عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس ذكر المرتبة التاسعة
1180- وهي طبقة الكتابة، أذكر فيها فضل الكتابة على سائر الصناعات ثم
باب ذكر نبل الكتاب وعلمائهم ورؤسائهم، ثم باب إيجازاتٍ واختصاراتٍ من
الكتابة، ثم باب فصولٍ ورسائل بليغةٍ.
باب ذكر فضل الكتابة على سائر الصناعات
1181- وروى ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل:
{أو أثارةٍ من علمٍ} قال: ((الخط)) .
1182- قال عمرو بن بحرٍ الجاحظ: من شرف الكتابة ما ذكره الله عز وجل في
كتابه، وهو قوله: {الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} وقوله:
{بأيدي سفرةٍ. كرامٍ بررةٍ} ، وقوله: {ولا يضار كاتبٌ ولا شهيدٌ} ،
وقوله: {ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ} فلولا فضل الكتابة لم يجعل
الله أهلها بهذا المكان العالي، فمن أبين
(1/362)
فضائلها أنها جعلت مدحاً للملائكة، ولعلية
الناس، ومن فضل الكتابة وشرفها أن الكتاب في قديم الدهر وحديثه يدبرون
الملك والخلافة دون غيرهم، وأن الكتب تختم بذكرهم، وذلك بينٌ في سجلات
النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيرها إلى يومنا هذا. ومن جلالتها أن
أحكامها كأحكام القضاة.
1183- وقال غيره: قد غلط من زعم أن أحكام الكتابة مباينةٌ لأحكام
الشريعة، لأن ذلك مخالفٌ لما يوجد في العقل والدين، لأن الكتابة فرع
صناعةٍ لسياسة الملك، والملك لا قوام له إلا بالدين، فقد تبين أن
الكتابة فرعٌ من فروع الدين، وما كان فرعاً لشيءٍ لم يباينه، وأحكام
الكتابة ملائمةٌ لأحكام الشريعة، ألا ترى أن مسلماً لو استحق أرضاً
مواتاً كان حكم الكاتب والفقيه فيها سواءٌ، وكذا فيما تخرج الأرض من
الزكاة في العشر ونصف العشر، وكذا الحكم في المعادن والخمس، وكذا الحكم
في الفيء والغنائم والصدقات، فجميع أحكام الكتابة إذا وقع الإنصاف
داخلٌ في أحكام الفقه أو مشاركٌ له.
1184- وهذه رسالةٌ كتب بها أبو جعفرٍ الفضل بن حدادٍ إلى أبي معشرٍ
المنجم في فضل الكتابة: الكتابة، أعزك الله، نسبٌ وقرابةٌ ورحمٌ ماسةٌ
ووسيلةٌ، وهي أس الملك، وعماد المملكة، وأغصانٌ متفرعةٌ من شجرةٍ
واحدةٍ، وهي قطب الأدب، وفلك الحكمة، ولسانٌ ناطقٌ، وهي نور العلم،
وتزكية العقول، وميدان الفضل والعدل، وهي زينةٌ وحليةٌ، ولبوسٌ وجمالٌ
وهيئةٌ وروحٌ جارٍ في أجسامٍ متفرقةٍ، وبها
(1/363)
وسمت التوراة والإنجيل والقرآن والكتب
المنزلة، ولو أن فضلاً ونبلاً تصورا جسماً لتصورت الكتابة، ولولا ما
نزل به الكتاب في الفرض والمواريث لورثت الكتابة، ولو أن الصناعة
مربوبةٌ لكانت الكتابة سيداً لكل صناعةٍ، وبالكتابة توضع الموازين،
وتنشر الصحف يوم القيامة، والكتابة أفضل شيءٍ عند الله عز وجل منزلةً
ودرجةً ومن جهل حقها رسم برسم الغواة والجهلة، وبها قامت السياسة
والرياسة، وإليها ضوت الملوك بالفاقة والحاجة، وإليهم ألقيت الأعنة
والأزمة، وبهم اعتصموا في النازلة والنكبة، وعليهم اتكلوا في الأهل
والولد، والذخائر والعقد، وولاة العهد، وتدبير الملك, وقراع الأعداء,
وتوفير الفيء, وحياطة الحرم, وحفظ الأسرار, وترتيب المراتب, ونظم
الحروب بالميمنة والميسرة والقلب والكمناء والروادف والأجنحة, وعن
الكتابة يحاسب عز وجل خلقه يوم القيامة بما أثبتت الملائكة والحفظة وقد
أجمعت العلماء أن أول ما خلق الله القلم, وأنه جل وعز قال له: اكتب!
قال: يا رب! وما أكتب؟ قال: اكتب علمي في الخلق إلى أن تقوم الساعة,
فكتب القلم بما كان وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. وقال جل وعز: {وإن
عليكم لحافظين. كراماً كاتبين} , وقال جل وعز: {كتب ربكم على نفسه
الرحمة}
(1/364)
, وقال: {علمها عند ربي في كتابٍ} , وقال
جل وعز: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى رسلنا لديهم يكتبون}
, وقال عز وجل: {ن والقلم وما يسطرون} , وقال جل وعز: {اقرأ وربك
الأكرم. الذي علم بالقلم} , وقال تقدس اسمه: {هذا كتابنا ينطق عليكم
بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} وقال جل وعز: {اقرأ كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيباً} , وقال جل وعز: {ويقولون يا ويلتنا مال هذا
الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها} , وذلك في مواضع كثيرةٍ
من القرآن يطول شرحها وذكرها, وكان القلم أول من آمن, وأول من أسلم
وكتب, وأول من كتب بالعبرانية شيث بن آدم عليهما السلام, ثم كتب بعده
إدريس, وخلف سبعين كتاباً من كتب الحكمة والنجوم, وقيل: إنه عرج به إلى
السماء؛ وأما المنجمون فيزعمون أن البرجيس, وهو المشتري, حدر إليه من
الفلك يعلمه الحساب, ثم ترقى, وأنه نظر فرأى بوار ولده يكون باقتران
الكواكب في الحمل, وهو برجٌ ناريٌ, فيكون الهلاك بالنار, أو السرطان,
وهو برجٌ مائيٌ, وهو بيت حياة العلم, فيكون الهلاك بالماء, فعمد إلى
الطين, فصفاه وجففه, وأثبت فيه علم النجوم, وقال: إن كان البوار بالنار
تخزف, فوجده من ينجو من العالم, ثم أثبته في الصخر, فقال: إن كان
البوار بالماء ثبت فيه العلم, صيانةً وإشفاقاً عليه, فشاء الله عز وجل
أن يكون بوار تلك الأمة بالطوفان واقتران الكواكب في السرطان, فأدرك من
أدرك, وعلم من
(1/365)
علم منه القليل من الكثير, فكان أول من كتب
بالسريانية يهوذا بن يعقوب, وكان أول من كتب بالعبرانية ثلاثة نفرٍ من
طيئٍ, يقال لهم: مرامر بن مرة, وأسلم بن سدرة, وعامر بن جدرة؛ وكان
لوطٌ عليه السلام يكتب لإبراهيم عليه السلام الصحف المنزلة عليه, وكان
يوسف عليه السلام يكتب للعزيز صاحب الرؤيا, وقال: {قال اجعلني على
خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ} أي: حفيظٌ بالكتاب عليمٌ بالحساب, وكان
سليمان بن داود عليهما السلام كاتب أبيه, يكتب عنه المزامير وغيرها,
وكان آصف بن عيصا كاتب سليمان بن داود, وهو الذي كان عنده علمٌ من
الكتاب, فأتى سليمان بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه, وكان ذو
القرنين كاتب بطلميوس, وكان هارون ويوشع بن نونٍ يكتبان بين يدي موسى
عليه السلام الألواح والتوراة, وكان يحيى بن زكرياء كاتب عيسى عليه
السلام كتب له الحكمة والإنجيل, وكان علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه
يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا أنعمنا النظر، وألطفنا القياس والفكر، وجدنا الفلكين الدائرين
الجامعين الضابطين لأمور الدنيا والآخرة= الفلك الأعلى الدوار المحيط
بالأرض والسماء والهواء والماء، وكل ما خلق عز وجل بين ذلك وفوقه
وتحته، من الجنة والنار.
