نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي (باب النعت)
النعت: تخصيص الاسم بصفة هي له، أو لسبب يضاف إِليه.
وهو مصدر نعت الشيء أنعته، ثم سموا الاسم التابع للمنعوت نعتاً.
وإنما هو اسم منعوت به، كما يقال: درهم ضرب الأمير.
و" هؤلاء خلق الله "، أي: مخلوقون.
(1/158)
فإن قيل: فالاسم الأول كان أحق أن يسمى
نعتاً، لأنه المنعوت في الحقيقة.
والثاني انما هو منعوت به؟
فعن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الاسم الثاني الذي هو نحو " عاقل " و " عالم " هو المقصود
ببيان
أحكامه، فوقعت التسمية عليه.
الجواب الثاني: - وهو التحقيق -: أن اللفظ الدال على المعنى هو النعت
على الحقيقة في هذا الباب، لأنه فعل الناعت، دون المعنى الذي يعبر عنه،
وذلك في ألفاظ النحويين كثير، إذ من ألقاب النحوية ما هو نفس العبارة
في الحقيقة، كقولهم: تمييز، وتوكيد، بأن هذه كلمات هي أنفس العبارة،
فهي مصادر على الحقيقة، وليس كذلك الظرف والفاعل والمفعول، فإنها واقعة
على المسميات والمعاني المعبر عنها، ألا ترى إلى قول أبي القاسم:
فالاسم ما جاز أن يكون فاعلًا أو مفعولًا.
يريد الشخص المسمى لأنه الفاعل دون اللفظ.
ثم قال: أو دخل عليه حرف من حروف الخفض.
والخفض لا يدخل على المسمى ولكن على اللفظ الذي هو
الاسم.
* * *
فصل
(في أقسام النعت)
النعت في المحدثين يكون بالصفة المعنوية نحو: عاقل وعالم، وبصفة في
معنى النفي كقولك: واحد وظاهر، لأنها، لا تدل على معنى زائد موجود في
نفس المنعوت، وإنما تدل على نفي شيء عنه.
ويكون بصفة فعلية، إلا أنها الفعل في المحدثين راجع إلى الصفة
المعنوية، لأن الفعل منهم هو حركة الفاعل، والحركة معنى في الذات،
بخلاف أفعال الباري - سبحانه - فإنها ليست بحركة فاعل.
وإنما هي في غيره لا في نفسه.
وأما الصفة النفسية نحو فولك: " جوهر متحيز " و " جسم متألف " فلا
تجدها نعتاً في كلام العرب، لأن المخاطب إن عرف النفس
المنعوتة فقد عرف صفاتها النفسية، فاستغنى عن النعت، وإن لم يعرفها
أخبر بما فيها حتى يعرفها.
(1/159)
فخرج من مضمون ما قلناه أن النعت قسمان:
صفة معنوية، وصفة نفس، وأن الصفة الفعلية نحو: رجل قائم، معنوية
(أيضاً) ، لأن الفعل حركة كما تقدم.
وثم قسم ثالث، وهو النعت المنبئ عن الكثرة والجمع، وذلك ليس بصفة
تقوم بالمنعوت، كقولك: رجل طويل، لأن الطول ينبئ عن كثرة أجزاء، ومال
كثير وبيت كبير، وأشباه ذلك.
وجميع ما تقدم من أقسام النعوت يختص بالجواهر دون الأعراض، إلا النعت
المنبئ عن الكثرة والزيادة في الأدوات، فلا يكون في الجواهر والأعراض،
تقول:
علم كثير وحركة سريعة، وهو مجاز، لأن سرعة الحركة راجع في التحقيق إلى
حركات كثيرة متواليات. نعم، وقد يوجد في كلام نعت الأعراض بالصفات
النفسية نحو قولهم: سواد شديد، وبياض ناصع، وحمرة قانية، وحرارة شديدة
إلا أن هذه
النعوت راجعة عند الأشعرية إلى كثرة الأجزاء المتصفة بها، وليست عندهم
كصفات الألوان ولا الأعراض، لا معنوية ولا نفسية.
وذهب غيرهم من المنطقيين إلى أنها صفات نفسية وعبروا عنها بالكيفيات
وإلى هذا القول ذهبوا، فما تميز سواد من سواد، ولا بياض من بياض حتى
صارت أنواعاً مختلفة إلا بصفات ذاتية وأحوال نفسية، وهي الكيفيات، ولكن
اللغات ضاقت عن وضع ألقاب لجميع أنواع الأعراض، فرجعت إلى وصفها بما هو
مجاز في حقها، أو بتمييز بعضها من بعض بالإضافة إلى جواهرها، كقولهم:
رائحة مسك، ورائحة تفاح.
فنعوت الجواهر ثلاثة أقسام سوى الصفة النفسية، ونعوت الأعراض ثلاثة:
صفة نفسية وصفة نفي بهو لا حادث، وصفة تنبئ عن كئرة ذوات وليست بصلة في
الحقيقة، وإنما الصفة في الحقيقة ما يضاف إلى ذات واحدة.
وأما صفات الباري - سبحانه - فلا نرى أن نسميها نعوتاً، تحرجا من إطلاق
هذا اللفظ لعدم وجوده في الكتاب والسنة.
وقد وجدنا لفظ الصفة في الصحيح،
(1/160)
حيث قال عليه السلام للرجل الذي كان يقرأ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
في كل ركعة: لم تفعل؟
فقال: أحبها لأنها صفة الرحمن "، فإذا ثبت ذلك فصفاته - سبحانه -
تنقسم أربعة أقسام:
نفسية كقولك: موجود، وإله، وذات، وشيء.
ومعنوية كقولك: عالم وقادر، لأنها تنبئ عن معنى زائد على ذاته سبحانه.
وصفة نفي كقولك: واحد وقدوس، لأنها تنبئ عن نفي ثان، وعن نفي النقائص
وما لا يليق بجلاله سبحانه.
وصفة فعل كقولك: خالق، ورازق، وهي معنوية في المحدثين، كما تقدم.
وعندي قسم خامس وهو الأسماء الجملية، وهو ما دل كل واحد منها على
معان لا على معنى مفرد، كقولك: عظيم ومجيد وكريم، فإن كل واحد من هذه
الأسماء لا ينبئ عن معنى مفرد، فإن العظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات
المدح، والمجيد كذلك إنما هو في معنى الزيادة في الشرف على غيره، "
استمجد المرخ والعفار "، و " أمجد الناقة علفاً ".
وكذلك تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطلب الزيادة من ربه
تعالى حين سأله الصلاة عن نفسه، وعلَّم أمته كيف يصلون عليه، فقال: "
كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد "، (فطلب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - المزيد من صلاته التي صلاها أن يصلي عليه.
كما صلى على إبراهيم، وتعرض للمزيد بقوله: " إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "
لما سمعه يقول: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) .
ولم يصرح بطلبه تأدباً مع أبيه الخليل عليه السلام، فجمع
عليه السلام بين الأمرين، إذ في ذكر الاسم من أسمائه - سبحانه وتعالى -
تعرض من العبد لطلب مقتضاه وما يدل عليه فحواه، فإذا قلت: يا غفور،
فأنت طالب للمغفرة،
(1/161)
وإذا قلت: يا رزاق، فأنت طالب للرزق، وكذلك
لما أعطى - عليه الصلاة والسلام - درجة أبيه إبراهيم - صلى الله عليهما
- في النبوة والخلة، ولم يستحل عنده المزيد.
ولا أمكنه التصريح به تأدباً، كما قلناه - تعرض إليه بقوله:
(إنك حميد مجيد) .
ويشهد بصحة ما قلناه قول المفسرين في قول المسيح عليه السلام:
(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
ولم يقل: " إنك أنت الغفور الرحيم "
قالوا: " لأنه لم يرد أن يستغفر لهم ".
* * *
فصل
(في الذي ينعت به)
والاسم المفرد لا يكون نعتاً، ونعنى بالمفرد ما دل على معنى واحد، نحو:
علم وقدرة وإنما لم يكن نعتاً لأنه لا رابط بينه وبين الاسم الأول،
لأنه اسم
جنس على حاله، فإن قلت: ذو علم، وذو قدرة كان الرابط بينه وبين الاسم
المنعوت قولك: ذو.
وإن قلت: عالم وقادر كان الرابط بينه وبين المنعوت
الضمير المستتر فيه العائد على ما قبله.
فكل نعت وإن كان مفرداً في لفظه فهو دال على معلومين، حامل ومحمول.
فالحامل هو الاسم المضمر، والمحمول هو الصفة.
(1/162)
وإنما أضمر في هذا الاسم وأشباهه ولم يضمر
في المصدر الذي هو الصفة
في الحقيقة، لأن هذا الاسم مشتق من الفعل، والفعل هو الذي يضمر فيه
دون المصدر، لأنه إنما صيغ من المصدر ليخبر به عن فاعل، فلا بد له مما
صير من أجله إما ظاهراً وإما مضمراً، وليس كذلك المصدر، لأنه اسم جنس،
فحكمه حكم سائر الأجناس، ولذلك ينعت الاسم بالفعل لاحتماله اللضمير،
تقول: مررت برجل ذهب، فيجري مجرى ذاهب.
