تعجيل الندى بشرح قطر الندى

باب (إنَّ) وأخواتها
قوله: (الثَّانِي إِنَّ وأَنَّ لِلتَّأْكِيدِ، ولكِنَّ لِلاسْتِدْرَاكِ، وكَأَنَّ لِلَّتشْبِيهِ أَو الظَّنِّ، ولَيْتَ لِلتَّمَنِّي، ولَعَلْ لِلتَّرَجِّيِ أَو الإِشْفَاقِ أَو التَّعْلِيلِ، فَيَنْصِبْنَ المُبْتَدَأَ اسماً لَهُنّ، ويَرْفَعْنَ الْخَبَرَ خَبَراً لَهُنَّ) .
الثاني من نواسخ الابتداء: (إن وأخواتها) وهي تنصب الاسم وترفع الخبر، وهي ستة أحرف:
1-2 إِنَّ، وأنَّ: ومعناهما التوكيد. أي: توكيد نسبة الخبر للمبتدأ، ورفع الشك عنها. نحو: إن القناعة كنز، علمت أن القناعة كنز.
__________
(1) سورة ص، آية: 3.
(2) سورة ص، آية: 3.


3-لكنَّ: ومعناها: الاستدراك، وهو تعقيب الكلام بنفي ما يتوهم ثبوته نحو: الإخوان كثيرون ولكنَّ الأوفياءَ قليلون. أو إثبات ما يتوهم نفيه نحو: الكتاب رخيص لكنَّ نَفْعَهُ عظيم.
4-كأنَّ: وهي للتشبيه نحو: كأنَّ المعلمين آباء. أو الظن نحو: كأن خالدًا كاتب. (1)
5-ليت: وهي للتمني ومعناه: طلب الشيء المحبوب الذي لا يرجى حصوله إما لكونه مستحيلاً أو بعيد المنال. فالأول: ليت الشباب يعود. والثاني كقول منقطع الرجاء: ليت لي مالاً فأحجَّ منه.
6-لعل: وهي للترجي ومعناه: طلب الشيء المحبوب الذي يرجى حصوله، نحو: لعل المجاهد ينتصر. أو الإشفاق وهو توقع الأمر المخوف نحو: لعل العدو قادم. أو التعليل (2) كقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) (4) .
قوله: (فَيَنْصِبْنَ المُبْتَدَأَ اسماً لَهُنّ، ويَرْفَعْنَ الْخَبَرَ خَبَراً لَهُنَّ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهنَّ مَا الحَرْفِيَّةُ، نَحْوُ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ے} (5) ، إِلاَّ لَيْتَ فَيَجُوزُ فيها الأَمْرَانِ) .
أي أن هذه الأحرف تنصب الاسم، وترفع الخبر، بشرط ألا تتصل بهن (ما) الحرفية الزائدة، فإذا اتصلت بهن أحدثت أمرين:
الأول: كَفُّها عن العمل، ولذا تسمى (ما الكافة) أي المانعة للحرف الناسخ من العمل.
__________
(1) انظر الجنى الداني ص (572) .
(2) هذا المعنى أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائي وحملوا عليه الآية الكريمة ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء. والمعنى اذهبا على رجائكما. فالترجي راجع إلى البشر. وعزى القرطبي في تفسيره (11/200) هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه وغيره، وانظر: المغني ص379.
(3) سورة طه، آية: 44.
(4) قولاً: مصدر منصوب وعلامة نصبه الفتحة.
(5) سورة النساء، آية: 171.


الثاني: إزالة اختصاصها بالأسماء، وتهيئتها للدخول على الجملة الفعلية، ولذا تسمى (ما المهيئة) .
مثال عملها: إنَّ الحياة جهاد. فـ (إن) حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر، و (الحياة) اسمها منصوب بها (جهاد) خبرها مرفوع بها.
ومثال اقترانها بـ (ما) : إنما الحياة جهاد. فـ (إنَّ) حرف توكيد مهمل و (ما) كافة. و (الحياة) مبتدأ و (جهاد) خبر. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ے} (1) فـ (إنَّ) حرف توكيد مهمل، و (ما) كافة، (الله) مبتدأ مرفوع بالضمة، (إله) خبر مرفوع (واحد) صفة مرفوعة. وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (2) .
فـ (كأن) حرف تشبيه مهمل (ما) كافة (يساقون) فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون. والواو: نائب فاعل، وجملة (وهم ينظرون) حال من الواو.
ويستثنى من ذلك (ليت) فيجوز فيها الإعمال والإهمال تقول: ليتما الحياةٌ خاليةٌ من الكدر، بنصب (الحياة) على الإعمال، ورفعها على الإهمال.
وقول المصنف (ما الحرفية) احتراز من (ما) الاسمية، وهي الموصولة، فإنها لا تكفها عن العمل نحو: إنَّ ما في الغرفة طفل (3) ، أي: إن الذي في الغرفة طفل. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} (4) فـ (ما) اسم موصول وهي اسم (إن) ، و (صنعوا) صلة الموصول، والعائد محذوف. و (كيد) خبر (إن) والمعنى: إن الذي صنعوه كيد ساحر.
__________
(1) سورة النساء، آية: 171.
(2) سورة الأنفال، آية: 6.
(3) ما) الموصولة تكتب مفصولة عن (إنَّ) بخلاف الزائدة، فيجب وصلها.
(4) سورة طه، آية: 69.