(1/366)
فالكتابة التي تضم كل شيءٍ ولا يضمها شيءٌ.
وأنا يا أخي، جعلني الله فداك، عاتبٌ منكرٌ لإعراضك وصدودك وازورارك
وتجانفك عن سروري بك إذا رأيتك، وإقبالي عليك إذا لقيتك، وانبساطي
وانقباضك إذا خاطبتك، وكيف يا أخي، أسعدك الله، ولم، وعلام، وفيم، وبم،
تفعل ذلك، وقد ضمنا التوحيد واليقين والدين، وجرينا في ميدان هذه
الصناعة الرئيسة العالية النفيسة الشامخة على كل صناعةٍ، نرضع درتها،
ونجتني ثمرتها، ونتفيأ في ظلال أغصانها، ونمرع في رغد عيشها ونضرة
رياضها، وهي لنا كالأم اللطيفة بنا، الشفيقة علينا، ونحن لها كالأولاد
البررة بها في ما يجب من إجلالها وإعظامها وقضاء حقها بالسمع والطاعة
لها، ولم نر من حق تربيتها وتغذيتها إيانا أن نمتطي العقوق فنجعله
ظهراً لنا، وهي له منكرةٌ، وأن نتساقى كأس الفرقة وهي عنا ناهيةٌ، ثم
هذه الناحية التي تكنفنا وتضمنا، وتؤلف فيما بيننا، هذا الكريم المحامد
أبو فلان، أطال الله بقاءه، ووقاه وصانه، وتولاه، وحرسه وكفاه، وصرف
غير الليالي عنه، وأبعدها منه ومن محله وداره وقراره، ولا سلبنا إياه،
ولا حزننا بفقده، وأمتعنا بسبوغ النعمة عليه، وتكاملها لديه في نفسه
وولده وأعزته، وقد وجب أعزك الله وتولاك وحاطك وأعانك أن نقفو في ذلك
أثره، ونسلك مسلكه ورسمه، وأن نكون أعواناً لصالح نيته وطويل إرادته في
ما ألف بيننا، وجمع من شملنا، وأراد من اتفاق أهوائنا، ثم ما يجب أن
يكون قد تأملته، ونظرت بعين فكرك وقلبك إليه من اتفاق أهل الصناعات في
السراء والضراء والشدة والرخاء، وما هم عليه من التكاثر والتناصر في ما
عرض
(1/367)
لهم وعراهم من هذه الدنيا الدنية الزائلة
المنقطعة الفانية، فتعلم أن أهل هذه الصناعة الكاملة الفاضلة الشاملة
لكل ما وصفت، وما لم أصف، قصوراً عنه، وخيرةً فيه، أولى وأحق وأحرى بأن
يقنعوا من أنفسهم، ولا يرضوا لشرف صناعتهم بالتخاذل والتقاطع والتدابر
والتنافر، وأن يكونوا يداً واحدةً في ما نفع وضر، وساء وسر، في كل
حالٍ؛ ولما رأيتك قد نأيت بجانبك، وملت عني بشقك، كان الأعز علي
والأولى بي ردك إلي واستجرارك نحوي، ولا يخرج مثلك عن يدي إلا بعد أن
أعذر وأبلي في قضاء حق نفسي، واستصلاح ما فسد علي بغاية جهدي ووسعي،
فجعلت هذه الرقعة سفيري إليك، وأودعتها من حسن عتابك، ولطف استمالتك،
ما لعله سيثني من عنانك، ويرد من غرب جماحك، وأنا متوقعٌ الجواب بما
يكون منك، والله بالخيار لي ولك فيك.
فرأيك أعزك الله بما أعمل عليه، فإنما سمحت بك على ضنٍ، وادخرتك على
علمٍ موفقاً إن شاء الله.
ذكر نبل الكتاب وعلمائهم ورؤسائهم
1185- روى عبد الله بن الزبير, أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد
الله بن الأرقم, وكان يجيب عنه الملوك, فبلغ من أمانته عنده أنه كان
يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك, فيكتب, ويأمره أن يطينه ويختم, وما
يقرؤه لأمانته عنده؛ واستكتب أيضاً زيد بن ثابتٍ, وكان يكتب
(1/368)
الوحي, ويكتب إلى الملوك, فكان إذا غاب عبد
الله بن الأرقم وزيد بن ثابتٍ, واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الجند, أو
يكتب لإنسانٍ بقطيعةٍ, أمر من حضر أن يكتب, وقد كتب له علي بن أبي
طالبٍ رضي الله عنه, وعمر وعثمان رضي الله عنهما, وزيد بن ثابتٍ,
والمغيرة بن شعبة, ومعاوية, وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ممن سمي من
العرب.
1186- وقال عمر رضي الله عنه: {فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم}
الآية: اللهم إني قد كتبت بيدي, وكتب عليٌ بيده, وكتب أبو بكرٍ بيده,
وكتب عثمان بيده, وكتب عبد الرحمن بيده, اللهم فلا نفتري عليك باطلاً,
ولا نكتب بأيدينا مأثماً.
1187- وروى بعضهم, وهو يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعدٍ, قال: كان
الكتاب بالعربية قليلاً في الأوس والخزرج, وكان يهوديٌ من يهود ماسكة
قد علمه, وكان يعلمه الصبيان, فجاء الإسلام ومنهم بضعة عشر يكتبون,
منهم: سعيد بن زرارة, والمنذر بن عمروٍ, وأبي بن كعبٍ, وزيد بن ثابتٍ,
ورافع بن مالكٍ, وأسيد بن حضيرٍ, ومعن بن عديٍ, وأبو عيسى ابن جبرٍ,
وسعيد بن الربيع, وأوس بن خولي, وبشير بن سعدٍ.
1188- وكان يقال في الجاهلية: الكامل من أحسن الكتاب والرمي والعوم.
1189- وروى ابن شبة [شيبة؟] , أن عبد الله بن الأرقم كتب لأبي بكرٍ
وعمر رضي الله عنهما, وكان عبد الله بن حنينٍ من كتاب عليٍ
(1/369)
رضي الله عنه.
قال أبو جعفرٍ: هذا من نبل أهل العلم.
1190- وروى مالكٌ, عن نافعٍ, عن إبراهيم بن عبد الله ابن حنينٍ, عن
أبيه, عن عليٍ رضي الله عنه: نهي عن التختم بالذهب, وقراءة القرآن في
الركوع, وعن لبس السيراء.
