عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس باب المرتبة الثامنة
1149- قال أبو جعفرٍ: هذه مرتبة الخطابة، وهي من أوكد ما يحتاج الكتاب
إليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قرئ على أحمد بن شعيب بن
عليٍ، عن محمود بن خالدٍ، قال: حدثنا؛ قال: قال أبو عمروٍ: أخبرني قرة،
عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: ((كل أمرٍ ذي بالٍ لا تبدأ فيه بحمد الله أقطع)) .
1150- فأول ما نبدأ به من الأبواب في هذه المرتبة باب ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من الخطب، ثم باب ما ذكر عن أهل البيت عليهم السلام
من الخطب، ثم باب ما ذكر من الخطب عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم باب ما
ذكر عن جلة الكتاب، ثم باب ذكر من أرتج عليه في خطبته.
(1/344)
باب ما يروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم من الخطب
1151- قرئ على أحمد بن شعيب بن عليٍ، عن قتيبة بن سعدٍ، قال: حدثنا
عبثر، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال:
علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة والتشهد في
الحاجة، فقال: ((التشهد في الحاجة أن تقول: الحمد لله نستعينه
ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛
ويقرأ ثلاث آياتٍ)) .
1152- قال في حديث أبي عبد الرحمن: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطبة الحاجة، وذكر هذا؛ قال: وفيه: ثم يقرأ هؤلاء الآيات الثلاث:
{يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ} ، و {واتقوا الله
وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم} و {اتقوا الله حق تقاته} .
1153- قال أبو بكرٍ محمد بن إبراهيم بن المنذر: ما تركت هذه الخطبة عند
النكاح.
(1/345)
1154- وقال غيره: وجدنا خطب رسول الله
أكثرها أوله هذا الكلام, وفي بعضها زيادةٌ: ((يا أيها الناس! كأن الموت
على غيرنا كتب, وكأن الحق على غيرنا وجب, وكأن الذي نشيع من الأموات
سفرٌ عما قليلٌ إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم, ونأكل تراثهم, كأنا
مخلدون بعدهم, قد نسينا كل واعظةٍ وأمنا كل جائحةٍ, طوبى لمن شغله عيبه
عن عيب غيره, وأنفق ما اكتسبه من غير معصيةٍ, ورحم أهل الضعف والمسكنة,
وخالط أهل الفقه والحكمة, طوبى لمن أذل نفسه, [وطاب كسبه,] وحسنت
خليقته, وصلحت سريرته, [وكرمت علانيته,] وعزل عن الناس شره؛ [طوبى لمن
عمل بعلمه,] وأنفق الفضل من ماله, وأمسك الفضل من قوله, ووسعته السنة,
ولم يعدها إلى بدعةٍ)) .
1155- وفي أخرى: ((يا أيها الناس! إن المؤمن بين مخافتين: بين أجلٍ قد
مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه, وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ
فيه, فليأخذ العبد من نفسه لنفسه, ومن دنياه لآخرته, ومن الشبيبة قبل
الكبر, ومن الحياة قبل الموت؛ والذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الموت
مستعتبٌ, ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) .
(1/346)
1156- ويروى أنه خطب صلى الله عليه في
تزويج عليٍ لفاطمة رضوان الله عليهما: ((الحمد الله المحمود بنعمه,
المعبود بقدرته, المطاع بسلطانه, المرهوب من عقابه, المرغوب في ما
عنده, النافذ أمره في سمائه وأرضه, الذي خلق الخلق بقدرته, وميزهم
بحكمته, وأعزهم بدينه, وأكرمهم بمحمدٍ نبيه؛ أما بعد؛ فإن الله جعل
المصاهرة نسباً لاحقاً, وحقاً واجباً, وفرضاً لازماً, وحكماً عادلاً,
وخيراً جامعاً؛ وشج به الأرحام, وألزمه الأنام, وفرق به بين الحلال
والحرام, فقال جل ذكره: {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً
وصهراً وكان ربك قديراً} . فأمر الله يجري إلى قضائه, وعلمه سائرٌ على
قدره, ولكل حكمٍ أجلٌ, و {لكل أجلٍ كتاب. يمحوا الله ما يشاء ويثبت
عنده أم الكتاب} ولأمر الله عز وجل العلو والنفاذ. وقد أنكحت فاطمة
ابنة محمدٍ من علي بن أبي طالبٍ المشارك لها في نسبها, الرضى عند الله
عز وجل وعند رسوله على الملة العادلة والسنة القائمة, فجمع الله
شملهما, وبارك لهما, وجعلهما مفاتح للرحمة, وأمناء للأمة, أقول قولي
هذا وأستغفر الله لي ولكم)) .