فإن قيل: وأيهما هو الأصل في باب النعت؟.
(قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت) ، والفعل أصل لذلك الاسم في
غير باب النعت.
وإنما قلنا ذلك لأن حكم النعت أن يكون جارياً على المنعوت في
رفعه ونصبه وخفضه، لأنه هو هو مع زيادة معنى، ولأن الفعل أصله أن يكون
له صدر الكلام لأنه عامل في الأسماء، وحق العامل التقديم على المعمول،
لا سيما على قول من زعم أن النعت يعمل فيه العامل في المنعوت. فعلى هذا
القول لا يتصور كون الفعل أصلاً في باب النعت، لأن عوامل الأسماء لا
تعمل في الأفعال.
وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
* * *
فصل
(في نعت النعت)
إذا ثبت ما قدمناه، (فينبغي أن لا يجوز أن ينعت النعت) ، فتقول: مررت
برجل عاقل كريم، على أن يكون " كريم " نعتاً لعاقل، ولكن نعتاً للاسم
الأول.
(1/163)
وكذلك: عزيز حكيم، وسميع عليم، لأن النعت
ينبئ عن الاسم المضمر
وعن الصفة، والمضمر لا ينعت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دلَّ
على الفعل والفاعل، والجملة لا تنعت، ولأنه يجري مجرى الفعل في رفعه
للأسماء، والفعل لا ينعت.
وكذلك قال (ابن جني) هذا كله.
ولا يمتنع عندي نعته في بعض المواطن، بعد أن يجري النعت الأول مجرى
الاسم الجامد فيكون خبراً عن مبتدأ أو بدلاً (من اسم جامد، وأما نعتاً
محضا يقوى فيه معنى الرفع، فما أراه) يجوز ذلك فيه.
* * *
(فصل)
ولما قدمناه من افتقاره للضمير فإنه لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت.
فتقول: جاءني طويل، و: رأيت شديداً وخفيفاً.
وامتناع ذلك لوجهين:
أحدهما: احتماله (الضمير) ، فإذا حذف المنعوت لم يبق للضمير ما يعود
عليه.
والثاني: عموم الصفة، فلا يدري الموصوف بها ما هو؟.
فإن أجريت الصفة مجرى الاسم مثل: جاءني الفقيه، و: جالست العالم.
خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء.
وإن جئت بفعل مختص بنوع من الأسماء وأعملته في نعت مختص بذلك النوع،
كما حذف المنعوت حسناً، كقولك:
أكلت طيباً، و: لبست ليناً، و: ركبت فارها.
ونحو من هذا: أقمت طويلاً، و: صحوت سريعاً، لأن الفعل يدل على المصدر
وكثرة الزمان، فجاز حذف المنعوت
ههنا لدلالة الفعل عليه.
وقريب منه فوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) .
لدلالة الذرية على الموصوف بالصفة.
وإن كان في كلامك حكم منوط بصفة، اعتمد الكلام على تلك الصفة
واستغنى عن ذكر الموصوف كقولك: مؤمن خير من كافر، و: غني أحظى من فقير،
(1/164)
و: المؤمن لا يفعل كذا، و: (لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) :
" الكافر يأكل في سبعة أمعاء ".
وكقولهم في الشعر:
وأبيض كالمخراق
وأسمر خطي. . . . ..
وأشباه ذلك، لأن الفخر أو المدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف.
فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام:
1 - نعتٌ لا يجوز حذف منعوته (كقولك: رأيت سريعاً، و: لقيت خفيفاً.
2 - ونعت يقبح حذف منعوته، وهو مع ذلك جائز كقولك: لقيت ضاحكاً، أو:
رأيت جاهلاً، وإنما جاز لاختصاص الصفة بنوع واحد من الأسماء.
3 - ونعت يستوي فيه حذف الموصوف وذكره، كقولك: أكلت طيباً.
و: شربت عذباً، لاختصاص الفعل بنوع من المفعولات.
4 - وقسم يقبح فيه ذكر الموصوف لكونه حشواً في الكلام، كقولك: أكرم
الشيخ، و: وقر العالم، و: أرفق بالضعيف، لتعلق الأحكام بالصفات
واعتمادها عليها بالذكر.
(1/165)
5 - وقسم لا يجوز فيه ألبتَّة ذكر الموصوف،
كقولك: دابة، وأبطح وأبرق، وأجرع - للمكان - وأسود - للحية - وأدهم -
للقيد - وأخيل - للطائر.
فهذه في الأصول نعوت، ألا تراهم لا يصرفونها ويقولون في المؤنث: بطحاء،
وجرعاء، وبرقاء.
ولكنهم لا يجرونها نعتاً على منعوت، فنقف عندما وقفوا ونترك القياس إذا
تركوا.
والله المستعان.
* * *
فصل
(وهو الموعود به في آخر باب الفاعل والمفعول)
إذا نعت الاسم بصفة هي لسببه، فإن فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو الأصل - أن تقول: مررت برجل حسن أبوه، بالرفع.
وإنما قلنا: إن هذا هو الأصل، لأن الحسن ليس له فيجري صفة عليه.
وإنما ذكرت الجملة لتميز بها بين الرجل وبين من ليس عنده أب كأبيه،
فلما تميز بالجملة من غيره صارت هي موضع النعت وتدرجوا من ذلك إلى أن
قالوا: حسن أبوه، فأجروه نعتاً على الأول، وإن كان للأب، من حيث تميز
به وتخصص كما يتخصص بصلة نفسه.
والوجه الثالث، برجل حسن الأب، فيصير نعتا للأول، وتضمر فيه ما يعود
عليه، حتى كان الحسن له.
وإنما فعلوا ذلك مبالغة وتقريباً للسبب، وحذفاً
للمضاف وهو الأب وإقامة للمضاف إليه مقامه وهو الهاء، فلما قام الضمير
مقام الاسم المرفوع صار ضميراً مرفوعا، فاستتر في الفعل، ففلت: برجل
حسن، ثم أضفته إلى السبب الذي من أجله صار حسنا وهو الأب، ودخول الألف
واللام على السبب إنما هي لبيان الجنس، على ما يأتي بيانه في باب
الصفة، إن شاء الله تعالى.
وهذا الوجه الثالث لا يجوز إلا في الموضع الذي يجوز فيه حذف المضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه.
وذلك غير جائز على الإطلاق وإنما يجوز حيث يقصدون
المبالغة وتفخيم الأمر، وإن بعد السبب كان الجواز فيه أبعد، كقولنا:
نابح كلب الجار، و: صاهل فرس العبد.
(1/166)
وما امتنع في هذا الفصل فإنه يجوز في الفصل
الذي قبله، من حيث لم يقيموا
فيه مضافاً إليه مقام المضاف.
وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هده الوجوه الثلاثة، من حيث اختلف
اللفظ
فيها، لأن الأصل ألا يختلف لفظان إلا لاختلاف معنى، ولا يحكم باتحاد
المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل.
فمعنى الوجه الأول تمييز الاسم من غيره بالجملة التي بعده.
ومعنى الوجه الثاني: تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو
ذم.
ومعنى الوجه الثالث: نقل الصفة كلها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين
السبب الذي صيره كذلك.
وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببه جداً، كقولك: عظيم القدر، وشريف
الأب، لأن شرف الأب شرف له، وكذلك القدر والوجه.
وههنا يحسن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما تقدم.
* * *
مسألة
(في عدم نعت الضمير)
قوله: " النعت تابع للمنعوت في رفعه ونصبه وخفضه وتعريفه وتنكيره ".
وقد زاد الناس عليه في هدا الفصل فقالوا: " وفي تثنيته وجمعه وإفراده،
وتأنيثه وتذكيره "
وينبغي أن تزاد كلمة أخرى، فيقول: وفي إظهاره، لأن المضمر لا ينعت ولا
ينعت به فلا بد أن يكون نعت الاسم الظاهر (ظاهراً) مثله.
(1/167)
وقد اعتل (أبو القاسم) في امتناع نعت
المضمر بما ذكره في آخر الباب، ولا
أراها علة كافية، لأن غير المضمر من المعارف لا يستغني عن النعت، وإن
كان المخاطب قد عرفه، وليس النعت بآلة تعريف، ولكن الغرض به قد يكون
تحلية للمنعوت، وقد يكون تمييزا بينه وبين غيره ورفعاً للالتباس.
والمضمر قد يحتاج إلى هذا كله، ألا تراه يبدل منه للبيان، ويؤكد وإنما
المانع
من نعته غير ما ذكره (أبو القاسم) وهو أن المضمر إشارة إلى المذكور،
والإشارة لا تنعت إنما ينعت المشار إليه، فإذا أضمرت بعد ذكر، ثم أردت
أن تنعت فإنما يجري النعت على الظاهر لا على علامة الإضمار التي هي
إشارة إليه.
وكذلك المبهم عندي أيضاً لا ينعت إنما يبين بالجنس الذي يشير إليه.
كقولك: هذا الرجل، فالرجل تبيين لـ " هذا " أي: عطف بيان، وتبيينه
بالجنس الذي يشير إليه آكد من تحليته بالنعت.
فإذا عرفت المخاطب ما الذي تشير إليه قححِنثذ فانعته إن شئت أو لا
تنعته، ولا معنى لوصف " هذا " و " ذلك " بصفة مضافة.