قوله: (كإنِ المَكْسُورَةِ مُخَفَّفَةً) معنى هذا أنه كما يجوز الإعمال والإهمال في (ليتما) يجوز في (إنَّ) المكسورة الهمزة إذا خففت، وذلك بحذف النون الثانية المفتوحة، وإبقاء الأولى ساكنة وتحرك بالكسر لإلتقاء الساكنين نحو (إنِ القراءةُ لمفيدةٌ) ، والإهمال أرجح لزوال اختصاصها بالأسماء، وإذا أهملت لزمت اللام في خبر المبتدأ بعدها؛ لتفرق بينها وبين (إنْ) النافية، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
قوله: (فَأَمَّا لكِنَّ مُخَفَّفَةً فتُهْمَلُ) إذا خففت (لكن) أهملت وجوبًا لزوال اختصاصها بالأسماء، ويبقى معناها، وهو الاستدراك نحو: الكتاب صغير لكنْ نفعُه عظيمٌ، ومن دخولها على الجملة الفعلية قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (1) فـ (لكن) حرف استدراك مهمل (كانوا) فعل ماض ناقص، والواو اسمها (هم) ضمير فصل لا محل له (2) (الظالمين) خبر كان.
قوله: (وَأَمَّا أَنْ فَتَعْمَلُ، ويَجِبُ في غَيْرِ الضَّرُورِةَ حَذْفُ اسمهَا ضَمِير الشَّأْنِ، وكَوْنُ خَبَرِهَا جُمْلَةً مَفْصُولَةً إنْ بُدِئَتْ بِفِعْلٍ مُتَصَرِّفٍ غيْرِ دُعَاءٍ بـ (قَدْ) أَوْ تَنْفِيسٍ أَوْ نَفْي أَوْ لَوْ) .
إذا خففت (أن) ترتب على ذلك أربعة أحكام:
1-بقاء عملها.
2-حذف اسمها وهو ضمير الشأن.
3-كون خبرها جملةً اسمية أو فعلية.
4-وجود فاصل في الأغلب بينها وبين خبرها، إذا كان جملة فعلية فعلها متصرف لا يقصد به الدعاء.
فإن كان خبرها جملة اسمية أو فعلية فعلها جامد، أو فعلية فعلها متصرف وهو دعاء لم تحتج إلى فاصل يفصلها من (أن) ، لأن الفصل خشية التباسها بالناصبة للمضارع، والناصبة لا تقع في مثل ذلك، كما تقدم في نواصب المضارع.
__________
(1) سورة الزخرف، آية: 76.
(2) يصح أن يعرب توكيداً للضمير الواقع اسمًا لـ (كان) .


مثال الجملة الاسمية: (علمت أنْ حاتمٌ أشهرُ كرماءِ العرب) فـ (أن) مخففة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي: أنَّه، و (حاتم) مبتدأ و (أشهر) خبر، والجملة خبر (أن) المخففة، ومنه قوله تعالى: {وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فـ (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره: أنه، أي: الحال والشأن، وجملة (الحمد لله) خبرها. (2)
ومثال الجملة الفعلية التي فعلها جامد: علمت أنْ ليس للظلم بقاءٌ. ومنه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (3) فـ (أن) مخففة، واسمها محذوف، (ليس) فعل ماض ناقص، (للإنسان) خبر ليس مقدم (إلا) حرف استثناء ملغى (ما) اسم موصول في محل رفع اسم ليس مؤخر، وجملة (سعى) صلة الموصول، وجملة (ليس) مع اسمها وخبرها في محل رفع خبر (أنْ) المخففة.
ومثال الجملة الفعلية التي فعلها دعاء: قراءة نافع المدني لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} (4) بتخفيف (أنَّ) وكسر الضاد من (غضب) على أنه فعل ماض، وبقية السبعة قرأ بتشديد (أنَّ) ونصب ما بعدها.
ففي هذه المواضع الثلاثة لا تحتاج (أن) المخففة إلى فاصل. وأما إذا كان خبرها جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء فإنه يؤتى - في الغالب - بفاصل من هذه الأشياء الأربعة:
__________
(1) سورة يونس، آية: 10.
(2) تقدم في نواصب المضارع أن (أن) لا تكون مخففة إلا إذا تقدم عليها ما يدل على اليقين. وأعربت هنا (مخففة) مع أنه لم يتقدم عليها ذلك. فالظاهر أن اشتراط تقدمه أغلبي. وقد نص على ذلك صاحب التصريح في نواصب المضارع (2/332) .

(3) سورة النجم، آية: 39.
(4) سورة النور، آية: 9.


1- (قد) نحو: أيقنت أنْ قد خُظَّ ما هو كائن، قال تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} (1) فـ (أن) مخففة، واسمها ضمير الشأن محذوف. وجملة (صدقتنا) في محل رفع خبر (أنْ) ، والمصدر المؤول من (أن) وما بعدها في محل نصب. سدَّ مسد مفعولي (نعلم) . (2)
2-أحد حرفي التنفيس، أي: الاستقبال، وهما: (السين) نحو: إنْ لم تسمع نصحي فاعترف أنْ ستندم، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (3) (4) أو (سوف) نحو: علمت أنْ سوف يأتي ما قضى الله.
3-أحد حروف النفي الثلاثة التي استعملتها العرب في هذا الموضع وهي: (لا، لن، لم) نحو: أيقنت أنْ لا يضيعُ عند الله إحسان، قال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (5) ، ونحو: جزمت أنْ لن يضيعَ العرف بين الله والناس، ونحو قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} (6) فـ (أن) في هذه الآيات مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المصدرة بحرف النفي في محل رفع خبرها.
4- (لو) والنص عليها في كتب النحاة قليل مع أنها كثيرة في المسموع، نحو: أوقن أنْ لو استفاد المسلم مما يسمع لصلح المجتمع، قال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (7) . فـ (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، (لو) حرف شرط غير جازم، وجملة الشرط وفعله وجوابه في محل رفع خبر (أنْ) .
وقد ورد ترك الفاصل في قول الشاعر:
__________
(1) سورة المائدة، آية: 113.
(2) راجع باب (ظن) وأخواتها.
(3) سورة المزمل، آية: 20.
(4) تقديم إعراب الآية في نواصب المضارع.
(5) سورة طه، آية: 89.
(6) سورة البلد، آية: 7.
(7) سورة الجن، آية: 16.


