نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي

باب الأفعال
مسألة
(في أمس وغد واليوم)
القول في " أمس " و " غد " و " اليوم " أن الأيام لما كانت متماثلة من حيث كان كل واحد منها عبارة عن جملة من حركات الفلك، والحركات متماثلة بأنفسها لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية، إذ المثلان مشتركان في جميع صفات النفس، ولا بصفة معنوية لأن الصفة المعنوية لا تقوم بالحركة ولا بعرض من الأعراض، لأن المعنى لا يقوم بالمعنى، لم يبق إلا تمييزها بالأعداد، ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخذوة من العدد، كقولهم: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ونحو ذلك، أو بالأحداث الكائنة فيها
نحو قولك: " اليوم (الذي خرج فيه زيد) ، فخصصته بما قارنه من الفعل) الذي هو حركة للفاعلين، كما أن الزمان حركة للفلك، وكل واحد منهما حادث يتخصص بمقارنة صاحبه، أيهما كان أعرف عند المخاطب كان وقتاً للآخر مخصصا له، فإذا ثبت ذلك فأقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه، فيقال: " فعلته في اليوم الذي فرط قبل هذا اليوم الذي نحن فيه ".
ويقال في غد نحو ذلك.
فاقتضى إيثار الإيجاز والاختصار أن يوضع له اسم، وأن يشتق له من أقرب
ساعة منه إلى يومك، ثم ينسحب معناه على اليوم كله، كما يقال في العبد: (رقبة) فينسحب معنى الرقبة على الجملة، وهو في الأصل عبارة عن البعض، ورب شيء هكذا.
وكذلك (غد) جعل له اسم يترجم به عن جميعه، وهو مشتق من أقرب ساعة

(1/88)


منه إلى يومك، إلا أن " أمس " مبني و " غد " معرب، فعل بكل واحد منهما ما فعل بالفعل الذي في معناه، ولذلك (جاء) " أمس " بلفظ الأمر حين أرادوا بناءه كما بني الفعل الماضي الذي صيغ من أجله، ولم يجئ بلفظ الفعل لئلا يلتبس بالفعل
الماضي، ولعله قد جاء، وليس ببعيد أن يكون قول الراجز:
لقد رأيت عجبا مذ أمساً
أراد به: أفعل.
وهذه العملية التي في " أمس " بمنزلة " أطْرِقَا " اسم علم لمكان بالحجاز جاء
بلفظ الأمر يقول الرجل فيه لصاحبه حين استبطن خوفا وتوجس حساً، فلذلك هو الاسم في المكان كهذا في الزمان، لعله سمي لقولهم فيه:
" أمس بخير "، و " أمس معنا "، أو نحو هذا، كما سمي ذلك المكان بقولهم فيه: " أطرقا ".
والعملية فيه عندي ليست كهي في " زيد " و " عمرو "، ولكنها كهي في " أسامة " و " ثعالة "، اسم علم لا يختص به واحد من الجنس، أي الجنس كان فهو المسمى بذلك الاسم، كما أن " أمس " أي الأيام كان إذا ولي يومك ماضياً فهو (أمس) .

(1/89)


فأما حذف لام الفعل من " غد "، فكل ما كان على وزن " فعل " معتل اللام، ثم عبر به عن غير ما وضع له، فإنه وضع عن الحدث، فإذا زحزح عن أصل موضوعه وبقي فيه من المعنى الأول ما يعلم به أنه مشتق منه - فإن حذف لامه مطرد، ليكون النقص في اللفظ موازناً للنقص في المعنى، فلا يستوفي حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأسره.
وتأمل ذلك تجده في " غد " و " دم " و " يد " و " سم ".
وعلى ذلك كل هذه الأسماء نقص من لفظها بحسب ما نقص من المعنى الذي
عبر عنه بجملة حروف الكلمة. فهذا ما في " أمس " و " غد ".
فأما اليوم إذا كان ظروفاً فهو كالآن، استغنوا بلزوم الألف واللام له عن أن
يصفوه أو يضيفوه أو يسموه باسم علم غير هذا اللفظ، كما فعلوا (ذلك) بالنجم - أعني: الثريا -، وفي المدينة - أعني: مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفىِ غير ذلك مما ألزم الألف واللام عرفا واستحقاقاً، فكذلك اليوم (إذا أردت اليوم) الذي أنت فيه.
وكذلك الساعة والليلة، استغنوا بالمشاهدة ولزوم الألف واللام عن إلحاقهما بالأسماء الأعلام.
وهذا الصواب لا ما ذهب إليه من علل البناء في " أمس " بتضمن الحرف أو
مشابهته الحرف، فإن ذلك ينكسر عليهم في " غد " بما ليس لهم عنه مندوحة ولا صرف.

(1/90)


مسألة
(في أحرف المضارعة)
قال أبو القاسم: " أوكانت في أوله إحدى الزوائد الأربع ".
دخول الزوائد على الحروف الأصلية منبئة على معان زائدة على معنى الكلمة
التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه، فإن كان المعنى الزائد آخراً كانت الزيادة آخراً، كنحو " التاء " في " فعلت " لأنها تنبئ عما رتبه بعد الفعل.
فإن كان المعنى الزائد أولًا كانت الزيادة المنبئة عنه (أولا) مسبقة على
حروف الكلمة كهذه الزوائد الأربع، فإنها تنبئ أن الفعل لم يحصل بعد لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءاً من الزمان، فكان الحرف الزائد السابق للفظ الفعل مشيراً في اللسان إلى ذلك الجزء من الزمان، مرتباً في البيان على حسب ترتب المعنى في الجنان.
وكذلك حكم جميع ما يرد عليك من كلامهم هذا الأصل آخذ
بآفاق الباب، ومشرف بك إن شاء الله تعالى على العسر والكتاب.
فإن قيل: فهلا اكتفي بزائدة واحدة من هذه الأربع؟
وإن كان ذلك للفرق بين مخاطب وغائب، فهلا كانت الياء مكان التاء أو الهمزة؟
وما الحكمة في اختصاص كل واحدة منها بما اختصت به؟.
فالجواب: أن الأصل في هذه الزوائد الياء، بدليل كونها في الموضع الذي لا
يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكر ومؤنث، وهو فعل جماعة النساء.
دليل آخر، وهو: أن أصل الزيادة لحروف المد واللين، والواو لا تزاد أولاً كيلا تشبه " واو " العطف،

(1/91)


ولعلة أخرى تذكر في باب التصريف، والألف لا تزاد أولاً لسكونها، فلم تبق إلا " الياء " فهي أصل هذا الباب. فلما أرادوا الفرق كانت الهمزة بفعل المتكلم أولى، لإشعارها بالضمير المستتر في الفعل، إذ هي أول حروف ذلك الضمير إذا برز فلتكن مشيرة إليه إذا أبرز.
وكانت النون بة هل المتكلمين أولى بوجودها في أول لفظ الضمير الكامن في
الفعل إذا ظهر فلتكن دالة عليه إذا خفي واستتر.
وكانت التاء من " تفعل " للمخاطب
لوجودها في ضميره المستتر فيه، وإن لم تكن في أول لفظ الضمير أعني
" أنت " ولكنها في آخره، ولم يخصوا بالدلالة عليه ما هو في أول لفظه - أعني الهمزة - لمشاركته للمتكلم فيها وفي النون، فلم يبق من لفظ الضمير إلا التاء، فجعلوها في أول الفعل علماً عليه، وإيماء إليه.
فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزيادة في
فعل الغائب هاء، لوجودها في لفظ ضمير الغائب إذا أبرز؟.
فالجواب: إنه لا ضمير في فعل الغائب في أصل الكلام وأكثر
موضوعه، لأن الاسم الظاهر يغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتى يتقدمه مذكور يعود علبه.
وليس كذلك فعل المتكلم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم، فإنه لا يخلو
أبداً من ضمير ولا يجيء بعده اسم ظاهر يكون فاعلاً به ولا مضمر أيضاً، إلا مضمراً يكون توكيداً للضمير المنطوي عليه الفعل، فتأمل ما ذكرناه، والْمَحْ ما قاله النحويون في تعليل هذه المسألة تجد طبعك يعافه، وسمعك يمجه، وعقلك لا يستسيغه، وتجد هذه الأغراض المذكورة ها هنا يدعوك إلى قبولها الحس، ويشهد بصحتها الحدس، والله المستعان ومن ها هنا ضارعت الأسماء حتى أعربت، وجرت مجرى الأسماء في دخول لام التوكيد عليها وغير ذلك، لأنها تضمنت معنى الأسماء بالحروف التي في أوائلها، فهي من حيث دلت على الحدث والزمان فعل محض، ومن حيث دلت بأوائلها على المتكلم والمخاطب ونحو ذلك متضمنة معنى الاسم، فاستحقت الإعراب الذي هو من خواص الأسماء، كما استحق الاسم المتضمن معنى الحرف البناء.

(1/92)


مسألة
(في دلالة المضارع على الزمان)
فعل الحال لا يكون مستقبلاً وإن حسن فيه " غد "، كما لا يكون الفعل
المستقبل حالاً أبداً، ولا الحال ماضياً، هذا هو اختيار شيخنا رحمة الله عليه.
فإن قلت: كيف يكون حالاً: " يقوم زيد غداً "
وهو واقع في زمان مستقبل؟.
قلنا: إنما ذلك على تقدير الحكاية له إذا وقع، والإشارة إلى صورة الفعل إذا
جاء وقته، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا) .
والوقوف مستقبل لا محالة، ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه، لا مرتب على وقوف قد ثبت.
وكذلك قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ، (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) . وهذا كثير في القرآن، الوقت مستقبل والفعل بلفظ الماضي.
ونحو منه قوله تعالى: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) .
وهذا كله حكاية للحال، إذ ليس شيء منه حاضراً فكذلك:
" يقوم زيد غداً "، و " يذهب بعد غد "، هو حال على التقدير والتصوير لهيئته إذا وقع.
وما أرى هذا الذي ذكره الشيخ إلا صحيحاً، إذ الأصل ألا يحكم للفظين
متغايرين بمعنى واحد إلا بدليل، ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل، وقف على هذا الأصل تهتد إلى سواء السبيل.
* * *
مسألة
وحروف المضارعة - وإن كانت زوائد - فقد صارت كأنها من أنفس الكلم، وليست كذلك " السين "، و " سوف " وإن كانوا قد شبهوها بحروف المضارعة والحروف الملحقة بالأصول في مسألة (نذكرها) بعد إن شاء الله تعالى، ولذلك تقول: " غداً يقول زيد " و " يوم الجمعة يذهب عمرو "، بتقديم الظرف على الفعل، كما يفعل ذلك

(1/93)


في الماضي الذي لا زيادة فيه فتقول: " أمس قام زيد "، و " يوم الجمعة ذهب عمرو ".
ولا يستقيم هذا في المستقبل من أجل " السين " أو " سوف "، لا تقول:
" غداً سيقوم زيد "، لوجوه منها:
أن " السين " تنبئ عن معنى الاستئناف والاستقبال للفعل، وإنما يكون
مستقبلاً بالإضافة إلى ما قبله، فإن كان قبله ظرف أخرجته " السين " عن الوقوع في الظرف، فبقي الظرف لا عامل فيه، فبطل الكلام.
فإذا قلت: " سيقوم زيد غداً "، دلت " السين " على أن الفعل مستقبل بالإضافة إلى ما قبله، وليس قبله إلا حالة
المتكلم، ودل لفظ " غداً " على استقبال اليوم فتطابقا، وصار ظرفاً له.
ووجه ثان ماء من التقديم في الظرف وغيره، وهو أن " السين " و " سوف " من
حروف المعاني الداخلة على الجمل، ومعناها في نفس المتكلم وإليه يسند لا إلى الاسم المخبر عنه، فوجب أن يكون له صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والتمني وغير ذلك، ولذلك قبح: " زيداً سأضرب ".
و" زيد سيقوم " مع أن الخبر عن " زيد " إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه " السين "، فإن ذلك المعنى مسند إلى المتكلم لا إلى " زيد " فلا يجوز أن يخلط بالخبر عن " زيد " فتقول: " زيد سيفعل ".
فإن أدخلت " إن " على الاسم المبتدأ جاز دخول " السين " في الخبر، لاعتماد
الاسم على " إن "، ومضارعتها للفعل، فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة، فصلح دخول " السين " فيما بعد، فأما مع عدم " أن " فيقبح ذلك.
وهذا مذهب الشيخ أبي الحسين - رحمه الله - إلا التعليل فإنه بخلاف تعليله
وقد قلت له كالمحتج عليه: أليس قد قال الله - سبحانه وتعالى -:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
فجاء بالسين في خبر المبتدأ؟ فقال لي: اقراً ما قبل الآية.
فقرأت (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. . . فضحك وقال قد كنت أفزعتني، أليست هذه " إن " في الجملة المتقدمة، وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها، والواو تنوب مناب تكرار العامل؟ فسلمت له وسكت.

(1/94)


ونظير هذه المسألة مسألة " اللام " في " إن "، تقول: " إن زيداً لقائماً، ولا
تقول: " إن زيداً لقائم ".
والصحيح لتقديم الظرف على الفعل الماضي أن معنى المضي مستفاد من
لفظه، لا من حرف زائد على الجملة، منفصل من الفعل كالسين
و" قد " إلا فعل الحال فإن زوائده ملحقة بالأصل، فإن أدخلت على الماضي " قد " التي للتوقع كانت بمنزلة " السين " التي للاستئناف، وقبح حينئذ:
" أمس قام زيد "، كما قبح: " غد سيقوم عمرو ".
والعلة كالعلة، حذوك النعل بالنعل.
وأما المسألة الموعود بها في أول الفصل التي شبهت فيها " السين " بالحروف
الملحقة بالأصل، فهو أن يقال: لم لم تعمل " السين " و " سوف " في الفعل
المستقبل وقد استبدت به دون الاسم، وشأن الحروف المستبدة بالأفعال، أو
بالأسماء دون الأفعال، أن تكون عاملة؟.
فإن الجواب أنها فاصلة لهذا الفعل عن فعل الحال، كما فصلت الزوائد
الأربع فعل الحال عن الماضي فأشبهتها، وإن لم تكن مثلها في اتصالها ولحوقها
بالأصل، كما أشبهت حال الألف واللام التي للتعريف حال العلمية لاتصالها
اتصالها وتعرف الاسم بها، وإن لم تكن ملحقة بحروف الأصل.
فلما لم تعمل تلك الأسماء مع اختصاصها بها، لم تعمل هذه الأفعال مع استبدادها بها، والله أعلم.
وقد رأيت هذا التعليل للفارسي في بعض كتبه، ولابن السراج أيضاً.

(1/95)


وأما " سوف " فحرف، ولكنه على لفظ السوف الذي هو الشم لرائحة ما
ليس بحاضر وقد وجدت رائحته، كما أن " سوف " هذه - التي هي حرف - تدل على أن ما بعدها ليس بحاضر وقد علم وقوعه وانتظر أبانه.
ولا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في
الكلام، فهذه " ثم " حرف عطف، ولفظها كلفظ الثم، والثم هو: رم الشيء بعضه إلى بعض، كما قال: " كنا أهل ثمة ورمة "، ويروي " أهل ثمة ورمة "، وأصله من: ثممت البيت: إذا كانت فيه فرج فسد بالثمام.
وقال الشاعر:
وأما الرياح فقد غادرت ... رواكد واستمتعت بالثمام
والمعنى الذي في " ثم " العاطفة قريب من هذا، لأنه ضم الشيء إلى شيء
بينهما مهلة، كما أن ثم البيت: (ضم بين شيئين بينهما فرجة) .
ومن تأمل هذا المعنى في الحروف والأسماء المضارعة لها، ألفاه كثيراً، والله - تعالى - المستعان.
* * *
مسألة
(في أن ولن)
(قوله) : " فالناصب (أن) و (لن) .

