تعجيل الندى بشرح قطر الندى

باب الفاعل
قوله: (الفَاعِلُ مَرْفُوعٌ كَقَامَ زَيْدٌ، وَمَاتَ عَمْرٌو، وَلاَ يَتأَخَّرُ عَامِلهُ عَنْهُ) .
لما فرغ المصنف - رحمه الله - من الكلام على الجمل الاسمية، وهي المبتدأ والخبر، ونواسخ الابتداء، شرع في ذكر الجمل الفعلية، وأولها: الفاعل.
والفاعل: ما قُدِّم الفعل التام أو شبهه عليه بالأصالة، وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه.
وقولنا: (ما) أي لفظ، وهو الاسم الصريح نحو: جاء الحق، أو المؤول (3) نحو: يسرني أن تصدق. فـ (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل (يسر) أي: يسرني صدقُك.
وقولنا: (قدم الفعل التام عليه) شامل للفعل المتصرف كما مُثَّلَ، والجامد. نحو: نعم القائد خالد. فـ (نعم) فعل ماض جامد (4) للمدح (القائد) فاعل (نعم) ، والجملة خبر مقدم، (خالد) مبتدأ مؤخر.
__________
(1) سورة الكهف، آية: 12.
(2) اعلم أن المصدر المؤول من (أنَّ) ومعموليها. و (أن) وما دخلت عليه يسد مسد المفعولين ويغني عنهما. وذلك لأن كل واحدة منهما بصلتها تتضمن مسندًا ومسندًا إليه مصرحًا بهما كقوله تعالى: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} وتقدم أمثلة لذلك أيضاً، فاعرف ذلك فهو مفيد في هذا الباب. لأنه كثير في القرآن وكلام العرب.
(3) هو كل مصدر مسبوك من (أن) أو (أن) أو (ما) المصدرية.
(4) تقدم تعريف الجامد في آخر أدوات الشرط.


وخرج بالتام: الفعل الناقص ككان وأخواتها. فمرفوعها ليس فاعلاً كما تقدم (1) .
وقولنا: (أو شبهه) أي: مما يعمل عمل الفعل، كاسم الفاعل نحو: ما نادم المتأني، فـ (ما) نافية (نادم) مبتدأ (المتأني) فاعل سد مسد الخبر، مرفوع بضمة مقدرة للثقل. وقد مضى ذلك في باب المبتدأ والخبر.
وقولنا: (قُدِّم الفعل التام أو شبهه عليه بالأصالة) بفتح الهمزة يخرج نحو: (خالد) من قولك: (قائمٌ خالدٌ) لأن المسند وهو (قائم) وإن قدم لفظًا مؤخرٌ رتبة؛ لأنه خبر، فهو في نية التأخير.
وقولنا: (على جهة قيامه به) لبيان أنه ليس معنى كون الاسم فاعلاً أن مسماه أحدث شيئاً، بل كونه مسندًا إليه على جهة قيامه به نحو: مات عمرو. فإن عمرًا لم يحدث الموت وإنما قام به.
وقولنا: (أو وقوعه منه) ، هذا هو الأكثر أن الفاعل يقع منه الفعل نحو: جاء الضيف، وخرج بذلك نائب الفاعل نحو: أُكرِم الضيف، فإن الإسناد على جهة وقوعه عليه لا وقوعه منه.
وقول المصنف: (الفاعل مرفوع) إشارة إلى الحكم الأول من أحكام الفاعل. وذلك أن للفاعل خمسة أحكام:
الأول: الرفع. وقد يُجَرُّ لفظًا ويكون في محل رفع، وذلك في موضعين: -
الأول: إذا أُضيف المصدر إلى فاعله نحو: سرني احترامُ خالدٍ أباه. فـ (احترام) فاعل (سرَّ) مرفوع بالضمة. وهو مضاف و (خالد) مضاف إليه، من إضافة المصدر إلى فاعله. و (أباه) مفعول به للمصدر، لأن المصدر يعمل عمل فعله كما سيأتي إن شاء الله في أواخر الكتاب.
__________
(1) إلا في حالة تمامها لأنها تأخذ حكم الفعل التام وقد مضت الأمثلة في باب (كان وأخواتها) .