علموا أنْ يؤمَّلون فجادوا ……قبل أن يُسألوا بأعظم سُؤْلِ (1)
فأعمل (أن) المخففة في الاسم، وهو ضمير الشأن المحذوف وفي الخبر وهو جملة (يؤملون) ، ولم يأتي بالفاصل.
قوله: (وَأمَّا كَأَنَّ فتَعْمَلُ ويَقِلُّ ذِكْرُ اسمهَا ويُفْصَلُ الْفِعْلُ مِنْهَا بِـ (لَمْ) أَوْ (قَدْ)) .
إذا خففت (كأن) - بحذف نونها الثانية المفتوحة وإبقاء الأولى ساكنة - ترتب على تخفيفها أمور:
1-بقاء عملها.
2-جواز إظهار اسمها. وهذا قليل، والأغلب أنه ضمير الشأن محذوف، فمثال حذفه: كأنْ عصفورٌ سهمٌ في السرعة، فـ (كأن) مخففة واسمها ضمير الشأن محذوف. أي (كأنَّه) أي: الحال والشأن. وجملة (عصفور سهم) خبرها.
ومثال ذكره: يدق البَرَدُ النافذة وكأنْ حجرًا صغيرًا يدق.
3-أن خبرها لابد أن يكون جملة إذا وقع اسمها ضمير شأن. فإن كانت اسمية لم تحتج لفاصل - كما تقدم في (أنْ) - وإن كانت فعلية فُصِلَ بـ (لم) مع المضارع، و (قد) مع الماضي.
__________
(1) معناه: أن هؤلاء الأجواد علموا أن الناس يرجون معروفهم وإحسانهم فجادوا بالعطاء قبل أن يتوجه إليهم أحد بالسؤال.
إعرابه: (علموا) فعل وفاعل. (أن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف. (يؤملون) فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. والجملة خبر (أن) (فجادوا) الفاء عاطفة وجادوا: فعل وفاعل. والجملة معطوفة على جملة (علموا) الابتدائية فلا محل لها. (قبل) ظرف زمان منصوب متعلق بـ (جادوا) (أن) مصدرية (يسألوا) فعل ونائب فاعل. و (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بإضافة (قبل) إليه. (بأعظم سؤل) جار ومجرور ومضاف إليه.


مثال (لم) : كأن لم تنفعك نصيحتي، وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (1) فـ (ها) مفعول أول لـ (جعل) و (حصيدًا) مفعول ثان. (كأن) مخففة. واسمها ضمير الشأن محذوف. وجملة (لم تغن) خبرها في محل رفع.
ومثال (قد) : كأن قد طلع الفجر. فـ (كأن) مخففة، واسمها ضمير الشأن محذوف. وجملة (قد طلع الفجر) في محل رفع خبرها.
قوله: (وَلاَ يَتَوَسَّطُ خَبَرُهُنَّ إلاَّ ظَرْفاً أَوْ مَجْرُوراً نَحْوُ {إِن فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} (2) {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} (3)) .
خبر هذه النواسخ نوعان:
1-أن يكون مفرداً أو جملة، وهذا لا يجوز توسطه بين الناسخ والاسم، ولو قُدِّم لبطل عمل الناسخ، وفسد الأسلوب.
…مثال المفرد إنَّ الحقَّ منتصرٌ، فـ (الحق) اسمها، و (منتصر) خبرها. ومثال الجملة: إن الإسلام آدابه عالية، فـ (الإسلام) اسمها. (آدابه) مبتدأ (عالية) خبر المبتدأ، والجملة خبر (إنَّ) .
2- أن يكون شبه جملة - وهو الظرف والمجرور - وهذا يجوز توسطه نحو: إن العزَّ في طاعة الله، فتقول: إن في طاعة الله العزَّ، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) } (4) فـ (في ذلك) خبر (إنَّ) مقدم (لعبرة) اسمها مؤخر، واللام للابتداء. وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} (5) فـ (لدينا) لدى: ظرف مكان منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة (ياء) ، و (نا) مضاف إليه، وهو خبر مقدم، (أنكالاً) اسم (إن) مؤخر (6) ، والأنكال: جمع نِكْل، بكسر النون أي: قيودًا ثقالاً.
__________
(1) سورة يونس - آية: 24.
(2) سورة آل عمران، آية: 13.
(3) سورة المزمل، آية: 12.
(4) سورة النازعات، آية: 26.
(5) سورة المزمل، آية: 12.
(6) تقدم الخبر في هذا المثال واجب لأن الاسم نكرة كما تقدم في الابتداء.


والمراد بجواز التوسط: ما يقابل الامتناع، لا ما يقابل الوجوب، لأنه قد يجب التوسط. وقد يجب التأخر. فالحالات للخبر الظرفي ثلاث:
1-الجواز كما تقدم.
2-وجوب التوسط نحو: إن في الفصل طلابَهُ، كما تقدم في الابتداء.
3-وجوب التأخر نحو: إن السعادة لفي العمل الصالح، فلا يجوز تقديم الخبر؛ لوجود لام الابتداء (1) ، قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) } (2) .
واعلم أن المصنف لما ذكر امتناع التوسط في غير الظرف والمجرور فهم منه امتناع التقدم على الحرف الناسخ، لأن امتناع الأسهل يستلزم امتناع غيره. ولا يلزم من تجويز توسط الظرف والمجرور تجويز التقدم على الحرف الناسخ، لأنه لا يلزم من تجويز الأسهل تجويز غيره. بخلاف العكس.
قوله: (وَتُكْسَرُ إنَّ في الاْبتِداء نَحْوُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) } (3) وبَعْدَ الْقَسَم نَحْوُ: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) } (4) والْقَوْلِ نَحْوُ: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} (5) وقَبْلَ اللاَّمِ نَحْوُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ) (6) .
لهمزة (إن) ثلاث حالات: وجوب الفتح، ووجوب الكسر، وجواز الوجهين.
__________
(1) لأن دخول لام الابتداء على خبر (إن) مشروط بتأخره، كما سيأتي إن شاء الله.
(2) سورة الانفطار، آية: 13.
(3) سورة القدر، آية: 1.
(4) سورة الدخان، آية 1 - 3.
(5) سورة مريم، آية: 30.
(6) سورة المنافقون، آية: 1.