(1/96)


أما " أن " فهو مع الفعل بتأويل المصدر.
فإن قيل: فهلا اكتفي بالمصدر واستغني به عن " أن " لأنه أخصر؟.
فالجواب: أن في دخول " أن " ثلاث فوائد:
إحداها: أن الحدث قد يكون فيما مضى، وفيما هو آت، وليس في صيغة ما يدل على مضي ولا استقبال، فجاؤوا بلفظ الفعل المشتق منه مع " أن " ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان.
الثانية: أن " أن " تدل على إمكان الفعل دون الوجود والاستحالة.
الثالثة: أنها تدل على مجرد معنى الحدث دون احتمال زائد عليه، ففيها
تحصين للمعنى من الإشكال، وتخليص من شوائب الاحتمال، وذلك أنك اذا
قلت: " كرهت خروجك "، أو: " أعجبني قدومك ".
احتمل الكلام معاني منها: أن يكون نفس القدوم هو العجب لك دون صفة من صفاته وهيآته، وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات ولكنها عبارة عن الكيفيات.
واحتمل أيضاً أن تريد أنك أعجبتك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته، فإذا قلت: " أعجبني أن قدمت "، كانت على الفعل " أن " بمنزلة الطابع والعنوان من عوارض الاحتمالات المتصورة في الأذهان.
ولذلك زادوا " أن " بعد " لما " في قولهم:
" لما أن جاء زيد أكرمتك " ولم يزيدوها بعد ظرف سوى " لما "
وذلك أن " لما " ليست في الحقيقة ظرف زمان، ولكنه حرف يدل على ارتباط الفعل الثاني بالأول وأن

(1/97)


أحدهما كالعلة للآخر، بخلاف الظرف من الزمان إذا قلت: " حين قام زيد قام عمرو " فجعلت أحدهما وقتاً للآخر على اتفاق لا على ارتباط، فلذلك زادوا " أن " بعدها صيانة لهذا المعنى، وتخليصاً له من الاحتمال العارض في الظرف، إذ ليس الظرف من الزمان بحرف فيكون قد جاء لمعنى كما هو في " لما ".
وقد زعم الفارسي أنها مركبة من " لم " و " ما " وما أدري ما وجه قوله، وهو عندي من الحروف التي في لفظها شبه من الاشتقاق، وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها نحو ما تقدم في " سوف " و " ثم "، لأنك تقول:
" لممت الشيء لمًّا " إذا ضممت بعضه إلى بعض، وهذا نحو من المعنى الذي سبقت إليه " لما "، لأنه ربط فعل بفعل على
جهة التسبيب أو التعقيب، فإذا كان التسبيب حسن إدخال أن بعدها زائدة إشعاراً بمعنى المفعول من أجله، وإن لم يكن مفعولاً من أجله، نحو قوله تعالى: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا) و (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ) ، ونحوه.
وإذا كان التعقيب مجرداً من التسبيب لم يحسن زيادة " أن " بعد " لمَّا " وتأمله
في القرآن تعرف الحكمة، إن شاء الله تعالى.
وأما " أن " التي للتفسير فليست مع ما بعدها في تأويل المصدر، ولكنها تشارك " أن " التي تقدم ذكرها في بعض معانيها، لأنها تحصين لما بعدها من الاحتمالات، وتفسير لما قبلها من المصادر المجملات، التي في معنى المقالات والإشارات، ولا يكون تفسيراً إلا لفعل في معنى التراجم الخمس الكاشفة عن كلام النفس، لأن الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة، تكشفه للمخاطبين خمسة أشياء: اللفظ، والخط، والإشارة، والعقد، والنصب، وهي لسان الحال، وهي أصدق من لسان المقال.
فلا تكون (أن) المفسرة إلا تفسيراً لما أجمل من هذه
الأشياء، كقولك: " كتبت إليه أن أخرج "، و " أشرت إليه أن اذهب ".
و (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ)

(1/98)


و " وأوصيته أن اشكر " و " عقدت في يدي أن قد أخذت خمسين ".
و" زويت على حائطي أن لا يدخلوه ".
ومنه قوله عز وجل: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) .
هي ها هنا تفسيراً للنصبة التي هي لسان الحال.
والله المسدد للمقال، والموفق لصالح الأعمال.
وإذا كان الأمر فيها كذلك فهي بعينها " أن " التي تقدم ذكرها، لأنها إذا كانت تفسيراً فإنما تفسير الكلام، والكلام مصدر، فهي إذاً في تأويل مصدر، إلا أنك أوقعت بعدها الفعلٍ بلفظ الأمر والنهي، وذلك مزيد فائدة، ومزيد الفائدة لا يخرج الفعل عن كونه فعلا، وكذلك لا تخرج " أن " عن كونها مصدرية، كما لم يخرجها عن ذلك صيغة المضي والاستقبال بعدها إذا قلت: " يعجبني أن تقوم " و " أن قمت ".
فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مخبراً به عن الفاعل لا الحدث
مطلقا، ولذلك لا تكون مبتدأ وخبرها ظرف أو مجرور، لأن المجرور لا يتعلق
بالمعنى الذي تدل عليه " أن "، ولا الذي من أجله صيغ الفعل واشتق من المصدر، وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجرداً من هذا المعنى، كما تقدم، فلا يكون خبراً عن " أن " المتقدمة، وإن كانت في تأويل اسم.
وكذلك أيضاً لا يخبر عنها بشيء مما هو صفة للمصدر، وكقولك:
" قيامك سريع أو بطيء " أو نحو ذلك، لا يكون مثل هذا خبراً عن المصدر.
فإن قلت: " حسن أن تقوم " أو: " قبح أن تفعل " جاز ذلك لأنك تريد بها معنى المفعول، كأنك تقول: " استحسن هذا أو استقبحه "، وكذلك إذا قلت: " لأن تقوم خير من أن تقعد " جاز، لأنه ترجيح وتفضيل، فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث، بدليل امتناع ذلك في المضي، فإنك لا تقول فيه: " إن قمت خير من أن قعدت "، ولا: " أن قام زيد أحسن من أن قام عمرو ".
وامتناع هذا دليل على ما قدمنا من أن الحدث هو الذي يخبر عنه.
وأما " أن " وما بعدها فإنها - وإن كانت في تأويل المصدر - فإن لها معنى زائداً لا يجوز الإخبار عنه، ولكنه يراد ويكره ويؤمر به.
فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر فليس الكلام على ظاهره، على ما تقدم.

(1/99)


وأما " لن " فهي عند الخليل مركبة من " لا " و " أن "، ولا يلزمه ما اعترض عليه
سيبويه في تقديم المفعول عليها، لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط.
فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان بـ " أن " كما تقدم.
فكان ينبغي أن تكون جازمة كلم، لأنها حرف نفي مختص بالأفعال، فوجب
أن يكون إعرابه الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت، ليتطابق اللفظ والمعنى كما تقدم في باب الإعراب.
وقد فعلت ذلك طائفة من العرب، فجزمت بها حين لحظت هذا الأسلوب وأكثرهم ينصب بها مراعاة لأن المركبة فيها مع لا، إذ هي
من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه، فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي، فرب نفي لا يجزم الأفعال، وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء، والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل " لا "، و " لا " غير عاملة، لعدم استبدالها بالأفعال دون الأسماء، ولذلك كان النصب بها أولى من الجزم.
على أنها قد ضارعت " لم " لتقارب المعنى واللفظ.
حتى قدم عليها معمول فعلها.
فقالوا: " زيداً لن أضرب "، كما قالوا: " زيداً لم أضرب ".
ومن خواصها أنها تخلص الفعل للاستقبال بعد أن كانت صيغته للحال.
فأغنت عن " السين " و " سوف ".
وكذلك جل هذه النواصب تخلص الفعل للاستقبال.
ومن خواصها أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفى
في حرف " لا " إذا قلت: " لا يقوم زيد أبداً.

(1/100)


وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هى أرواحها، يتفرس العاقل فيها
حقيقة المعنى بطبعه وحسه، كما يتعرف الصادق للفراسة صفات الأرواح في الأجساد بنحيزة نفسه.
فحرف " لا ": لام بعدها ألف، يمتد بها الصوت ما لم يقطعه تضييق
النفس، فإذاً امتداد لفظها بامتداد معناها، و " لن " بعكس ذلك، فتأمله فإنه معنى لطيف، وغرض شريف، ألا ترى كيف جاء في القرآن البديع نظمه، الفائق على كل العلوم علمه: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا) ، بحرف " لا " في الموضع الذي اقترن فيه حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة، وهو قوله - عز وجل -: (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) .
كأنه يقول: متى ما زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: (تَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فلا يتمنونه، وحرف الشرط دل على هذا المعنى، وحرف " لا " في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتساع معنى النفي فيها.
وقال في سورة البقرة: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) فقصر من سعة النفي وقرب، لأن
فوله تعالى في النظم: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) .
وليست " إن " ها هنا مع " كان " من صيغ العموم، لأن " كان " ليست بدالة على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي في الزمان الذي (كان) فيه ذلك الحدث، فكأنه يقول عز وجل إن كانت (قد) وجبت لكم الدار الآخرة وثبتث (لكم) في علم

(1/101)


الله - تعالى - فئمنوا الموت الآن، ثم قال في الجواب: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعاً، والله الموفق للصواب.
وليس في قوله تعالى (أبداً) ما يناقض ما قلناه، فقد تكون (أبداً) بعد فعل
الحال، تقول: " زيد يقوم أبداً "، و " يصلي أبداً "، ونحو ذلك.
ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في " لن " ودلالتها على القرب في أكثر الكلام، لم يكن للمعتزلة حجة على نفي الرؤية في قوله عز وجل:
(لَنْ تَرَانِي) ، ولم يقل: " لا تراني " فلو كان النفي بـ " لا " لكان لهم بعض التعلق، ولم يكن حجة بجواز تخصيص العموم بنص آخر من الكتاب والسنة، والله الموفق.

(1/102)


وأما الإدراك الذي لا يكون بحال فنفاه بـ " لا "، فقال: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، فالأبصار إذاً لا تدركه بحال، والرؤية تكون بعد هذه الحال وهو
- عندي - أصح من قول من قال: الرؤية والإدراك بمعنى واحد لا فرق بينهما: ألا ترون كيف حسن قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" إنكم ترون ربكم عيانا يوم القيامة ".
ولو قال: (إنكم) تدركون ربكم يوم القيامة، لم يحسن.
فالإدراك منفي بـ (لا) نفياً مطلقاً
بخلاف الرؤية على أني أقول: إن العرب - مع هذا - إنما تنفي بـ " لن "
ما كان ممكناً عند الخطاب مظنونا أن سيكون، فتقول له: " لن يكون ".
لما يمكن أن يكون، لأن " لن " فيها معنى " أن " وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن، كأنه يقول: أيكون أم لا يكون؟
(قلت في النفي لا يكون) وهذا كله مقو لتركيبها من " لا "
و" أن "، وسأشرح لك وجه اختصاصها في القرآن بالمواضع التي وقعت فيها دون " لا ".
* * *
مسألة
قوله: (وإذن)

(1/103)


هذا حرف هو عندي " إذا " التي كانت ظرفاً لما يستقبل، وكانت غير منونة من أجل إضافتها إلى ما بعدها، فخلع منها معنى الاسمية كما فعلوا ذلك بإذ وبكاف الخطاب، وبالضمائر المنفصلة في باب الفصل، خلع منها معنى (الاسم وصارت حروفاً لا مواضع) لها من الإعراب.
وكذلك فعلوا بإذا، إلا أنهم زادوا فيها التنوين
فذهبت الألف، والقياس إذا وقفت عليها أن ترجع الألف لزوال العلة، وإنما نونوها لما فصلوها عن الإضافة إذ التنوين علامة الانفصال، كما فعلوا بإذ حين فصلوها عن الإضافة، إلى الجملة فقالوا: يومئذ فصار التنوين معاقباً للجملة، إلا أن " إذاً في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية (بدليل إضافة " يوم " و " حين " إليها، وإنما أخرجوها عن الاسمية، في نحو قوله تعالى:
(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) ، جعلها سيبويه ههنا (حرفاً بمنزلة أن)
فإن قيل: ليس شيء من هذه الأشياء التي صيرت
حروفاً بعد ما كانت أسماء، إلا وقد بقي فيها معنى من معانيها، كما بقي في
" كاف " الخطاب معنى الخطاب، وفي " على " معنى الاستعلاء، فماذا بقي في (إذ) و (إذا) من معانيهما في حال الاسمية؟
فالجواب: أنك إذا قلت: " سأفعل كذا إذا خرج زيد
أو قدم عمرو "، ففعلك مرتبط بالخروج أو القدوم مشروط به، وكذلك إذا قال لك القائل: " قد أكرمتك " فقلت: " إذن أحسن إليك "، ربطت إحسانك بإكرامه وجعلته جزاء له، فقد بقي فيهاطرف من معنى الجزاء وهي حرف، كما كان فيها معنى الجزاء وهي اسم.
وأما " إذ " في قوله تعالى: (إِذْ ظَلَمْتُمْ) ففيها معنى الاقتران بين الفعلين، كما
كان فيها ذلك في حال الظرفية، تقول: لأضربن زيداً إذ شتمني " فهي - وإن لم تكن ظرفاً ففيها من المعنى الأول طرف، كأنك تنبهه على أنك تجازيه على ما كان منه إذ شتم، فإن لم يكن الضرب واقعاً في حال الشتم، فله رد عليه وتنيه عليه.
فقد لاح

(1/104)


لك قرب ما بينهما وبين " أن " التي للمفعول من أجله، ولذلك شبهها سيبويه بها في سواد كتابه.
وعجباً للفارسي حيث غاب ذلك عنه وجعلها ظرفاً، ثم تحيل في إيقاع الفعل
الذي هو النفع فيها وسوقه إليها، بما هو مسطور في كتبه، فأغنى ذلك عن ذكره.
وأما إذ إذا كانت منونة فإنها لا تكون إلا مضافاً إليها ما قبلها، لتعتمد على
الظرف المضاف إليها فلا يزول عنها معنى الظرفية، كما زال عن أختها حين نونوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه.
والأصل في هذا أن " إذا و " إذا " في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء، والقرب من الحروف، لعدم الاشتقاق، وقلة حروف اللفظ، وعدم التمكن وغير ذلك، فلولا إضافتها إلى الفعل الذي يبنى للزمان
ويفتقر إلى الظروف، لما عرف فيها معنى الاسم أبداً، إذ لا تدل واحدة منهما على معنى في نفسها إنما جاءت لمعنى في غيرها، ف " إذا " قطعت عن ذلك المعنى تمحض معنى الحرف، إلا أن " إذ " لما ذكرناه من إضافة ما قبلها من الظروف إليها لم يفارقها معنى الاسم.
وليست الإضافة إليها في الحقيقة، ولكن الجملة التي عاقبها التنوين.
وأما " إذن " فلم يكن لها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الاسمية فيها.
فصارت حرفا لقربها من حروف الشرط في المعنى، ولما صارت حرفاً مختصا
بالفعل مخلصاً له للاستقبال كسائر النواصب للأفعال.
نصبوا الفعل بعده، إذ ليس واقعا موقع الاسم فيستحق الرفع، ولا هو غير واجب فيستحق الجزم، فلم يبق إلا النصب.
ولما لم يكن العمل فيها أصلاً لم تقو قوة أخواتها، فأُلغيت تارة وأعملت
أخرى، وضعفت عن عوامل الأفعال فإن قيل: فهلا فعلوا بها ما فعلوا بـ " إذاً " حين نونوها، وحذفوا الجملة بعدها فيضيفوا إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى " إذ " في قولك: " حينئذ " " يومئذ "، إذ الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبها التنوين؟.
فالجواب: أن " إذ " قد استعملت مضافة إلى الفعل (المستقبل) في المعنى
على وجه الحكاية للحال، كما قال تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ)