الموضع الثاني: أن يجرَّ بحرف جر زائد (1) نحو: ما جاء من أحدٍ، فـ (من) حرف جر زائد (أحد) فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، ومنه قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (2) فـ (كفى) فعل ماض مبني على فتح مقدر، ومعناه: وفَّى وأغنى، أي: (حصل به الاستغناء) (بالله) الباء حرف جر زائد إعرابًا مؤكد معنى، ولفظ الجلالة فاعل في محل رفع (حسيبًا) تمييز.
الحكم الثاني: أن عامله لا يتأخر عنه بل يتقدم عليه. فتقول: حضر الغائب، ولا يجوز: الغائب حضر. على أنه فاعل. بل على أنه مبتدأ. وفاعل (حضر) ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على (الغائب) .
قوله: (وَلاَ تَلْحَقُهُ عَلاَمَةُ تَثْنِيَةٍ ولاَ جَمْع بَلْ يُقَالُ: قَامَ رَجُلاَنِ وَرِجَالٌ وَنِسَاءٌ، كما يُقَالُ: قَام رَجُلٌ. وَشَذَّ: " يَتَعَاقَبُونْ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ"، "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ") .
هذا الحكم الثالث: من أحكام الفاعل. وهو أن فعله يوحد مع تثنيته وجمعه، كما يوحد مع إفراده. ومعنى توحيده: أنه لا تلحقه علامة تثنية ولا جمع. بل يقال: قام رجلان. وقام رجال، وقامت نساء، كما يقال: قام رجل.
__________
(1) إذا كان الفاعل مجرور اللفظ مرفوع المحل جاز في تابعه (من نعت أو عطف أو غيرهما) الجر مراعاة للفظ والرفع مراعاة للمحل نحو: سرني احترامُ خالدٍ العاقلُ أباه. ونحو ما جاءني من درهمٍ ولا كتابٌ.
(2) سورة النساء، آية: 6.


ومن العرب من يلحق الفعل علامة التثنية والجمع. فيقوله: قاما رجلان، وقاموا رجال، وقمن نساء، وعلى ذلك ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". (1) فـ (يتعاقبون) فعل مضارع مرفوع بالنون، والواو حرف دال على الجمع. (ملائكة) فاعل.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل: " أوَ مخرجيَّ هُمْ" حين قال له ورقة: يا ليتني أكون حيًا إذا يخرجك قومك (2) . وهو بفتح الواو لأنها للعطف. والأصل: مخرجون، ثم حذفت النون للإضافة لياء المتكلم فصار: أوَ مخرجوى هم. فاجتمعت الواو والياء، في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء ثم كسر ما قبل الياء للمناسبة، فـ (مخرجيَّ) اسم فاعل مضاف لياء المتكلم، مبتدأ مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم و (هم) فاعل سد مسد الخبر. أو (مخرجي) خبر مقدم و (هم) مبتدأ مؤخر. وهذا هو الأرجح (3) .
__________
(1) هذا الحديث متفق عليه. وله ألفاظ أخرى. واللفظ المذكور للبخاري في كتاب المواقيت (باب فضل صلاة العصر) ومعنى: (يتعاقبون) تأتي طائفة عقب طائفة ثم تعود الأولى عقب الثانية وإنما عبرت (بظاهر) تقليداً للفاكهي في شرحه للقطر؛ لأنه على رواية (إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم) لا تكون الواو حرفاً بل هي ضمير وهي الفاعل ولا شاهد فيه، وإطلاق الشذوذ على الحديث فيه نظر. انظر فتح الباري (2/33) .
(2) أخرجه البخاري (1/3 فتح الباري) ومسلم (160) .
(3) انظر: عمدة القاري (1/65) .