وهو إشارة كالإشارة باليد والرأس، حتى يذكر المشار إليه.
* * *
مسألة
(من الإضافة)
قوله: " والمعرفة خمسة أجناس. . . " إلى آخر الفصل.
(1/168)
التعريف ينقسم قسمين: تعريف معنوي وتعريف
لفظي، فالتعريف المعنوي
كالعلمية في الأسماء الأعلام، لأن لفظها واحد قبل التسمية وبعده،
والتعريف اللفظي كتعريف ما فيه " الألف واللام ".
والمبهم والمضمر عندي تعريف لفظي، لأن صيغة الإضمار والإبهام لفظ
بمنزلة الألف واللام.
فإذا ثبت هذا فكل ما كان تعريفه لفظياً فلا يجوزتنكيره مع وجود آلة
التعريف، وما كان تعريفه معنوياً فقد يجوز تنكيره في بعض الأحوال،
تقول: " مررت بعمرو وعمرو آخر ".
وبأحمد وأحمد آخر ".
ومن التعريف المعنوي " سحر " إذا أردته ليوم بعينه، و " أجمع "، " جمع
" في
باب التوكيد، إلا أن " أجمع " و " جمع " لا يجوز تنكيره، لأن تعريفه -
وإن كان معنوياً - فإنه كاللفظي، من حيث كان الاسم الذي هو مضاف إليه
في المعنى كالموجود في اللفظ، لأنه ضمير يعود على مذكور، وهو الاسم
المؤكد.
ولا بد لـ " أجمع " أن يكون تابعاً لذلك الاسم، فقد صار تعريفه من جهة
اللفظ اللازم له.
وسيأتي بيانه في باب التوكيد، إن شاء الله تعالى.
وأما المضاف إلى معرفة فإنه اكتسب التعريف من الاسم الثاني واتصاله له.
وحلوله منه محل التنوين، فصار بمنزلة اسم واحد، فانسحب التعريف على
جميعه.
فإن قيل: ولم اكتسب الأول التعريف من الثاني، ولم يكتسب الثاني التنكير
من الأول إذ هو مقدم عليه في اللفظ، لا سيما والتنكير أصل في الأسماء
والتعريف فرع عليه، فكان ينبغي إذ جعلا كاسم واحد أن ينسحب التنكير من
أول الاسم إلى آخره، فلم غلبوا التعريف؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم قد غلبوا حكم المعرفة على النكرة في غير هذا الموطن
كقولهم: هذا زيد ورجل ضاحكين، على
(1/169)
الحال.
ولا يجوز: ضاحكان، على النعت تغليباً منهم لحكم المعرفة، وذلك
أنهم رأوا الاسم المعرفة يدل على معنيين: الرجل وتعيينه، والشيء
وتخصيصه من غيره، والنكرة لا تدل إلا على معنى مفرد، فكان ما يدل على
معنيين أقوى مما يدل على معنى واحد، وهذا بديع لمتأمله، وأصل نافع
لمحصله.
والجواب الثاني أن تقول: الاسم المضاف إليه بمنزلة (آلة) التعريف.
فصار كالألف واللام والصيغة الدالة على الإبهام، ولم ينسحب تعريفه على
الأول لأنه لم يكتسب منه العلمية، وإنما اكنسب تعريفاً آخر كما اكتسب
من الألف واللام التي هي آلة التعريف، ألا ترى أنه إذا أضيف إلى المضمر
لم يكتسب منه إضماراً، وإنما اكتسب تعريفاً وكذلك إذا أضيف إلى المبهم
لم ينسحب عليه معنى الإبهام فدل على أن الإضافة بمجردها هي الموجبة
لتعريف الاسم والمضاف إليه بمنزلة آلة داخلة، فلم يلزم أن يقتبس الثاني
من تنكير الأول، ولا أن يقتبس الأول من علمية الثاني وحاله في المعرفة،
وإنما تعرف بالإضافة إلى أي نوع كان من المعارف.
والمضاف إليه في كل هذا كالآلة الداخلة على الاسم لمعنى، وهذا
أغمض من الأول وأدخل في باب التحقيق، وبالله التوفيق.
* * *
مسألة
(في تفسير المضمرات)
اعلم أن الكلام صفة قائمة في نفس المتكلم يعبر للمخاطب عنه بلفظ أولحظ
أو (بخط) ، ولولا المخاطب ما احتيج إلى التعبير عما في نفس المتكلم.
فإذا تقدم في الكلام اسم ظاهر ثم أعيد ذكره (أومأ المتكلم إليه بأدنى
لفظ.
ولم يحتج إلى إعادة اسمه لتقدم ذكره) .
فإذا أضمره في نفسه - أي: أخفاه - ودل المخاطب عليه بلفظة مصطلح عليها،
سميت تلك اللفظة اسماً مضمراً، لأنها عبارة عن الاسم الذي أضمر استغناء
عن لفظه الظاهر.
(1/170)
وإذا ثبت هذا فالمضمرات في كلام العرب نحو
من ستين، (منها) منفصل
يختص بالرفع نحو: أنا وأنت. ومنها متصل مختص بالرفع، ومنها ما يختص
بالنصب متصلا ومنفصلًا.
وأما ما يختص بالخفض فلا يكون إلا متصلاً بما قبله، لأن
المخفوض كله نوع واحد ولا يكون إلا متصلًا بما قبله اتصال البعض بالكل.
وكل ما ذكرناه معلوم، وإنما قصدنا كشف أسرار الباب والتنبيه من واضع
اللغة في تخصيص ألفاظ المضمرات بما اختصت به، فنبدأ بضمير المتكلم
المنفصل فنقول:
إن المتكلم لما استغنى عن الظاهر في حال الإخبار، لدلالة المشاهدة
عليه.
جعل مكانه لفظاً يومئ به إليه، وذلك اللفظ مؤلف من " همزة " و " نون "،
أما
" الهمزة " فلأن مخرجها من الصدر، وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلم إذ
المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد، ألا ترى إلى قوله سبحانه:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) .
ألا تراه - تعالى - يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ)
يعني: ما يلفظ المتكلم فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك، وأردت
من الحروف ما يكون عبارة عنه، فأولاها بذلك ما كان مخرجه من جهته وأقرب
المواضع إلى محله، وليس إلا " الهمزة " أو " الهاء " والهمزة أحق
بالمتكلم لقوتها بالجهر والشدة، وضعف الهاء بالخفاء، فكان ما هو أجهر
وأقوى أولى بالتعبير عن اسم المتكلم الذي الكلام صفة له، وهو أحق
بالاتصاف به وأما تآلفها مع " النون "، فلما كانت " الهمزة " بانفرادها
لا تكون اسما منفصلًا، كان أولى ما وصلت به النون أو حروف المد واللين،
إذ هي
أمهات الزوائد، ولم تكن حروف المد مع " الهمزة "، لذهابها عند التقاء
الساكنين إذا قلت: أنا الرجل، و: أنا الغلام، و: أنا المخبر، وهذا كثير
من كلام فلو حذف الحرف الثاني لبقيت " الهمزة " في أكثر الكلام منفردة
مع لام التعريف، فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام، فيختل أكثر الكلام.
فكان أولى ما قرن به النون لقربها من حروف المد واللين.
ثم بينوا النون - لخفائها - بالف في حال السكت، أو بهاء في لغة من قال:
إنه.
(1/171)
ثم لما كان المخاطب مشاركاً للمتكلم في
معنى الكلام، إذ الكلام مبدؤه من
المتكلم ومنتهاه عند المخاطب، ولولا المخاطب ما كان كلام المتكلم لفظاً
مسموعاً، ولا احتاج إلى التعبير عنه، فلما اشتركا في المقصود بالكلام
وفائدئه، اشتركاً في اللفظ الدال على الاسم الظاهر، وهو الألف والنون،
وفرق بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم بالتاء خاصة فقالوا: أنت، وخصت "
التاء " بذلك لثبوتها علامة الضمير المخاطب الفاعل في (فعلت) إلا إِنها
هناك اسم، وفي " أنت " لا موضع لها من الإعراب.
وأما ضمير المتكلم المخفوض فإنما كان " ياء "، لأن الاسم الظاهر لما
ترك
لفظه استغناء ولم يكن بد من علامة دالة عليه، كان أولى الحروف بذلك
حرفاً من حروف الاسم المضمر؛ وذلك لا يمكن لاختلاف أسماء المتكلمين.
وإنما أرادوا علامة تختص بكل متكلم في حال الخفض، والأسماء مختلفة
الألفاظ متفقة في حال الإضافة إليها، في الكسرة التي هي علامة الخفض،
إلا أن " الكسرة " لا تستقل بنفسها حتى تمكن فتكون ياء، فجعلوا الياء
علامة لكل متكلم مخفوض، ثم شركوا النصب مع الخفض في علامة الإضمار،
لاستوائهما في المعنى واتفاقهما في كثير من الكلام، إلا أنهم زادوا
نوناً في ضمير المنصوب للعلة التي تقدم ذكرها في باب الفاعل.
وأما ضمير المتكلمين المتصل، فعلامته واحدة في الرفع والنصب والخفض.