(1/105)


ولم يستعملوا " إذا " مضافة إلى الماضي بوجه ولا على حال، فلذلك
استغنوا بإضافة الظروف إلى " إذ " وهم يريدون الجملة بعدها عند إضافتها إلى " إذا "، والله أعلم.
مع أن " إذا في الأصل حرفان، و " إذا " ثلاثة أحرف، فكان ما هوأقل حروفاً في اللفظ أولى بالزيادة فيه
(وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة
اسم واحد) .
وأقوى من هذا أن " إذن " فيها معنى الجزاء، وليس في " إذ " منه رائحة.
فامتنع إضافة ظروف الزمان إلى " إذن "، لأن ذلك يبطل ما فيها من معنى الجزاء، لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو أضيف " اليوم "
و" الحين " إليها لغلب عليها حكمه، لضعفها عن درجة حروف الجزاء، فتأمله.
* * *
مسألة
(في اللامين: لام كي، ولام الجحود)
هما حرفا جر، فكلاهما يضب بإضمار " أن "، إلا أن لام كي هي لام العلة
فلا يقع قبلها إلا فعل يكون علة لما بعدها، فإن كان ذلك الفعل منفياً لم يخرجها (ذلك) عن أن تكون لام كي كما ذهب إليه الصيمري، لأن معنى العلة فيها باق.
وإنما الفرق بين لام الجحود ولام كي من وجوه ستة:
أحدها: أن لام الجحود يكون قبلها ما كان أو لم يكن، وتكون كان بلفظ
المضي أو في معناه، لا بلفظ الاستقبال.
وتكون زمانية ناقصة لا تامة، ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور، لا تقول: " ما كان زيد عندك ليذهب " وإلا ". . . أمس ليخرج ".
فهذه أربعة فروق.

(1/106)


والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض إن كانت الزمانية
عبارة عن زمان ماض، فلا تكون علة لحادث، ولا تتعدى إلى المفعول من أجله، ولا إلى الحال وظرف المكان، وفي تعديها إلى ظرف الزمان نظر، فهذا الذي منعها من أن تقع قبل لام العلة، أو يقع بعدها المجرور أو الظرف.
وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو: أن الفعل بعد " لام " الجحود لا يكون
فاعله إلا عائداً على اسم " كان " لأن " اللام " وما بعدها في موضع الخبر عنه، فلا تقول: ما كان زيد ليذهب عمرو، كما تقول: جاء زيد ليذهب عمرو، أو: لتذهب أنت ولكن تقول: ما كان ليذهب وما كنت لأفعل.
والفرق السادس: جواز إظهار " أن " بعد " لام " كي، ولا يجوز إظهارها بعد
" لام " الجحود، لأنها جرت في كلامهم نفياً للفعل المستقبل بالسين أو سوف، وصارت لام الجحود بإزائها، فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدهما.
وفي هذه النكتة مطلع على فوائد من كتاب الله - عز وجل -، ومرقاة إلى تدبره، كقوله نعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، فجاء بلام الجحود. حيث كان نفياً لأمر متوقع، وسبب مخوف في المستقبل.
ثم قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) .
فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال، لا يخص مضياً من استقبال.
ومثله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) .
ثم قال عز وجل: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى) ، فالحَظْ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك في المعنى، والله المستعان.

(1/107)


وأما (لام العاقبة) ، ويسمونها (أيضاً) : " لام الصيرورة " وهي نحو اللام في قوله
تعالى: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) ، ونحو قوله: " أعنق ليموت "، فهي في الحقيقة
" لام كي "، ولكنها لم تتعلق بقصد المخبر عنه وإرادته، ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة، وهو الله سبحانه وتعالى، أى: فعل الله ذلك ليكون كذا كذا، وقدر أن يعنق الرجل ليموت، فهي متعلقة بالقدر وقضاء الفعل.
وكذلك: إ اني لأنسى
اشن لاً، ومن رواه: " إني لأنسى " فقد كشف قناع المعنى فلا غبار عليه، والله الموفق لما يؤلف لديه.
* * *
مسألة
(في الأداتين " لم " و " لما ")
قوله: إ والجازم لم ولما "
" لما " نفي للماضي، كما أن " لن " نفي للمستقبل، وكان الأصل في نفي
(الماضي) حرف " لا "، إذ هى أعم بالنفي وبه أولى، وقد استعملوها نافية للماضي في قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) .
وفي قول الراجز:
وأي عبد لك لا ألما

(1/108)


ولكن عدلوا في أكثر الكلام عنها إلى حرف (لم) ، لوجوه منها:
أنهم (قد) خصوا المستقبل بـ (لن) ، فأرادوا أن يخصوا كذلك الماضي في
النفي بحرف كما فعلوا بالمستقبل، لأن " لا "، لا تختص ماضياً من مستقبل في
النفي، ولا فعلًا دون اسم.
ووجه آخر، وهو أن " لا " يتوهم انفصالها مما بعدها، إذ قد تكون نافية لما قبلها ويكون ما بعدها في حكم الوجوب، مثل قوله تعالى:
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) .
وحتى لقد قيل في قول عمر - رضي الله عنه -:
" لا نقضي ما تجانفنا فيه لإثم ":
أن " لاا " ردع لما قبلها، و " نقض " واجب لا نفي.
وكذلك قال بعض الناس في قوله - عليه السلام -:
" لا تتراءى ناراهما ": أن " لا " ردع، وما بعدها واجب.
لعمرى إن في لفظها إشارة لهذا المعنى، حيث كان بعد اللام فيها صوت
مديد ينقطع في أقصى الحلق، راجع إلى خلف مخارج الحروف، بخلاف
" لم " فإنها مشاركة لـ " لا " في " اللام " المفتوحة كما هي مشاركة لها في النفي. ثم فيها " الميم " وصوتها بين يدي الفم، ليكون هواء الكلمة إلى ما بعدها، ومعناها فيما يتصل بها لا فيما وراءها، كما كان ذلك جائزاً في " لا ".
والله أعلم.
ويؤيد هذا المعنى ويوضحه قلبهم لفظ الفعل الماضي بعد " لم " إلى لفظ
المضارع حرصاً على الاتصال، وصرفاً لوجه الوهم عن ملاحظة الانفصال.
فإن قيل: وما في لفظ المضارع مما يؤكد هذا المعنى؟
وليس هو والماضي سواء؟
قلنا: لا سواء لمن استبصر وأمعن في هذا الشأن، ونحر إلى هذه
المسألة وكثيراً من المسائل الواردة عليك على أصل التمهر، إلا أن ذلك فليس

(1/109)


يتفوض إن شاء الله تعالى بنا، ولا يدوي لك فرع أختنا (1) .
اعلم أن الأفعال مضارعة للحروف، من حيث كانت عوامل في الأسماء مثلها، ومن هنا استحقت البناء، وحق العامل أن لا يكون مهيئاً لدخول عامل آخر عليه، كيلا يفضي الأمر إلى التسلسل المستحيل عقلاً وأصلاً، والفعل الماضي بهذه الصورة وعلى أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء، فليس يذهب الوهم عند النطق، إلا إلى انقطاعه عما قبله إلا بدليل يربطه، وقرينه تضمنه إليه تجمعه.
لذلك لا يكون في موضع الحال ألبتة، لا تقول " جاء زيد ضحك "، لتجعل هذا الفعل في موضع الحال من " زيد " إذ لا جامع بينهما.
فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفة من النكرة، كقولك: " مررت برجل
ذهب "؟
قلنا: افتقار النكرة إلى الوصف، وفرط احتياجها إلى التخصيص تكملة
لفائدة الخبر هو الربط بين الفعل وبينهما، بخلاف الحال، فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه.
وأما كونه خبراً للمبتدأ فلفرط احتياج المبتدأ إلى خبره، جاز ذلك.
حتى إنك إذا أدخلت " إن " على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر، إذا كان في خبرها اللام لما في اللام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها، فاجتمع ذلك مع صيغة المضي وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبراً لما قبلها، وليس ذلك في المضارع.
فهذا أصل يبين لك ما تقدم قبله، ويفيدك أسراراً فيما يرد
عليك من هذا الباب بعده.
وليس الفعل المضارع كالماضي، لأن مضارعته للاسم هيأته لدخول العوامل
عليه، والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم، وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام، وصيرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف
وموقع خبر المبتدأ و (إن) ، ولم يقطعه دخول " اللام " عن أن يكون خبراً في باب (إن) كما فطع الماضي، من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام، كما تقدم.
__________
(1) في هذه الفقرة كلمات غير وأضحة أدى إلى عدم فهم المقصود منها ولعل بها سقطاً.

(1/110)


فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال؟.
قلنا: دخول الزوائد عليه ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء
كالمتكلم والمخاطب، فيما تضمن معنى الاسم أعرب، كما بني من الأسماء ما
تضمن معنى الحرف.
ومع هذا فإن الأصل في دخول حروف الزوائد الأربع، فأشبه
الأسماء، وصلح فيه من الوجوه ما لا يصلح في الماضي، وعول في المضارعة على الفصل المتقدم، فهو أظهر وأقطع للبس وأولى بالتحقيق، ودع عنك ما علل به النحويون في مضارعة الفعل للاسم من كلام واهي القواعد عن منهاج التحقيق متباعد، والله الموفق للصواب، والمستعان على سلوك طريق ذوي الألباب.
* * *
مسألة
(في الفعل بعد الجوازم)
" لام " الأمر، و " لا " في النهي، وحروف المجازاة: هذه الجوازم كلها داخلة
على المستقبل، فحقها أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم قد يوجد ذلك لحكمة.
أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك كيلا يلتبس بالنفي لعدم الجزم، ولكن إذا كانت " لا " في معنى الدعاء جاز وقوع الفعل بعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوه منها: أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل مع الدعاء في لفظ واحد، فجاؤوا بلفظ الفعل الحاصل في معرض الدعاء تفاؤلًا بالإجابة فقالوا: " لا خيبك الله " و " لا رحم الكافر) ، ونحو ذلك.
وفائدة أخرى، وهي أن الداعي قد يُضمِّن دعاءه القصد إلى إعلام السامع
وإعلام المخاطب بأنه داع، فجاء اللفظ بلفظ الخبر، إشعاراً بما تضمنه من معنى الإخبار، تقول: " أعزك الله وأبقاك " و " أكرم الله زيداً ".
و" لا رحم فلاناً "، جمعت بين الدعاء والإخبار بأنك داع.
ويوضح ذلك ويبينه أنك لا تقول ذلك في حال مناجاتك مولاك وسؤالك إياه
لنفسك أو لغيرك، حيث لا أحد يسمعك أو يراك، لا تقول: (رحمني رب)

(1/111)


ولا: " رزقني " كما تقول للمخاطب: " رحمك الله ورزقك،، ونحو ذلك، فقد تبين لك ما تضمنه الدعاء من الخبر في حين الخطاب، ولاح لك خلوه من ذلك المعنى في حال انفرادك برب الأرباب، فقد تدحض اللفظ حين تدحض المعنى، والأمر بمنزلة النهي سواء.
فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي؟.
قلنا: للدعاء هيئة ترفع الالتباس، وذكر الله - تعالى - مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس، فتأمله فإنه بديع في النظر والقياس، فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معنى الأمر أو النهي، منها قول عمر - رضي الله عنه -:
" جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء ". . . الحديث.
وقول العرب: " أنجز حر ما وعد "
و" حلأت حالئة عن كوعها "، وقول الحارث بن هشام:
" اتقى الله امرؤ. . "
وهو كثير في الكلام، ولكنه في معناه كله الأمر، ولكنه جاء بلفظ الخبر الحاصل قصداً إِلى معنى ثبوته ووجوبه في الديانة والمروءة، كأنهم يريدون بقولهم: " أنجز حر ما وعد "، أي: ثبت ذلك في المروءة واستقر، وحلأت حالئة، أي: جرى ذلك في العادة واستمر
و" جمع رجل عليه ثيابه " حكم فد وجب في الديانة وظهر وما استمر. فالإشارة إلى هذه المعاني صيرنه إلى هذا البناء، وإن كان في معنى الأمر، ألا ترى أنه لا يجيء بعده الاسم إلا نكرة، لعموم هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها على العموم.
فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال اسماً معرفة تدحض فيها معنى الخبر
وزال معنى الأمر فقلت: " اتقي الله زيداً "
و" أنجز عمرو ما وعد "، خبراً لا أمراً.
ومثله - فيما يزعم بعض (الناس أنه خبر في معنى) الأمر والنهي ما يرد

(1/112)


عليك في القرآن والسنة من نحو قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) .
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ)
و" لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "
و" لا يكون المؤمن لعاناً " و " لا يجني جان إلا على نفسه "
وهو كثير وليس هو في الحقيقة خبراً بمعنى أمر، كما لا يكون أمر بمعنى خبر، ولكنها أخبار عما استقر في الشريعة وثبت في الديانة التي نحن مأمورون بها على الجملة، فمن ههنا صرنا مأمورين بتلك
الأفعال، وإن لم تكن على صيغ الأمر والنهي في المقال، والله الموفق للصواب في كل حال.
(وأما وقوع الأفعال المستقبلة بلفظ الماضي) بعد حروف المجازاة فلحكمة
لطيفة، ليس هي ما ذكروه من أن حروف المجازاة تدل على الاستقبال، واستغنوا عن صيغة المستقبل إيثاراً للخفة، لأن هذه العلة لا تستقل بنفسها، إذ يلزم فيما يختص بالمستقبل ولا يقع بعدها لفظ الماضي نحو: لن، وكي، ولام الأمر.
ولكن الحكمة في هذه المسألة أن الفعل بعد حروف المجازاة - وإن كان مستقبلاً - فإنه ماض بالإضافة إلى جوابه، لأن الجواب لا يقع إلا بعده مترتباً عليه، نحو قولك: " إن قام زيد غداً قام عمرو بعده "
فصار " قيام زيد غداً " بالإضافة إلى " قيام عمرو " ماضياً.
فأتوا بلفظ الماضي تأكيداً للجزاء وتحقيقاً لأن الثانى لا يقع إلا بعد الأول، مع ما أمنوا من اللبس حيث حصنت حروف المجازاة المعنى، وقطعت الإشكال.