1191- وحكى عمرو بن بحرٍ الجاحظ, أن زياداً كان كاتب المغيرة بن شعبة,
ثم كتب لأبي موسى الأشعري, ووجهه أبو موسى إلى عمر, فأمر بصرفه, فقال:
أمن جنايةٍ؟ قال: لا! ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.
1192- فأما قوله عز وجل: {النبي الأمي} فالأمية في رسول الله صلى الله
عليه وسلم فضيلةٌ, لأنها أدل على ما جاء به من عند الله عز وجل لا من
نفسه, و [أنى] يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقول الشعر, وقد قال الله
عز وجل: {فأتوا بسورةٍ من مثله} قيل: من مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛
كما أن قريشاً وجهت إلى اليهود: عرفونا
(1/370)
شيئاً نسأله عنه, نستدل به على نبوته؟
فوجهوا إليهم: سلوه عن أنبياء أخذوا أخاهم فرموه في بئرٍ وباعوه؛
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم , فنزلت سورة يوسف جملةً واحدةً بما
عندهم في التوراة وزيادةٍ, وهذا من أميٍ, وهو ببلدٍ ليس فيه أحدٌ من
أهل الكتاب بمنزلة إحياء عيسى الميت الذي أحياه.
1193- فأما جواب أبي العلاء المنقري للمأمون فجهلٌ عظيمٌ، لأن المأمون
قال له: يا حكم! بلغني أنك أميٌ، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في
كلامك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! أما اللحن، فربما سبقني لساني بالشيء
منه، وأما الأمية وكسر الشعر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمياً، وكان لا ينشد الشعر؛ فقال له المأمون: سألتك عن ثلاثةٍ عيوبٍ
فيك فزدتني رابعاً، وهو الجهل، يا جاهل! ذلك في النبي فضيلةٌ وفيك وفي
أمثالك نقصٌ.
1194- قال عمرو بن بحر: فهذا الكلام من أوابد ما تكلم به الجهال!
1195- ومن نبل الكتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وهو
الذي كتب إلى بعض إخوانه: أما بعد؛ فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة
الرأي فيك، لأنك بدأتني بلطفٍ من غير خبرةٍ، ثم أعقبتني جفاءً من غير
جريرةٍ، فأطمعني أولك في إخائك وآيسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو
يشاء لكشف بإيضاح الرأي في أمرك عن ظلمة الشك فيك، فأقمنا على ائتلافٍ،
أو افترقنا على اختلافٍ.
(1/371)
1196- وممن يوصف بالبلاغة الفضل بن سهلٍ،
ويروى أن نعيم بن حازم أتى الحسن بن سهلٍ، وهو في مصلى الجماعة ونعيمٌ
حاسرٌ حافٍ، وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الماء، فقال
له الحسن: على رسلك؛ تقدمت منك طاعةٌ، وكان آخر أمرك توبةٌ، وليس للذنب
بينهما مكانٌ، وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في
العفو.
1197- وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي، وهو يعتذر إليه: إن ذنباً أوله
زلةٌ، وآخره توبةٌ= لحقيقٌ أن لا تكون على مثله عقوبةٌ.
1198- ويقال: إن من الخطباء الشعراء الكتاب الذين قد جمعوا الشعر
والخطب والرسائل وعمل الكتب سهل بن هارون الكاتب الذي عارض كتاب
((كليلة ودمنة)) ، وكان فيما روي عتيق الوجه، حسن الإشارة، بعيداً من
الفدامة، معتدل القامة، مقبول الصورة، يقضى له بالحكمة قبل الخبرة،
وبرقة الذهن ودقة المذهب قبل الإمتحان والكشف. وقد خالف قول بعض
الحكماء: لحق بهاء البلاغة أن تكون الشمائل موزونةً، والألفاظ معتدلةً،
واللهجة نقيةً، وأن جامع
(1/372)
ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت.
وقال سهل بن هارون: لو أن رجلين اختطبا أو تحدثا أو احتجَّا أو وصفا
وكان أحدهما بهياً، ولباساً جميلاً، وذا حسبٍ، شريفاً، وكان الآخر
قليلاً قميئاً باذ الهيئة، دميماً، خامل الذكر، مجهولاً، ثم كان
كلامهما في مقدارٍ واحدٍ من البلاغة، وفي ميزانٍ واحدٍ من الصواب=
لتصدع عنهما الجمع؛ وعامتهم يقضي للذميم القليل على الجسيم النبيل،
وللباذ الهيئة على ذي الهيئة، وشغلهم التعجب عن مساواة صاحبه ولصار
التعجب على مساواة صاحبه سبباً للتعجب به، ولصار الإكثار في مدحه علةً
للإكثار في الثناء عليه، لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن
حسده أبعد، فلما ظهر منه خلاف ما قدروه تضاعف حسن كلامه في صدورهم،
وكبر في عيونهم، لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أبعد في الوهم
كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع، فإنما
ذلك كبوادر الصبيان، وملح المجانين؛ فإن ضحك السامعين من ذلك أشد،
وتعجبهم منه أكثر؛ والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البديع، وليس
بهم في الموجود الزاهر، وفي ما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي
معهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ، ثم قال: وعلى هذا السبيل
يستطرفون القادم إليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم،
(1/373)
ويتركون من هو أعم نفعاً، وأكثر في وجوه
العلم تصرفاً، وأخف مؤونةً، وأكثر فائدةً.
1199- ويقال: إن سهل بن هارون كان شديد الإطناب في وصف المأمون
بالبلاغة والجهارة والحلاوة والنجابة وجودة اللهجة.
1200- فأما الحسن بن سهلٍ فلم يكن يبلغ وصف سهلٍ هذا.
1201- قال علي بن عبيدة: أتيت الحسن بن سهلٍ، فأقمت ببابه ثلاثة أشهرٍ
لا أحلى منه بطائلٍ، فكتبت إليه:
مدحت ابن سهلٍ ذا الأياد وماله ... بذاك يدٌ عندي ولا قدمٌ بعد
وما ذنبه والناس إلا أقلهم ... عيالٌ له أن كان لم يكٌ لي جد
سأمدحه للناس حتى إذا بدا ... له في رأي ٌ عاد لي ذلك الحمد
فكتب إلي: باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلالٍ: مالٍ وعقلٍ وصبرٍ, فقلت
للواسطة: تؤدي عني؟ فقال: نعم؛ فقلت: تقول له: لو كان لي مالٌ لأغناني
من الطلب منك، أو صبرٌ لصبرت عن الذل ببابك، أو عقلٌ لاستدللت به على
النزاهة عن رفدك، قال: فأمر لي بثلاثين ألف درهمٍ.
1202- ومنهم العباس بن جريرٍ، قال إسحاق الموصلي: من أحب أن يسمع لهواً
بلا حرجٍ فليسمع كلام العباس.
1203- ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب؛ كتب محمدٌ إلى
الحسن كتاباً في فصلٍ منه: ولا زلت، جعلني الله فداك، محسناً، بجدك
مواطن الحفلة، ومزيناً بهن لك مواطن البذلة.