تقول: فعلنا، و: هذا غلامنا، وسر ذلك ما قدمناه، وهو أنه لما تركوا
الاسم الظاهر وأرادوا من الحروف ما يكون علامة للمخاطب عليه، أخذوا من
الاسم الظاهر ما يشترك جميع المتكلمين فيه في حال الجمع والتثنية، وهي
النون التي في آخر اللفظ، وهي موجودة في التثنية والجمع في حال الرفع
والنصب والخفض، فجعلوها
(1/172)
علامة للمتكلمين جمعاً كانوا أو اثنين في
حال رفع ونصب وخفض، وزادوا بعدها ألفاً كيلا تشبه التنوين أو النون
الخفيفة، ولحكمة أخرى وهي القرب من لفظ " أنا " لأنها ضمير المتكلمين،
و " أنا " ضمير متكلم، فلم يسقط من لفظ " أنا " إلا الهمزة التي هي أصل
في المتكلم الواحد.
وأما جمع المتكلم وتثنيته ففرع طارئ على الأصل، فلم تكن فيه الهمزة
التي
تقدم اختصاصها بالمتكلم، حتى خصت به " أفعل " وخص المخاطب بالتاء في
تفعل، للحكمة البديعة المذكورة في باب الأفعال، وفي هذا الفصل طرف
منها.
وأما ضمير المرفوع المتصل فتاء، وإنما خصت " التاء " به لأنهم حين
أرادوا
حرفاً يكون علامة على الاسم الظاهر المستغنى عن ذكره، كان أولى الحروف
بذلك حرفا من الاسم، والاسم يختلف، فتارة يكون زيداً، وتارة يكون
عمراً.
أخذوا من الاسم ما لا تختلف الأسماء فيه في حال الرفع، وهي الضمة،
والضمة لا تستقل بنفسها ما لم تكن واواً.
ثم رأوا الواو لا يمكن تعاقب الحركات عليها لثقلها، وهم
يحتاجون إلى الحركات في هذا الضمير فرقاً بين المتكلم، والمخاطب
المؤنث.
والمخاطب المذكر، فجعلوا " التاء " مكان الواو، لقربها من مخرجها،
ولأنها قد تبدل منها في كثير من الكلام نحو: تراث، و: تخمة، فاشترك
ضمير المتكلم والمخاطب في " التاء "، كما اشتركا في " الألف والنون "
من " أنا " و " أنت " لأنهما شريكان في الكلام، لأن الكلام من حيث كان
للمخاطب كان لفظاً، ومن حيث كان للمتكلم كان معنى قائماً بنفسه.
ثم وقع الفرق بين ضميريهما بالحركة دون الحروف للحكمة
المذكورة.
وأما ضمير المخاطب في حال النصب والخفض فكاف، ولم يكن " ياء " لأن
الياء قد اختص بها المتكلم في حال الخفض والنصب، فلو سكنت فيه الحركات
أو وجد ما يقوم مقامها في البدل، كما كانت " التاء "
مع " الواو "، لشرك المخاطب مع المتكلم في حال الخفض كما شرك معه في
التاء في حال الرفع، فلما لم يكن ذلك، ولم يكن بد من حرف يكون علامة
إضمار، كانت (الكاف) من بين سائر
الحروف أحق بهذا الموطن، لأن المخاطبين، وإن اختلفت أسماؤهم الظاهرة، -
فكل
(1/173)
واحد منهم مكلَّم ومقصود بالكلام الذي هو
اللفظ، ومن أجله احتيج إلى التعبير بالألفاظ عن الكلام الذي في نفس
المتكلم فجعلت (الكاف) المبدوء بها في لفظ (الكلام) علامة إضمار
التكلم، ألا تراها لا تقع علامة إضمار له إلا بعد كلام كالفعل والفاعل
نحو: ضربتك، لأن الفعل والفاعل كلام، والفعل وحده دون الفاعل لا يسمى
كلاماً، فلذلك لم يكن علامة المضمر " كاف " إلا بعد كلام من فعل وفاعل،
أو مبتدأ وخبر، نحو: ضربتك، و: هذا غلامك.
ولم يقل في ذهبت: ذهبك، ولا في قصدت: قصدك، لأن " ذهب " ليس
بكلام إلا بعد ذكر فاعلها كما تقدم.
فإن قيل: فالمتكلم أيضاً " هو " صاحب الكلام، فهو أحق بأن تكون الكاف
المأخوذة من لفظ الكلام علامة لاسمه؟
قلنا: الكاف لفظ فهي أحق بالمخاطب، لأن الكلام لم يكن لفظا إلا من
أجله، ولولا المتكلم المخاطب ما احتيج إلى التعبير عن الكلام القائم
بالنفس بعبارة ولا إشارة.
فعمدة " الكلام " الذي هو اللفظ إنما هو التكلم المخاطب، فالكاف الذي
هو جزء من لفظ الكلام أولى به.
وأما ضمير الغائب المنفصل فـ " هاء " بعدها " واو " خصت " الهاء "
بذلك، لأن
الغائب لما كان مذكوراً بالقلب واستغنى عن اسمه الظاهر بتقدمه، كانت
الهاء التي مخرجها من الصدر قريبا من محل الذكر، أولى بأن تكون عبارة
عن المذكور بالقلب، ولم تكن " الهمزة " لأنها مجهورة شديدة، فكانت أولى
بالمتكلم الذي هو أظهر، والهاء - لخفائها - أولى بالغائب، الذي هو أخفى
وأبطن، ثم وصلت بالواو لأنه لفظ يرمز به إلى المخاطب، ليعلم ما في
النفس من مذكور.
والرمز بالشفتين، والواو مخرجها من هناك، فخصت بذلك. ثم طردوا أصلهم من
ضمير الغائب المنفرد فجعلوه في جميع أحواله " هاء "، إلا في الرفع.
وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا الفرق بين الحالات واقعاً باختلاف الضمير،
لأنه إذا دخلت عليه حروف الجر كسرت " الهاء " لضرورة اللفظ، وانقلبت
واوه ياء.
وإذا لم يدخل عليه بقي مضموماً على أصله.
(1/174)
وإذا كان في الرفع لم يكن له علامة في
اللفظ، لأن الاسم الظاهر قبل الفعل
علم ظاهر يغني المخاطب عن علامة إضمار في الفعل، بخلاف المتكلم
والمخاطب، لأنك تقول في الغائب: زيد قام، فتجد الاسم الذي يعود عليه
الضمير موجوداً ظاهراً في اللفظ، ولا تقول في المتكلم: زيد قمت، ولا في
المخاطب أن كان اسمه كذلك: زيد قمت - فلما اختلفت أحوال الضمير الغائب
لسقوط علامته في الرفع، وتغير الهاء بدخول حروف الخفض، قام ذلك عندهم
مقام علامات الإعراب في الظاهر، أو ما هو بمنزلتها في الضمير كالتاء
المبدلة من الواو، والياء المنبئة عن الكسرة، والكاف المختصة بالمفعول
والمجرور الواقعين بعد الكلام التام، ولا يقع
بعد الكلام التام إلا منصوب أو مجرور، فكانت الكاف المأخذوة من لفظ
الكلام علامة على المنصوب والمجرور إذا كان مكلماً مخاطباً.
وأما " نحن " فهي ضمير منفصل للمتكلمين جماعة كانوا أو اثنين، وخصت
بذلك لما لم يمكنهم التثنية والجمع في المتكلم المضمر، لأن حقيقة
التثنية ضم
شيء إلى مثله ذي اللفظ، والجمع ضم شيء إلى أكثر مما يماثله في اللفظ،
فإذا قلت: زيدان، فمعناه: زيد وزيد، وإذا قلت: أنتما، فمعناه: أنت
وأنت.
وكذلك الزيدون أنتم والمتكلم لا يمكنه أن يأتي باسم مثنى أو مجموع في
معناه، لأنه لا يمكن أن يقول: " أنا أنا " فيضم إلى نفسه مثله في اللفظ
فلما عدم ذلك، ولم يكن بد من لفظ يشير إلى ذلك المعنى، وإن لم يكن هو
في الحقيقة،، جاؤوا بكلمة تقع على الاثنين والجمع، لاشتراك التثنية
والجمع في هذا الموطن، والجمع المعبر به عنهما.
ثم كانت الكلمة نوناً في أولها ونوناً في آخرها، إشارة إلى الأصل
المتقدم
الذي لم يمكنهم الإتيان به، وهو تثنية " أنا "، التي هي بمنزلة عطف
اللفظ على مثله.
فإذا لم يمكنهم ذلك اللفظ مثنى، كانت النون المكررة تنبيهاً عليه
وتلويحا إليه.
وخصت النون بذلك دون الهمزة لما تقدم من السر البديع فىِ اختصاص ضمير
الجمع بالنون، واختصاص ضمير المتكلم المنفرد بالهمزة، ثم جعلوا بين
النونين
" حاء " ساكنة لقربها من مخرج الألف الموجودة في ضمير المتكلم قبل
النون
وبعدها، ثم بنوها على الضم - دون الفتح والكسر - إشارة إلى أنه ضمير
مرفوع.
(1/175)
ويشهد لجميع ما قلناه في هذا الباب، من
دلالة الحروف المقطعة على
المعاني والرمز بها إليها، كثير من منظوم الكلام ومنثوره، كقول الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف.