والقاعدة في هذه المسألة: أن كل موضع يحتاج فيه ما قبل (إنَّ) إلى مصدر أي: إلى مفرد (1) فإن الهمزة تفتح؛ لأن فتحها معناه: أن لمصدر المؤول يحل محلها، وكل موضع يحتاج فيه ما قبل (إن) إلى جملة فإن الهمزة تكسر. وكل موضع يصح فيه الوجهان فإن الهمزة يجوز فتحها وكسرها.
فمثال وجوب فتحها: سرني أنك مواظب على الصف الأول، فيجب فتح همزة (إن) لأن المقام يستدعي فاعل (سرَّ) والفاعل لا يكون إلا مفردًا فـ (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل (سر) أي: سرني مواظبتك.
وأما وجوب كسرها - وقد اقتصر عليه المصنف - ففي مواضع ذكر منها أربعة:
1-أن تقع (إن) في ابتداء الكلام سواء كان الابتداء حقيقياً كقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) } (2) فـ (إن) حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر، و (نا) اسمها، وجملة (أنزلناه) خبرها. أو حكمياً كالواقعة بعد (ألا) الاستفتاحية كقوله تعالى: {أَلَّا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (3) فـ (ألا) حرف استفتاح (إن) حرف ناسخ و (الهاء) : اسمها، والميم علامة الجمع (هم) ضمير فصل لا محل له (المفسدون) خبر إن.
__________
(1) وذلك كالفاعل والمفعول به ونائب الفاعل والاسم المجرور بحرف. والمبتدأ والخبر. فهذه الأصل فيها أن تكون مفردًا. نحو: يسرني أن تصدق أي: صدقك، أتمنى أن تستقيم المرأة أي: استقامة المرأة، يخاف أن تزول النعم: أي: زوالها. عجبت من أن تتكبر أي: من تكبرك. أن تنصح الصديق أفضل، أي: نصحك، الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره أي: ذكرك.
(2) سورة القدر، آية: 1.
(3) سورة البقرة، آية: 12.


2-أن تقع جوابًا للقسم وقد حذف فعل القسم، سواء ذكرت اللام في خبرها كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) } (1) فـ (الواو) حرف قسم وجر، و (العصر) اسم مقسم به مجرور. وجملة (إن الإنسان لفي خسر) جواب القسم لا محل لها، أو لم تذكر، كقوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (2) ، فـ (حم) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه حم. مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها حركة الأداء. (والكتاب) الواو حرف قسم وجر. و (الكتاب) اسم مقسم به مجرور، وجملة (إنا أنزلناه) جواب القسم لا محل لها.
فإن ذكر فعل القسم وجب كسرها، بشرط وجود اللام، نحو: أحلف بالله إن التحيل على الربا لمحرم. قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} (3) ، وإن لم توجد اللام جاز الوجهان نحو: أحلف أن ثمرة العلم العمل، فالكسر على أنها واسمها وخبرها جواب القسم، والفتح على أنها واسمها وخبرها مصدر منصوب بنزع الخافض سد مسد الجواب، والتقدير: أحلف على كون العمل ثمرة العلم.
3-أن تقع في صدر جملة محكية بالقول نحو: قال الأستاذ: إن السعادة في القناعة؛ لأن المحكي بالقول لا يكون إلا جملة في الأغلب، ومنه قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} (4) . فـ (قال) فعل ماض مبني على الفتح، والجملة من (إن) واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول.
__________
(1) سورة العصر، آية: 1، 2.
(2) سورة الدخان، آية: 1، 3.
(3) سورة التوبة، آية: 56.
(4) سورة مريم، آية: 30.


4-أن تقع بعد فعل من أفعال القلوب وقد علق عن العمل (1) بسبب وجود لام الابتداء في خبرها نحو: علمت إن الإسراف لطريق الفقر، فـ (علمت) : (علم) فعل ماض ينصب مفعولين، والتاء: فاعل، وجملة (إن الإسراف لطريق الفقر) سدت مسد مفعولي (علم) ، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} (2) ، فـ (يعلم) فعل مضارع ينصب مفعولين. وفاعله ضمير مستتر، وجملة (إنك لرسوله) سدت مسد مفعولي (يعلم) (3) .
فإن لم توجد اللام في خبرها فُتحت أو كُسرت، نحو: علمت أنَّ المصارفَ الربويةَ بلاءٌُ. ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} (4) ، فالقراءة بفتح همزة (إن) وهي واسمها وخبرها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي (علم) .
وأما جواز الوجهين في همزة (إن) وهي الحالة الثالثة فلها مواضع، وقد مر بعضها ولم يذكرها ابن هشام رحمه الله.
قوله: (وَيَجُوزُ دُخُولُ اللاَّم عَلَى مَا تَأَخَّرَ مِنْ خَبَرِ إنَّ المَكْسُورَة أو اسمهَا أوْ مَا تَوَسَّط مِنْ مَعْمُولِ الخَبَرِ أوِ الْفَصْلِ، ويَجِبُ مَعَ المُخَفَّفَةِ إنْ اهْمِلَتْ ولَمْ يَظْهَرِ المَعْنَى) .
__________
(1) التعليق إبطال العمل في اللفظ لا في المحل، وسيأتي ذلك في باب (ظن) إن شاء الله.
(2) سورة المنافقون، آية: 1.
(3) وذلك لأن الفعل منع من العمل في الظاهر فلم ينصب لفظ المفعولين، ولكنه في التقدير عامل. فلذا صارت الجملة في محل نصب قائمة مقام المفعولين وإنما منع الفعل من العمل لوجود لام الابتداء.
(4) سورة البقرة، آية: 187.