(1/113)


فإن قيل: هبكم سلم لكم أن الفعل ماض بالإضافة إلى الثاني، فما بال الثاني
جاء بلفظ الماضي إذا قلت: " إن قمت قمت معك "
و" إن خرج زيد ذهب عمرو؟ ".
فالجواب: أنهم قصدوا ازدواج الكلام، وآثروا اعتدال اللفظين حيث كانا معاً كالأخوين ألا تراهم يقولون: " آتيك بالغدايا والعشايا ".
وقالوا:
حوراء عيناء من العين الحير
وقال الله سبحانه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) .
ولولا لفظ الأول ما جاز الثاني في هذا الكلام كله، ألا ترى كيف حسن:
" إن تزرني أزرك " وكان قولهم: " إن زرتني أزرك " أحسن من قولهم:
" إن تزرني زرتك ".
وهو أقبح الوجوه الأربعة، لعدم الازدواج فيه.
وقد ذكر " أبو القاسم " قبحه في باب الجزاء، والحمد لله.
فإن قيل: إن كان يجوز " إن تزرني أزرك " بلفظ المستقبل في الثاني، فلم
(يكن) ينبغي أن يجوز " إن تزرني زرتك " بلفظ الماضي في الثاني والأول
مستقبل، إذ لا معنى يصححه، ولا ازدواج يحسنه؟
فالجواب: أنهم أجازوه على قبحه لأن فيه طرفاً من معنى المضي وحصول
الفعل، إذا كان واقعا إذ وقع الأول لا محالة وحاصلاً بذلك الشرط، فاستسهلوا أن يجيء بلفظ الفعل الحاصل ولم يمنعوه أصلاً.

(1/114)


فإن قيل: فإنا نجد حروف المجازاة في كتاب الله العزيز يقع الفعل بعدها تارة
بلفظ الماضي، لا يختلف القراء فيه، وتارة بلفظ المستقبل، لا يختلف القراء فيه أيضاً، وكلامه - سبحانه وتعالى - هو الكلام الجزل، وقوله فصل ليس بالهزل، فما الحكمة في اختصاص لفظ الماضي ببعض الآي دون بعض؟.
قلنا: كل موضع اعتمد الكلام فيه على الفعل الواقع بعد حروف المجازاة.
كان بلفظ المضارع لأن القصد إليه يوجب تأثير العمل فيه وهو الجزم.
وإذا كانوا قد قلبوا لفظ الماضي بعد " لم " إلى المضارع ليظهر أثرها وتعرف مزية اختصاصها، فما ظنك به في الموضع الذي لا يقلب فيه عن لفظه، ولا ينقل عن أصله، وذلك نحو قوله عز وجل: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) وكقوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) الآية.
مع أن الحكمة التي من أجلها غير الفعل إلى الماضي بعد حروف الجزاء معدومة في أكثر هذه المواضع، ألا ترى أن الفعل في
قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ) .
ليس ماضياً بالإضافة إلى ما بعده، لأن ما بعده واجب في المعنى غير مترتب عليه.
وهذا بديع إذا تأملته.
وإذا كان الكلام معتمداً على غيره، وكان هو في حكم التبعية له، إذ الشرط
تابع للمشروط، كان لفظ الماضي بعد حرف الجزاء أولى به.
فمنه قوله عز وجل: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)
وقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، لأن اللام رابطة لجواب القسم
المضمر، فالكلام معتمد على جواب القسم لا على الشرط فحسن الإلغاء، وكان لفظ الماضي أولى به إذ هو مبني لا يظهر فيه الإعراب.
وكذلك: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ) و (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)
وهو أصل غير منخرم، وعروة قياس لا تنفصم والحمد لله.
ومن أجل ما ذكرناه من وقوع الفعل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي، جاز
وقوع " لم " الجازمة بعد " أن " وهما جازمتان، ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان في معمول واحد من خفض ولا نصب، ولكن لما كان الفعل

(1/115)


بعدها ماضياً في المعنى، وكانت متصلة به حتى كان صيغته صيغة الماضي، لقوة الدلالة عليه، بـ " لم " جاز وقوعه بعد " أن " فكان العمل والجزم بحرف " لم " لأنه أقرب إلى الفعل وألصق وكان المعنى في الاستقبال بحرف " أن " لأنها أولى وأسبق.
ولم ينكر إلغاء " أن " ههنا إذ ما بعدها في حكم صيغة الماضي، كما لا ينكر إلغاؤها إذا لم يكن بعدها " لم ".
وقد أجازوا في " أن " النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوه
في " أن " التي للشرط، قال الله سبحانه وتعالى:
(وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) .
ولو جعلت مكان " إن " ههنا غيرها من حروف النفي لم يحسن فيه مثل
هذا لأن الشرطية أصل للنافية، كان المجتهد في النفي إذا أراد توكيد الجحد يقول: " إن كان كذا وكذا فعلى كذا أو: فأنا كذا "، وكثر هذا في كلامهم حتى حذف الجواب وفهم المقصد، فدخلت " إن " في باب النفي، والأصل ما قدمناه، والحمد لله.
* * *
مسألة
(في التثنية والجمع الذي على حدِّ التثنية)
قد بينا فيما تقدم أن " ألف " التثنية وواو الجمع أصلهما الألف والواو اللتان هما علامتا إضمار، نحو الألف في " فعلا " والواو في " فعلوا ".
ولذلك لا تجد " الواو " علامة للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال أو ما هو في حكمها.
ولما كانت الألف علامة إضمار في فعل الاثنين ممن يعقل وممن لا يعقل.
كانت (علامة) في تثنية الأسماء من العاقلين وغيرهم، وكانت أولى بضمير
الاثنين لقرب التثنية من الواحد في " فعلا " فارادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الاثنين كما كان ذلك في الواحد، لأن " الواو " في الجمع يكون ما قبلها مضموماً فتغير آخر الفعل عما كان عليه.
وسر المسألة أنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد المجموع، والمخبر

(1/116)


معتمد على كل واحد منهم في الإخبار، سلم لفظ بناء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه، فقلت: " فعلوا " أو: " هم فاعلون ".
وأكثرها يكون هذا فيمن يفعل، لأن (جميع ما لا يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة) كالجمة والأمة والثلة، فلذلك تقول في الدراهم والثياب والأحجار ونحوها: جمعت وقبضت ولا تقول: جمعوا ولا قبضوا ولا تقول في الحمير والغنم ونحوهما: ذهبوا.
ولا: فعلوا، ولكن: ذهبت وفعلت، لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين لآحادها.
هذا هو الغالب فيما لا يعقل (وقد يسلم بناء الواحد فيما لا يعقل) ، كما كان فيمن يعقل، ولذلك جاءت جموع التكسير معتبراً فيها بناء الواحد، وجارية في الإعراب بالحركات مجرى الواحد حيث ضعف اعتمادهم على كل واحد بعينه، وصار الخبر كأنه عن الجنس الكثير الجاري في لفظه مجرى الواحد، ولذلك جمعوا ما قل فيه العدد من المؤنث جمع السلامة، وإن كان مما لا يعقل، كقولهم الثمرات والطلحات، إلا أنهم لم يجمعوا المذكر منه -
وإن قل عدده - إلا جمع التكسير.
لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير " ألف " فرقا بينه وبين الواحد.
وأما " التاء " فقد كانت موجودة في الواحدة أو في وصفها، فإن كثر جمعوه جمع تكسير كالمذكر.
وإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل إمكان التعيين في
آحاده، والاعتماد في إسناد الخبر على أفراده، فما ظنك به في الاثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي على حدها، لقربه منها.
فمن ثم لا تجد التثنية أبداً فيما يعقل وفيما لا يعقل إلا على حد واحد. وكذلك ضمير الاثنين في الفعل المسند إلى
العاقلين وغيرهم فإذا ثبت ما قلناه فحق للعلامة في تثنية الأسماء أن تكون على
(حدها في) علامة الإضمار، وأن تزاد ألفاً في الرفع والنصب والخفض، لأنها
تثنية في جميع أحوالها.
وكذلك فعلت طوائف من العرب، وهم: خثعم وطيء وبنو الحارث بن
كعب،

(1/117)


وأما الأكثر منهم فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني أو المقصور من
حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد والتثنية طارئة على الإفراد، وكرهوا أيضاً زوال الألف، لاستحقاف التثنية لها فتمسكوا بالأمرين، فجعلوا الياء التي هي من الكسرة علامة الخفض، وأبقوا من الألف بعضها وهي الفتحة، وشركوا النصب مع الخفض للعلل التي ذكرها النحويون، فما أجد الرفع بالألف إذا لا سيما وهي في الأصل علامة إضمار الفاعل، وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارع الفاعل.
فقد لاحت لك الحكمة في اختصاص التثنية بالألف في الإضمار وتثنية الأسماء.
وقد تقدم في باب المعرفة وجه الحكمة في اختصاص " الواو " بجمع ما

(1/118)


يعقل علامة وإضماراً، وأشرنا إلى أنها جامعة حساً وعقلًا، حيث كانت هي الضمة في الحقيقة ومخرجها في النطق من الشفتين، واطراد هذا المعنى فيها في جميع أبوابها.
ولا معنى للحديث المعاد، إلا أنهم في موضع الخفض والنصب في علامة
الجمع حولوها إلى الياء، للعلة التي ذكرناها في التثنية، ومتى انقلبت الواو إلى الياء، والياء إلى الواو فكأنها هي، إذ لم يفارقها المد واللين، وكأنهما صف واحد، والانقلاب فيها تغيير حال لا تبديل بحال.
ولذلك تجد النحويين يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال، ويقولون
في التاء من تراث وتخمة: بدل من واو، وفي الطاء من مصطفى كذلك.
وفي الميم من " فم " وفي الألف المبدلة من التنوين في الوقف، يسمون هذا كله بدلاً ولا يسمونه قلباً، فاصغ لهذا الباب وفرغ له قلباً.
فإن قيل لك: إذا كانت طوائف من العرب فد جعك التثنية في جميع أحوالها
بالألف للعلة التي ذكرتم، فلم لم يطردوا على الجمع بالواو، فيكون في جميع
أحواله على تلك اللغة؟.
فالجواب: أن الألف منفردة في الكثير من أحكامها عن الواو والياء. كانفرادها في الردف واختصاصها بالتأسيس وغير ذلك.
والياء والواو أختان في باب الإقواء والردف وأشياء كثيرة، فكأنهم إذا قلبوها ياء في النصب لم يبعدوا عن الواو، بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياء بعدوا عنها، والله أعلم.
فإن قيل: فما بال " سنين " و " مئين " وبابهما جمع على حدة التثنية، وليس من
صفات العاقلين ولا أسمائهم الأعلام؟
فالجواب: أن هذا الجمع لا يوجد إلا فيما اكتملت فيه أربعة شروط:
أحدها: أن يكون معتل اللام.

(1/119)


الثاني: أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين.
الثالث: أن يكون مؤنثاً.
الرابع أن لا يكون له مذكر.
فخرج من هذا الباب: شفةا، وشاة، وعضة، لأن المحذوف منهن هاء
وليست حرف مد ولين.
وخرج من هذا الباب: أمة لأن لها مذكراً - وإن لم يكن على لفظها - فقالوا
في جمعها: إِموان، ولم يجمعوها جمع سنين، كيلا يُظَن أن جمع المذكر إِذ كان
له جمع مذكر في معناه.
وجمع سائر الباب جمع السلامة من أجل أنه مؤنث.
والمؤنث كله يجمع جمع السلامة (وإن لم يكن على هذا اللفظ، فلما حصل فيه جمع السلامة) بالقياس الصحيح - وكانت عادتهم رد اللام المحذوفة من الجموع وكانت اللام المحذوفة واواً أو ياء - أظهر في الجمع السالم ياء أو واواً ولم يكن في الواحد، وساق القياس إليها سوقاً لطيفاً حتى حصلت بعد زوالها، فأشبهت حال هذا الجمع (حال الجمع) المسلم في العاقلين، من حيث كان جمعا، وكان مسلما، وإن لم تكن واو الجمع هي لام الفعل، ولكنها واو لم تكن في الواحد، فلم يبق إلا النون، وقد لا يكون في الجمع نون إذا أضيف فصار كأنه هو، فألحقوه النون إذا لم يضيفوا، وأجروه مجراه في وجوه الإعراب.
وأما كسر السين (من سنين) فلئلا يلتبس بما هو على وزن " فعول " في

(1/120)


الواحد نحو " نوور " و " سنون " - الذي يستن - فكان كسر السين تحقيقاً للجمع، إذ ليس في الكلام (اسم) على وزن فعول ولا فعيل.
فإن قيل: فما بال الأرضين؟
قلنا - والله المستعان -: ليس " الأرض " في الأصل كالأسماء الأجناس مثل
" صخر " و " كلب "، ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر، فهي بمنزلة السفل والتحت، وبمنزلة ما هو في مقابلتها كالفوق والعلو، ولكنها وصف بها هذه الأرض المحسوسة.
فجرت مجرى قولهم: (امرأة ضيف وزورا، يدلك على ذلك قول الراجز:
ولم يقلب أرضها البيطار
يعني قوائم الفرس، فأفرد اللفظ - وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى، فإذا
كانت بهذه المنزلة فلا معنى لجمعها كما لا يجمع الفوق والتحت، والعلو
والسفل، فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها، خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو، حيث عَيَّن جزءاً محسوسا منها، فجاز على هذا أن يثنى إذا ضممت إليه جزءاً آخر فتقول: رأيت أرضين، أو: هما أرضان، ولا يقال للواحدة: أرضة، بتاء التأنيث كما تقول في القطعة من الجنس نحو " تمرة "، و " برة " من " تمر "
و" بر "، لأن الأرض ليس باسم جنس كما تقدم.
ولا يقال أيضا " أرضة " من حيث قلت " ضربة " و " شتمة "، لأنها في الأصل

(1/121)


تجري (مجرى) السفل والتحت، ولا يتصور في العقول أن يقال " تحتة " ولا
" سفلة "، كما تصور ذلك في بعض المصادر، لما يأتي بيانه إِن شاء الله تعالى.
فلما لم يمكنهم أن يجمعوا أرضاً على أرضات، من حيث رفضوا " أرضة ".
ولا أمكنهم أن يقولوا: " آرض " ولا: " آراض "، من حيث لم يكن مثل صخر وكلب، وكانوا قد عينوا جزءاً محدوداً فقالوا فيه: أرض، وفي تثنيته: أرضان، وأرضين - إِذا لم ينكروا إذا أضافوا إلى الجزأين مثل عددهما أو قريباً منه أن يجمعوه على حد التثنية، فقد تقدم السر (في الجمع) الذي على حد التثنية، وأنه مقصود إِلى آحاده، على التعيين كالتثنية، فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده كأسماء الأجناس، لم يحتاجوا إليه ههنا، فإن لفظ " أرض " تأتي على ذلك كله، لأنها
كلها بالإضافة إِلى " السماء " تحت وسفل، فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى
المصدر لفظاً ومعنى، وكأنه وصف لذاتها لا عبارة عن عينها وحقيقتها، إذ يصلح أن يعبر به عن كل ما له فوق وهو بالإضافة إلى ما يقابله سفل، كما تقدم في قوائم الفرس، فسماء كل شيء أعلاه، وأرضه أسفله، ألا ترى كيف وردت مجموعة في نحو قوله عليه الصلاة والسلام:
" طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ".
لما اعتمد الكلام على ذوات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها والتعيين لذواتها دون الوصف لها بذم أو سفل في مقابلة علو، فتأمله.
فإن قيل: فقد كان ينبغي على هذا أن لا يجمع ما هو في مقابلتها ويجري

(1/122)