1157- قرئ على أحمد بن حمادٍ, عن يحيى بن عبد الله بن بكيرٍ, قال:
حدثنا الليث, قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد, عن عياض بن عبد الله بن
سعدٍ, أنه سمع أبا سعيدٍ الخدري, يقول: قام رسول الله
(1/347)
صلى الله عليه وسلم , فخطب الناس, فقال:
((والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله عز وجل لكم من زهرة
الدنيا)) فقال رجلٌ: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ساعةً, ثم قال: ((كيف قلت؟)) قال: قلت: يا رسول
الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً, ثم
قال: ((كيف قلت؟)) فقال: قلت: وهل يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((إن الخير لا يأتي إلا بالخير أو خيرٌ هو, إن مما
ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)) وذكر الحديث.
1158- قال أبو جعفرٍ: وهذا من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما
يقال أنه لم يسبق إليه, وهو من الكلام البليغ, وذلك أن الحبط أن تأكل
الناقة من الرعي فتكثر حتى تنتفخ بطنها, ومعنى: ((أو يلم)) يقارب أن
يقتل, فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستكثار من الدنيا
ونضارتها وحسنها إذا كان في ذلك ما يهلك, فضرب استكثار البهيمة من
العشب في الربيع حتى يقتلها حبطاً مثلاً لذلك.
باب ما يذكر عن أهل البيت رضوان الله عليهم
من مشهور الخطب
1159- لأمير المؤمنين عليٍ صلوات الله عليه: ألا إن الدنيا قد
(1/348)
أدبرت وآذنت بوداعٍ, ألا إن الآخرة قد
أقبلت وأشرفت باطلاعٍ, المضمار اليوم, والسباق غداً, ألا وإنكم في أيام
أملٍ من ورائه أجلٌ, فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله,
ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة؛ ألا وإني لم أر
كالجنة نام طالبها, ولا كالنار نام هاربها؛ ألا وإنه من لم ينفعه الحق
ضره الباطل, ومن لم يستقر به الهدى جار به الضلال؛ ألا وإنكم قد أمرتم
بالظعن, ودللتم على الزاد, وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى, وطول
الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق, وأما طول الأمل فينسي الآخرة.
1160- وروى عبد خيرٍ, قال: قام عليٌ رضي الله عنه على المنبر, فقال:
ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ قالوا: بلى! قال: أبو بكرٍ؛ ثم
سكت سكتةً, ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكرٍ؟ عمر.
1161- وروى سويد بن غفلة قال: مررت بقومٍ من الشيعة وهم يشتمون أبا
بكرٍ وعمر رحمهما الله, قال: فدخلت على عليٍ رضي الله عنه, فقلت: يا
أمير المؤمنين! مررت بنفرٍ من أصحابك يتناولون أبا بكرٍ وعمر,
ويذكرونهما بغير الذي هما له من الأمة أهلٌ, فلولا أنهم يرون أنك تضمر
مثل ما أعلنوا ما تجرؤوا على ذلك؛ فقال عليٌ رضي الله عنه: أعوذ بالله!