المراد بـ (اللام) : لام الابتداء. وهي لام مفتوحة يؤتى بها لقصد التوكيد، سميت بذلك، لكثرة دخولها على المبتدأ، أو ما أصله المبتدأ كقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} (1) ، فـ (اللام) للابتداء (أنتم) مبتدأ (أشد) خبر، (رهبة) تمييز، وقوله تعالى: {إِن فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} (2) . فدخلت اللام على اسم (إن) المؤخر. وأصله المبتدأ، وتقدم إعراب الآية قريباً.
ودخول اللام نوعان:
النوع الأول: دخول جائز. وهذا بعد (إن) المكسورة على أربعة أشياء:
1-خبر (إن) بشرط تأخره عن الاسم نحو: إن الكذب لممقوت. إن النجاة لفي الصدق.
2-اسم (إن) بشرط تأخره عن الخبر نحو: إن في حوادث الدهر لعبرة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (3) .
3-معمول خبر (إن) بشرط توسطه بين اسم (إن) وخبرها نحو: إنَّ الشدائدَ صانعةٌ أبطالاً، فتقول: إنَّ الشدائدَ لأبطالاً صانعةٌ.
4-ضمير الفصل، وهو ضمير يذكر بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر (4) نحو: إن الدنيا لهي الفانية. قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (5) .
__________
(1) سورة الحشر، آية: 13.
(2) سورة آل عمران، آية: 13.
(3) سورة سبأ، آية: 9.
(4) ضمير الفصل يؤدي في الكلام معنى الحصر والاختصاص والتوكيد، وفي إعرابه خلاف والأظهر أنه لا محل له من الإعراب فهو مثل (كاف) الخطاب في أسماء الإشارة حيث قالوا: إنها حرف خطاب لا محل له مع أنها ضمير. وما بعد ضمير الفصل يعرب حسب حاجة ما قبله.
(5) سورة الشعراء، آية: 9.


النوع الثاني: الدخول الواجب. فيجب الإتيان باللام إذا خففت (إن) وأهملت ولم يظهر قصد الإثبات، وإنما لزمت اللام لتفرق بينها وبين إنْ النافية، ولهذا تسمى (اللام الفارقة) نحو: إنْ خالد لمسافر. فلولا وجود اللام لاحتمل أن يكون نفيًا لأن (إنْ) تأتي نافية.
فإن عملت لم تلزم اللام لأنها لا تلتبس بـ (إن) النافية؛ لأن النافية لا تنصب الاسم وترفع الخبر نحو: إنْ خالدًا مسافر، فهو إثبات، وكذا (إذا) ظهر القصد بأن وجد قرينة تبين المراد، وهو التوكيد نحو: إنِ الاستقامةُ سعادةُ الدارين، فهي مخففة من الثقيلة مهملة، لأن المعنى يفسد على اعتبارها نافية.
باب (لا) النافية للجنس
قوله: (وَمِثْلُ إِنَّ لاَ النَّافِيَةُ للْجِنْسِ لَكِنْ عَمَلُهَا خَاصٌ بِالنَّكِرَاتِ المُتَّصِلَةِ بِهَا نَحْوُ: لاَ صَاحِبَ عِلْمٍ مَمْقُوتٌ. وَلاَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا عِنْدِي. وَإِنْ كَانَ اسْمُهَا غَيْرَ مُضَافٍ وَلاَ شِبْهَهُ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ في نَحْوِ: لاَ رَجُلَ وَلاَ رِجَالَ، وَعَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْكَسْرِ في نَحْوِ: لاَ مُسْلِمَاتٍ، وَعَلَى الْيَاءِ في نَحْوِ: لاَ رَجُلَيْنِ وَلاَ مُسْلِمينَ) .
من نواسخ الابتداء: (لا) النافية للجنس، وهي مثل (إنَّ) في عملها، فتنصب الاسم - لفظًا أو محلاً - وترفع الخبر.
ومعنى (النافية للجنس) أي: نفي الخبر عن الجنس كله على سبيل الاستغراق والشمول. فإذا قلت: لا طالبَ حاضرٌ، فقد نفيت الحضور عن جميع أفراد الطلاب، فلا يصح أن تقول: لا طالب حاضر بل طالبان، لأن هذا تناقض. بخلاف (لا) العاملة عمل (ليس) فإنها ليست نصًا في نفي الجنس. فهي تحتمل نفي الجنس، وتحتمل نفي الواحد (1) فإن قدرتها نافية للواحد صح أن تقول: لا طالبٌ حاضرًا بل طالبان، وإن قدرتها نافية للجنس لم يجز ذلك.
__________
(1) وتقدم ذلك في الكلام عليها مع الحروف العامة عمل (ليس) .