مجرى المصدر الموصوف به، أعني السماء، وقد وردت في كتاب الله مجموعة
بخلاف (الأرض) فما الفرق بينهما؟.
قلنا: فرقان، فرق من جهة اللفظ وفرق من جهة المعنى، فأما " الأرض " فعلى وزن ألفاظ المصادر الثلاثية الذي وجب لها في الأصل، وهو ما كان على وزن فعل الآن مصدر الثلاثي، وإن اختلفت أبنيته فالواحدة في جميعه " فعلة " قياساً لا ينخرم.
فهذا يدلك على أنه الأصل في أبنية المصادر الثلاثية وأما " السماء "
وإن كان مثالها في المصادر كالعلاء والجلاء (فهي بأبنية الأسماء أشبه)
وإنما الذي يماثل الأرض في معناها ووزنها (التحت، والسفل) وهي لا تثنى ولا تجمع، وفي مقابلتهما الفوق، و " العلو "، وهما كذلك لا يجمعان أبداً، على أنا لا نسلم أن السماوات جمع لسماء وإنما هي جمع لسماوة، وسماوة كل شيء أعلاه، وأما جمع سماء على لفظها فأسمية في التكسير، وسماوات في المسلم.
وأما الفرق من جهة المعنى فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة
التي هي السقف، وقصد به إلى ذائها دون معنى الوصف، صح جمعها جمع
السلامة، لأن العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى، لا تقدم قبلُ من قربه من التثنية، فوجب أن يكون على حدها، فإذا اجتمع الكلام على الوصف استزاد معنى العلا والرفعة، وإن كان الخبر عن السماوات العلى، فجرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: " قوم عدل وزور ".
وأما الأرض فلم تجئ في القرآن مقصوداً إلى ذاتها، ولا معبراً عنها إلا بما هو بمعنى السفل (والتحت) ، تنبيهاً من الله تعالى على ذمها، وإعراضاً عن ذكرها، وترك الاعتناء بها إذ كانت دار الحياة الدنيا، تصديقاً لما ورد في الأثر من أن الله تعالى لم ينظر إلى الدنيا منذ خلقها، وأنه
يقول لها: (اسكتي يا لا شيء) .
وشبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيفة، بل قال
" إنها أهون على الله من الجيفة ".
فلم يكن - جل ثناؤه - ليعتمد ذاتها بالذكر، ولا ليعبر
عنها بغير وصف الذم، بخلاف السماء المشوقة الرفيعة المقدسة المطهرة، التي هي

(1/123)


مقر ملائكته، ومحل أنوار (جلاله) وعظمته، فإذا اعتمد ذكر ذاتها مع ما فوفها من جمع، وإذا اعتمد الوصف الشامل لسماواته - وهو معنى العلاء والعلو - أفرد.
وذلك في حسب ما يتصل به من كلام، ويقتضيه في بعض الآيات دون بعض
إعجاز الانتظام، كقوله سبحانه: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)
وكقوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ) .
فإن اعتماد الكلام في هذه الأي يخالف اعتماده ومقصده في نحو قوله سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)
و (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) .
قصد في هذه إلى تعيين ذواتها وتفصيل آحادها بخلاف ما تقدم.
فإن قيل: فلم قال في سورة سبا: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وفي سورة يونس: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)
وهل في النظم المعجز ما يقتضي فرقاً بين الموضعين.
قلنا: نعم، قد يرد لفظ السماء عبارة عن كل ما علا من السماوات فما فوقها إلى العرش وغير ذلك من المعاني العلوية المختصة بالربوبية، فيكون اللفظة بصيغة الإفراد كالوصف المعبر به عن الموصوف، كما تقدم في الوصف قبل هذا.
وقد يكون السماء عبارة عن السماء الدنيا عرفا، ويكون عبارة عن السحاب الذي ينزل منه الماء، وكان المخاطبون بهذه الآية - أعني التي في يونس - مقرين بنزول الرزق من هذه السماء - أعني الرزق المحسوس كالغيث ونحوه وقد قال في آخر الآية: (فسيقولون الله) فلما انتظم هذا الكلام بما قبله لم يصلح في النظم إلا ذكر السماء مفردة، لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الرزق المعقول والرحمة بالعباد كالوحي الذي به حياة الأرواح والأجساد، بل ينكرون ذلك، فوردت
السماء فيها بلفظ الإفراد، بخلاف الآية الأخرى، فإنه لم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من الرزق، ولكنه قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ)

(1/124)


فأمر نبيه بهذا القول الذي هو تصديق لنزول الرزق، والخبر هو الحكمة
والعلم - وهو أفضل الرزق - من فوق سبع سماوات، وأما الرزق من الأرض فيصلح ذكره في الاثنين جميعاً، إذ لا ينكر رزق الأرض وما ينزل من الغيث من هذه السماء بر ولا فاجر، بل يعترف به المؤمن والكافر.
فتأمل ما ذكرته من هذه النكث فإنها أنف لم أزاحم عليها ولا وجدتها لأحد تقدمني إليها، والله الموفق لشكر يقتضي الزيد من
فضله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
فصل
(ما لا يجمع جمع السلامة)
ومن الصفات المشتقة من الأفعال ما لا يجمع جمع السلامة في مستعمل
الكلام، وهو ما كان على وزن " فعلاً مضاعفاً، نحو: رجل بر، وثط، وفظ، وما أشبهه، كأنهم كرهوا التباسه بفعول فكسروه.
وأما ما ليس بمضاعف فقد تقول فيه: " فعلون "، مثل: صعب وصعبين ولم
يخافوا في هذا البناء التباساً كما في ما قبله، إذ ليس في الكلام فعلول، ومن ثم قالوا في مؤنثه: صعبات وخولات - بتسكين العين - حملاً على مذكره، ولو كان اسماً غير وصف لفتحوا العين كما فتحوها في جفنات وبابه تأكيدا لمنع الجمع، وكيلا يتوهم - لخفاء الألف - أنك أردت " جفنة "، فقد يوقف على هذه التاء بالهاء، وكانت الفتحة أولى حين أرادوا التحريك لوجودها في المكسر نحو " جفان ".
فإن قيل: فما بال " فعيل " إذا كان وصفاً مشتقاً، لا يكاد يوجد مجموعاً جمع
السلامة نحو: رحيم وعليم؟ .

(1/125)


قلنا: جمع السلامة فيه جائز، ولكنه فيه مستثقل لتوالي الكسرات مع الياء
إذا قلت: رحيمين، والخروج من الكسر إلى الضم إذا قلت: رحيمون، فعدلوا عنه إلى فعلاء، وأما " شعراء " فليس بجمع " شاعر "، على القياس، ولكنه جمع " فعيل " من شعر يشعر فليس ما هو (في) وزن فاعل جارياً على فعل، ولا يوجد ذلك، ولكنهم لما رفضوا أن يقولوا في اسم الفاعل من شعر: شعير، عدلوا عنه إلى " فاعل "، الذي فيه معنى النسب نحو: رامح، وتامر، ولابن.
واستغنوا به، فلما جمعوه ردوه إلى الأصل الذي كان يقتضيه القياس، وكأنهم إنما كرهوا موافقة اللفظ للفظ الشعير، الذي هو أخو الحنطة، فاستغنوا عنه بفاعل الذي معناه ذو الشعر، كما أن رامحاً معناه: ذو رمح، وليس هو من
" رمح "، وتامر ولابن كذلك، ولم يحتاجوا في الجمع إلى عدول عن القياس، لعدم الاشتباه والالتباس، فافهم.
* * *
مسألة
(من باب الفاعل والمفعول به)
قوله: " لأن الفعل إذا تقدم الأسماء وحد، وإذا تأخر ثني وجمع، للضمير
الذي يكون فيه ".
ولعلة أصح من هذه، قد تقدمت في صدر هذا الكتاب.
فإن كان في الفعل ضميره لحقته في التثنية علامة الإضمار وهي الألف، وفي
الجمع " الواو ".
والفعل في كل حال مفرد، لأنك لم ترد أن تضم فعلاً إلى فعل، ولا
يفعل " إلى " يفعل " آخر.
فإن قيل: لم ظهرت علامة الإضمار في التثنية والجمع ولم تظهر في

(1/126)


الواحد؟
قلنا: الفعل يدل على فاعل مطلق، ولا يدل على تثنيته ولا على جمعه.
لأن التثنية والجمع معنى يطرأ على الإفراد، والإفراد هو الأصل، ففعل الواحد مستغن عن ظهور علامة الإضمار بعلم السامع أن له فاعلًا، وليس كذلك في الثثنية والجمع، لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنى ولا مجموع إلا بدليل.
فإن قيل: فضمير الفاعل المستتر في الفعل كيف يصح استتاره فيه، والفعل
كلمة مؤتلفة من حروف، والحروف أعراض في اللسان أجزاء من الصوت، لا يستتر فيها شيء ولا يظهر إذ ليست بجسم؟.
فالجواب: أن أكثر ألفاظ النحويين محمولة على التجاوز والتسامح، لا على
الحقيقة، لأن مقصدهم التقريب على المبتدئين والتعليم للناشئين.
وتحقيق القول أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم، ولفظ الفعل متضمن له
دال عليه، واستغني عن إظهاره لتقدم ذكره، وعبرنا عنه بمضمر - ولم نعبر عنه بمحذوف، كما قلنا في المضمر المفعول العائد على الاسم الموصول - لأن المضمر هنا قد لفظ به في النطق، ثم حذف تخفيفاً، نحو قولنا:
" الذي رأيته، والذي رأيت ".
ويجوز حذفه في التثنية والجمع، فلما كان ملفوظاً به ثم قطع من اللفظ
تخفيفاً، عبر عنه بالحذف، وليس كذلك ضمير المرفوع، لأنه لم ينطق به ثم حذف.
ولكنه مضمر في النية مخفي في الخلد، والإضمار هو الإخفاء، والحذف هو القطع من الشيء، فهذا فرق ما بينهما، وهو واضح لا خفاء به، ولا غبار عليه.
* * *
مسألة
(من إلحاق علامة التأنيث بالفعل)
قد تلحق العلامة الفعل للتثنية والجمع قبل ذكر الفاعلين، فليست حينئذ
بضمير، إذ لم يتقدم مذكور يعود، ولكنها حروف لحقت علامة للتثنية والجمع، حرصاً على البيان وتوكيداً للمعنى، إذ كانوا يسمون بالجمع والتثنية نحو: فلسطين، وقنسرين، وكذلك: سلمان، وحمدان، يشبه لفظه لفظ التثنية في الرفع،

(1/127)


فهذا ونحوه مما دعاهم إلى تقديم العلامة في نحو قولهم: " أكلوني البراغيث ".
وقد ورد في الصحيح نحو قوله عليه الصلاة والسلام:
" يتعاقبون فيكم ملائكة. . . ".
وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين، فكذلك التاء
في: ظفرت يداك، وقامت هند، ليست للفعل، إذ الفعل عبارة عن الحدث، وهو اسم مذكر لا تلحقه علامة التأنيث إلا في التحديد، نحو: ضربة وقتلة.
وقد تقدم أن الفعل لم يشتق من المصدر محدوداً وإنما يدل عليه مطلقاً.
فثبت بهذا أن التاء حرف بمنزلة العلامة التي تقدم ذكرها، إلا أنها ألزم للفعل منها، إذ كل العرب تقول: قامت هند، ولا تكاد تقول: قاموا أخوتك، إلا قليل منهم.
وقد ذكر النحويون فروقاً في ذلك وعللاً غنينا عن ذكرها، إذ كانت في كتبهم مسطورة.
ولكنا نشير إلى فصول أغفلوها من أحكام تاء التأنيث.
زعموا أن الاسم المؤنث إذا كان تأنيثه حقيقياً، فلا بد من لحوق " تاء " التأنيث في الفعل، وإن كان تأنيثه مجازياً كنت مخيراً في إثبات الئاء وتركها.
وزعموا أن " التاء " في (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) لتأنيث الجماعة، وتأنيث الجماعة

(1/128)


غيرحقيقي.
وقد كان على هذا لحوق التاء في قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ) أولى.
إذ كان تأنيث النسوة حقيقة.
واتفقوا أن الفعل إِذا تأخر عن فاعله المؤنث، فلا بد من إثبات تاء
التأنيث، وإن لم يكن تأنيثه حقيقة، ولم يذكروا فرقا بين تقدم الفعل وتأخره. وفي هذا كله وهن لأصولهم، ودليل على قلة تحصيلهم.
ومما يسألون عنه أن يقال: إِذا لحقت " التاء " لتأنيث الجماعة، فلم لا يجوز في الجمع (المسلم) ، فيحسن: " قالت الكافرون " و " قالت الظالمون "، كما حسن: (قالت الأعراب) و " ذهبت الأحقاد "، ونحوه؟.
ومما يسألون عنه أن يقال: إذا كان لفظ الجماعة مؤنثاً، فلفظ الجمع مذكر.
فلم روعي لفظ التأنيث، ولم يراع لفظ التذكير؟.
فإن قالوا: أنت مخير، إن راعيت لفظ الجمع ذكرت، وإن راعيت لفظ
الجماعة أنثت.
قلنا: هذا باطل، فإن أحداً من العرب لا يقول: الهندات ذهب، ولا: الجمال انطلق، ولا: الأعراب تكلم، مراعاة للفظ الجمع، فدل على أن الأمو بخلاف ما ذكروه، والله أعلم.
والأصل في هذا الباب أن الفعل مئى انصل بفاعله، ولم يحجز بينهما حاجز.
لحقت التاء علامة للتأنيث، ولا يبالى إذا كان تأنيث الفاعل حقيقة أم مجازاً.
تقول: طالت النخلة، كما تقول: جاءت المرأة، اللهم إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسم آخر مذكر، كالحوادث والحدثان، والأرض مع المكان، فقد جاء: فإن الحوادث أودى بها

(1/129)


ولا أرض أبقل أبقالها
حمل الحوادث على الحدثان، وحمل الأرض على الموضع والمكان، مع أنه
شعر، والشعر موضع ضرورة.
فإذا فصلت الفعل عن فاعله، فكلما بعد عنه قوي حذف العلامة منه، قالوا: حضر القاضي اليوم امرأة.
وفي القرآن: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) .
هذا مثل هذا في الجواز.
كما أنه إذا تأخر الفعل عن الفاعل وجب ثبوت التاء فيهما جميعاً، تقول:
المرأة حضرت، كما تقول: الصيحة أخذتهم، والنخلة طالت.
وما أشبه ذلك لأن الفعل إذا تأخر كان (فاعله) مضمراً فيه متصلًا به اتصال الجزء بالكل، فلم يكن بد من ثبوت التاء لفرط الاتصال.
وإذاً تقدم الفعل متصلاً بفاعله الظاهر، فليس مؤخر الاتصال كهو مع
المضمر لأن الفاعل الظاهر كلمة والفعل كلمة أخرى، والفاعل المضمر والفعل كلمة واحدة فكان حذف " التاء " في قامت هند، وطالت النخلة، أقرب إلى الجواز منه في قولك: النخلة طالت.
فإن حجز بين الفعل وفاعله حاجز، كان حذف " التاء " حسناً، وكلما كثرت
الحواجز كان حذفها أحسن.
فإن كان الفاعل جمعاً مكسراً أدخلت التاء لتأنيث الجماعة، وحذفت لتذكير

(1/130)