وقوله: (وَتَلْحَقُهُ عَلاَمَةُ تأْنِيثٍ إِنْ كَانَ مُؤَنثًا كَـ (قَامَتْ هِنْدٌ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ) ، وَيَجُوزُ الوَجْهَانِ في مَجَازِيِّ التَّأْنِيثِ الظَاهِرِ نَحْوُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (1) ، وَفِي الحَقِيقِيِّ المُنْفَصِلِ نَحْوُ: حَضَرَتِ القَاضِيَ امْرَأةٌ، وَالمُتَّصِلِ في بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ نَحْوُ: نِعْمَتِ المَرْأَةُ هِنْدٌ، وفي الجَمْعِ نَحْوُ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} (2) إلا جَمْعَي التَّصْحِيحِ فَكَمُفْرَدَيْهِمَا نَحْوُ: قَامَ الزَّيْدُونَ، وَقَامَتِ الهِنْدَاتُ، وإِنَّمَا امَتَنَعَ في النَّثْر مَا قَامَتْ إِلاَّ هِنْدٌ لأنَّ الفَاعِلَ مُذَكَّرٌ مَحْذوفٌ ... ) .
هذا الحكم الرابع: من أحكام الفاعل، وهو أنه إن كان مؤنثاً لحقت فعله علامة التأنيث. وهي تاء ساكنة في آخر الماضي، نحو: قامت هند، طلعت الشمس، وتاء متحركة في أول المضارع، نحو: تقوم هند، تطلع الشمس. وتاء التأنيث مع الفعل لها حالتان: -
1-حالة وجوب.
2-حالة جواز.
فالواجب في موضعين:
1-أن يكون الفاعل اسمًا ظاهرًا حقيقي التأنيث (3) ليس مفصولاً عن فعله ولا واقعًا بعد (نعم أو بئس) نحو: عادت زينب.
2-أن يكون الفاعل ضميراً مستترًا يعود على مؤنث حقيقي التأنيث نحو: نجلاءُ وصلت رحمها. ففاعل (وصلت) ضمير مستتر جوازًا تقديره: (هي) ، أو يعود على مؤنث مجازي التأنيث نحو: الحديقة أزهرت. فالفاعل ضمير مستتر تقديره: (هي) .
وأما التأنيث الجائز ففي أربع مسائل:
__________
(1) سورة يونس، آية: 57.
(2) سورة الحجرات، آية: 14.
(3) المؤنث الحقيقي هو الذي يلد ويتناسل ولو عن طريق البيض والتفريخ وعكسه المجازي.


1-أن يكون المؤنث اسمًا ظاهرًا مجازي التأنيث، نحو: أخصبت الأرض، ومنه قوله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (1) ، بتأنيث الفعل مع الفاعل المجازي (موعظة) ، وجاء التذكير في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) .
2-أن يكون الفاعل اسمًا ظاهرًا حقيقي التأنيث، وهو منفصل عن العامل بغير (إلا) نحو: حضرت القاضيَ امرأةٌ، وحضر القاضيَ امرأةٌ.
فإن كان الفاصل (إلا) وجب ترك التاء في النثر، نحو ما قام إلا هند. لأن ما بعد (إلا) ليس هو الفاعل في الحقيقة، وإنما هو بدل من فاعل مقدر قبل (إلا) ، وهو مذكر، والتقدير: ما قام أحد إلا هند.
3-أن يكون العامل نعم أو بئس نحو: نِعْمَتِ المرأةُ فاطمةُ، ونعم المرأة فاطمة، وإنما جاز الوجهان، لأن الفاعل مراد به الجنس (3) فأشبه جمع التكسير - الذي يجوز فيه الوجهان - في أن المقصود به متعدد.
4-أن يكون الفاعل جمعًا لمذكر أو مؤنث، فالمذكر نحو: بدأ العمال. وبدأت العمال، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} (4) والمؤنث نحو: عَرَفَتِ الفواطمُ قيمة الحجاب. أو عرف، فحَذْفُ التاءِ على تأويله بالجمع، فيكون مذكر المعنى. فكأن العامل مسند إلى هذا المذكر، وإثبات التاء على تأويله بالجماعة، فيكون مؤنث المعنى، فكأن العامل مسند إليه.
__________
(1) سورة يونس، آية: 57.
(2) سورة البقرة، آية: 275.
(3) الجنس هو كلي صالح لأن يصدق على كثيرين مختلفين بالحقيقة، واقع في جواب (ما هو) . واسم الجنس هو الموضوع لكل فرد خارجي على سبيل البدل من غير اعتبار تعينه، فالإنسان جنس. والرجل أو المرأة اسم جنس.
(4) سورة الحجرات، آية: 14.