أعوذ بالله! مرتين, أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل, أخوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصاحباه ووزيراه؛ ثم نهض دامع العينين
(1/349)
قابضاً على لحيته ينظر فيها وهي بيضاء,
فاجتمع له الناس, ثم قام بخطبةٍ بليغةٍ, ثم قال: ما بال قومٍ يذكرون
سيدي قريشٍ وأبوي المسلمين, بما أنا منه بريءٌ, وعليه معاقبٌ, وعنه
متنزهٌ! أما والذي فلق الحبة, وبرأ النسمة, إنه لا يحبهما إلا مؤمنٌ
نقيٌ, ولا يبغضهما إلا فاجرٌ شقيٌ؛ صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الصدق والوفاء, يأمران وينهيان ويقتصان ويعاقبان, لا يجاوزان فيما
يقضيان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم , لا يرى رسول الله صلى الله
عليه وسلم كرأيهما رأياً, ولا كحبهما حباً, مضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم راضياً عنهما, والمؤمنون راضون, أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا بكرٍ على صلاةٍ المؤمنين أياماً, فلما قبض النبي صلى الله
عليه وسلم ولاه المؤمنون ذلك, وفوضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان,
وآتوه البيعة طائعين, وهو لها كارهٌ, يود أن أحداً منا كفاه ذلك, وكان
والله خيراً من نفرٍ, أرحمهم رحمةٍ، وأرأفهم رأفةً، وأثبتهم ورعاً،
وأقدمهم إسلاماً، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفةً
ورحمةً، وبإبراهيم عليه السلام عفواً، ووقاراً، فسار فينا بسيرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله رحمة الله عليه. وولي الأمر من
بعده عمر، واستأمر المسلمين في ذلك، فمنهم من رضي، ومنهم من كره، وكنت
في من رضي، فما فارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام الدين على
منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتبع آثارهما كاتباع الفصيل أثر
أمه؛ وكان والله رفيقاً رحيماً عوناً وناصراً للمظلومين على الظالمين
لا يخاف في الله لومة لائمٍ، ضرب الله بالحق على لسانه، وجعل الصدق من
شأنه، حتى إنا كنا لنظن أن ملكاً ينطق
(1/350)
على لسانه؛ أعز الله بإسلامه الدين، وجعل
هجرته للدين قواماً، ألقى الله له في قلوب المؤمنين المحبة، وفي قلوب
المنافقين الرهبة، وشبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل فظاً
غليظاً على الأعداء، وبنوح الرسول عليه السلام حنقاً واغتياظاً على
الكفار، الضراء في طاعة الله آثر عنده من السراء على معصية الله؛ فمن
لكم بمثليها؟ رحمها الله، ورزقنا المضي على سبيلهما، فإنه لا يبلغ
مبلغهما إلا باتباع آثارهما، وحبٍ لهما؛ فمن أحبني فليحببهما، ومن لم
يحبهما فقد أبغضني، وأنا منه بريءٌ، ولو أنني كنت تقدمت إليكم في
أمرهما بشيءٍ: لعاقبت من ذكرهما بسوء أشد العقوبة، ولكني لا ينبغي لي
أن أعاقب قبل التقدم، فمن أتيت به بعد هذا يقول فيهما سوءاً فإن عليه
ما على المفتري. ألا وخير هذه الأمة أبو بكرٍ، ثم عمر، ثم الله أعلم
بالخير أين هو؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.
1162- ومن ذلك حديث معاوية رضي الله عنه حين خطب لما سلم إليه الحسن
رضوان الله عليه الخلافة، فقال في خطبته: إنه ما من أمةٍ اختلفت بعد
نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من أمر هذه الأمة، فإن حقها غلب
باطلها.
ثم قال للحسن رضي الله عنه: قم فاعتذر من الفتنة؛ فقام الحسن رضوان
الله عليه، فحمد الله، وصلى على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ثم
قال: يا أيها الناس! إن الله عز وجل هدى بنا أولكم، وحقن بنا دماء
(1/351)
آخركم، وإن هذا الأمر الذي تنازعت أنا
ومعاوية فيه، إما أمرٌ لرجلٍ هو أحق به مني فسلمته إليه، وإما أمرٌ هو
لي فتركته لحقن دماء المسلمين، {وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى
حين} . وأشار بيده إلى معاوية، ثم نزل.