اللفظ، لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه، ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس.
فإن كان الجمع مسلماً فلا بد من التذكير لسلامة لفظ الواحد، فلا تقول:
قالت الكافرون، لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطروء الجمع عليه.
فإن قلت: فلم لا تقول: " الأعراب قال ":، و " الجمال ذهب ".
كما يجوز ذلك في حال تقديم الفعل؟.
قلنا: ثبوت " التاء " إنما كان مراعاة لمعنى الجماعة، فإن أردت ذلك المعنى
أثبت " التاء " وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير، وإن (لم) ترد معنى
الجماعة حذفت " التاء " إذا تقدم الفعل، ولم يحتج إليها إذا تأخر لأن ضمير
الفاعلين جماعة في المعنى وليس بجمع، لأن الجمع مصدر: " جمعت أجمع "
فمن قال: إن التذكير في " ذهب الرجال " و " قام الهندات " مراعاة لمعنى الجمع، فقد أخطأ.
وأما حذف التاء من (قال نسوة) فلأنه اسم جمع بمنزلة رهط ونفر، ولولا أن فيه هاء التأنيث لقبحت " التاء " في فعله.
ولكنه قد بجوز أن يقال: " قالت نسوة "
كما تقول: " قال فتية وصبية ".
فإن قلت: " النسوة " - بالألف واللام - كان دخول " التاء " في الفعل أحسن من تركها، كما كان ذلك في (قالت الأعراب) ، لأن الألف واللام للعهد، فكان الاسم قد تقدم ذكره، فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور، من أجل الألف واللام، فإنها ترد على معهود.
فإن قيل: فإذا استوى ذكر " التاء " وتركها في الفعل المفعول عن الفاعل
المؤنث، فما الحكمة لاختصاصها في الفعل في قصة شعيب، وحذفها في قصة
صالح في قوله: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ؟.
فالجواب: أن الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، إذ كانت

(1/131)


منتظمة بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) .
فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية، فقوي التذكير، بخلاف الآية الأخرى، والله أعلم.
فإن قيل: فلم قلتم: إن التاء حرف ولم تجعلوها علامة إضمار إذا تأخرت.
وعلامة تأنيث إذا تقدمت؟.
قلنا: قول العرب: الهندان قامتا وفعلتا، وبالتاء والضمير معاً، يدل على أن
التاء حرف وليست بضمير، إذ لا يكون للفعل ضميران فاعلان، وهذا بين لا خفاء به وبالله التوفيق.
فإن قيل: فما الفرق بين قوله عز وحل:
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
(وبين قوله) : (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)
حتى ثبتت التاء في إحداهما، وحذفت في الأخرى؟.
قلنا: لو كان هذا السؤال في غير القرآن ما احتاج إلى جواب، لأن الإثبات
والحذف جائزان، فللمتكلم أن يفعل من ذلك ما شاء، ولكن كلام (الحكيم) الخبير ليس كغيره من الكلام، لإعجازه في الأسلوب والانتظام. والفرق بين الموضعين المتقدمين لائح من وجهين:
أحدهما لفظي والآخر معنوي.
أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله:
(حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) أكثر منها في قوله: (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
وقد تقدم أن الحواجز بين الفعل والفاعل) كلما كثرت
كان حدف " التاء " أحسن -
وأما الفرق من جهة المعنى فإن (مَنْ) في سورة النحل واقعة على الأمة، وهي
مؤنثة لفظاً، ألا تراه يقول سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا)
ثم قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
أي: من الأمم أمم ضلت أو حقت عليها الضلالة
(ولو قال بدل ذلك: ضلت، لتعينت التاء، ومعنى الكلامين واحد، وإذا
كان معنى الكلامين واحداً كان إثبات التاء أحسن من تركها، لأنها ثابتة فيما هو في

(1/132)


معنى الكلام.
وليس كذلك قوله تعالى: (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ، لأن
معناه: وفريقاً ضلوا، بغير تاء في اللفظ، فليحسن حذفها إذاً فيما هو في معناه، فكثيراً ما تفعل العرب ذلك، تدع حكم اللفظ الواجب له في القياس، إذا كان في معنى الكلمة ما ليس له ذلك الحكم، ألا تراهم يقولون:
" هو أحسن الفتيان وأجمله في معنى: هو أحسن فتى وأجمله، ونظائره كثيرة. فإذا حسن الحمل على المعنى فيما كان القياس أن لا يجوز، فما ظنك به حيث يجوزه القياس والاستعمال.
وأحسن من هذه العبارة أن تقول: إنهم أرادوا " أحسن شيء وأجمله "، بجعل
" شيء " مكان " فتى " في اللفظ، لأن في الصحيح قوله عليه السلام:
" خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه (على زوج) في ذات يده ".
فلو كان التقدير هناك: " أحسن فتى " حين ذكر الفتيان، لقلنا هنا:
" أحناها على ولد " إذا ذكر النسوان.
ولكن التقدير كما قدرناه لا كما قدروه، والله المستعان.
* * *
مسألة
(من تقديم الفاعل)
قوله: " واعلم أن الوجه تقديم الفاعل ".
قسم النحويون هذا الفصل أربعة أقسام:
قسم لا يجوز فيه إلا تقديم الفاعل على المفعول، نحو: ضرب موسى
عيسى، وضربت حذام قطام، وكل موضع لا يظهر فيه علامة إعراب.
وقسم لا يجوز فيه تأخير المفعول، نحو: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) ، من
أجل الضمير الذي لا يجوز تقديمه قبل الذكر.

(1/133)


وقسم يكون فيه تقديم الفاعل أحسن من تأخيره، نحو: ضرب زيد عمراً.
وقسم يكون فيه تقديم المفعول أحسن. نحو: أعجب زيداً ما كره عمرو، لأن الفاعل لا يظهر فيه الإعراب، فكان تقديم المفعول الذي يظهر فيه الإعراب أولى.
حرصاً على إفهام المخاطب.
والذي ذكروه حق، ولكننا ننبه على مسألتين:
إحداهما: لا يجوز فيها تأخير الفاعل وهو معرب والمفعول كذلك.
ومسألة يقدم فيها الفاعل على المفعول، فإن أخر انعكس المعنى، واختلف
المقصد والمغزى.
أما المسألة الأولى فقولك: " ضرب القوم بعضهم بعضاً، لا يجوز تأخير الفاعل
ههنا من أجل حذف الضمير من المفعول، إذ كان الأصل أن يقال: ضرب بعضهم بعضهم، إذ حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهراً أو مضمراً، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل، لم يجيزوا تأخير الفاعل فيقولوا: ضرب بعضاً بعضهم، لأن اهتمامهم بالفاعل قد قوي وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لا بد منه، فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة، صارت الحاجة إليه مرتين.
فإن قيل: فما المانع له من إضافة " بعض " إلى الضمير إذا كان مفعولاً دون
الفاعل، فتقول: (ضرب بعضهم بعضاً) .
قلنا: الأصل أن يذكر الضمير فيهما جميعا، فلما أرادوا حذفه من أحدهما
تخفيفاً، كان حذفه مع المفعول - الذي هو كالفضلة في الكلام - أولى من حذفه مع الفاعل الذي لا بد منه ولا غنى عنه، وليتصل بما يعود إليه ويقرب منه.
نعم قد

(1/134)


يضاف إليه " بعض " وهو مفعول، إذ كان البعض الآخر مجروراً، كقولك: خلطت القوم بعضهم ببعض، لأن رتبة المفعول ههنا التقديم (على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم) على المفعول، فحق الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو بتقديمه أهم.
وأما المسألة الأخرى، التي يختلف فيها المعنى، فمثل أن يكون قبل الفعل
" إنما " نقول: إنما يأكل زيد الخبز، فحققت ما يتصل ومحقت ما ينفصل. وهذه عبارة أهل سمرقند في " إنما " يقولون: إنها وضعت لتحقيق (المتصل وتمحيق المنفصل، وتلخيص) هذا الكلام أنها نفي وإثبات، فأثبت لزيد أكل الخبز المتصل به في الذكر، ونفيت ما عداه، فمعناه: ما يأكل زيد إلا الخبز.
فإن قدمت المفحول ههنا فقلت: إنما يأكل الخبز زيد، اختلف المعنى.
وانعكس مقصد الكلام، فكأنك قلت: ما يأكل الخبز إلا زيد.
فهذه المسألة تخالف الأربعة الأقسام التي ذكرها النحويون، لأن المعنى في
جميع تلك الأقسام قدمت أو أخرت واحد والمعنى في هذه المسألة مختلف، ألا ترى أن معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليس كقولك: إنما يخشى العلماء الله، لأنك إذا أخرت نفيت الخشية من غير العلماء، وإذا قدمت الفاعل نفيت الخشية أن تتعلق بغير الله سبحانه وتعالى.
وهذا واضح لا خفاء به عند التأمل. والله الموفق.
ومما يوضح لك ما ذكروا من النفي والإثبات في " إنما " قول همام:
أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي

(1/135)


فجعل الضمير المنفصل وهو أنا فاعلاً، وهو متصل في اللفظ بالفعل، وما ذاك إلا أن بينه وبين الفعل حاجزاً في المعنى، وهو " إلا " فكأنه قال: ما يدافع عن أعراضهم إلا أنا أو مثلي.
فقد وضح لك النفي والإثبات المذكوران في " إنما ".
* * *
مسألة
(في الأسماء النواقص)
اعلم أن العرب لما جعلت الاسم الذي هو الذي ذو وصلة إلى
وصف النكرات بالأجناس فقالوا: هذا رجل ذو مال، حيث لم يمكنهم أن يشتقوا من " المال " ونحوه اسماً بكون وصفاً للرجل جارياً عليه، كما أمكنهم ذلك في الفعل، حيث اشتقوا منه أسماء يصفون بها ويضمرون فيها ما يعود على الموصوف.
فلما لم يمكنهم ذلك في الاسم الجامد توصلوا إلى الوصف به بكلمة جارية
على الاسم الذي قبلها في الإعراب، ليكون جريها عليه في الإعراب رابطاً لها به، وإضافتها إلى الاسم الذي بعدها رابطاً بينها وبينه، حيث لم يكن رابط سوى ما ذكرناه من ضمير ولا غيره.
وإذا أرادوا وصف النكرة بجملة، كان الضمير الذي فيها
رابطاً لها بالاسم الموصوف بها، كقولك: مررت برجل أبوه قائم، فلم يحتاجوا إلى أكثر من الضمير العائد، فإذاً أرادوا وصف المعرفة بجملة لم يمكنهم من ذلك ما أمكنهم في النكرة لوجهين:

(1/136)


أحدهما: أن النكرة مفتقرة إلى الوصف والتبيين، فعلم أن الجملة بعدها
تبيين لها، وتكملة لفائدتها.
الوجه الثاني: أن الجملة تتنزل منزلة النكرة لأنها خبر، ولا يخبر المخاطب إلا
بما يجهله لا بما يعرفه، فصلح أن يوصف بها النكرة، والمعرفة بخلاف هذا كله. لو قلت: جاءني زيد أبوه قائم، على جهة الوصف، لما ارتبط الكلام بعضه ببعض، لاستقلال كل واحد منهما بنفسه، فجاؤوا بالوصلة التي وصلوا بها إلى وصف النكرة بالأجناس، وهي قولك: ذو، فقالوا: هذا زيد ذو قام أبوه، وذو وجه حسن.
هذه لغة طىء، وهي الأصل.
قال الشاعر:
وبئري ذو حفرت وذو طويت
ثم إن العرب لما رأوه اسماً وصف به المعرفة، أرادوا تعريفه ليتفق الوصف
والموصوف في التعريف، فأدخلوا الألف واللام عليه.
ثم ضعفوا اللام كيلا يذهب لفظها بالإدغام، ويذهب ألف الوصل في الدرج فلا يظهر التعريف فجاء منه هذا اللفظ: الذو.
فلما رأوا الاسم قد اتفصل عن الإضافة حيث صار معرفة، فقلبوا " الواو " منه
ياء، إذ ليس في كلامهم " واو " متطرفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب " ياء "، كقولهم:

(1/137)


دلو وأدل.
ولا نطول بتكثير النظائر، لأن الأصل معروف عند الشادين.
فلما انقلبت الواو ياء، والضمة كسرة، صار اللفظ " الذي ".
وإنما صحت الواو في قولهم " ذو " لأنها كانت في حكم التوسط، إذ المضاف
مع المضاف إليه كالاسم الواحد.
وفي معنى " ذو " الذي هو مضاف طرف من معنى ذا الذي هو اسم مبهم، ألا
تراه يبين باسماء الأجناس كقولك: هذا الغلام، وهذا الرجل، فيتصل بها على جهة البيان، كما يتصل بها " ذو " على جهة الإضافة، ولذلك قالوا في المؤنث من (الذي: التي بالتاء، كما قالوا في المؤنث من) ذا: هاتا، وهاتين. والله أعلم.
وأما استحقاقه للبناء - أعني الذي - فلما ذكره النحويون من مضارعة الحرف والإبهام والنقصان في نفسه، حتى كأنه بعض كلمة.
وأما إعرابه في حال التثنية فلأن علامة التثنية هي الألف، وهي بعينها علامة
الرفع في الأسماء فلم يكونوا ليبنوا وفيه علامة الإعراب، ولم يكونوا ليسقطوها فيبطل معنى الثثنية، فكان ترك مراعاة علة البناء أهون عليهم من إبطال معنى التثنية، ولذلك أعربوا " اثني عشر " و " هذين "، و " يا زيدان ".
فإن قيل: فما بالهم بنوا الجمع - أعني الذين - وهو على حد تثنية، وفيه علامة الإعراب؟
قلنا: الجمع يفارق التثنية من وجهين:
أحدهما: أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات، نعم، وقد يكون الجمع اسماً واحداً في اللفظ كقولك: قوم ورهط.
الثاني أن الجمع في حال نصبه وخفضه يضارع لفظه لفظ
الواحد، من حيث كان آخره ياء مكسوراً ما قبلها، فحملوا الرفع الذي هو أقل حالاته على النصب والخفض، وغلبوا عليه البناء، حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء.
وليس كذلك التثنية، لأن ياءها مفتوح ما قبلها، فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد.

(1/138)


وأما النون في " الذين " فلا معتبر بها، لأنها ليست في الجمع ركنا من أركان
صيغته، لسقوطها في الإضافة وفي ضرورة الشعر، كما قال:
وإِنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ
وأما " ما " الموصولة فهي في قول النحويين بمعنى (الذي) ، وليس كذلك، وإن
واففت " الذي " في أكثر أحكامها، فإنها مخالفة لها في المعنى وفي بعض الأحكام.
أما المعنى فإن " ما " اسم مبهم في غاية الإبهام، حتى إنها تقع على كل شيء.
وتقع على ما ليس بشيء، ألا ترى أنك تقول: إن الله عالم بما كان وبما لم يكن.
وما لم يكن معدوم، والمعدوم ليس بشيء، فلفرط إبهامها لم يجز الإخبار عنها
حتى توصل بما يوضحها، وكل ما وصلت به يجوز أن يكون صلة " الذي "، فهي توافق " الذي " في هذا الحكم، وتخالفه في أنها لا تكون نعتاً لما قبلها ولا منعوتة، لأن صلتها تغنيها عن النعت.
وأيضاً فلو نعتت بنعت زائد على الصلة لارتفع إبهامها.
وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلان حقيقتها وإخراجها عن أصل موضوعها.
وتفارق " الذي " أيضاً في امتناعها في التثنية والجمع، وذلك أيضاً لفرط
إبهامها.
فقد وضح لك ما بينها وبين " الذي " من الفرق في المعنى والحكم.
فإذا ثبث ما قدمناه فلا يجوز أن توجد إلا موصولة، لأنه لا يعقل معناها إلا بالصلة ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع، لأنها لا تخلو من الإبهام أبداً.