ويستثنى من ذلك جمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم، فإنه يحكم لهما بحكم مفرديهما، فتقول: حضر المدرسون؛ بترك التاء لا غير، كما تفعل في: حضر المدرس. وتقول: حضرت المعلمات؛ بالتاء لا غير، كما تفعل في: حضرت المعلمة.
قوله: (وَإِنَّمَا امْتَنَعَ فِي النَّثْر مَا قَامَتْ إلاَّ هِنْد؛ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُذَكَّرٌ محْذُوفٌ كَحَذْفِهِ في نحَو: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) } (1)) و {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (2) و {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (3) ، وَيَمْتَنِعُ فِي غَيْرِهِنَّ) .
ذكر المصنف - رحمه الله - أربعة مواضع يحذف فيها الفاعل:
الأول: إذا وقع قبل (إلا) كما في المثال السابق: ما قام إلا هند.
الثاني: فاعل المصدر كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا} (4) فـ (إطعام) مصدر. وفاعله محذوف، التقدير - والله أعلم - أو إطعامه يتيمًا، بالإضافة إلى الفاعل، و (إطعام) معطوف على قوله سبحانه: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } (5) ، و (يتيماً) مفعول به للمصدر، و (ذي) صفة له، والمسغبة: المجاعة وشدة المؤونة.
الثالث: في باب النيابة عن الفعال كقوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (6) وتقديره - والله أعلم - وقَضَى الله الأمرَ.
__________
(1) سورة البلد، آية: 14.
(2) سورة البقرة، آية: 210.
(3) سورة مريم، آية: 38.
(4) سورة البلد، آية: 14.
(5) سورة البلد، آية: 13.
(6) سورة البقرة، آية: 210.


الرابع: فاعل (أفْعِلْ) في التعجب، عند وجود ما يدل عليه كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (1) التقدير - والله أعلم - وأبصر بهم، فحذف (بهم) من الثاني؛ لدلالة الأول عليه. فـ (أسمع) فعل ماض جاء على صيغة الأمر. (بهم) الباء: حرف جر زائد إعرابًا مؤكد معنى (هم) فاعل مبني على السكون، وهو مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها حركة البناء الأصلي في محل رفع فاعل.
وقول المصنف - رحمه الله -: (ويمتنع في غيرهن) أي: لأن الفاعل عمدة، وكالجزء من الكلمة، وهذا فيه نظر، فإن هناك مواضع أخرى حُذِفَ فيها الفاعل (2) ، منها: أن يكون الفاعل واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، وفعله مؤكد بالنون نحو: هل تقومُنَّ بواجبكم، وهل تقومِنَّ بواجبكِ، فإن الفاعل محذوف، وهو الواو والياء، وقد مضى توضيحه في موضعه.
قوله: (وَالأَصْلُ أَنْ يَلِيَ عَامِلَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّر جَوَازًا نَحْوَ: {وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) } (3) وَكَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسى عَلَى قَدَرٍ. وَوُجُوبًا نَحْوُ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} (4) وَضَرَبَنِي زَيْدُ) .
هذا الحكم الخامس من أحكام الفاعل وهو أن الأصل في الفاعل أن يقع بعد عامله. والأصل في المفعول أن يأتي بعدهما، نحو: حَرَّمَ الإسلام الغشَّ.
وقد يتأخر الفاعل عن المفعول وهو نوعان:
1- تأخر جائز، وهو ما خلا من موجب التقديم أو التأخير، نحو: أخذ عاصمٌ جائزة، فتقول: أخذ جائزةً عاصمٌ. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) } (5) فـ (آل) مفعول به مقدم، وهو مضاف و (فرعون) مضاف إليه، و (النذر) فاعل (جاء) مؤخر، ومنه قول الشاعر:
__________
(1) سورة مريم، آية: 38.
(2) انظر: حاشية الصبان (2/44) .
(3) سورة القمر، آية: 41.
(4) سورة البقرة، آية: 124.
(5) سورة القمر، آية: 41.


جاء الخلافة أو كانت له قدرًا …كما أتى ربَّهُ موسى على قدر (1)
فقدم الشاعر المفعول به، وهو لفظ (ربَّه) على الفاعل (موسى) مع كون المفعول به مضافاً إلى ضمير يعود على الفاعل المتأخر. وإنما جاز عود الضمير على متأخر، لأنه متأخر لفظا متقدم رتبةً، لأن رتبة الفاعل قبل المفعول.
2- تأخر واجب. وذلك في ثلاث مسائل ذكر منها ابن هشام مسألتين:
(1) الأولى: أن يتصل بالفاعل ضمير المفعول نحو: قرأ الكتابَ صاحبهُ، فـ (الكتاب) مفعول به مقدم، و (صاحبه) فاعل، ومنه قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} (2) فـ (إبراهيم) مفعول به مقدم (ربه) فاعل. وإنما وجب تقديم المفعول على الفاعل، لأنه لو أخر المفعول وقدم الفاعل لعاد الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ومواضع مخصوصة (3)
__________
(1) قوله: (قدرا) بالفتح، أي موافقة له ومقدرة. و (أو) بمعنى الواو.
إعرابه: (جاء) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر (الخلافة) مفعول به (أو) حرف عطف (كانت) كان: فعل ماض. والتاء اسمه. و (قدراً) خبر كان (كما) الكاف حرف جر. و (ما) مصدرية (أتى) فعل ماض (ربه) منصوب على التعظيم. مقدم على الفاعل. والهاء مضاف إليه (موسى) فاعل (على قدر) متعلق بـ (أتى) و (ما) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف نعت لمحذوف والتقدير: جاء الخلافة إتياناً كإتيان موسى ربه على قدر.
(2) سورة البقرة، آية: 124.
(3) هناك مواضع يعود الضمير فيها على متأخر لفظاً ورتبة لغرض بلاغي، وتسمى (مواضع التقدم الحكمي) يذكرها النحاة في آخر باب الفاعل ومنها:
1-فاعل نعم وبئس. ويأتي ذكره إن شاء الله.
2-مجرور (رب) نحو: ربه صديقًا يعين على الشدائد.
3-الضمير في باب التنازع إذا أعملت الثاني واحتاج الأول إلى مرفوع نحو: قاما وقعد أخواك. كما سيأتي إن شاء الله.