وكقول الآخر لأخيه: ألاتا؟ فيقول له: ألافا.
يريد: ألا فارتحل.
وكقولهم:
بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فآ ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إلا أَنْ تَآ
يريد: إن شراَ فشراً، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
وكقولهم: أيش؟ يريدون: أي شيء؟
وكقولهم: م الله. يريدون: أيمن الله.
ومن هذا الباب حروف التهجي من أوائل السور.
وقد رأيت لابن فورك نحواً من هذا في اسم الله سبحانه، قال: الحكمة في
وجود الألف في أوله أنها من أقصى مخارج الصوت قريبا من القلب الذي هو
محل المعرفة إليه، ثم الهاء في آخره مخرجها من هناك أيضاً، لأن المبتدأ
منه والمعاد إليه، والإعادة أهون من الابتداء، وكذلك لفظ الهاء أهون من
لفظ الهمزة، هذا معنى كلامه.
فلم نقل ما قلناه في المضمرات إلا اقتضاباً من أصول السلف، واستنباطاً
من
كلام اللغة، وبناء على قواعدها، وجرياً على طريقة علمائها.
فتأمل هذه الأسرار بقلبك، والحظها بعين فكرك، ولا يذهلنك فيها نبو طباع
أكثر الناس عنها، واشتغال
(1/176)
العالمين بظاهر من الحياة الدنيا عن الفكر
فيها، والتنبيه عليها، فإني لم أفحص عن هذه الأسرار، وخفي التعليل في
الظواهر والإضمار، إلا قصداً للتفكر والاعتبار، في حكمة من خلق الإنسان
وعلمه البيان، فإنه الخالق للعبارات، والمقدر للطائف والإشارات (أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فمتى
لاح لك من هذه الأسرار سر، وكشف لك عن مكنونها فكر، فاشكر الواهب
للنعمى، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) .
* * *
مسألة
(في المبهمات)
قوله: " والمبهم نحو: هذا وهذان ".
تسميتهم هذه الأسماء المبهمة، مأخوذة من " أبهمت الباب "، إذا أغلقته.
و" استبهم عليَّ الجواب "، أي: استغلق.
وكذلك هذه الأسماء إنما وضعت في الأصل لما استبهم على المتكلم اسمه، أو
أراد هو إبهامه على بعض المخاطبين دون بعض، فاكتفى بالإشارة إليه، أو
كانت الإشارة إليه أبين من اسمه عند المخاطب.
وإذا ثبث ما قلناه فالاسم في هذا الباب هو الذال واحدها دون الألف
خلافاً لبعض البصريين، يدل على ذلك سقوطها بالتثنية وفي المؤنث إذا
قلت: هذه، وتلك.
وخصت الذال بهذا المعنى لأنها من طرف اللسان، والاسم المبهم مشارٌ
إليه، فالمتكلم يشير نحوه بلحظه أو بيده، ويشير مع ذلك بلسانه، لأن
الجوارحَ خَدَمُ القلب، فإذا ذهب القلب إلى الشيء ذهاباً معقولا ذهب
الجوارح نحو ذلك الشيء ذهاباً محسوسا.
والعمدة في الإشارة في هذا الموطن على اللسان، ولا يمكن إشارة اللسان
إلا
بحرف يكون مخرجه من عذبة اللسان، التي هي آلة الإشارة دون سائر أجزائه،
فليس إلا الذال أو الثاء، فأما الثاء فمهموسة رخوة، فالمجهور أو الشديد
من الحروف أولى منها للبيان، والذال مجهورة فخصه بالإشارة إلى المذكر،
وخصت التاء بالإشارة إلى
(1/177)
المؤنث للفرق بينهما، وكانت أولى بها
لهمسها، ولأنها قد ثبتت علامة للتأنيث في غير هذا الباب.
ثم بينوا حركة الذال بالألف، كما فعلوا في النون من " أنا "، وربما
شركوا
المؤنث مع المذكر في الذال واكتفوا، " بالكسرة " والياء فرقا بينهما.
وربما اكتفوا بمجرد لفظ التاء في الفرق فقالوا: " هاتا هند ". وربما
جمعوا بين لفظ التاء والكسرة، حرصاً على البيان فقالوا: هات.
وأما في المؤنث الغائب فلا بد من لفظ التاء مع الكسر، لأنه أحوج إلى
البيان، للدلالة على الحاضر، فتقول في الغائب: تيك، وربما زادوا اللام
للتوكيد - كما زادوها في المذكر الغائب - فقالوا: تلك، إلا أنها ساكنة
في المؤنث لئلا تجتمع الكسرات مع التاء، وذلك ثقيل عليهم ومرفوض في
كلامهم.
وكانت اللام أولى بهذا الموطن حين أرادوا الإشارة إلى البعيد، فكثروا
الحروف حين كثرت مسافة الإشارة، وقللوها حين قلت، لأن اللام قد وجدت في
كلامهم توكيداً، وهذا الموطن موطن توكيد، وقد وجدت بمعنى الإضافة
للشيء، وهذا الموطن شبيه به، لأنك إذا أومأت إلى الغائب بالاسم المبهم،
فأنت تشير إلى من تخاطب ومقبل عليه لينظر إلى من تشير، إما بالعين وإما
بالقلب، ولذلك جئت بالكاف للخطاب فكأنك تقول له: لك أقول، أو: لك أرمز
بهذا الاسم.
ففي اللام طرف من هذا المعنى، كما كان ذلك في الكاف، وكما لم تكن
الكاف هنا اسماً مضمراً، لم تكن اللام لام جر، وإنما في كل واحدة منهما
طرف من المعنى دون جميعه فلذلك خلعوا من الكاف معنى الاسمية، وبقي فيها
معنى الخطاب، واللام كذلك إنما اجتلبت لطرف من معناها الذي وضعت له في
باب الإضافة.
وأما دخول " ها " التي للتنبيه على هذه الأسماء، فلأن المخاطب يحتاج
إلى
تنبيه على الاسم الذي يشير به إليه، لأن للإشارة قرائن حال يحتاج إلى
أن ينظر إليها، فالمتكلم كأنه آمر له بالالتفات إلى المشار إليه أو
منبه له، فلذلك اختص
(1/178)
هذا الموطن بالتنبيه، وقلما يتكلمون به في
المبهم الغائب، لأن كاف الخطاب تغني عنها، مع أن المخاطب مأمور
بالالتفات بلحظه إلى المبهم الحاضر، فكان التنبيه في أول الكلام أولى
بهذا الموطن، لأنه بمنزلة الأمر الذي له صدر الكلام.
وعندي أن حرف التنبيه بمنزلة حرف النداء وسائر حُروف المعاني لا يجوز
أن
تعمل معانهيا في الأحوال ولا في الظروف، كما لا يعمل معنى الاستفهام
الذي في " هل " ومعنى النفي الذي في " ما ".
ولا نعلم حرفاً يعمل معناه في الحال والظرف إلا كان وحدها، لحكمه تذكر
في بابها إن شاء الله تعالى.
فدع عنك ما شغبوا به في مسائل الحال في هذا الباب، من قولهم: هذا
قائماً
زيد، و: قائماً هذا زيد، فإنه لا يصح من ذلك إلا تأخير الحال عن الاسم
الذي هو " ذا " لأن العامل فيها معنى الإشارة " دون " التثنية فلا يصح
تقدمها والعامل معنوي.
فإن قيل: ولم جاز أن يعمل فيها معنى الإشارة، ولم يجز أن يعمل فيها
معنى التنبيه، وكلاهما معنى غير ملفوظ به؟
قلنا: معنى الإشارة تدل عليه قرائن الحال من الإيماء باللحظ واللفظ
الخارج
من طرف اللسان وهيئة المتكلم، فقامت تلك الدلالة مقام التصريح بلفظ
الإشارة، لأن الدال على كلام النفس إما لفظ وإما إشارة وإما حق، فقد
جرت الإشارة مجرى اللفظ، فلتعمل فيما عمل فيه اللفظ - وإن لم تقو قوته
- في جميع أحكام العمل.
وأصح من هذا كله عندي أن معنى الإشارة ليس هو العامل، إذ الاسم الذي
هو " هذا " ليس بمشتق من أشار بشير، ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة
لجاز أن تعمل علامات الإضمار لأنها أيضاً إيماء وإشارة إلى مذكور،
وإنما العامل فعل مضمر تقديره: " انظر "، وأضمر لدلالة الحال عليه من
التوجه واللفظ.
وقد قالوا: " لمن الدار مفتوحا بابها " فاعملوا في الحال معنى " انظر
"، ودل
عليه التوجه إليه من المتكلم بوجهة نحوها، فكذلك: (وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخًا) ، وهذا أقوى في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه.
(1/179)
وإذا ثبث هذا فلا سبيل لتقديم الحال، لأن
العامل المعنوي لا يعمل حتى
يدل عليه الدليل اللفظي أو التوجه أو ما شاكله، والله المستعان.
* * *
مسألة
(في العامل في النعت)
(قوله) : " وإذا تقدم نعت النكرة عليها نصب على الحال ".