(1/374)
1204- ويقال: انتهى جودة الخط إلى رجلين من
أهل الشام، يقال لهما: الضحاك وإسحاق بن حمادٍ، وكانا يخطان الجليل،
فأخذ إبراهيم الخط الجليل عن إسحاق، ثم اخترع منه خطاً، ويقال: إنه كان
أخط أهل زمانه بالثلثين، ثم اختراع منه قلماً أخف منه، أي أخف من
الثلثين، فسماه الثلث، ثم أخذ الأحول عن إبراهيم الثلثين والثلث،
واخترع منه قلماً سماه: النصف، وقلماً آخر أخف من الثلث سماه: الخفيف،
وقلماً سماه: المسلسل، لأنه حروفٌ متصلةٌ، لأنه ليس بينها شيءٌ ينفصل،
وقلماً سماه: غبار الحلبة، وقلماً سماه: خط المؤامرات، وقلماً سماه: خط
القصص، وقلماً مقطوعاً سماه: الحوائجي.
1205- وكان محمد بن معدان مقدماً في خط النصف، وكان قلمه مستوي السنين،
وكان يشق الطاء والظاء والصاد والضاد بعرض النصف، ويعطف ياء يصلي وكل
ياءٍ من يساره إلى يمينه بعرض النصف لا يرى فيها اضطرابٌ.
1206- وكان أحمد بن محمد بن حفصٍ المعروف بواقف أجل الكتاب خطاً في
الثلث، وكان ابن الزيات يعجبه خطه، ولا يكتب بين يديه غيره.
(1/375)
1207- وكان أهل الأنبار يكتبون المشق, وهو
خطٌ فيه خفةٌ, تقول العرب: مشقه بالرمح, أي: طعنه طعناً خفيفاً
متتابعاً.
1208- وأهل الحيرة خطوا الجزم, وهو خط المصاحف, وتعلمه منهم أهل
الكوفة.
1209- وخط أهل الشام الجليل والسجل.
1210- وكان الأحول يوصف خطه بالبهجة والحسن من غير إحكامٍ ولا إتقانٍ,
إلا أنه كأن رائقاً مبهجاً, وكان عجيباً, وكان يضن بالبري للقلم, وكان
يبري القلم في المخرج.
1211- وقال الأنصاري المحرر: كنت أكتب في ديوان الأحول, فقربت منه,
فأخذت من خطه, فسرقت من دواته, قلماً من أقلامه, فجاد خطي, فرأى خطي
جيداً, وحانت منه نظرةٌ إلى دواتي, فرأى القلم, فعرفه, فأخذه وأبعدني.
وكان إذا أراد أن يقوم من مجلسه أو ينصرف قطع رؤوس أقلامه كلها.
1212- وأما إسحاق بن حمادٍ فقال: للدواة ثلث الخط, وللقلم ثلثٌ, ولليد
ثلثٌ.
1213- ثم انتهى الخط إلى طبطبٍ المحرر جودةً وإحكاماً, وكان رؤساء كتاب
مدينة السلام يحسدون أهل مصر على طبطبٍ وابن عبدكان, ويقولون: بمصر
كاتبٌ ومحررٌ ليس لأمير المؤمنين بمدينة
(1/376)
السلام مثلهما.
1214- ولو تقصينا ذكر الكتاب والكتابة لطال الكتاب, فاجتزأنا بما تقدم
ذكره [و] شرحه.
ذكر إيجازاتٍ واختصاراتٍ من الكتابة
1215- من ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب إلى عبد الله
بن عباسٍ: أما بعد؛ فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته, ويسوءه فوت
ما لم يكن ليدركه, فما نلت من دنياك فلا تكن به فرحاً, وما فاتك فلا
تأس عليه حزناً, وليكن سرورك في ما قدمت, وأسفك على ما أخرت, وهمك لما
بعد الموت.
1216-وقال المأمون يوماً لعمروٍ: اكتب لفلانٍ إلى بعض العمال بالعناية
في قضاء حقه, واختصر حتى يكون ما تكتبه له في سطرٍ واحدٍ لا زيادة
عليه؛ فكتب عمرو: كتابي إليك كتاب واثقٍ بمن كتبت إليه, معنيٍ بمن كتبت
له, ولن يضيع حامله بين العناية والثقة.
1217- وكتب الحسن بن سهلٍ إلى أخٍ له يعزيه: مد الله في عمرك موفراً
غير منتقصٍ, ممنوحاً غير ممتحنٍ, ومعطى غير مستلبٍ.
قال أبو جعفرٍ: وهذا مما يستحسن, لأن في ترتيب الدعاء ما يدل
(1/377)
على أنه يعزيه.
1218- سأل الشعبي الحجاج حاجةً, فلم يقضها له, واعتذر إليه, فكتب
الشعبي: والله لاعذرتك وأنت أمير العراقين وابن عظيم القريتين. وكانت
أم الحجاج ابنة عروة بن مسعودٍ.
1219- وكتب سالمٌ إلى بعض الولاة: أما أنا فمعترفٌ بالتقصير في شكرك
عند ذكرك, ليس ذلك لتركي إياه في مواضعه, ولكن لزيادة حقك على ما يبلغه
جهدي.
1220- وكتب يحيى بن خالدٍ إلى بعض العمال: قد كثر عندي شاكوك, وقل
شاكروك, فإما عدلت وإما اعتزلت.
1221- وركب إبراهيم بن المهدي يوماً إلى أحمد بن يوسف ليقيم عنده, وكتب
أحمد إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي: إن عندي من أنا عبده [عنده؟] ,
وحجتنا عليك إعلامنا إياك؛ والسلام.
1222- وأهدى بعضهم ملحاً طيباً؛ وكتب رقعةً: الثقة بك سهلت السبيل
إليك, فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم.
1223- وبعث إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم جراب ملحٍ وجراب
أشنان, كتب إليه: لولا أن القلة قصرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين
إلى برك, ولكن البضاعة قعدت بالهمة؛ وكرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لي
فيها ذكرٌ, فبعثت المبتدأ به ليمنه وبركته,
(1/378)
والمختوم به لنظافته وطيب رائحته, فأما سوى
ذلك فالمعبر عنا كتاب الله, إذ يقول: {ليس على الضعفاء} الآية.
1224- وكتب أحمد بن يوسف إلى الحسن بن وهب في يوم نيروز: جعلت فداك! لم
يقعدني [يقعد بي؟] عن التأسي بالمهدين إليك في مثل هذا اليوم إلا تقصير
الجدة, فجعلت هديتي ما يبقى عليك وهما بيتا شعرٍ:
أبقاك لي الرحمن في غبطةٍ ... وفي سرورٍ دائم المده
أنعم بنوروزك وأبهج به ... بلغت ألفي سنةٍ بعده
1225- ومما يدخل في هذا الباب خبر أبي العتاهية حين عزى الفضل بن
الربيع بابنه العباس, فقال: الحمد لله الذي جعلنا نعزيك عنه ولا نعزيه
عنك؛ فدعا بالطعام وقد كان امتنع منه.
1226- وكتب بعضهم: أحي معروفك عندي بإماتة ذكره, وعظمه بالتصغير له.
1227- وقال ابن شبرمة: لا خير في المعروف إذا أحصي.
1228- وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: بلغني عنك سرفٌ في إعطائك؛
فقال: يا أمير المؤمنين! منع ما يوجد سوء ظن بالله عز وجل.
(1/379)
1229- وقال نافع بن خليفة: يا بني! اتقوا
الله عز وجل بطاعته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف؛ فقال
رجلٌ منهم: ما بقي شيءٌ من الدنيا والآخرة إلا أمرنا به.