وهذا إن كان الاسم مفردًا. فإن كان مثنى أو جمعًا فالاحتمال موجود فيهما معًا نحو: لا عاقلين متشاتمان. لا مجدين مذمومون، ونحو: لا عاقلان متشاتمين، لا مجدون مذمومين، ففي هذا احتمال نفي الحكم عن الجنس كله أو نفي قيد التثنية فقط أو قيد الجمع فقط.
وتسمى (لا) النافية للجنس (لا) التبرئة؛ لتبرئة أفراد الجنس عن حكم الخبر. وهي تختص بهذه التسمية لقوة دلالتها على النفي المؤكد أكثر من غيرها من أدوات النفي الأخرى.
وقد ذكر ابن هشام لعملها شرطين:
الأول: أن يكون اسمها وخبرها نكرتين: فلا تعمل في المعرفة. فإن دخلت على معرفة وجب تكرارها نحو: لا خالد في المسجد ولا هشام.
الثاني: أن يكون الاسم مقدمًا والخبر مؤخرًا. فإن تقدم الخبر بطل عملها ووجب تكرارها، نحو: لا في المعهد طلاب ولا مدرسون، ومنه قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (1) (2) فـ (لا) نافية ملغاة. (فيها) خبر مقدم (غول) مبتدأ مؤخر (ولا) الواو عاطفة. و (لا) مؤكدة للنفي. (هم) مبتدأ. وجملة (ينزفون) خبر. والواو نائب فاعل.
وإذا استوفت شروط عملها. فلا يخلو اسمها من ثلاث حالات:
1-أن يكون مفرداً، أي: كلمة واحدة، فالمفرد هنا: ما ليس بمضاف ولا شبيه بالمضاف، فيدخل فيه المفرد، نحو: لا سرورَ دائمٌ، وجمع التكسير نحو: لا كواكبَ طالعاتٌ. والمثنى نحو: لا ضدينِ مجتمعان. وجمع المذكر السالم نحو: لا متنافسينَ في الخير نادمون. وما جمع بألف وتاء نحو: لا متبرجاتٍ محترماتٌ.
__________
(1) سورة الصافات، آية: 47.
(2) أي: ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم {ولا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي: لا يسكرون عنها أي بسببها كما في خمر الدنيا.


وحكم الاسم في هذه الحال أنه يبنى على ما كان ينصب به. فالمفرد وجمع التكسير يبنيان على الفتح، والمثنى وجمع المذكر السالم يبنيان على الياء. وما جمع بألف وتاء يبنى على الكسر، لأنه الأصل في هذا الجمع، ويجوز بناؤه على الفتح كما ذكر المصنف رحمه الله.
فنحو: لا سرور دائم، لا: نافية للجنس تنصب الاسم وترفع الخبر. (سرور) اسمها مبني على الفتح في محل نصب (دائم) خبرها مرفوع بها وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
2-أن يكون اسمها مضافاً، أي: مكونًا من كلمتين أضيفت الأولى إلى الثانية نحو: لا طالبَ علم ممقوتٌ.
3-أن يكون شبيهاً بالمضاف، أي: مكونًا من كلمتين للأولى تعلق بالثانية غير الإضافة (1) نحو: لا عاصيًا أباه موفق، لا عشرين درهماً عندي.
وحكم الاسم في هذين الحالين أنه ينصب لفظًا. نحو: لا عاصيًا أباه موفق. لا: نافية للجنس (عاصيًا) اسمها منصوب بها وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. وفاعله ضمير مستتر. (أباه) مفعول به لاسم الفاعل، والهاء مضاف إليه، (موفق) خبر (لا) .
قوله: (وَلَكَ في نَحْوِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ فَتْحُ الأَوَّلِ، وَفي الثَّانِي الْفَتْحُ وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ كَالصِّفَةِ في نَحْو: لاَ رَجُلَ ظَرِيفٌ وَرَفْعُهُ فَيَمْتَنعُ النَّصْبُ، وإِنْ لَمْ تُكَرَّرْ لاَ أَوْ فُصِلَت الصِّفِةُ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُفْردَةٍ امْتَنَعَ الْفَتُحُ) .
إذا تكررت (لا) مع النكرة وسبق الثانية عاطف نحو: (لا حول ولا قوة إلا بالله) جاز في النكرة الأولى وجهان:
1-البناء على الفتح لأنه اسم مفرد - كما تقدم - فيجوز في الثاني ثلاثة أوجه:
(أ) البناء على الفتح (لا قوةَ) فتكون الثانية عاملة عمل (إن) .
__________
(1) فيدخل فيه الرفع نحو: لا حاضرًا أبوه موجود. أو النصب كالمثال المذكور أو التعلق به نحو: لا راكبًا في السيارة موجود. أو العطف عليه نحو: لا ثلاثة وثلاثين عندنا.