تقدم في صدر هذا الفصل العامل في النعت، وفيه فولان:
أحدهما: أن العامل في المنعوت هو العامل في النعت، وكان سيبويه إلى هذا
ذهب حين منع أن يجمع بين نعتي الاسمين إذا اتفق إعرابهما واختلف العامل
فيهما نحو: جاء زيد وهذا محمد العاقلان.
وذهب قوم إلى أن العامل في النعت معنوي، وهو كونه في معنى الاسم
المنعوت، فإنما ارتفع أو انتصب من حيث كان هو الأول في المعنى، لا من
حيث كان الفعل عاملاً فيه، وكيف يعمل فيه وهو لا يدل عليه، إنما يدل
على فاعل أو مفعول أو مصدر دلالة واحدة من جهة اللفظ، وأما الظروف فمن
دليل آخر.
وإلى هذا القول أذهب، وليس فيه نقص لما منعه سيبويه من الجمع بين نعتي
الاسمين المتفقين في الإعراب إذا اختلف العامل فيهما، لأن العامل في
النعت - وإن كان معنوياً - فلولا العامل في المنعوت لما صح رفع النعت
ولا نصبه، فكان الفعل هو العامل في النعت، فامتنع اشتراك عاملين في
معمول واحد، ولو لم يكونا عاملين فيه في الحقيقة، ولكنهما عاملان فيما
هو هو في المعنى.
(1/180)
وإنما قوي عندنا هذا القول الثاني لوجوه،
منها: امتناع تقديم النعت على
المنعوت، ولو كان الفعل عاملاً فيه لما امتنع أن يليه معموله، كما يليه
المفعول تارة والفاعل أخرى، وكما يليه الحال والظرف، ولا يصح أن يليه
ما عمل فيه غيره.
لو قلت: قام زيداً ضارب، (تريد: ضارب زيداً) ، أو: ضربت عمراً رجلًا
ضارباً، تريد: ضربت رجلًا ضارباً عمراً لم يجز.
فلا يلي العامل إلا ما عمل فيه، فلذلك لا يلي " كان " إلا ما علمت فيه.
وكذلك خبر إن المرفوع ليس بمعمول لإن، وإنما هو على أصله في باب
المبتدأ، ولولا ذلك لجاز أن يليها، وإنما وليها إذا كان مجروراً، لأنها
ممنوعة من العمل فيه بدخول حرف الجر، مع أن المجرور رتبته التأخير، فلم
يبالوا بتقديمه في اللفظ إذ كان موضعه التأخير، ولأن المجرور ليس هو
بخبر على الحقيقة، وإنما هو متعلق بالخبر، والخبر منوي في موضعه، أعني
بعد الاسم المنصوب (بإن) .
فإن قيل: ولعل امتناع النعت من التقديم على المنعوت إنما هو من أجل
الضمير الذي فيه والضمير حقه أن يترتب بعد الاسم الظاهر؟
قلنا: هذا ليس بمانع، لأن خبر المبتدأ حامل للضمير، ويجوز تقديمه، ورب
مضمر يجوز تقديمه على الظاهر إذا كان موضعه التأخير.
فإن قيل: ولعل امتناع تقديم النعت إنما وجب من أجل أنه تبيين للمنعوت
وتكملة لفائدته، فصار كالصلة من الموصول؟
قلنا: هذا باطل، لأن الاسم المنعوت يستقل به الكلام ولا يفتقر إلى نعته
افتقار الموصول إلى صلته ومما يبين لك أن الفعل العامل في الاسم لا
يعمل في
نعته، أن النعت صفة لمنعوت لازمة له قبل وجود الفعل وبعده، فلا تأثير
للفعل فيه، ولا تسلط له عليه، وإنما التأثير فيه للاسم المنعوت، إذ
بسببه يرتفع وينتصب وينخفض، وإن لم يجز أن تكون الأسماء عوامل في
الحقيقة.
وهذا بخلاف الحال، لأن الحال - وإن كان صفة كالنعت، وفيها ضمير يعود
على الاسم كالنعت وضاحكا إذا كان حالاً من زيد، هو زيد في المعنى، كما
يكون إذا كان نعتا كذلك - لكن الحال ليست بصفة لازمة للاسم كالنعت،
وإنما هي صفة
(1/181)
الاسم في حين وجود الفعل (خاصة، فالفعل)
إذاً أولى بها من الاسم، فعمل فيها دونه، فلما عمل فيها (الفعل) جاز
تقديمها إليه، كقولك: جاء ضاحكاً زيد.
وتقديمها عليه كقولك: ضاحكاً جاء زيد، وتأخرها بعد الفاعل كقولك:
جاء زيد ضاحكاً، لأنها كالمفعول، لعمل الفعل فيها.
والنعت بخلاف هذا كله، وسنبين فيما بعد - إن شاء الله تعالى - فصلًا
عجيباً في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء:
الفاعل، والمفعول به، والمفعول المطلق، أو ما هو صفة لأحد هذه الثلاثة
في حين وقوع الفعل، ويخرج عن هذا الفصل الظرف من الزمان، والظرف من
المكان، والنعوت، والأبدال، والتوكيدات.
وجميع الأسماء المعمول فيها، وتقيم هنالك البرهان القاطع على صحة هذا
المعنى، بعون الله تعالى.
* * *
فصل
(في حكم الحال من النكرة)
حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفة أن تكون جارية عليها، ليتفق اللفظ،
وأما نصب الصفة على الحال فيضعف عندهم لاختلاف اللفظ من غير ضرورة.
هذا منتهى قول النحويين، وكان شيخنا أبو الحسين - رحمه الله تعالى -
يريد هذا القول بالقياس والسماع.
(أما) القياس فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة والحال منها إذا
قلت: جاءني زيد الكاتب، وجاءني زيد كاتباً، وبينهما من الفرق في المعنى
ما تراه.
فما المانع من اختلاف المعنى كذلك في النكرة إذا قلت: مررت برجل كاتب،
أو: برجل كاتباً؟
وإذا كان كذلك فلا بد من الحال إذا احنيج إليها.
(وأما السماع) ففي الحديث: " صلى خلفه رجال قياماً ".
وأما " وقع أمر فجأة " فليس بحال من " الأمر "، وإنما هو حال من "
الوقوع " كما تقول:
(1/182)
أحسن من سقي ناقة، إنما هو حال مما دل عليه
" سقي "، (وهو) المصدر. ومنه أقبل رجل مشياً، هو حال من الإقبال.
وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
والذي قاله الشيخ صحيح، ولكن أكثر الكلام على ما قاله النحويون،
إيثاراً
لاتفاق اللفظ، ولتقارب ما بين المعنيين في النكرة، وتباعد ما بينهما في
المعرفة، لأن الصفة في النكرة مجهولة عند المخاطب حالاً كانت أو نعتاً،
وهي في الصرفة بخلاف ذلك، فتأمله تعرفه إن شاء الله تعالى.
ولو كانت الحال من النكرة ممتنعة، وكان رديئاً في الكلام لعلة التنكير،
لما
اتفقت العرب على جعلها حالاً إذا كانت مقدمة على الاسم.
كما أنشد سيبويه:
لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ
وتَحتَ العوالي والقنا مستكنة ... ظباء أعارتها العيونَ الجآذر
(1/183)
فإن قيل: وما حمل سيبويه وغيره على أن
يجعلوا (مُوحِشاً) حالاً من (طَلَلُ) .
و" قائم " حالاً من رجل، إذا قلت: فيها قائماً رجل، وهو لا يقول بقول
الأخفش:
إن قولك: رجل وطللاً فاعل " بالاستقرار الذي تعلق به الجار؟
فلو قال بهذا القول عذرناه، ولكن الاسم النكرة عنده مبتدأ، وخبره في
المجرور قبله، ولا بد في خبر المبتدأ من ضمير (يعود) على المبتدأ، تقدم
الخبر أو تأخر، فلم لا تكون هذه الحال من ذلك الضمير ولا تكون من
النكرة؟ ما الذي دعاهم إلى هذا؟
فالجواب: أن هذا السؤال يجب التقصي (عنه) والاعتناء به؟
فقد كع عنه أكثر الشارحين للكتاب، والمؤلفين في هذا الباب، بل ما رأيت
أحداً منهم أشار فيه إلى (جواب) مقنع، وأما أكثرهم فلم يتنبه للسؤال،
ولا تعرض إليه بحال.
والذي أقوله - وبالله التوفيق -: أن هذه المسألة في النحو، بمنزلة
مسائل الدور في الفقه، ونضرب منه مثالاً فنقول:
رجل شهد مع آخر (في عبد) أنه حر، فعتق العبد وقبلت شهادته، ثم شهد
ذلك الرجل مرة أخرى فأريد تَجريحُه، فشهد العبد المعتق فيه بالجرحة،
فإن قبلت شهادته ثبتت جرحة الشاهد، (وإن ثبتت جرحة الشاهد) بطل عتق
العبد، وإن بطل عتقُ العبد سقطت شهادته، وإن سقطت شهادته لم يصح جرحة
الشاهد، واستدارت المسألة هكذا.
وكل نوع يؤول إلى إسقاط أصله فهو أولى أن يسقط في نفسه.