1230- ومن الاختصار ما كتب به العباس بن جرير إلى الفضل بن يحيى: لا
أعلم منزلة توحشني من الأمير ولا توحشه مني، لأني في المروءة له كنفسه،
وفي الطاعة كيده، وفي الخصوص كأحد أهله، وإنما الظفر من فضله، وقد بعثت
إليه ببعض ما ظننت أنه يحتاج إليه في سفره.
1231- قال أحمد ابن أبي طاهر، وأهدى عاملٌ لمروان غلاماً أسود، فأمر
عبد الحميد أن يجيبه، ويذمه، فطول الكتاب، وكثر، فأخذ مروان الكتاب من
يده، وكتب: أما إنك لو علمت لوناً شراً من السواد، وعدداً أقل من واحد
لأهديته؛ والسلام.
1232- وأهدى عبد الله بن طاهرٍ إلى المعتز هدية ًجليلةً، وذلك في حياة
المتوكل، وكتب: إلى السيد الجليل من العبد الذليل، أما بعد؛ فإنه لن
يتئب العبد أن يهدي إلى سيده من فضل نعمته، ولن يستقل السيد ذلك، إذا
كان الكل له؛ والسلام.
1233- وأهدى النوشجاني إلى المأمون قارورةً فيها دهن أترجٍ، وكتب إليه:
إذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير، فكلما لطفت كان أبلغ وأوصل؛
وإذا كانت من الكبير إلى الصغير، فكلما عظمت كان
(1/380)
أجزل لها وأخطر.
1234- وأهدي إلى إبراهيم بن العباس هديةٌ فردها، وكتب معها: قد قبلتها
بالموقع، ورددتها بالإبقاء، والسلام.
باب فصولٍ ورسائل بليغةٍ
فمن ذلك:
1235- جل فضل الأمير عندي أن يحيط بوصفه اجتهادي، أو يأتي على كنهه
تعدادي، فلو كان شيءٌ أكبر من الشكر الذي جعله الله لنعمته كفاءً، وبما
يجب له فيها وفاءً، يقابل به مقابل طول سيده، ويؤدي به مصطنع حق
مصطنعه، فما كان الأمير يستحقه علي ويستوجبه فقد أصبح المختلفون من
الناس مؤتلقين على الاعتراف بفضله، والمتباينون منهم مجتمعين على
تقريظه ومدحه، حتى إن العدو ليقول اضطراراً ما يقوله الولي اختياراً،
والبعيد يثق من إنعامه عاماً بمثل ما يثق به القريب خاصاً، ففعل الله
به وفعل.
1236- وكان أبو الحسن يستجيد رسائل أبي علي البصير ويقدمها على ما يكتب
به أبو العيناء.
قال: وكان أبو علي هذا إذا كتب تثبت، ويروي فيما يكتب به، فتخرج رسائله
على نهاية الجودة؛ هذا معنى كلامه فيما يستحسن.
(1/381)
1237- وكتب أبو علي البصير دعاءً في أول
رقعةٍ: أطال الله في أدوم العز والكرامة بقاءك، وأسبغ في النعمة مدتك،
وحاط الدين والمروءة بحيطة دولتك، وجعل إلى خير عاقبة الأمور عاقبة
أمرك، وعلى الرشد والتوفيق مواقع قولك وفعلك، ولا أخلى من السلطان
مكانك، ومن الرفعة منزلتك.
1238- أخرى له: وأنا أسأل الله الذي رحم العباد بك على حين افتقار منهم
إليك أن يرحمهم من بعد فقدك، ولا يعيدهم إلى المكاره التي استنفذتهم
منها بيدك.
1239- ومن أخرى له: وأنا أسأل الله الذي يعلم السر وأخفى، راغباً إليه
بسريرةٍ يعلم صحتها، ونيةٍ يشهد على صدقها، وأن يشفع إحسانه إلي، وجميل
بلائه لدي، بطول بقاءك، وامتناعي بما وهب لي من رأيك على الاستحقاق دون
الهوى، وتمام شروط الود دون التجاوز والإغضاء.
1240- ومن أخرى له إلى عبيد الله بن يحيى: وأنا أسأل الله تعالى جده أن
يطيل بقاءك لأركان دين تؤيدها، وحوزة ملكٍ تذب عنها، وسياسة رعيةٍ تقيم
أودها وتعدل ميلها، وعثرة كريمٍ تنعشها، وصنيعةٍ عند حرٍ تربها، وأن
يعز بموالاتك التي لا هضم على أهلها، وأن يتمم نعمته عليك، ويتابع
المزيد عندك منها.
1241- ومن أخرى له إليه: يقطعني عن الأخذ بحظي من لقائك، وتعريفك ما
أنا عليه من شكر إنعامك، والإنتساب إلى إحسانك
(1/382)
وإفضالك، وإفرادي إياك بالتأميل دون غيرك=
تخلفي عن منزلة الخاصة، ورغبتي عن الحلول محل العامة، وإني لست معتاداً
للخدمة والملازمة، ولا قوياً على المغاداة والمراوحة.
1242- ومن أخرى مقدمةٍ على رسائله، كتب بها إلى عبيد الله بن يحيى بن
الحسن: أدام الله في العز والكرامة مدتك، وحاط من غير الدهر دولتك، ومن
الزوال نعمتك، ولا أخلى من السلطان مكانك، إن من الحق أيدك الله على من
وهب الله له فضلاً في اللسان، ونصيباً من البيان، وحسن قوةٍ في الرأي،
واتصل له بالخاصة سببٌ، فوجد مساغاً للقول= أن يبلي عامة المسلمين
بلاءً حسناً يستديم به النعمة التي خصته دونهم، فيكفي متخلفيهم، وينطق
عن مفحمهم، ويعبر عما في أنفسهم مما تكل منه ألسنتهم، ويتضمن من شكر
الإحسان إليهم ما يستدعي به المزيد لهم. وإني لم أزل أجد متطلعاً من
نفسي يتطلع إلى ذكر محاسنك، وشكر ما عند كافة الرعية من جميل بلائك،
وما يشملهم من عدلك وإنصافك، ولبسوا من الأمن والعافية بك والقول بفضلك
ببعض ما يبلغه علمي، وتناله قدرتي، فيمنعني ذلك من أنه لا سبب لي بك،
ولا ذريعة لي إليك، حتى خصصتني من جميل تطولك، وحسن نظرك ما أوجب الحق
على نفسي، وأطلق لساني بما لم تزل تسمو إليه همتي. ولما كان إحسانك فوق
الشكر، وكان الواصف فضلك، والذاكر لمناقبك مقصراً حيث انتهى، وكان
تقريظناً إياك مغموراً في علم تفضلك والشائع المشهور الباقي على وجه
الدهر من جميل الأحاديث عنك
(1/383)
المبهجة لمن كان قبلك، والمتعبة لم يكون
بعدك، وكان في حق الدين والمروءة علينا شكر ما أبليت، ونشر ما أوليت=
وجب أن نقدم المعذرة بأن نكتفي بالاختصار من الإطالة، ووثقنا بأنك
عائدٌ على تقصيرنا بتغمدك، ومجرٍ أمرنا على صالح النية، إذ تعايا
اللسان به، وعجز الرأي عنه، والله عز وجل يزيد علواً كعبك، وطولاً