1163- ومن حسن ما في هذه الخطب مما يرى الكتاب والمتأدبون حفظها خطبة
زيد بن عليٍ رضي الله عنهما، كتبناها عن علي بن سليمان، قال: هذا الذي
أذكره لك خطبةٌ لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن عليٍ رضوان الله
عليهم، وهي من الخطب المتناهية الصحاح يتداولها أهل العلم كابراً عن
كابرٍ، ولا إسناد عندنا فيها، وهي صحيحةٌ؛ لما خرج زيد بن علي رضي الله
عنهما واجتمع الناس، خطب، فقال:
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر؛ أحمده على آلائه وبلائه
حمد من يعلم أن الحمد فريضةٌ واجبةٌ، وتركه خطيئةٌ محيطةٌ، ونستعينه
على هذه النفوس البطاء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه؛ أمر الله
نافعٌ، ونهي الله ضارٌ؛ نستغفر الله العظيم مما أحاط به علمه وأحصاه
كتابه، علم الله غير مغيبٍ عنه، وكتابه غير مغادرٍ؛ ونؤمن به إيمان من
عاين الغيوب، وقف على الموعود؛ إيماناً نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك،
ونتوكل عليه توكل من لا يثق إلا به، ولا يفزع إلا إليه، ثقة أهل
الرجاء، ومفزع أهل التوكل؛ وأشهد أن لا إله
(1/352)
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان
توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان منه، يهون بهما الحساب، ويمضي بهما
على الصراط؛ جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي من اكتفى بها كفته, ومن اجتنب بها
وقته, كافيةً غير خاذلةٍ, واقيةً غير مخلةٍ؛ هي الزاد, وإليها المعاد,
زادٌ مبلغٌ, ومعادٌ منجحٌ, دعا إليها أسمع داعٍ, ووعاها خير واعٍ؛
فأعذر داعيها, وفاز واعيها؛ عباد الله! إن تقوى الله حمت أولياء الله
محارمه, وألزمت قلوبهم مخافته؛ حتى أسهرت ليلهم, وأظمأت هواجرهم؛
فأخذوا الراحة بالنصب, والري بالظمإ, وبادروا العمل, وخافوا بغتة
الأجل؛ فانكمشوا في مهلٍ, وأسرعوا في طلبٍ حتى أفادوا ذخيرةً, وأطابوا
سريرةً؛ ليوم الرحلة, وحين الحاجة؛ عباد الله! إن الدنيا دار فناءٍ
وعناءٍ, وغيرٍ وعبرٍ؛ فمن الفناء أن الدهر موترٌ قوسه, لا تخطئ سهامه,
ولا تشوي جراحه, يرمي الحي بالموت, والصحيح بالعطب؛ شاربٌ لا ينقع,
وآكلٌ لا يشبع؛ ومن العناء أن المرء يبني ما لا يسكن, ويجمع ما لا
يأكل؛ ثم يخرج إلى الله لا مالاً حمل, ولا بناءً نقل؛ ومن غيرها أنك
تلقى المرحوم مغبوطاً, والمغبوط مرحوماً, وليس ذلك إلا نعيماً رحل,
وبؤساً نزل؛ ومن غيرها أن المرء يشرف على أمله, فيقطعه أجله, فلا أملٌ
يدرك, ولا مؤملٌ يترك, سبحان الله ما أغر سرورها, وأظمأ ريها, وأضحى
فيئها, فكأن الذي كان من الدنيا لم يكن, وكأن الذي هو فيها كائن قد
باد؛ لا جاءٍ يرد
(1/353)
ولا ماضٍ يرتد, وإن الآخرة دار بقاءٍ
وقرارٍ, وجنةٍ ونارٍ؛ صار أولياء الله إلى الآخرة بالصبر, فجاوروا الله
عز وجل في داره ملوكاً خالدين, يا أيها الناس إن الله خلقكم ليبلو
أخباركم أيكم أحسن عملاً, جعل موتاً بين حياتين, موتاً بعد حياةٍ,
وحياةً ليس بعدها موتٌ, وإن أعداء الله عز وجل نظروا, فلم يجدوا شيئاً
بعد الموت إلا والموت أشد منه, فسألوا الله الحياة جزعاً من الموت, وإن
أولياء الله نظروا, فلم يجدوا شيئاً بعد الموت إلا والموت أهون منه,
فسألوا الله عز وجل الموت جزعاً من الحياة, ولكل مما فيه مزيدٌ.
واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة
وزاد في الدنيا, وكل شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه, وكل شيءٍ من
الآخرة عيانه أعظم من سماعه, فليكفيكم من العيان السماع, ومن الغيب
الخبر, سبحان الله! ما أقرب الحي من الميت في اللحاق به, وأبعد الميت
من الحي للانقطاع عنه. إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه, وما
أحل لكم أكثر مما حرم عليكم, فذروا ما قل لما كثر, وما ضاق لما اتسع,
فقد تكفل لكم بالرزق, وأمرتم بالعمل, فلا يكن المضمون لكم طلبه أولى من
المفروض عليكم عمله, مع أنه قد اعترض الشك, ورحل اليقين, حتى كأن الذي
ضمن لكم فرض عليكم, وكأن الذي فرض عليكم وضع عنكم, ولله آباؤكم تنبهوا
من سنتكم, وبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل, فإنه لا يرجى من رجعة
العمر ما يرجى من رجعة الرزق, ما فات اليوم من الرزق يرجى غداً زيادته,
وما فات من العمر أمس لم يرج اليوم رجعته, الرجاء مع الجائي, واليأس مع
الماضي, فـ {اتقوا الله حق تقاته
(1/354)
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
باب ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من
الخطب
1164- من ذلك خطبةٌ لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، قال فيها: ألا إن
أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، الملك إذا ملك زهده الله عز وجل
في ما عنده، ورغبه في ما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه
الإشفاق، فإذا وجب ونضب عمره، وضحا ظله، حاسبه الله، فأشد حسابه، وأقل
عفوه، وسترون بعدي ملكاً غصوباً، وأمةً شعاعاً، ودماً مفاحاً، وإن كانت
لأهل الباطل نزوةٌ، ولأهل الحق جولةٌ، يعفو لها الأثر، وتموت السنن،
فالزموا المساجد واستشيروا القرآن، وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة
بعد التناظر.
قال أبو جعفرٍ: وجب، أي: مات، وأصل الوجوب: السقوط، ومنه قوله: {فإذا
وجبت جنوبها} ، وقوله: نضب عمره، أي: نفد، وقوله: ضحا ظله، أي: صار
شمساً، أي: ذهب، ومعناه: مات؛ وقوله: وأمةً شعاعاً، أي: متفرقين
مختلفين؛ وقوله: دماً مفاحاً أي: مسالاً، وفاح الدم، أي: سال، يريد
يقتلون قتلاً ذريعاً فاشياً بكل مكانٍ؛ وقوله: ولأهل الحق جولةٌ،
(1/355)
أي: لا يستقرون على الذي يعرفونه ويطمئنون
إليه، أي: هم متحيرون؛ ويعفو الأثر، أي: يدرس.