وكذلك مسألة هذا الفصل:
فأنت إن جعلت الحال من قولك: فيها قائماً رجل، من الضمير، لم يصح
تقدير المضمر إلا مع تقدير فعل يتضمنه، ولا يصح تقدير فعل بعده، مبتدأ،
لأن معنى الابتداء يبطل ويصير المبتدأ فاعلاً، وإذا صار فاعلاً بطل أن
يكون في الفعل
(1/184)
ضمير لتقدم الفعل على الفاعل، وإذا بطل
وجود الضمير بطل وجود الحال منه، وهذا بديع في النظر.
فإن قيل: إن المجرور ينوى به التأخير، لأن خبر المبتدأ (حقه) أن يكون
مؤخراً.
قيل: وإذا نويت به التأخير لم يصح وجود الحال مقدمة على المبتدأ، لأنها
لا تتقدم على عاملها إذا كان معنوياً.
فبطل كون الحال من شيء غير الاسم
النكرة، الذي هو مبتدأ عنه سيبويه، وفاعل عند الأخفش.
وهذا السؤال لا يلزم " الأخفش " على مذهبه، وإنما يلزم سيبويه ومن قال
بقوله، ولولا الوحشةُ من مخالفة الإمام (أبي بشر) لنصرتُ قول الأخفش
نصراً مؤزراً، وجلوت مذهبه في منصة التحقيق مفسراً! ولكن النفس إلى
نصرة سيبويه أميل، والله الموفق للصواب، واليه المآب.
وسيأتي في باب الابتداء من إقامة البرهان على بطلان قول الأخفش ما
ينافي إشارتي ههنا إلى نصرته.
* * *
مسألة
(في قطع النعت)
(قوله) : " وإذا تكررت النعوت فإن شئت أتبعتها الأول ".
جعل " أبو القاسم " تكرار النعوت شرطاً في جواز القطع من الأول، ولا
يلزم
هذا الشرط على الإطلاق ولكن الاسم إذا كان معروفاً عند المخاطب، ولم
يقصد تمييزه من غيره، لم يكن النعت حينئذ من تمامه، وإنما يقصد به مدح
أو ذم فلم يمتنع القطع من الأول، كما قال سيبويه: " سمعت العرب تقول:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ) فسألت يونس عنها، فزعم أنها
عربية ".
(1/185)
وأما إذا كان المنعوتُ غير متميز عند
المخاطب إلا بنعته، فلا بدَّ حينئذ أن
يكون تابعا للمنعوت، ثم يكون تكرارُ النعوت شرطاً في جواز القطع، كما
قال أبو القاسم.
وفائدةُ القطع من الأول أنهم أرادوا تجديد مدح أو ذم غير المذكور في
أول
الكلام، لأن تجدد لفظ غير الأول دليل على تجدد معنى، وكلما كثرت
المعاني وتجدد المدحُ كان أبلغ.
وقد رأيت هذا المعنى للفراء فاستحسنته.
* * *
مسألة
(من عطف النعوت بعضها على بعض)
قال: " وإن شئث عطفت بعض النعوت على بعض ".
الأصل في باب العطف أن لا يعطف الشيء على نفسه، وإنما يعطف على
غيره، وعلة ذلك أن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل، وتكرار العامل يلزم
معه تكرير المعمول.
فإذا ثبت هذا ووجدت شيئاً معطوفاً على ما هو في معناه مثل قوله:
" كذباً وزوراً " و " كذباً وميناً "، فما ذلك إلا لمعنى زائد خفي في
اللفظ الثاني، أو لضرورة الشعر، فيشبه حينئذ تغاير اللفظين بتغاير
المعنيين، فيعطف أحدهما على الآخر، كما فعل بأشياء أضيف فيها الشيء إلى
نفسه لتغاير اللفظين.
وقد تقدم شرح ذلك في أوائل الكتاب.
(1/186)
وإذا كان الأمر كذلك بعد كل (البعد) أن
تقول: جاءني محمد وأبو عبد الله.
وهو هو، أو: " رضي الله عن عتيق وأبي بكر " (وقد علم أن أبا بكر هو
عتيق، لأنك عطفت الشيء على نفسه، و " الواو " إنما تجمع بين الشيئين لا
بين الشيء الواحد، فإن كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم
الأول، كنت مخيراً بين العطف وتركه، فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد
الصفات، وهي متغايرة، وإن لم تعطف فمن حيث كان في كل واحد منها ضمير هو
الأول، فتقول في الوجه الأول: زيد شاعر وكاتب، وعلى الثاني: شاعر كاتب.
كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر، وحين لم تعطف أتبعت الثاني الأول،
لأنه هو، من حيث اتحد الحامل للصفات.
فأما في كتاب الله - تعالى - فقلما تجد أسماءه الحسنى معطوفة بالواو،
نحو:
(الرحمن الرحيم) و (العزيز الحكيم) و (الملك القدوس) ، إلى آخرها.
لأنها أسماء له - سبحانه -، والمسمى بها واحد، فلم تجر مجرى تعداد
الصفات المتغايرة ولكن مجرى الأسماء المترادفة، نحو: الأسد والليث،
وغير ذلك.
فأما فوله سبحانه: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ) ، فلأنها ألفاظ
متضادة المعاني في أصل موضوعها، فكان دخول " الواو " صرفاً لوهم
المخاطب - قبل التفكر والنظر - وعن توهم المحال، واجتماع الأضداد من
المحال، لأن الشيء لا يكون ظاهراً باطناً من وجه واحد، وإنما يكون ذلك
من وجهين مختلفين، فكان العطف ههنا أحسن من تركه، لهذه الحكمة الظاهرة،
بخلاف ما تقدم مما لا يستحيل اجتماعه من الصفات في محل واحد.
وأما قوله سبحانه وتعالى:
(غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ)
فإنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال.
وفعله - سبحانه - في غيره لا في نفسه، فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة
بين المعنيين، ولتنزلهما منزلة الجملتين، لأنه - سبحانه - يريد تنبيه
العباد على أنه يفعل
(1/187)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
هذا. ويفعل هذا، ليرجوه ويؤملوه.
ثم قال: (شَدِيدِ الْعِقَابِ) بغير واو، لأن الشدة
راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات الفعل، فصار
بمنزلة ما تقدم من قوله: (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
وكذلك قوله: (ذِي الطَّوْلِ) ، لأن لفظ (ذي) عبارة عن ذاته - سبحانه -
فصح جيمع ما أصَّلْناه، والحمد لله.
وفي هذه الآية تصديق لقوله - عليه الصلاة والسلام -
" إنَّ الله - تعالى - كتب كتاباً هو عنده فوق عرشه، فيه: إن رحمتي
غلبت غضبي ".
وذلك أن في أولها: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ) ، وعلمه محيط بما
فوق العرش وما دونه.
ثم قال: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) ، فهاتان صفتان من
صفة الرحمة.
ثم قال: (شَدِيدِ الْعِقَابِ) فهذه صفة واحدة، وقد سبقتهما صفتان من
صفات الرحمة، واثنتان تغلب واحدة، وهما سابقتان لها في الذكر، فصحت
رواية من روى: " سبقت "، ورواية من روى " غلبت غضبي ".
والله يجيرنا من غضبه ويتغمدنا برحمته وكرمه، لا ربَّ غيره.
* * *
مسألة
قالت الخرنق بنت هفان:
هذا الاسم يقال فيه: " الخرنق "، بالألف واللام، والقياس سقوطها، لأنه
اسم علم، والعلم إذا نقل من الأجناس لم تدخله الألف واللام وفي حال
العلمية، كمرأة تسمى " مزنة " أو رجل يسمى " كعباً "، أو " قرداً "، أو
" فيلاً ".
(1/188)
فإن كان منقولاً من الصفة كالحارث والعباس،
جاز إدخال الألف واللام فيه، لأن الألف واللام تدل على المعنى المعهود
فيما دخلت عليه، وهم يريدون
الإشارة إلى ثبوت هذه الصفة في المسمى، ولا يريدون الإشارة إلى معنى
الأرنب والقرد، ونحوهما في المسمى بذلك.
وإنما هي علامة وضعت للشخص ولفظه، ولا يراد بها إلا ميزة عن غيره، كما
قال " بيهس "، الملقب بنعامة حين سخر النعمان بن منذر منه، واستقبح اسم
نعامة، فقال: أبيت اللعن، إن الاسم علامةُ وليس بكرامة، ولو كان حسن
الاسم شرفاً للمسمى لاشترك الناس في اسم واحد "، فكانت هذه من حكمه
المأثورة.
فإذا ثبت هذا فالقياس أن لا يقال: الخرنق - بالألف واللام - في الاسم
العلم، إلا أن له وجهاً يخرج عليه، وهو أن يراد وصف المرأة باللين
وملاسة الجلد، أو غير ذلك من الصفات الموجودة في الخرنق، فيدخل الاسم
معنى الصفة المنقولة إلى العلمية، فيدخله الألف واللام، كما قالوا:
الرباب، والرباب منقولة من الأجناس لأنه السحاب، ولكنه مشتق من رببت
الشيء أربه، فكأنه يرب النبات بماثة ويصلحه، ثم سموا المرأة رباباً،
فتارة يدخلون الألف واللام، كأنهم يريدون معنى الصفة، وتارة
يجرون الاسم مجرى المنقول من الأجناس، كما قال:
علق القلب ربابا
ومما يقوي دخول معنى الصفة في " الخرنق " ونحوه ما حكاه سيبويه من
قولهم: مررت بسرج خز صفته، وبرجل أسد أبوه، فإذا كانوا قد أجروا الخز
مجرى النعت في إعرابه، لموضع اللين الذي فيه، وهو اسم جنس، فلا يبعد أن
يشار إلى ذلك المعنى في الأسماء المنقولة إلى العلمية، وبالله التوفيق.