بالخير يدك، ويحوط النعم لأهلها بحياطة نعمتك، ويتطول على الخاصة
والعامة بدوام حالك، وثبات وطأتك، فنقول: إن من شكر بمبلغ طاقته، وجهد
استطاعته، شكراً يبلغ الصوت به، وتصغي الأسماع إليه، وترى صفحة الإخلاص
فيه، ثم شفع ذلك بالانتساب إلى التقصير مع الإطناب، فقد انتهى إلى
غايةٍ يعذر بالعجز عن تجاوزها، وبالوقوف عندها، وأن يرى فوقها مزيداً،
أو وراءها مذهباً، وإن فلاناً لما استخلصك لنفسه وائتمنك على رعيته،
فنظر بعينك، واستمع بأذنك، ونطق بلسانك، وأخذ وأعطى بيدك، وأورد وأصدر
عن رأيك، وكان تفويضه إليك بعد امتحانه إياك، وتسليطه الحق على الهوى
فيك بعد أن ميل بينك وبين الذين سموا لمرتبتك، وأجروا إلى غايتك،
فأسقطهم مضمارك، وخفوا في ميزانك، ولم يزدك، أكرمه الله رفعةً وتشريفاً
إلا ازددت عن الدنيا عزوفاً، ومنها تقللاً، ولا تقريباً واختصاصاً إلا
ازددت من العامة قرباً، وبها رفقاً، وعليها حدباً؛
(1/384)
لا يخرجك فرط النصح للسلطان عن النظر
لرعيته، ولا إثبات حقه عن الأخذ لها بحقها عنده، ولا القيام بما هو له
عن تضمن ما هو عليه، ولا يشغلك معاناة جلائل الأمور عن التفقد لصغارها،
ولا الجذل بصلاحها واستقامتها عن استشعار الحذر وإنعام النظر في
عواقبها، تمضي ما كان الرشد في إمضائه، وتتوقف عما كان الحزم في التوقف
عنه، وتبذل ما كان الفضل في أن تبذله وتمنع ما كان المصلحة في منعك
إياه، وتلين في غير ضعفٍ، وتشتد في غير عنفٍ، وتعفو في غير فشلٍ، وتسطو
في غير خورٍ، وتقرب في غير تبذلٍ، وتبعد في غير كبرٍ، وترغب في غير
سرفٍ، وترهب في غير تحاملٍ، وتخص في غير ميلٍ، وتعم في غير تضييع، لا
يشقى بك المحق، وإن كان عدواً؛ ولا يسعد بك المبطل، وإن كان ولياً؛
فالسلطان يعتد منك من الغناء والكفاية والذب والحيطة والتوفير والأمانة
والعفة والنزاهة والنصب في ما أدى إلى الراحة= بما يراك معه حيث انتهى
إحسانه إليك مستوجباً للزيادة، وكافة العامة إلا من عند عن الحق وغمط
العاقبة، يثنون عليك بحسن السيرة، ويمن النقيبة، والعمل بصلاح التدبير
في السياسة، والبعد من كل أمرٍ أضاف إليك شبهةً وألحق بك دنيةً، ويعدون
من مآثر الله جل وعز التي خصك بها دون من حل محلك أنك تدحض لأحدٍ حجةً،
ولا تدفع حقاً بشبهةٍ، ولم تفسد حالاً، ولم تزل نعمةً، هذا يسيرٌ من
كثيرٍ نعلمه، لو حاولنا تفصيل مجمله لأنفدنا مدةً من الزمان قبل
(1/385)
تحصيله، ثم كان قصرنا الوقوف دون الغاية.
1243- وفصلٌ آخر: ومما كان أبين في الفضل، وأوجب للشكر، أن تغنيني عن
شكوى حالي إليك مع علمك بها، واقتضائك عمارتها، مع ما ترى في ظاهرها،
فلربما نيل الغنى على يدي من هو دونك، وكان ذلك بأدنى من وسيلتي إليك،
وحرمتي بك، غير أن الحظوة لا تدرك بالسعي والحيلة، ولا تجري أكثرها على
قدر النسب والوسيلة.
1244- فصلٌ آخر: أراك الله في وليك ما يسرك به، وفي عدوك ما يعطفك
عليه.
1245- ومن المتقدمين والمشهورين في الكتابة والمنسوبين إلى هذه الصناعة
في البلاغة أحمد بن مهران الكاتب، ولقد كان علي بن سليمان يقول: إن
رسائله لتطربني كما يطربني الغناء.
1246- فمن مستحسن فصوله ورسائله، فصلٌ له [في] تعزيةٍ: ومن صدق نفسه
هانت عليه المصائب، وعلم أن الباقي تبعٌ للماضي، حتى يرث الله الأرض
ومن عليها، وهو خير الوارثين.
1247- وله إلى بعض الأدباء: فضيلتك في العلم الثاقب والأدب البارع
فضيلةٌ تكافأ أهل المشرق طراً في معرفتها والإعتراف بها، حتى صار
الإقرار بذلك فضيلةً للمدعي، وزينةً للعالم المتقن، فأما الخصائص التي
لك في الدين والزلفة وصحة الوفاء والمحافظة ومجانبة كل ما يدنس عرضاً،
أو يثلم مروءةً= فكثيرةٌ مشهورةٌ، حليت بها الأدب
(1/386)
وتخطيت بها إلى الحسب، لأن أدب المعرفة إذا
انفرد عن أدب النفس، وكرم الخلق= كان عائبه والقادح فيه أكثر من واصفه
ومطريه، وقد جمع الله لك من ذلك ما هو متفرقٌ في غيرك، وجعلك ممن يكاثر
به ويفاخر، فتعلو يد من يناضل، ولسان من ينطق بفضله، فوهب الله لك
شكراً يكافئ نعمه، ويفي بإحسانه.
1248- وله إلى أبي نجدة الشاعر: أما الشعر، فلسنا نساجلك فيه، ولا نركب
مضمارك في ما قل أو كثر منه، ولو أيدنا بخلاء الذرع، ورحب السرب،
واتساع الوقت، مع المهل والروية، فكيف على الارتجال والبديهة؟ لأنا نرى
الاعتراف للمبرز فضيلةٌ وغموط حقه نقيصةٌ.
1249- وله أيضاً إلى أبي غالبٍ: قد انقضت أيام أهل الأدب، وأفلت
نجومهم، حتى صاروا غرباء في أوطانهم، منقطعي الوصل والوسائل، ترتد عنهم
الأبصار، وتنبو عنهم القلوب، وإذا شاموا مخيلة مثلك ممن يحسن تآلفهم
ورفدهم، فترعى وسائلهم، ثلجت صدورهم، وانبسطت آمالهم، وأمسك ذلك
بحشاشاتٍ قد نهكها سوء بلاء الزمان عندهم، فزادك الله من فضله, وزاد
بك, واضطرب الصوت بما منحته بعض الشعراء من رفدك ونائلك, فبعث ذلك من
آمالٍ كانت خاسئةً, وأيقظ همماً كانت نائمةً, والخير متبعٌ لا زلت من
أهله.
1250- وله: وأنا منتظرٌ من نصر الله عز وجل على هذا الباغي, وانتقامه
من الظالم= ما ليس ببعيدٍ, وإن كان قومٌ يستدرجون بالإمهال,
(1/387)
فإن وعد الله عز وجل ناجزٌ, وهو من وراء كل
ظالمٍ.
1251- وله: وأياديك عندي أيادٍ غير مجهولة النعم, بل على نعمٍ غير
مجحودةٍ, ومهما أغلفت شكره في ما سلف, فلن أغلفه في المؤتنف.