1165- ومن ذلك خطبة عمر رضي الله عنه لما ولي، فقال: ما كان الله عز
وجل ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكرٍ رضي الله عنه؛ فنزل مرقاةً
عن مجلسه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: اقرؤوا القرآن تعرفوا به،
واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لم يبلغ حق ذي حقٍ أن يطاع في معصية
الله عز وجل، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله عز وجل بمنزلة والي
اليتيم، إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
1166- وفي رواية خالد بن نزارٍ, عن مالك بن أنسٍ، عن وهب بن كيسان، أنه
سمع عبد الله بن الزبير يخطب يقول: إن لأهل التقوى علاماتٍ يعرفون بها،
فمن رضي بالقضاء، وشكر عند النعماء، وصبر عند البلاء، وذل لأحكام
القرآن، وإنما السلطان سوقٌ من الأسواق، فإن كان من أهل الحق حمل إليه
أهل الحق حقهم، وإن كان من أهل الباطل حمل إليه أهل الباطل باطلهم.
(1/356)
بابٌ فيه من خطب عمر بن عبد العزيز رحمه
الله
1167- قرئ على أبي إسحاق إبراهيم بن حميدٍ، عن العباس بن الفرج
الرياشي، قال: حدثني عبد الملك بن قريبٍ الأصمعي قال: قال شعبة بن
الحجاج: وفد وافدٌ لأهل البصرة على عمر بن عبد العزيز قال: فلما أتيت
بابه، أذن لي، ثم قال: ما بك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! أتيتك مستحفراً،
قال: لماذا؟ قلت: لبئرٍ بالعذبة، قال: وأين العذبة؟ قلت: على منزلتين
من البصرة، قال: قد أحفرتك على أن أول واردٍ ابن سبيلٍ، قال: ثم أتت
الجمعة، فقربت من المنبر، فلما صعد حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا
أيها الناس! إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلئن كنتم
صدقتم لقد فزتم، ولئن كنتم كذبتم لقد هلكتم، يا أيها الناس! إنه من يكن
له بحضيض أرضٍ أو بنيق جبلٍ رزقٌ يأته، فأجملوا في الطلب؛ ثم نزل.
1168- ويروى أن عمر قال في خطبته: يا أيها الناس! إنما الدنيا أملٌ
مخترمٌ، وأجلٌ منتقص، وبلاغٌ إلى دارٍ غيرها، وسيرٌ إلى الرب ليس فيه
تعريجٌ، رحم الله من فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال
ذنبه؛ أيها الناس! قد علمتم أن أباكم أخرج من الجنة بذنبٍ واحدٍ، وأن
ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجلٍ، ومن ربه على أملٍ.
(1/357)
1169- وحدثني محمد بن أيوب, قال: حدثنا عبد
الملك بن عبد الحميد الميموني, قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر بن حسام
بن مصك, قال: حدثنا جعفر بن سليمان, عن مالك بن دينارٍ, قال: سمعت
الحجاج بن يوسف وهو يخطب يوم الجمعة، يقول: رحم الله امرءاً اتهم نفسه
على نفسه، امرءاً اتخذ نفسه عدواً، امرءاً وازن نفسه، امرءاً أخذ بعنان
عمله، فعلم ماذا يراد به، امرءاً نظر إلى حسناته, امرءاً حاسب نفسه قبل
أن يكون الحساب إلى غيره, امرءاً نظر إلى ميزانه؛ فلم يزل يقول: امرءاً
فعل كذا, امرءاً فعل كذا؛ حتى بكيت.
1170- وفي غير هذه الخطبة: يا أيها الناس! اقدعوا هذه النفوس, فإنها
أسأل شيءٍ إذا أعطيت, وأعطى شيءٍ إذا سئلت, فرحم الله امرءا حاسب نفسه
قبل أن يكون الحساب إلى غيره, وجعل لنفسه خطاماً وزماماً, فقادها
بخطامها إلى طاعة الله عز وجل, وعطفها بزمامها عن معصية الله, فإني
رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عقابه.
1171- وقال الشعبي: سمعت الحجاج يتكلم بكلامٍ ما سبقه إليه أحدٌ, سمعته
يقول: إن الله عز وجل كتب على الدنيا الفناء, وعلى
(1/358)
الآخرة البقاء, فلا فناء لما كتب عليه
البقاء, ولا بقاء لما كتب عليه الفناء, فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب
الآخرة, قصروا طول الأمل بقصر الأجل.