(1/189)
مسألة
قوله:
لا يبعدن قومي
يسأل ههنا عن علامة الرفع في الفاعل الذي هو قومي فيقال: أمعرب هو أم
مبني؟
ومحال أن يكون مبنياً، لأنه لا علة فيه توجب البناء، ولأنه متمكن
بالإضافة، وإذا كان معرباً فأين (حرف) الإعراب؟ أهو الياء أم الميم؟
ومحال أن يكون الياء حرف إعراب، لأنه الاسم المضاف إليه، وليست من
الاسم المضاف في شيء.
فلم يبق إلا أن تكون " الميم " من " قومي " هي حرف الإعراب، وإذا كان
كذلك فأين علامة الإعراب في حال الرفع والنصب؟
والجواب: أن الضمة التي هي علامة الرفع في الفاعل هي " واو " قصيرة
الصوتِ، كما تقدم، و " الواو " تنقلب " ياء " عند مجاورة الباء، فتقول:
هؤلاء مسلمي.
فالواو - وهي علامة الرفع - قد انقلبت بالمجاورة ياء، فكذلك الضمة إذا
قلت: مسلم، تنقلب كسرة إذ أضفته إلى نفسك، كما انقلبت الواو في الجمع
المسلم حين أضفت إلى نفسك.
وإذا كان الواو - وهي أقوى من الحركة - تنقلب ياء في هذا الموطن، فما
ظنك بالحركة وهي أضعف منها؟
فالكسرة الموجودة في اللفظ إذا قلت: قومي، عين الضمة
التي قبل الإضافة، كما كانت الياء الأولى من قولك: مسلمي، هي الواو
بعينها التي كانت في قولك: مسلمون، قبل الإضافة.
وأما في حال الخفض، فالكسرة التي هي علامة الخفض ممتزجة بصوت الياء
إذا كانت الياء ساكنة، وباقية على حالها إذا كانت الياء متحركة، فاستوى
اللفظ في حال الرفع والخفض إذا قلت: قومي، أو: غلامي، كما استوى في
الجمع إذا قلت:
هؤلاء مسلمون، مررت بمسلمي.
وأما الفتحة فقد غلب عليها صوت الياء، فاستوت مع الكسرة، وإذا كان
الواو من " خاف " يغلبون عليها صوت الكثرة في حال الإمالة، حتى يكون
اللفظ بها كاللفظ
(1/190)
بباع إذا أميلت فما ظنك بالفتحة التي هي
حركة، والحركة أضعف من الحروف، ولا سيما والفتحة أضعف الحركات؟ فاستوى
لفظ علامات الإعراب في هذا الباب، لما ذكرناه من العلل والأسباب.
* * *
مسألة
قوله:
سم العداة. ..
السم - بالفتح -: عندي مصدر " سممته سما "، إذا أطعمته السم، كما تقول:
زبدته زبداً "، إذا أطعمته بالزبد.
وأما الزبد فهو الاسم. فإذا فتحت السين فالعداة مخفوض في موضع نصب،
لأنه المفعول في المعنى، وإذا ضممت " السين " فلا موضع له إلا الإضافة
المحضة.
ورواية من رواه بفتح السين أحصن للغة وأصح في المدح، لأنك تجعل العداة
مفعولين بهذا المصدر، فإذا ضممت " السين " فالسم اسم، فترجع إضافته
إضافة ملك واستحقاق لا على نحو إضافة المصدر إلى المفعول، فيكون كقولك:
رماح العداة، أو: سلاح العداة، فيكون كالكلام المحتمل للمدح وغيره.
وإذا كان مصدراً كان فى معنى الفعل، تريد أنهم يسمون العداة، أي:
يقتلونهم.
ولا بد من المجاز في كل هذا، فمجاز الكلام إذا جعلته مصدراً حذف
المضاف، كأنك قلت: ذوو سم العداة، وإذا جعلته اسماً، فمجازه التشبيه،
أي: إنهم بمنزلة السم.
وقد تخرج رواية الضم على وجه، وهو أن السم لا يكون إلا قاتلاً، ولا
يراد إلا
(1/191)
ليقتل به، وليس كالرماح والسلاح لاختلاف
المنافع والأغراض، فصار معنى الكلام: إنهم قاتلو العداة.
وعبر بالسم عن هذا المعنى.
ورواية الفتح أبين بصحيح الكلام.
وأما قوله:
وآفة الجزر
فمجازه أيضاً التشبيه، جعلهم بمنزلة الآفة للجزر.
والآفة اسم ليس بمصدر عندي، لأنه على وزن " فعلة "، كالعظمة والحدبة
وغير ذلك، وإن كان قد وجد في المصادر هذا المثال، كالعجلة والحركة.
ولكن لما لم نجد منه فعلاً ولا اسم
فاعل، حكمنا بأنه اسم غير مصدر.
فإن قيل: فقد قالوا: " رجل مؤوف ": إذا كانت به آفة؟
قلنا: باب " مؤوف "، كباب " محموم " و " مجنون "، والحمى ليست بمصدر.
وكذلك " الجان، و " الجنة ".
ولكن العرب قد تجعل ما فيه الشيء بمنزلة المفعول.
وما له الشيء بمنزلة الفاعل وإن لم يكن له فعل، كقولهم: فيمن له رمح:
رامح، وفيمن له نبل نابل، وفيما فيه الحمى: محموم.
ومكان مضبوب ومسبوع، من الضباب والسباع.
ومنه طعام مسوس ومدود إذا وقع فيه السوس والدود.
على أنه قد يقال: ساس الطعام وداد، وسوس ودود، فهو
مسوس ومدود.
ولكن الأول مقول أيضاً.
فثبت من هذا أن " الجزر " مخفوض بالإضافة، وليس له موضع إلا الخفض
بخلاف " العداة " إذا فتحت السين من " سم ".
وأما " العداة " فجمع " عاد "، كما تقول: " دُعاة " في جمع " داع ".
وأما " أعداد " فجمع " عدا "، كما تقول: " أضلاع، في جمع " ضلع ".
وأما " عداً " فليس له واحد من لفظه، وإنما هو اسم للجمع كقوم ورهط.
(1/192)
وأما " عدو " فيقع للواحد والاثنين والجمع،
لأنه - والله أعلم - بمنزلة ما جرى من المصادر على فعول: كالولوع
والقبول، فلذلك لم يثن ولم يجمع، قال الله سبحانه: (هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) .
وقد يجوز أيضاً أن يكون أعداء (جمعاً) لعدو، على تقدير حذف الحرف لا
الزائد، فيكون كالثلاثي المجموع على أفعال، يقوي ذلك أنهم قد قالوا في
المؤنث: " عَدوَّة الله ".
ولو كان مصدراً ما ساغ فيه ذلك، والوجهان متكافئان في القياس
والنظر، وبالله التوفيق.
وأما " الجزر " فيجمع " جزوراً " وهي فعول بمعنى مفعول.
وقد كان قياسه أن يكون بهاء التأنيث كالحلوبة والركوبة، ولكنهم جعلوه
اسماً مخصوصاً بالإبل دون غيرها، فضعف الاعتماد على الفعل، الذي هو
الجزر، وسار الاسم الذي لا ضمير فيه، فلم تدخله تاء التأنيث، إذ لا
يؤظط في الصفات إلا ضمائرها، ولا في الأفعال إلا فاعلوها.
وسيأتي بيان ذلك.
وقد مَرَّ منه أصل في باب الفاعل والمفعول.
فإن قيل: ما الحكمة في ثخصيص " النازلين " بالنصب على الإضمار، ورفع
" الطيبين "؟ وهل ذلك لمعنى؟ أو الحكم فيهما سواء؟
فالجواب: أن القطع في " النازلين " بنصبه على الإضمار أولى، والرفع في
" الطيبين " أولى من النصب، لأن معه واو العطف، فصار في حكلم المعطوف
على " سم العداة " و " آفة الجزر "، وليس في " النازلين " واو تشركه مع
ما قبله في الرفع، فكان أولى بالنصب ومخالفة الإعراب.
فإن قيل: فهلا أدخل الواو على " النازلين " دون " الطيبين "، أو أدخلها
عليهما معا؟
فالجواب: أن " واو " العطف وضعت لتعطف الشيء على غيره، لا لتعطف
الشيء على نفسه، فإذا تغايرت معاني الصفات حسن العطف، كقولك: الكاتب
والشاعر.
(1/193)
وإذا تقاربت معانيها قبح العطف، كقولك:
الخطيب الفصيح.
وههنا " النازلين " في معنى سم العداة، لأنهما في معنى الشجاعة.
وأما " الطيبون " ففي معنى الصفات، وهو مخالف بمعنى الشجاعة والسخاء.
فدخلت " الواو " للعطف كما دخل في قوله: " وآفة الجزر "
عطفاً على " سم العداة " لتغاير الصفات.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
(1/194)
|