1252- ولمحمدٍ بن مهران رسائل كثيرةٌ مجودةٌ وكتب فتوحٍ مشهورةٌ, لو
شرحنا بعضها لطال الكتاب, وإنما ينبغي لكل مجودٍ من هذه الطبقة, أعني:
الكتابة.
1253- وممن ينسب إلى إيجاز القول وحسن النظم والبلاغة في السجع
الكرماني, كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات: كتابي إليك ليس
باستطباءٍ, وإمساكي عنك ليس باستغناءٍ, لكنه تذكرةٌ لك, وثقةٌ بك.
1254- وكتب إلى المأمون: إنك من إذا أسس بنى, وإذا غرس سقى, ليستتم
بناء أسه, ويجتني ثمرة غرسه, وأسك في بري قد وهى وقارب الدروس, غرسك في
حفظي قد عطش وشارف اليبوس, فتدارك ما أسست, واسق ما غرست, فملح وجود,
وأمر له المأمون بمئة ألف درهمٍ.
1255- قال يحيى بن خالدٍ: رسائل المرء في كتبه أدل دليلٍ على مقدار
عقله, وأصدق شاهدٍ على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك
(1/388)
على المشافهة والمواجهة.
1256- كتب رجلٌ إلى إخٍ له: قد كنت أحب أن لا أفتتح مكاتبتك بذكر
حاجةٍ, إلا أن المودة إذا أخلصت سقطت الحشمة واستعملت الدالة.
1257- ولآخر: إن من صغر الهمة الحسد للصديق على النعمة.
1258- آخر: كفاك من القطيعة لي سوء ظنك بي.
1259- آخر: قد سبق من جميل وعدك إياي ما أنت أهله, وتأخر الأمر عني
تأخراً دلني على زهدك في الصنيعة عندي, ولولا أن النفس اللجوج تطالبني
ببلوغ آخر الأمر لتنصرف عن الطمع بواضح العذر كان في ما عاينت من
التقصير أدل دليلٍ على ضعف العناية, ولقد حمدت الله إذ لم أخبر بمسألتي
إياك وضمانك أحداً, فأكون في هذا إما كاذباً في ما حكيته, وإما شاكياً
بعد أن عرفت لك شاكراً, ولست أنتقل من شكرٍ إلى ذمٍ, ولا أرغب في خلقٍ
عليٍ إلى خلقٍ دنيٍ, فيسر حسودٌ ويساء ودودٌ, ولكني أنكب طريقاً بين
شكرك على ما يسره المقدار على يدك وبين عذرك على ما غيره عليك غير
ملحفٍ ولا مجحفٍ, فإن الرزق أضعافه بالرجاء, وما لا يحتسب أجدر مما
يقتضب, وكان الواثق يكون محروماً.
1260- ولغيره: فإن الله بحمده نزه الإسلام عن كل قبيحةٍ, وأكرمه عن كل
رذيلةٍ, ورفعه عن كل دنيةٍ, وشرفه بكل فضيلةٍ, وجعل سيما
(1/389)
أهله الوقار والسكينة.
1261- أخر: قد أغنى الله عز وجل بكرمك عن ذريعةٍ إليك, وما تنازعني
نفسي إلى استعانةٍ عليك إلا أبى ذلك حسن الظن بك, وتأميل نجح الرغبة
إليك, دون الشفعاء عندك.
1262- ومن حسن ما في هذا, كتاب عبد الحميد في السلام عن هشامٍ: فإن
أمير المؤمنين كتب إليك وهو في نعمة الله عز وجل عليه وبلائه عنده في
نفسه وولده وأهل محبته ولحمته والخاص من أموره والعام والجنود والثغور
والقواصي والدهماء من المسلمين على ما لم يزل ولي النعم يتولاه منه،
حافظاً له فيه، مكرماً بالحياطة بما ألهم الله جل ذكره فيه من أمور
رعيته، وعلى أعظم وأحسن وأجمل ما كان يحوطه فيه، ويذب له عنه، والله
محمودٌ مشكورٌ.
أحب أمير المؤمنين لسرورك به أن يكتب إليك بذلك لتحمد الله عز وجل
وتشكره، فإن الشكر من الله بأحسن المواضع وأعظمها، فازدد منه تزد به،
وحافظ عليه، وارغب إليه، يعطك مزيد الخير، ونفائس المواهب، وبقاء
النعم، وأقرئ من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك،
ومن حمله الله عز وجل النعم بأمير المؤمنين ليحمدوا الله على ما رزق
عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه، ورزقه من رأفته بهم، وعنايته
بأمورهم، فإن زيادة الله عز وجل تعلو شكر الشاكرين؛ والسلام.
1263- ولغيره: حتى إذا تراءى الجمعان تبرأ الشيطان من
(1/390)
حزبه، وأزهق الله عز وجل باطلهم بحقه، وجعل
الفتح والظفر لأولى الحزبين به، وبذلك جرت سنة الله عز وجل في الماضين
من خلقه، وبذلك وعد من تمسك بأمره وطاعته.
1264- آخر: إن أولى نعمةٍ بشكرٍ نعمةٌ خصت فاستقامت بها الأمور، واقعةٌ
بمصالحها، جاريةٌ على قصد سنتها؛ وأجمل ما ولي الله تعالى منها ما عمت
فتألفت البشر، وجمعت الكلمة، وآمنت السرب، وسكنت الدهماء.
1265- ولغيره: أما بعد، فإن أولى نعمةٍ بشكرٍ سلامةٌ عز فيها الحق،
ووقع مواقعه؛ وذل الباطل، فقمع أشياعه؛ وتقلب في شدتها وأمنها خاصةٌ
وعامةٌ، وانبسط في تأميل فضلها وعائدتها رغبةٌ حاضرةٌ وقاصيةٌ، وأمير
المؤمنين حيث كتب إليك في أعم سلامةٍ أمناً وعزاً، وأدوم نعمةٍ موقعاً
وخطراً، وأجمل بلاءٍ لله عز وجل يتعرفه في نفسه وولده وأوليائه وعوامه،
وبالله عونه على شكر نعمته وتأدية حقوقه.
1266- ولآخر: أما بعد؛ فإن بلاء الله عند أمير المؤمنين في ما يحوط له
ما استحفظه واسترعاه ويتولاه من حسن الخلافة في ما قرب منه ونأى، يعرفه
من الصنع على من شاقه وناوأه ما حق علينا وعلى عامة رعيته القول به
وإذاعته، والحديث عن النعمة الشاملة والكرامة المجللة فيه.
1267- وكتب آخر: كتبت وأنا ذو صبابةٍ توهي قوى الصبر إلى لقاءك،
واستراحةٍ ليس إلا إلى طيب أخبارك منتهاها.
(1/391)
1268- آخر: كتبت وأنا في أحسن ما كان الله
عز وجل ينعم به علي ويتولاه مني، وله الحمد والمنة وإليه في صالح
المزيد الرغبة.
1269- آخر: كتبت وأنا على أجمل ما جرت به العادة ووجب به الشكر.
1270- آخر: كتبت ونحن في أعم عافيةٍ, وأشمل كرامةٍ, والحمد لله ربهما
ووليهما, والمرجو لتمامهما.
1271- آخر: كتبت وأنا في نعمةٍ عميمةٍ وعافيةٍ ظليلةٍ, والله أسأل
إتمامها بأحسن عادته وأجمل مواهبه.