ضمير الشأن والقصة نحو: إنها رابطة العقيدة قوية لا تنفصم، أي: الشأن أو الحديث أو القصة أن رابطة العقيدة فهو مفسر بالجملة بعده. لأنها نفس الحديث والقصة. وقد مضى ذكره في إعراب المضارع.


الثانية: أن يكون المفعول ضميرًا متصلاً بالفعل نحو: أكرمني صالح، فـ (الياء) مفعول به مقدم و (صالح) فاعل مؤخر. ولو قدم الفاعل فقيل: أكرم صالح إياي، لا نفصل الضمير مع إمكان اتصاله، وهذا لا يجوز إلا فيما اُستثني، كما تقدم في الضمير.
الثالثة: أن يحصر الفاعل بـ (إنما) نحو: إنما ينفع المرءَ العملُ الصالُح، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) ، فـ (العلماء) فاعل (يخشى) ، أو يحصر بـ (إلا) على الأصح نحو: لا ينفع المرءَ إلا العملُ الصالح، وهذه المسألة لم يذكرها المصنف.
قوله: (وَقَدْ يَجِبُ تَأْخِيرُ المَفْعُولِ كَضَرَبْتُ زَيْداً، وَمَا أَحْسَنَ زَيْدًا، وَضَرَبَ مُوسى عِيسى، بخِلافِ: أَرْضَعَتِ الصُغْرَى الكُبْرَى) .
ذُكر فيما مضى أن الأصل تقدم الفاعل وتأخر المفعول. وقد يكون ذلك واجبًا، وذلك في ثلاث مسائل، ذكر منها ابن هشام مسألتين:
الأولى: إذا كان الفاعل ضميرًا متصلاً والمفعول به اسمًا ظاهرًا نحو: أتقنت العمل؛ فلا يجوز تقديم المفعول على الفاعل بأن تقول: أتقن العمل أنا، لئلا ينفصل الضمير مع إمكان اتصاله، وهذا لا يجوز إلا فيما اُستثنى كما في باب الضمير.
الثانية: إذا خيف التباس أحدهما بالآخر، وذلك إذا خفى الإعراب فيهما. ولم توجد قرينة تبين الفاعل من المفعول، نحو: أكرم موسى عيسى. فيجب كون (موسى) فاعلاً و (عيسى) مفعولاً.
فإن وجد قرينة لفظية أو معنوية تبين الفاعل من المفعول لم يجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول. فاللفظية نحو: وعظت عيسى ليلى، فـ (ليلى) فاعل، بدليل تأنيث الفعل. والمعنوية نحو: أرضعت الصغرى الكبرى، فـ (الكبرى) فاعل مؤخر عن المفعول.
__________
(1) سورة فاطر، آية: 28.