(ب) النصب (ولا قوةً) عطفًا على محل اسم (لا) وتكون الثانية زائدة للتوكيد، وهذا ضعيف؛ لأن فيه نصب المفرد وحقه البناء.
(ج) الرفع (ولا قوةٌ) عطفًا على محل (لا) واسمها. وتكون الثانية زائدة أو عاملة عمل (ليس) أو مبتدأ و (لا) ملغاة.
2-ويجوز في الأول الرفع (لا حولٌ) على الابتداء أو على أن (لا) عاملة عمل ليس. فيجوز في الثاني الرفع والبناء على الفتح، ولا يجوز النصب، لأنه إنما جاز في الوجه الأول لإمكان العطف على محل اسم (لا) ، وهنا ليست بناصبة فيسقط النصب. ولهذا قال: (ورفعه فيمتنع النصب) أي: يجوز رفع الأول، وإذا رفعته امتنع نصب الثاني.
فإن لم تتكرر (لا) نحو: لا مدرسَ وطالبٌ في المعهد أو طالبًا جاز في المعطوف (طالب) النصب عطفاً على محل اسم (لا) ، وجاز الرفع عطفًا على (لا) مع اسمها كما تقدم.
أما إذا وقع بعد اسم (لا) نعت فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه: البناء على الفتح، أو النصب، أو الرفع، وذلك بثلاثة شروط:
1-أن يكون النعت مفرداً أي ليس مضافًا ولا شبيهًا به.
2-أن يكون اسم (لا) مفردًا.
3-ألا يفصل بين النعت والمنعوت بفاصل.
مثال ذلك: لا مدرسَ مهمل ناجحٌ. فيجوز في النعت (مهمل) البناء على الفتح لتركبه مع اسم (لا) ، والنصب مراعاة لمحل اسم (لا) ، والرفع لمحلها مع اسمها؛ لأنهما بمنزلة المبتدأ المرفوع. وهذا معنى قوله: (كالصفة في نحو لا رجلَ ظريفٌ) فالشروط تستفاد من المثال.
فإذا تخلف شرط امتنع البناء، وجاز النصب أو الرفع. على التوجيه السابق.
فمثال تخلف الأول: لا مدرسَ مهملُ الطلابِ ناجحٌ. لأن النعت مضاف.
ومثال تخلف الثاني: لا تاجرَ ملابسٍ خداعٌ ناجحٌ. لأن اسم (لا) ليس بمفرد بل هو مضاف.
ومثال تخلف الثالث: لا طالبَ في الفصل ظريفٌ وظريفًا؛ لأنه فصل بين النعت والمنعوت.
باب ظن وأخوتها


قوله: (الثَّالِثُ ظَنَّ ورَأَى وحَسِبَ ودَرَى وخَالَ وزَعَمَ ووَجَدَ وعَلِمَ القَلْبِيَّاتُ فَتَنْصِبُهُما مَفْعُولَيْن نَحْوُ: رَأَيْتُ الله أَكْبَرَ كُلّ شَيْءٍ) .
هذا هو القسم الثالث من نواسخ الابتداء وهو (ظن وأخواتها) وهي أفعال تنصب المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان. وهو المراد بقوله: (فتنصبهما) .
وأفعال هذا الباب نوعان:
1-أفعال القلوب. وهي التي ذكر المصنف - رحمه الله - وهي التي معانيها قائمة بالقلب متصلة به كالعلم والظن والزعم ونحوها.
2-أفعال التحويل وهي التي تدل على تحول الشيء من حالة إلى أخرى مثل: جعل، صيَّر، نحو: جعلت الذهب خاتمًا. صيرت الزجاج لامعًا. ولم يذكرها المصنف.
وأما أفعال القلوب فمنها:
1-ظن، والغالب كونها للرجحان، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح، نحو ظننت الكتاب موجودًا. فـ (ظن) فعل ماض ناسخ ينصب مفعولين، والتاء فاعل. (الكتاب) مفعول أول (موجودا) مفعول ثان.
2-رأى، والغالب كونها لليقين - وهو الاعتقاد الجازم - فتكون بمعنى (علم) : نحو رأيت العلماء باقين ما بقي الدهر، ومنه قول الشاعر:
رأيت اللهَ أكبرَ كلِّ شيء ………محاولةً وأكثرَهم جنوداً (1)
فلفظ الجلالة منصوب على التعظيم. و (أكبر) مفعول ثانٍ.
3-حسب وتفيد الرجحان في التغلب، فتكون بمعنى: (ظن) ، نحو حسب المهمل النجاح سهلاً.
__________
(1) رأيت: فعل وفاعل. (الله) منصوب على التعظيم وهو المفعول الأول عند النحاة (أكبر) مفعول ثان (كل شيء) كل: مضاف إلى أكبر. وشيء مضاف إليه. (محاولة) تمييز (وأكثرهم) معطوف على (أكبر) (جنودًا) تمييز.


4-درى: وتفيد اليقين، فتكون بمعنى: (علم) نحو: دريتُ ثمرةَ العلِم العملَ (1) .
5-خال: وتفيد الرجحان في الغالب فتكون بمعنى: (ظن) نحو: خِلْتُ الدراسةَ متعةً.
6-زعم: وتفيد الرجحان في الغالب، فتكون بمعنى: (ظن) ، نحو أنت زعمت خالدًا جريئًا (2) .
7-وجد: وتفيد اليقين، فتكون بمعنى: (علم) ، نحو: وجدتُ الاستقامةَ طريقَ النجاةِ.
8-علم: وتفيد اليقين بكثرة، نحو: علمت الغيبةَ محرمةً.
قوله: (وَيُلْغَيْنَ بِرُجْحَانٍ إنْ تَأَخَّرْنَ نَحْوُ: القَوْمُ في أَثَري ظَنَنْتُ، وبِمُسَاوَاةٍ إنْ تَوَسَّطْنَ نَحْوُ: وفي الأَرَاجِيزِ خِلْتُ اللُّؤْمُ والخَوَرُ) .
أفعال هذا الباب لها ثلاثة أحكام:
1-الإعمال، وهو نصب المبتدأ والخبر، وهذا هو الأصل. وهو واقع في أفعال القلوب والتحويل.
2-الإلغاء.
3-التعليق.
وهذان مختصان بأفعال القلوب.
والإلغاء: إبطال العمل لفظًا ومحلاً. لضعف العامل بتوسطه، أو تأخره، وإلغاء العامل المتأخر أقوى من إعماله، نحو: الصدقُ نافعٌ علمتُ، فـ (الصدق) مبتدأ و (نافع) خبر، وقول الشاعر:
__________
(1) نصب (درى) للمفعولين قليل. والأكثر أن يتعدى لواحد بالباء نحو: دريت بسفرك فإن دخلت عليه الهمزة تعدى بها لواحد وللثاني بالباء كما في قوله تعالى: {ولا أَدْرَاكُمِ بِهِ} فضمير المخاطب مفعول أول. والمجرور مفعول ثان.
(2) الأكثر في (زعم) أن تتعدى لمعموليها بواسطة (أن) المؤكدة سواء كانت مشددة أو مخففة من الثقيلة كقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} وقوله تعالى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والمصدر المؤول سد مسد مفعولي (زعم) . واستعملت (زعم) في هذه الآيات بمعنى: القول الباطل.