1172- ومما يستحسن خطبة المأمون, وهي في يوم جمعةٍ: الحمد لله مستخلص
الحمد لنفسه, ومستوجبه على خلقه, أحمده وأستعينه وأؤمن به, وأتوكل
عليه, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون, أوصيكم عباد الله بتقوى الله, والعمل بطاعته, والتنجز لوعده,
والخوف لوعيده, فإنه لا يسلم إلا من أبقاه ورجاه, وعمل له وأرضاه,
فاتقوا الله عباد الله, وبادروا آجالكم بأعمالكم, وابتاعوا ما يبقى لكم
بما يزول عنكم, وترحلوا فقد جد بكم, واستعدوا للموت فقد أظلكم, وكونوا
قوماً صيح بهم فانتبهوا, وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدارٍ, فاستبدلوا؛
فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً, ولا يترككم سدىً, وما بين أحدكم وبين
الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به, وإن غايةً تنقصها اللحظة,
وتهدمها الساعة, لحريةٌ بقصر المدة, وإن غائباً يحدوه الجديدان: الليل
والنهار لحريٌ بسرعة الأوبة, وإن قادماً يحل بالفوز أو الشقوة لمستحقٌ
لأفضل العدة, فاتقى عبدٌ ربه, ونصح لنفسه, وقدم توبته, وغلب شهوته, فإن
أجله مستورٌ عنه, وأمله خادعٌ له, والشيطان موكلٌ به يزين له
(1/359)
المعصية ليركبها, ويمنيه التوبة ليسوفها,
حتى تهجم عليه منيته أغفل ما كان عنها, فيالها حسرةً على ذي غفلةٍ أن
يكون عمره عليه حجةً, أو تؤديه أيامه إلى شقوةٍ, نسأل الله أن يجعلنا
وإياكم ممن لا تبطره نعمةٌ, ولا تقصر به عن طاعته غفلةٌ, ولا يحل به
بعد الموت حسرةٌ, إنه سميع الدعاء, بيده الخير وهو فعالٌ لما يريد.
باب ذكر من أرتج عليه في الخطابة
1173- صعد رجلٌ المنبر ليخطب, فأرتج عليه, فنظر إلى أخي امرأته فقال:
ما لك يا بغيض! أختك طالقٌ البتة.
1174- وخطب يزيد بن أبي سفيان لما أتى الشام والياً لأبي بكرٍ, فأرتج
عليه, فعاد إلى الحمد ثلاثاً, فأرتج عليه, فقال: يا أهل الشام! عسى
الله أن يجعل بعد عسرٍ يسراً, وبعد عيٍ بياناً, وأنتم إلى أميرٍ عادلٍ
أحوج منك إلى أميرٍ قائلٍ. فبلغ ذلك عمرو بن العاص, فاستحسنه.
1175- وأرتج على عبد ربه اليشكري, عاملٍ لعيسى بن موسى على المدائن,
فسكت, وقال: والله إني لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمةٍ, فإذا
قمت على أعوادكم هذه تنحت كلها من قلبي.
(1/360)
1176- وقيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك
الشيب؛ قال: كيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعةٍ
مرةً أو مرتين!؟.
1177- ودعي رجلٌ ليخطب في نكاحٍ, فأرتج عليه, فقال: لقنوا موتاكم شهادة
أن لا إله إلا الله؛ فقالت امرأة حضرت: ألهذا دعوناك؟ أماتك الله!
1178- وخطب عبد الله بن عامرٍ بالبصرة في يوم أضحى, فأرتج عليه, فقال:
لا أجمع عليكم لؤماً وعياً, من أخذ من السوق شاةً فهي له, وثمنها علي.
1179- وأرتج على معن بن زائدة, فقال وضرب برجله المنبر: فتى حروبٍ لا
فتى منابر.
(1/361)
|