الثالثة: أن يكون المفعول محصورًا بـ (إنما) نحو: إنما يقول المسلمُ الصدقَ، أو بـ (إلا) على الأصح، نحو: ما يقول المسلمُ إلا الصدقَ. فـ (الصدق) مفعول به - في المثالين - ويجب تأخيره عن الفاعل، وهذه المسألة لم يذكرها المصنف.
قوله: (وَقَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَى العَامِلِ جَوَازًا نَحْوُ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا} (1) وَوُجُوبًا نَحْوُ: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} (2)) .
لما ذكر المصنف - رحمه الله - تقدم المفعول على الفاعل وتأخره عنه، ذكر تقدم المفعول على العامل. وأنه نوعان: -
1-تقدم جائز، وهو: ما خلا من موجب التقديم أو التأخير، نحو: كتب الطالب الواجب؛ فيجوز تقدم المفعول على الفعل، فيقال: الواجبَ كتب الطالبُ. ومنه قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (3) فـ (فريقًا) مفعول به منصوب قدم على عامله، وهذا التقديم جائز لا واجب. و (هَدَى) فعل ماض مبني على فتح مقدر، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره (هو) أي: الله، (وفريقًا) مفعول به لفعل محذوف، أي: وأضل فريقًا.
2- تقدم واجب: وذلك إذا كان المفعول من الألفاظ التي لها الصدارة كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام، نحو: أيَّ طالب تكرمْ أكرمْ. ومنه قوله تعالى: {فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} (4) فـ (أيَّ) مفعول مقدم للفعل (تنكرون) ، وقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (5) فـ (أيًا) مفعول مقدم للفعل (تدعوا) و (ما) حرف زائد إعراباً مؤكد معنى، و (تدعوا) مجزوم بـ (أيًا) وعلامة جزمه النون، والواو فاعل، وتقدم ذكر الآية في أدوات الشرط.
__________
(1) سورة الأعراف، آية: 30.
(2) سورة الإسراء، آية: 110.
(3) سورة الأعراف، آية: 30.
(4) سورة غافر، آية: 81.
(5) سورة الإسراء، آية: 110.


قوله: (وَإذَا كَانَ الفِعْلُ نِعْمَ أَوْ بِئْسَ فَالْفَاعِلُ إِمَّا مُعَرَّفٌ بِـ (ال) الجِنْسِيَّةِ نَحْوُ: {نِعْمَ الْعَبْدُ} (1) أَوْ مضَافٌ لِمَا هِيَ فِيهِ نَحْوُ: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (2) أَوْ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ مُفَسَّرٌ بِتَمْييزٍ مُطابِقٍ لِلْمَخْصُوصِ نَحْوُ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (3)) .
أي إذا كان الفعل العامل في الفاعل: نعم أو بئس. فالفاعل ثلاثة أنواع:
الأول: أن يكون مقترنًا بـ (ال) الجنسية (4) نحو: نعم الخلقُ الوفاءُ بالوعد، وبئس الخلقُ خلفُ الوعد. فـ (نعم) فعل ماض (5) جامد لإنشاء المدح و (الخلق) فاعل (الوفاء بالوعد) مبتدأ مؤخر، وما قبله خبر متقدم، ومنه قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ} (6) ، فـ (العبد) فاعل (نعم) مرفوع بالضمة.
الثاني: أن يكون الفاعل مضافاً لما اقترن بـ (ال) نحو: نعم قائدُ الإسلام صلاحُ الدين، وبئس زعيمُ القوم أبو جهل، ومنه قوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (7) فـ (اللام) واقعة في جواب قسم مقدر، و (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح (دار) فاعل (المتقين) مضاف إليه والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
__________
(1) سورة ص، آية: 30.
(2) سورة النحل، آية: 30.
(3) سورة الكهف، آية: 50.
(4) هي التي تفيد العموم والشمول كما تقدم في: المعرَّف بأل وعلى هذا فتكون مدحت الجنس كله، ثم خصصت بالذكر الوفاء بالوعد فتكون قد مدحته مرتين.
(5) هو فعل ماض لكنه تجرد من الدلالة على الزمن بعد أن تكونت منه ومن فاعله جملة إنشائية غير طلبية للمدح. ومثله (بئس) .
(6) سورة ص، آية: 30.
(7) سورة النحل، آية: 30.


