام ورثه ... وقبيحه واللحن بالإعراب
ثكلتك أمك هبك من بقر الملا ... ما كنت تغلط مرةً بصواب
1148- ومما وجدته في آخر كتابٍ عندي في هذه القصيدة، ونسبت إلى أحمد بن
مهران الكاتب بأسرها:
وإذا أتاه مسلمٌ في حاجةٍ ... رد الجواب له بغير جواب
وأتاه من غث الكلام ورثه ... وحديثه واللحن بالإعراب
(1/343)
|