(2) القَوْمُ في أَثَرِي ظَنَنْتُ فَإِنَ يَكُنْ ……مَا قَدْ ظَنَنْتُ فَقَدْ ظَفِرْتُ وَخَابُوا (1)
فالقوم: مبتدأ، وفي أثري: خبر، وظن: ملغاة.
وأما المتوسط فقيل: إعماله أولى، لأنه الأصل، وقيل: إعماله وإلغاؤه سواء، كما ذكر المصنف، نحو: الصدقُ - علمت - نافعٌ، وقول الشاعر:
(1) أبِالأراجيز يابن اللُؤمِ تُوعِدُنِي ……وفي الأراجيز خِلتُ اللؤمُ والخورُ (2)
فـ (اللؤم) مبتدأ مؤخر و (في الأراجيز) خبر مقدم. وأُلغيت (خِلتُ) لتوسطها.
__________
(1) أثري: بالفتح أي: خلفي: (فإن يكن ما قد ظننت فقد ظفرت) : أي: أن يكن ظني واقعًا فقد ظفرت إما بإفلاتي منهم أو بالوقعية بهم.
إعرابه: (القوم) مبتدأ (في أثري) خبر والياء مضاف إليه (ظننت) فعل وفاعل (فإن) الفاء للتفريع. و (إن) حرف شرط جازم (يكن) فعل مضارع تام مجزوم بالسكون (ما) اسم موصول (فاعل) (يكن) (قد) حرف تحقيق. (ظننت) فعل وفاعل. (فقد) الفاء واقعة في جواب الشرط و (قد) حرف تحقيق (ظفرت) فعل وفاعل. في محل جزم جواب الشرط (وخابوا) معطوفة على جملة جواب الشرط.
(2) الأراجيز: جمع أرجوزة بمعنى: الرجز أي: من بحر الرجز، ومن غيره: قصيدة، واللؤم: بضم اللام وبالهمزة: أن يجتمع في الإنسان الشح ومهانة النفس. والخور: بالفتح: الضعف. والمعنى: أتوعدني بالأراجيز وفيها اللؤم والضعف.
إعرابه: (أبالأراجيز) الهمزة للاستفهام، والباء حرف جر. و (الأراجيز) اسم مجرور. متعلق بالفعل (توعدني) (يا) حرف نداء (ابن) منادى منصوب (اللؤم) مضاف إليه، (توعدني) فعل مضارع مرفوع بالضمة. والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره (أنت) والنون للوقاية. والياء مفعول به (وفي الأراجيز) الواو للحال: (في الأراجيز) خبر مقدم (خلت) فعل وفاعل. والجملة لا محل لها من الإعراب معترضة. (اللؤم) مبتدأ مؤخر. (والخور) معطوف على (اللؤم) مرفوع مثله. وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب حال.


وأما إذا تقدم الفعل - وهي الحالة الثالثة - فإنه لا يجوز الأهمال على المشهور من كلام العرب.
قوله: (وَإنْ وَلِيَهُنَّ مَا أَوْ لا أو إن النَّافَياتُ أَوْ لاَمُ الابْتِدَاءِ أَوِ الْقَسَمِ أَوْ الاسْتِفْهَامُ بَطَلَ عَمَلُهُنَّ في الَّلفْظِ وُجوباً، وسُمِّيَ ذَلِكَ تَعْلِيقاً نَحُوُ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} (1)) .
هذا الحكم الثالث المتعلق بأفعال القلوب - كما تقدم - وهو التعليق: وهو إبطال العمل لفظًا لا محلاً، لمجيء ماله صدر الكلام بعد الفعل.
فمثلاً: علمت الإسبالَ محرمًا، نجد الفعل (عِلَمَ) قد نصب المفعولين لفظًا، فإذا قلنا: علمتُ للإسبالُ محرمٌ. لم نر الفعل نصب المفعولين في الظاهر، بسبب وجود مانع، وهو لام الابتداء، التي فصلت الفعل الناسخ عن مفعوليه؛ لأن لها الصدارة فلا يعمل ما قبلها فيما بعدها، لكن عمل الفعل في المحل. فـ (الإسبال) مبتدأ. (محرم) خبره، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب سدَّت مسجد مفعولي (علم) ، أي: قامت مقامها لتعذر نصبهما لفظًا.
والمعلِّق عن العمل أنواع:
1-حروف النفي (ما، لا، إن) نحو: علمت ما التحيلُ شجاعةٌ، وجدت لا الإفراطُ محمودٌ ولا التفريطُ، رأيت إنِ التَحَيُّلُ جائزٌ أي: ما التحيل جائز.
2-لام الابتداء نحو: علمت لزوال النعمة بكفرها.
3-لام القسم نحو: علمت ليحاسبن المرء على عمله.
4-الاستفهام وله صورتان.
الأولى: أن تدخل همزة الاستفهام على أحد المفعولين، نحو: علمت أعليُّ مسافر أم مقيم.
__________
(1) سورة الكهف، آية: 12.


الثانية: أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام، نحو: علمت أيُّهم مواظب على الحضور، ومنه قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} (1) فاللام للتعليل، والمضارع بعدها منصوب بـ (أن) مضمرة جوازاً (أيُّ الحزبين) مبتدأ ومضاف إليه (أحصى) خبره. والجملة في محل نصب سدَّت مسد مفعولي (نعلم) (2) .