الثالث: أن يكون الفاعل ضميراً مستترًا وجوباً يعود على تمييز بعده يفسَّر ما فيه من الغموض والإبهام، نحو نعم صديقًا الكتاب، بئس خلقًا الكذب، ففي كل من (نعم) و (بئس) ضمير مستتر وجوبًا هو الفاعل، تقديره: (هو) مراداً منه الممدوح أو المذموم. ويعود على التمييز (صديقًا) و (خلقًا) أي: نعم الصديق صديقًا الكتاب. وبئس الخلق خلقًا الكذب. ومنه قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (1) . ففاعل (بئس) ضمير مستتر وجوبًا تقديره: (هو) أي: البدل، و (بدلاً) تمييز منصوب.
وقول المصنف: (بتمييز مطابق للمخصوص) فيه مسألتان:
الأولى: أن (نعم وبئس) بحاجة - في الغالب - إلى اسم مرفوع بعدهما، هو المقصود بالمدح أو الذم، ويسمى: المخصوص بالمدح أو الذم، وعلامته: أن يصلح وقوعه مبتدأ، والجملة قبله خبر، مع استقامة المعنى. نحو: نعم الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه -، بئس جليس السوء النمامُ. فـ (أبو بكر) مخصوص بالمدح. و (النمام) مخصوص بالذم، وكلاهما يصلح أن يكون مبتدأ، فيقال: أبو بكر نعم الخليفة، والنمامُ بئس جليس السوء، والرابط بينهما العموم الذي في (ال) كما تقدم في الابتداء، والمشهور في إعرابه أن يكون مبتدأ مؤخرًا والجملة قبله خبر عنه، ويصح إعرابه خبرًا لمبتدأ محذوف وجوبًا. (2)
__________
(1) سورة الكهف، آية: 50.
(2) هذان وجهان في إعراب المخصوص، والأول أيسر، لسلامته من الحذف، وذكر الأشموني بحاشية الصبان (3/37) عن ابن كيسان أنه بدل من الفاعل، وهو بدل كل من كل. وهو وجيه لا يقوم على حذف ولا على تقديم ولا تأخير كما في الأوجه الأخرى.


المسألة الثانية: إذا كان الفاعل ضميرًا مستترًا مفسرًا بتمييز كما مضى، فلابد من مطابقة التمييز للمخصوص بالمدح أو الذم، فيتطابقان تذكيرًا وتأنيثًا وإفرادًا فتقول: نعم رجلاً محمد، ونعم رجلين المحمدان، ونعم رجالاً المحمدون. نعم أو نِعْمت فتاةً المتحجبة، أو فتاتين المتحجبتان، أو فتياتٍ المتحجبات.
نائب الفاعل
قوله: (يُحْذََفُ الْفَاعِلُ فَيَنُوبُ عَنْهُ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا مَفْعُولٌ بِهِ، فإنِْ لَمْ يُوجَدْ فَمَا اخْتَصَّ وتَصَرَّفَ مِنْ ظَرْف أَوْ مَجْرُورٍ، أَوْ مَصْدَرٍ) .
نائب الفاعل (1) : هو ما حذف فاعله وأُقيم مُقامه.
وقولنا: (ما) أي: اسم صريح نحو: نُقل الخبر، أو مؤول، نحو: يُخَاف أن تزيد الأسعار. فـ (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل، أي: يُخَافُ زيادةُ الأسعار.
وقولنا: حذف فاعله، أي لغرض لفظي أو معنوي، فاللفظي: كالمحافظة على السجع نحو: من طابت سريرتُه حُمدت سيرتُه، والمعنوي: كالعلم به، كقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . (2) أو الجهل به نحو: سُرِقَ القلم؛ إلى غير ذلك من الأغراض التي هي من مباحث البلاغين في علم المعاني.
وقولنا: (وأقيم مُقامه) أي أقيم النائب من مفعول به وغيره مُقام الفاعل. فيأخذ أحكامه كلها من إسناد العامل إليه. ووجوب تأخره عنه. واستحقاقه للاتصال به، وامتناع حذفه، وتأنيث الفعل له، إن كان مؤنثاً، وغير ذلك، فتقول في: أَكْرَمَ خالدٌ الغريبَ. أُكْرِمَ الغريبُ وفي: أَكرم خالدٌ فاطمةَ، أُكْرِمَت فاطمةُ.
فإذا أريد حذف الفاعل لغرض من الأغراض ترتب على حذفه أمران:
__________
(1) يسميه كثير من القدماء (المفعول الذي لم يسم فاعله) . وما ذكر أحسن، لأنه يكون نائب الفاعل غير المفعول به مما سيأتي.
(2) سورة النساء، آية: 28.