(1/139)


ولذلك كان في لفظها ألف آخرة لما في الألف من الحد والاتساع في هواء الفم، مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس.
فإذا أوقعوها على نوع بعينه، وخصوا ما يعقل
وقصروها عليه، أبدلوا الألف نوناً ساكنة، فذهب امتداد الصوت، وصار قصراً للفظ موازناً لقصر المعنى، فقالوا: من عندك.
تخصيصاً بما يعقل.
وإذا كان أمرها كذلك ووقعت على جنس من الأجناس، وجب أن يكون ضميرها العائد عليها من الصلة الذي لا بد للصلة منه، ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة (له) ، فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه من الإعراب والمعنى. ف
إذا وقعت على ما هو فاعل في المعنى، كان ضميرها فاعلاً في المعنى واللفظ، كقولك كرهت ما أصابك.
فما مفعولة لكرهت في اللفظ والمعنى.
وإذا وقعت على مفعول، كان ضميرها مفعولاً لفظاً ومعنى، كقولك: سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته.
فهي في المعنى مفعولة، لأنها عبارة عن الملبوس والمأكول، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى.
وكذلك إذا وقعت على المصدر كان ضميرها مفعولاً مطلقاً لأن المصدر كذلك.
وإن وقعت على الظرف كان ضميرها مجروراً بفي، لأن الظرف كذلك هو في المعنى، إلا أنها لا تقع من المصادر إلا على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها، وسيأتي شرح ذلك وبيانه آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: أليس قد وقعت على ما يعقل في مواضع من القرآن وكلام العرب، خلافاً لما نص عليه النحويون، كقوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) .
وكقوله سبحانه وتعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) .
وكقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) .
قلنا: هي في كل هذا على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام، لم
يرد بها ما يراد بـ " من " التعيين لما يعقل والاختصاص به دون غيره.
ومن فهم جوهر الكلام عرف ما نقوله، واستبان له من الحق سبيله.
أما قوله عز وجل: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، فهذا كلام ورد

(1/140)


في معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ من حيث كان السجود لما يعقل، ولكن لعلة أخرى وهي المعصية والتكبر على ما لم يخلقه، إذ لا ينبغي التكبير لمخلوق على مخلوق مثله، وإنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول له - سبحانه -: لم عصيتني وتكبرت على ما لم تخلقه وخلقته أنا، وشرفته وأمرتك بالسجود له؟ فهذا موضع " ما "، لأن معناها أبلغ ولفظها أعم.
وهو في الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقلع، فلو قال: ما منعك أن
تسجد لمن خلقت، لكان استفهاماً مجرداً من توبيخ وتبكيت، ولتوهم أنه وجد السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلة موجودة في ذاته وعينه. وليس الأمر كذلك، فلا معنى لتعيينه بالذكر، وترك الإبهام في اللفظ.
وكذلك قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) لأن القسم تعظيم للمقسم به.
واستحقاقه للتعظيم من حيث بنى وأظهر هذا الخلق العظيم الذي هو السماء، ومن حيث سواها بقدرته وزينها بحكمته.
فاستحق التعظيم وثبتت له القدرة، كائناً ما كان
هذا المعظم فلو قال: " من بناها " لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم به، من حيث اقتدر على بنيانها، ولكان المعنى مقصوراً على ذاته ونفسه دون الإيماء إلى أفعاله الدالة علي عظمته المنبئة عن حكمتها، المفصحة لاستحقاقه التعظيم من خليقته.
وكذلك قوله سبحانه: (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ، لأن الرعد صوت عظيم
(من جرم عظيم) ، فالمسبح به لا محالة أعظم، واستحقاقه للتسبيح من حيث
سبحته العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم.
ولا نقول: " بعقل " في هذا الموضع، تأدبا وتأسياً بالشريعة.
فإذا تأملت ما ذكرناه، ونظرث في آخر الفصل ما ندكره من " ما " الواقعة على المصدر، استبانت لك جهالة القائلين من النحويين أن " ما " مع الفعل بتأويل المصدر، وأن المعنى: والسماء وبنيانها، فلا لصناعة النحو وفقوا، ولا لفهم التأويل رزقوا، وأكثروا الحز وأخطأوا المفصل وما طبقوا.
وأما قوله عز وجل: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، فما على بابها، لأنها واقعة

(1/141)


على معبوده - عليه الصلاة والسلام - على الإطلاق، لأن امتناعهم عن عبادة الله تعالى ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به، فقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، أي: أنكم لا تعبدون معبودي، ومعبوده هو كان يعرفه دونهم وهم جاهلون به.
ووجه آخر، وهو أنهم كانوا يشتهون مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسداً له، وأنفة من اتباعه، فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشهوتهم لمخالفته في العبادة، كائناً ما كان معبوده وإن لم يكن معبوده إلا
الحق سبحانه وتعالى.
فعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى النبيه الرفيع، إلا
" ما " لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية، وبالله التوفيق.
ووجه ثالث - وهو: ازدواج الكلام - أصل في البلاغة، وبديع في الفصاحة، مثل قوله عز وجل: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) و (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) .
فسمَّى المعاقبة اعتداء لازدواج الكلام وحسن الانتظام.
وكذلك قوله عز وجل: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) ، فاستوى اللفظان
وإن اختلف المعنيان، كما كان ذلك في قوله عز
وجل: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)
وفي قوله عليه الصلاة والسلام:
" إن فلاناً هجاني، فاهجه اللهم ".
هذا حسن من جهة اللفظ، والذي قدمناه أقوى في المعنى، وأنفى
للشك وأجلى للعمى، والله الموفق لسبيل الهدى، والمشكور على ما هب من
نعمى.
* * *
(زيادة فائدة في الآية)
إن قيل: ما الفائدة في تكرير لفظ الفعل على بنية المستقبل حين أخبر عن
نفسه، وتكريره بلفظ الماضي حين أخبر عنهم، فقال: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) ؟.
قلنا: في ذلك إشارة وإيماء إلى عصمة الله - عز وجل - له في الزيغ والتبديل

(1/142)


والانحراف عن عبادة مولاه، وأن معبوده واحد في الحال وفي المآل، وهو له
بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم معرضون لأنهم يعبدون اليوم إلهاً، وغداً آخر، فلذلك قال: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) يعني الآن، (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) أنا الآن أيضاً.
ثم قال: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) يعني فيما يستقبل.
وأدخل فيها معنى الشرط، ولذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو
مستقبل في المعنى، كما يكون ذلك بعد حروف الشرط، كأنه يقول:
مهما عبدتم شيئاً فلا أعبده ".
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، وليس فيها جواب؟.
قلنا: لم نقل إنها شرط محض، ولكن فيها طرف من معناه، لوقوعها على
غير معين وإبهامها في المعبودات، كما كان ذلك في " قوله عز وجل:
(كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) .
حتى وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وقد عمل فيها الفعل
وليس لها جواب، لقربها من الشرطية في المعنى، لأن معنى الكلام:
" من كان في المهد صبياً، فكيف نكلمه؟ "
فجاءت " كان، بلفظ الماضي، والمراد بها الاستقبال لما فيها من معنى الشرط. وهذا كله معنى قول: " الزجاج " وغيره.
فإذا ثبت هذا فلا تنكرن أن يكون في " ما " من قوله تعالى: (ما عبدتم) معنى الشرط، بل هو فيها أبين، وإذا كان كذلك فقد وضحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) .
بخلاف قوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، لبعد " ما " فيها عن معنى الشرط، تنبيهاً من الله تعالى على عصمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع هواه، وتوفيقه إياه إلى أن لا يتخذ رباً سواه، لا إله إلا هو.

(1/143)


فصل
(في وقوع " ما " على المصدر)
قد قدمنا أن " ما " اسم مبهم يقع على جميع الأجناس، والمصدر جنس من
الأجناس، فمعنى وقوعه عليه أن يعني بها مصدراً، ثم تصلها بفعل وفاعل.
ثم تعمل ذلك الفعل في ضمير المصدر، وهو العائد على " ما "، فيكون مفعولًا مطلقاً، تقول: أعجبني ما صنعت، أي: أعجبني الفعل الذي صنعته، كما تقول: أعجبني ما لبست أو ما أكلت، فيكون معناه الثوب الذي لبسته، أو الطعام الذي أكلته.
فكما وقعت على الثوب والطعام وغير ذلك، فكذلك وقعت على المصدر
والظرف وهى في كل هذا بمنزلة " الذي " كما تقدم.
وظن بعض النحويين أن التي يعني بها المصدر ليست بما الأولى، وإنما هي
بمنزلة " أن " مع الفعل، بتأويل المصدر.
وليس كمنا ظنوه، ألا ترى أنك لا تقول:
يعجبني ما تجلس كما تقول: يعجبني أن تجلس وأن تخرج وأن تقعد.
ولا تقول في هذا كله " ما "؟
والأصل في هذا الفصل أن " ما " لما كانت اسماً مبهماً، لم يصح
وقوعها إلا على جنس تختلف أنواعه، فإن كان المصدر مختلف الأنواع جاز أن تقع عليه ويعبر بها عنه، كقولك: يعجبني ما صنعت، وما عملت، وما فعلت.
وكذلك تقول: ما حكمت، لأن الحكم مختلف أنواعه، وكذلك الصنع والفعل والعمل.
فإن قلت: يعجبني ما جلست، وما انطلق زيد، كان غثا من الكلام، لخروج (ما) عن الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوع من المعاني، لأنه يكون التقدير حينئذ:
أعجبني الجلوس الذي جلست، والقعود الذىِ قعدت، فيكون آخر الكلام مفسراً لأوله، رافعاً للإبهام، فلا معنى حينئذ لـ " ما ".
فأما قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) ، فلأن المعصية تختلف أنواعها.
وقوله سبحانه وتعالى: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) .
فهو كقوله: لأعاقبنك بما ضربت زيداً، وبما شتمت عمراً، أوقعتها على الذنب، والذنب

(1/144)


مختلف الأنواع، ودل ذكر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنك قلت: لأجزينك بالذنب الذي هو ضرب زيد، أو شتم عمرو.
فما على بابها غير خارجة عن إِبهامها.
وأما قولهم: طالما أقمنا في هذا المكان وطالما قعدنا، فما واقعة على الزمان.
والفعل بعدها متعد إلى ضميره، والتقدير: طال زمان أَقمنا فيه وقعدنا فيه، والزمان مبهم وأما قولهم: كلما جاء زيد كلمته، فما التي أضيف إليها (كل) ظرف زمان في المعنى فهما كالتي قبلها.
وأما قولهم: اجلس ما جلس زيد، و (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فقد ظن أكثر الناس أنها بمعنى المصدر ها هنا.
وقد تبين فساد هذا المذهب، لأن الفعل ههنا خاص غير عام، ولكنها كافة للخافض، ومهيئة لكاف التشبيه أن يقع بعدها
الفعل، كما كانت كذلك في " رب " من قوله عز وجل:
(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) .
وفي (إنَّ) من قولك: إنما يقوم زيد، كفتها عن العمل، وهيأتها
لوقوع الفعل بعدها، وكذلك كفت " رب " و " كاف " التشبيه عن العمل، وهيأتها لوقوع الجمل بعدهما.
والشاهد بما قلناه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: (كَمَا أَنْتَ) ، (فأَنْتَ) مبتدأ والخبر محذوف فلا مصدر ههنا، لأنه لا فعل ثم، فكذلك هي مع " الكاف " إذ كان ثم الفعل.
فهذا بين لا خفاء به، وكذلك هي مع " بعد " من قولك: " بعدما جلس عمرو ".
وليست مصدرية لما تقدم من إبطال ذلك، ولكنها كافة
لبعد عن الخفض، مهيئة لوقوع الجمل بعدها، ألا ترى إلى قول الشاعر: أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بعدما ... أَفْنانُ رأْسِكِ كالثَّغامِ المُخْلِس؟.

(1/145)


فليس ها هنا فعل فيكون معها مصدراً، كما لم يكن ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " كَمَا أَنْتَ ".
فإن قيل: فما بالهم لم يفعلوا في " قبل " ما فعلوا في " بعد " فيقولوا:
" جئت قبل ما ذهب زيد "، كما قالوا: - بعدما؟.
قلنا: في امتناعهم من ذلك في " قبل " شاهد لما قدمناه، من أنها ليست بمصدر، لأنه لا يمتنع: قبل أن يقول زيد، فيكون أن مع الفعل بمعنى المصدر.
فإن قيل: فلم لا تكون كافة لقبل، مهيأة لوقوع الجمل بعدها كما كانت كذلك في بعد؟
قلنا: لا يصح أن توجد كافة الأسماء بالإضافة، فإنها تكون كافة
الحروف وما ضارعها، و " بعد " أشد مضارعة للحروف من " قبل "، لأن
" قبل " كالمصدر في لفظها ومعناها، تقول: " جئت قبل الجمعة ".
تريد الوقت الذي تستقبل فيه الجمعة والجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابلة، كما قال الشاعر:
. . . . نحج معاً قالت أعاما وقابله
فإذا كان العام الذي بعد عامك يسمى فابلاً فعامك الذي أنت فيه قبل، ولفظها من لفظ قابل.
فقد بأن ذلك من جهة اللفظ والمعنى أن " قبل " مصدر في الأصل
والمصدركسائر الأسماء لا يكف به ولا يهيأ لدخول الجمل بعده، وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل، لا في شيء من الأسماء.
وأما " بعد " فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ البعد ومن

(1/146)


معناه، فليس قربها (من لفظ) المصدر (كقرب) قبل، ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسم فاعل، فيقولون في العام الماضي: باعد، كما قالوا في العام المقبل:
قابل فقابل اسم فاعل من الفعل الذي قبل مصدر له.
فتأمل هذا فإنه مفيد دقيق، وقد جلوته لك في منصة التحقيق.
* * *
فصل
(في ما الموصولة)
اعلم أن " ما " إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري - سبحانه وتعالى - فلا يصح وقوعها إلا على مصدر، لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: عملت جبلاً، ولا: صنعت جملًا ولا حديداً، ولا حجراً، ولا ترابا ولا شجراً.
فإذا ثبت ذلك وقلت: أعجبني ما عملت وما فعلت زيد، فإنما تعني الحدث. فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله سبحانه:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) .
إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالكم.
ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول، لأنهم

(1/147)


زعموا أن " ما " واقعة على الأصنام والحجارة التي كانوا ينحتونها، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكاراً منهم بأن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه.
واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوه، لأنه قد تقدم:
(أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) ، فما واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى أما النحو فقد تقدم أن " ما " لا تكون (مع) الفعل الخاص مصدراً.
وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم كذلك " ما " فيها واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون حجارة تنحتونها، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟
هذا كله، معنى قول المعتزلة.
وشرح ما شبهوا به، والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والمعنى لا يصح غيره.
والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال، لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال
العباد لا تقع على الجواهر والأجسام.
فإن قيل: فقد تقول: عملت الصفحة، وصنعت الجفنة، وكذلك الأصنام
معمولة على هذا؟.
قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب.
وهي نفس العمل (وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا، فقد رجع
العمل) والفعل إلى الأحداث دون الجوهر.
وهذا إجماع منا ومنهم، فلا يصح حملهم على غير ذلك وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجار الكلام فهو ظاهر.
وتأويلنا معدوم في تأويلهم، لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة
لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق شيئاً
و (هم يخلقون) فقال:

(1/148)


(أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) ، أي: ما لا يخلق شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ.
وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون، ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم، لما قامت له حجة (عليهم) من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق لأجناس أخر، فيشركهم معه في الخلق - تعالى الله عن
قول الزائغين، ولا ولعاً لعثرات المبطلين - فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم! وما أبين الحق لمن اتبعه. . نسال الله الكريم أن يجعلنا من أتباع الحق وحزبه، وأن يعصمنا من شبه الباطل وريبه.
وهذا الذي ذكرناه هو الذي قاله أبو عبيد في قول حذيفة:
" إن الله يخلق صانع الخزم وصنعته ".
واستشهد بالآية، وخالفه القتبي في (إصلاح الغلط) ، فغلط أشد الغلط، ووافق المعتزلة في تأويلها وإن لم يقل بقيلها.
وتلخيص ما تقدم أن " ما " وغيرها من الموصلات إذا عيت بها المصدر، لم
يجز أن تكون الصلة فعلاً مشتقاً من ذلك المصدر، لأن الصلة كالصفة توضح

(1/149)


الموصول وتبينه والشيء لا يبين نفسه، إذ لا معنى في الفعل أكثر من الدلالة على المصدر، إلا أن تختلف أنواعه، فتكون الصلة مميزة بين نوع ونوع.
* * *
مسألة
(في ياء المتكلم، والنون)
قوله: فإن ظهر اسمك فيه النون والياء، فغيرك فيه مرفوع، لأنها ضمير
المفعول به، كقوله: أعجبني وأسخطني وأرضاني وسرني. وإن ظهر اسمك فيه
بالتاء فغيرك فيه منصور، لأنها ضمير الفاعل.
كقولك: كرهت وأحببت واشتهيت، والضمير عند النحويين هي " الياء " وحدها، و " النون " زائدة، زيدت وقاية لآخر الفعل من كسرة.
واستدلوا على ذلك بالقياس على ضمير المخاطب، فإنه
" كاف " في حال النصب والخفض. وكذلك ضمير الغائب " هاء " في حال النصب والخفض، و " النون " زائدة.
وهذا قياس صحيح.
ولكن النص أقطع من القياس، وأرفع للشك والالتباس.
والنص في ذلك للعرب: لعلي، وليتي، قال الله سبحانه
وتعالى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ) .
فهذه ياء مفردة في حال النصب.
وكذلك قول ورقة بن نوفل:

(1/150)


فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا
فجعل اسم ليت " ياء " مفردة دون " نون ".
ووجه آخر وهو جعلهم " النون " مع " الياء " بعد حروف الخفض، نحو
قولهم: مني، وعني، ومن لدني، كيلا يتوهم أن " عن "، و " لدن، و " من " أسماء مضافة إلى الياء، فإذا وجدت النون والياء في موضع الخفض، ووجدت الياء مفردة في موضع النصب، ثم وجدا معاً في موضع نصب، علم قطعاً أن " الياء " هي الضمير دون " النون ".
فإن قيل: فما فائدة النون؟
ولم خصت بهذا الموطن دون سائر الحروف؟
فالجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له عن توهم الإضافة إلى " الياء " وكيلا يظن ببعض الكلم أنها أسماء مضافة، والإضافة فيها محال، فألحقوها علامة الانفصال، وعلامة الانفصال في أكثر الكلام هي النون الساكنة، كما تقدم في التنوين فإنها لا توجد في الكلام إلا علامة لانفصال الاسم، حتى أدخلوها في القوافي في الاسم المعرف بالألف واللام، إشعاراً بتمام البيت وانفصاله مما بعده.
كقوله:
. . . . . . الدموع الذرافن
أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابَنْ

(1/151)


في الوصل، فإن وقفوا استغنوا عنها.
وقد تقدم من قولنا في " إذن " و " يومئذ " ما يغنى عن إعادته.
وكذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين أرادوا فصل الاسم من العلامة، كقولهم: أزيد إنيه! وقول الأنصارية - وقد خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنتها لجليبيب -: " أجليبيب إنيه ".
ومن العرب من لا يحق هذه النون قبل علامة الإنكار، فيقول في
" عمر " مرفوعاً: أعمروه.
وفي " زيد " مرفوعاً: أزيدنيه يحرك التنوين بالكسر، فتنقلب العلامة ياء.
ومنهم من يزيد فصل الاسم عن العلامة كيلا يتوهم أنها من تمام الاسم أو
علامة جمع، فيفصل بين الاسم وبينها بنون زائدة يدخل عليها ألف الوصل
لسكونها، ثم يحركها بالكسر لالتقاء الساكنين، كما تقدم.
فلما كان من أصلهم تخصيص النون بعلامة الانفصال، وأرادوا فصل الفعل وما ضارعه عن الإضافة إلى الياء، جاءوا بهذه النون الساكنة، ولو سكنوا الياء لكانت ساكنة كالتنوين، ولكنهم كسروها لالتقاء الساكين، كما كسروا التنوين في زيدنيه، وبالله التوفيق.
* * *
مسألة
قوله ما دعاك إلى الخروج؟
والمعنى: أي شيء دعاك إلى الخروج؟
" ما ": إذا كانت استفهاماً لم يكن لها صلة، لأنها تنوب مناب ألف الاستفهام والاسم المستفهم عنه، فلو كان ما بعدها صلة لم يجز أن يعمل فيها، لأن الشيء لا يعمل بعضه في بعض وإذا لم بجز أن يعمل فيها، ولا ثَمَّ عامل غيرها، بطل خلو الاسم من أن يكون معمولًا فيه، إذ حد الاسم: ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً، أو دخل عليه حرف من حروف الخفض.
فإن قيل: وما يؤمنكم أن يكون الفعل الواقع بعدها صلة غير عامل فيها، بل في

(1/152)


ضمير عائد عليها، ويكون العامل فيها مضمراً تقديره: " اعلمني "
أو: " بين لي " ما أكلته أو شربته.
قلنا: دخول حرف الجر عليها في قولك: لم جئت؟ و: فيم رغبت؟ - دليل قاطع في أن ما بعدها عامل فيها، وظهور الإعراب في " أي " التي في معناها دليل آخر أيضا.
ووقوع الاسم المفرد بعدها دليل آخر ثالث، لأن الاسم المفرد لا يكون صلة
إلا على حذف بقبح، وذلك قولك: ما زيد؟ و: ما ذاك؟ ونحوه.
وأما إعرابها إِذا كانت استفهاماً، فعلى حسب ما يكون الاسم المستفهم عنه.
فإذا قلت: ما العين؟ فهي في موضع الخبر، لأنه المسؤول عنه.
وإذا قلت: ما أصابك؟ فهي في موضع المبتدأ، وسائر أحكامها واضح، إلا أن حذف الألف منها في حال الخفض له سر، وهو أنهم أرادوا مشاكلة اللفظ للمعنى، فحذفوا الألف كما أسقطوا الصلة، ولم يحذفوا في حال النصب والرفع، كيلا تبقى الكلمة على حرف واحد.
فإذا اتصل بها حرف الجر أو اسم مضاف اعتمدت عليه، لأن الخافض
والمخفوض بمنزلة واحدة أو بمنزلة كلمة واحدة.
نعم، وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض، ولكن إذا حذفوا الخبر.
يقولون: مه يا زيد؟ (أي) : ما الخبر؟ وما الأمر؟ فحين كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ.
ولكن لا بد من هاء السكت لنقف عليها.
ومنه قولهم: " مهيم "؟ ، كان الأصل: مه يا امرؤ؟ أو: يا مقبل؟
ثم حذفوا إيجازاً وتخفيفا، كما قالوا: إيش؟ يريدون: أي شيء؟ و: م الله. يريدون أيمن الله.
ثم صيروا الكلمتين كلمة واحدة، فقالوا: مهيم قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف، حين رأى عليه خلوقاً، فأنكره.
* * *
(فصل)
وأما " أي " فمعرب بخلاف أخواته لتمكنه بالإضافة.
وإنما لزمته الإضافة لأنه

(1/153)


وضع لتمييز البعض وتعيينه، فلا بد من إضافته إلى الجملة كما يضاف البعض إلى الكل فإن جعلته موصولاً عمل فيه ما قبله ولم يجز الإلغاء، وإن جعلته استفهماماً عمل فيه ما بعده ولم يجز أن يقع قبله إلا ما يجوز إلغاؤه كأفعال العلم والشك الداخلة على ما حقه الابتداء، فتقول: أيهم أخوك؟
ولا تقول: ضربت أيهم أخوك، لأن " ضربت " لا يلغى، ولا: (أيهم أخوك) بالنصب، لأن الاسم المفرد لا يكون صلة.
فإن أضمرت مبتدأ كأنك تقول: (ضربت) أيهم هو أخوك، لتجعلها بمنزلة " الذي " فحذف ذلك المبتدأ قبيح في الكلام، وربما جاز على قبحه.
ولذلك اختلفوا في إعراب قوله عز وجل: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) :
ذهب الخليل إلى أنه محكي، كأنه يذهب إلى أن المعنى: لنقولن: أيهم
أشد؟.
وذهب سيبويه إلى أنها اسم مبني في موضع المفعول، وبني لمخالفته
نظائره، حيث لم يوصل بجملة، والتقدير عنده: أيهم هو أشد.
فلو صرحت بـ " هو " لنصبت ثم بـ " ننزعن "، فلما اختزلت بنيت " أي " لمخالفته النظائر، كما تقدم -.
وهذا الذي ذكره لو استشهد عليه بشاهد من نظم أو نثر، أو وجدناه بعده في كلام فصيح شاهداً له لم نعدل به قولاً، ولا رأينا لغيره عليه طولًا، ولكنا لم نجد ما بني لمخالفته غيره، لا سيما مثل هذه المخالفة، فإنا لا نسلم أنه حذف من الكلام شيء.
وإن قال: إنه حذف ولا بد، والتقدير: أيهم هو أخوك؟.
فيقال: فلم لم يبنوا النكرة فيقولون مررت برجلٍ أخوك، أو: رأيت رجلاً
أبوك؟.
ولم خص " أي " بهذا دون سائر الأسماء أن يحذف من صلته ثم يبني للحذف؟
ومتى وجدنا شيئاً من الجملة يحذف ثم يبنى الموصوف بالجملة من أجل ذلك

(1/154)


الحذف؟ وذلك الحذف لا يجعله متضمناً لمعنى الحرف ولا مضارعاً له.
وهذه علة البناء وقد عدمت في أي!
وإنما المختار قول الخليل، لكن يحتاج إلى شرح، وذلك
أنه لم يرد بالحكاية ما سبق إلى الوهم من تقدير معنى القول، ولكنه أراد حكاية لفظ الاستفهام الذي هوأصل في " أي "، كما تحكيه بعد العلم إِذا قلت: قد علمت أخوك؟ و: أقام زيد أم قعد؟ فقد تركت الكلام على حاله قبل دخول الفعل، لبقاء معنى الاختصاص والتبيين في " أي " الذي كان موجوداً فيها وهي استفهام، لأن ذلك المعنى هو الذي وضعت له، استفهاماً كانت أو خبراً، كما حكوا لفظ النداء في قولهم: " اللهم، اغفر لي أيها الرجل " و " ارحمنا أيتها العصابة "، حكي لفظ هذا
إشعاراً بالتعيين والاختصاص الموجود في حال النداء.
وكذلك هذا، حكيت حاله في الاستفهام وإن ذهب الاستفهام، كما حكيت حاله في النداء وإن ذهب النداء، لوجود معنى الاختصاص والتعيين فيه.
وقول يونس: " إن الفعل ملغى " حق، وإن لم يكن من أفعال القلب.
وعلة إلغائه قد قدمناه من حكاية لفظ الاستفهام للاختصاص.
فإذا أتممت الصلة وقلت: ضربت أيهم هو أخوك، زالت مضارعة الاستفهام، وغلب عليه معنى الخبر، لوجود الصلة التامة بعده، وكان إلحاقه بالأسماء الموصولة أولى من تشبيهه بحال الاستفهام.
وأما قوله سبحانه وتعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . وإجماعهم على أنها موصولة بـ " ينقلبون " لا بما قبلها.
وقد كان يتصور فيها أن تكون منصوبة بـ " يعلم " لا على جهة الاستفهام، ولكن تكون موصولة، والجملة صلتها، والعائد محذوف.
ولكن منع من هذا الوجه أصل قدمناه، ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إِذا عني به المصدر، ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر، لم يجز، لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة، وهي إيضاح الموصول وتبيينه، والمصدر لا يوضح بفعله المشتق من لفظه، لأنه كأنه هو لفظاً ومعنى، إلا في المختلف الأنواع كما تقدم.

(1/155)


ووجه آخر أقوى من هذا، وهو أن (أي) لا يكون بمعنى (الذي) حتى يضاف
إلى معرفة، فتقول: لقيت أيهم في الدار، (إذ) من المحال أن يكون بمعنى الذي هو نكرة، و " الذي " لا ينكر.
وهذا أصل يبنى عليه في " أي ".
* * *
فصل
(في تحقيق معنى " أي ")
وهو أن لفظ " ألف " و " ياء " مكررة، راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين
والتمييز للشيء من غيره، فمنه: أياه الشمس، لضوئها، لأنه ضوء يبينها ويميزها من غيرها.
والآية: العلامة على الشيء.
و: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم التي
تتميز بها ويتميزون بها من الاختلاط بغيرهم.
قال الشاعر:
خَرَجْنا من القُفَّينِ لا حَيّ مِثْلنا ... بآيتنا نُزْجي اللِّقاح المَطافِلا
ومنه: تأييت بالمكان، أي: تلبثت لتتبين شيئاً وتميزه.
قال امرؤ القيس بن عابس:
قِفْ بالدِّيارِ وُقوفَ حابس ... وتَأَيَّ إنَّك غَيْرُ يائس
وقال الكميت:

(1/156)


وتَأَيَّ إنَّك غَيْرُ صاغرْ
ومنه: تأييت بالمد، أي: تظاهرت حتى عرفت وميزت.
ومنه: إياك، وإياي، هما في المضمرات.
وقد أشار الخليل إلى أنه اسم ظاهر، فاشتقاقه مما تقدم، لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم، والمفعول إنما يتقدم على فعله قصداً إلى تعيينه، وحرصاً على تبيينه، وصرفا للوهم عن الذهاب إلى غيره
ولذلك لم يجز أن يتأخر عن الفعل في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض
الأوهام عن الخلوص التام، ولهذا اختصت " أي " بنداء ما فيه " الألف واللام "، تمييزاً له وتعييناً، ولذاك صير بعض لفظها حرفا من حروف النداء في قولك: أي زيد، وتفسيراً لقولهم: عندي عهن، أي: صوف.
إلى غير ذلك من تصرفات هذا اللفظ.
وأما وقوع " أي " نعتاً لما قبلها، كقولك: مررت برجل أي رجل، فإنما تدرجت إلى الصلة من الاستفهام، كأن الأصل: أي رجل؟ على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله التفخيم لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة بوصفه، فكأنه مما يستفهم عنه إذ يجهل كنهه.
فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوع لما يجهل، لذلك قال الله
سبحانه: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) و (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) .
أي: إنها لا يحاط بوصفها.
فلما ثبت هدا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قرب من النعت
والوصف، حتى أدخلوه في باب النعت، وأجروه في الإعراب ما قبله. ونظائر هذا فىِ كلامهم كثيرة.

(1/157)


ويدلك على دخول الاستفهام في باب النعت قول الراجز:
حتى إذا كاد الظلام يختلط ... جاءوا بمذق هَلْ رأَيتَ الذِّئْبَ قَطْ؟ ؟
أي: فإنه في لون الذئب، إن كنت رأيت الذئب.
ويقول القائل: مررت بفارس شجاع هل رأيت الأسد؟
أي: فإنه مثله.
ويشبه هذه المسألة في التدريج ما نذكره في باب النعت (من قولهم) :
مررت برجل حسن أبوه.
(والأصل: حسن أبوه) بالرفع.
والله المستعان، (وبه التوفيق) .
* * *