1272- آخر: كتبت عن سلامةٍ ووحشةٍ لفراقك وبعد البلد الذي يجمع السادة
والإخوان والأهل والجيران على حسب الأمن كان بمكاني فيه والسرور به,
ولكن المقدار يجري فتنصرف معه, وقع ذلك بالهوى أو خالفه, ولئن كانت هذه
حالي في الوحشة إن أكثر ذلك وأوفره لفراقك, وما بعد فأعنه من الأنس بك,
فاسأل الله أن يهب لنا اجتماعاً عاجلاً في سلامةٍ من الأديان والأبدان,
وغبطةٍ من الحال, وغنىً عن المطالبة برحمته.
1273- وله: كتابي والله عز وجل يعلم وحشتي له, لا أوحشك الله من نعمته,
ولا فرق بينك وبين عافيته, وكان مما زاد في الوحشة أنها جاوزت الأمل
المتمكن في الأنس وبقرب الدار وتداني المزار, نحمد الله على نعمه
ونستديمه لنا فيك أجمل بلائه, ونسأله أن
(1/392)
لا يخلينا وإياك من شكره ومزيده, ولو كتبت
في كل يومٍ كتاباً بل لو شخصت نحوك قاصداً لكان ذلك دون الحق لك, ولكني
غلقٌ بما تعلمه من العمل, وأكره أن أتابع كتبي, وأسلك سبيلاً من الثقل,
فأنا واقفٌ بمنزلةٍ متوسطةٍ أرجو أن أسلم من الجفاء والإبرام, فأنا وإن
أبقيت عليك من الزيادة في شغلك, فلست بممتنع من مسألتك التطول بتعريفي
جملةً من خبرك, أسكن إليها, وأعتد بالنعمة فيها, وأحمد الله عليها.
1274- ولابن المقفع: أصلحنا الله وإياك صلاحاً دائماً يجمع لنا ولك به
الفضيلة في العاجلة والكرامة في الآجلة, فإني لا أعلم أمراً أعظم عند
أهله منفعةً من أمرٍ ترك ذكره لفضيلةٍ, ولا أعرف أمراً يستحق أهله
بفضله عندهم عن ذكره في ما بينهم من أمرٍ وشج الله عز وجل بيننا وبينك
أسبابه, وثبت حقوقه, وعظم حرمته, وأوجب لبعضنا على بعضٍ حفظه,
والمبالغة في أداء ما أوجب الله عز وجل منه, فأبقى لنا ولك منه ما أجرى
بيننا وبينك في الدنيا حتى نكون بينه إخواناً في الآخرة حتى تصير الخلة
عداوةً بين أهلها إلا خلة المتقين.
1275- آخر: فنرغب إلى الذي تزداد نعمه علينا في كل يومٍ وليلةٍ تظاهراً
ألا يجعل شكرنا منقوصاً, ولا مدخولاً, وأن يرزقنا مع كل نعمةٍ كفؤها من
المعرفة بفضله فيها والعلم في أداء حقها.
(1/393)
1276- آخر: أما بعد؛ فإن من قضى الحاجات
لإخوانه فاستوجب الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم, لأن المعروف إذا وضع
عند من يشكره فهو زرعٌ لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبه من بعده.
1277- آخر إلى والٍ عزل عن عمله: أما والله إن كنت لمسيئاً عندك,
مخطئاً لحظك, غير نبيلٍ في عملك, ولا مصيبٍ في حكمك, تحيف في القضاء,
وتتبع الهوى, وتقبل الرشا, لست بالثابت الرزين, ولا الحليم الركين.
1278- آخر: لا أصل ثبت في الأرض، ولا فرع بسق في السماء، من شكرٍ أو
وفاءٍ أو حياءٍ.
1279- آخر: أما بعد؛ فإني لا أعرف للمعروف طريقاً أوعر من طريقه إليك،
ولا مستودعاً أقل زكاءً ولا أبعد من ثره خيرٌ من مكانه عندك، لأن
المعروف يحصل منك في حسبٍ دنيءٍ ولسانٍ بذيءٍ، وجهلٍ قد غلبك على
عنانك، فالمعروف لديك ضائعٌ، والشكر عندك مهجورٌ، وإنما غايتك في
المعروف أن تحرره وفي وليه أن تكفره.
1280- آخر: لا تتركني معلقاً بحاجتي، فالصبر الجميل خيرٌ من المطل
الطويل.
1281- آخر: والأمير يعوضك أفضل من العمل الذي صرفك عنه، فإنما صرفك
ليرفعك عن ما كان استعملك ويصطنعك، وليس حقه عليك
(1/394)
حين استعملك بأعظم من حقه عليك حين عزلك.
1282- تعزيةٌ بطفلٍ: الحمد لله الذي نجاه مما ها هنا من الكدر, وتخلصه
قبل كبره مما بين يديه من الخطر.
1283- تعزيةٌ: إذا استوى المعزي والمعزى في النائبة استغنى عن الإكثار
في الوصف لموقع الرزيئة، وكان ظهوره يغني عن التنبيه عليه، وإنا لله
وإنا إليه راجعون، إقراراً بالمسألة، واعترافاً بالمرجع إليه، وتسليماً
لقضائه، ورضىً بموقع أقداره؛ وأسأل الله أن يصلي على محمدٍ صلاةً
متصلةً بركاتها، وأن يوفقك لما يرضيه عنك قولً وفعلاً حتى يكمل لك ثواب
الصابرين المحسنين، وأجر المطيع المنتجز للوعد، فرحم الله فلاناً وأحله
منازل أوليائه الذين رضي سعيهم وتطول بفضله عليهم، إنه وليٌ قديرٌ.
1284- آخر: للمودة أسبابٌ تؤدي إلى اتصال المحبة، واجتماع المودة،
واتساق نظم الأخوة. وكتابي هذا من أسبابها القوية إذ كان في سبيل البر
والمثوبة.
1285- آخر في خلعةٍ: جزاك الله خيراً، فوالله ما دون ما أتيت تقصيرٌ،
ولا فوقه إحسانٌ.
1286- آخر: إن الله لما رزقني المنزلة من الأمير جعل معها شكرها
مقروناً بها، فهي تنمي بالزيادة، والشكر مصاحبٌ لها، فليست تدخلني
وحشةٌ، وأنا على علمٍ أنه إن وصل إليه حالي أغناني عن استزادته، ولكن
تكنفتني مؤنٌ استقصت ما في يدي، وكنت للخلف من الله منتظراً، فإني
(1/395)
إنما أتقلب في نعمه، وأتمرغ في معروفه كان
عندي.
1287- آخر في حاجةٍ: قد سهل الله تبارك وتعالى علينا مطلب الحاجة،
وجعلك مشرع نجحٍ، ومفزع أنسٍ، وعدة أخٍ عند تضايق أمره.
1288- آخر: وإن الله عز وجل بتمكينه إياك في النعمة، وإعلائه يدك
بالقدرة، وصل بك آمال المؤملين، وخص بجميل الحظ منك أهل المروءة
والدين, وقد حللنا بفنائك, وأملنا حسن عائدتك, ورجونا أن تودعنا من
معروفك ما تجد عندنا شكره, والوفاء ما تسدي إلينا منه, وأنت بين صنيعةٍ
مشكورةٍ, ومثوبةٍ مذخورةٍ, فإن رأيت أن تصغي إلينا بكرمك, وتخلطنا
بعددك, وتجعلنا من خطاب برك بحيث يشملنا فضلك ويسعنا طولك فعلت إن شاء
الله.
(1/396)
|