1-تغيير صيغة الفعل، وهو تحويله من الفعل المبني للمعلوم إلى مبني للمجهول، إيذاناً بالنيابة، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
2-إقامة نائب عنه يَحُلُّ محله. وهو أربعة أشياء:
الأول: المفعول به، وهو الأصل في النيابة عن الفاعل، ولهذا لا ينوب عنه غيره مع وجوده، كما يفهم من قول ابن هشام: (فإن لم يوجد) ، وتقدم له أمثلة.
فإن كان الفعل يتعدى لمفعولين أنيب الأول مُناب الفاعل وبقي الثاني منصوباً، نحو: أَعطيتُ الفقير ثوباً، فتقول: أُعطي الفقيرُ ثوباً. فـ (أُعطي) فعل ماض مبني للمجهول (الفقير) نائب فاعل مرفوع (ثوباً) مفعول ثانٍ منصوب.
الثاني: الظرف بنوعيه - الزماني والمكاني - ويشترط لنيابته عن الفاعل شرطان:
1-أن يكون متصرفًا. والمراد به ما يخرج من النصب على الظرفية، ومن الجر بـ (من) إلى التأثر بالعوامل المختلفة، كـ (زمن ووقت وساعة ويوم وقدام وخلف) ونحوها، بخلاف (سحر) - إذا أريد به سَحَرُ يوم بعينه - فلا يصلح أن يكون نائب فاعل؛ لأنه ملازم للنصب على الظرفية. وبخلاف: (عندَ) فإنه ملازم للنصب أو الجر بـ (من) .
2-أن يكون الظرف مختصاً. والمراد بالاختصاص - هنا - أن يزاد على معنى الظرفية معنى جديداً، ليزول الغموض والإبهام من معناه. وذلك إما بوصف أو إضافة أو علمية ونحوها. مثل: صِيْمَ يومُ الخميس، فـ (يوم) نائب فاعل مرفوع (1) . وقد حصل الاختصاص بإضافته إلى كلمة (الخميس) ، ونحو: جُلس وقتٌ طويلٌ. فـ (وقت) نائب فاعل مرفوع، تخصص بالوصف، ونحو: صيم رمضانُ، فـ (رمضان) نائب فاعل مرفوع، وقد تخصص بالعلمية، ونحو: جُلِسَ قدامُ الطلاب. فتخصص الظرف المكاني بالإضافة، بخلاف: جُلس وقت: فلا يصح، لعدم الفائدة.
الثالث: مما ينوب عن الفاعل: المصدر، ويشترط لنيابته شرطان كالظرف:
__________
(1) إذا صار الظرف نائب فاعل أو مبتدأ أو فاعلاً أو شيئاً آخر غير النصب على الظرفية فإنه لا يسمى ظرفًا.


1-أن يكون متصرفاً، والمراد به ما يخرج من النصب على المصدرية إلى التأثر بالعوامل المختلفة، نحو: أَكْلٌ، كتابة، فَهْمٌ، جلوس وغيرها، بخلاف (مَعَاذَ اللهِ) فهو مصدر ميمي منصوب بفعل محذوف، أي: أعوذ بالله معاذًا، ولم يشتهر استعماله عن العرب ِإلا منصوبًا مضافًا، فلا يقع نائب فاعل، لئلا يُخْرَجَ عما استقر له في لسان العرب.
2-أن يكون مختصًا، والمراد بالاختصاص هنا: أن يكتسب المصدر من لفظ آخر معنى زائدًا على معناه المبهم المقصور على الحدث المجرد نحو: قُرئ قراءةٌ مجودةٌ، جُلس جلوسُ الخائف، بخلاف: قُرئ قراءة. لعدم الفائدة؛ لأن المصدر لم يفد معنى زائدًا على ما فهم من الفعل.
الرابع: مما ينوب عن الفاعل: الجار والمجرور، وله شرطان:
1-أن يكون حرف الجر متصرفًا، والمراد به: ألا يلزم طريقة واحدة لا يخرج عنها إلى غيرها، مثل: في، عن، الباء ونحوها، بخلاف (مذ) و (منذ) الملازمين لجر الزمان، و (رُبَّ) الملازمة للنكرات.
2-أن يكون المجرور مختصًّا، والمراد بالاختصاص: أن يكتسب الجار مع مجروره معنى زائدًا إما بوصف أو إضافة أو غيرهما نحو: جُلس في حديقة واسعة، فُرح بانتصار المسلمين. ونائب الفاعل هو الجار والمجرور فيكون في محل رفع. (1)
قوله: (وَيُضَمُّ أَوَّلُ الْفِعْلِ مُطْلَقاً، ويُشَاركُهُ ثَانِي نَحْو تُعُلَّمَ وثَالِثُ نحْوِ انْطُلِقَ، ويُفْتَحُ مَا قَبِلَ الآخرِ فِي الْمُضَارع، ويُكْسَرُ فِي الْمَاضِي ولَكَ فِي نَحْوِ قَالَ وبَاعَ الْكَسْرُ مُخْلَصاً ومُشَمًّا ضَماً والضَّمُّ مُخْلَصاً) .
__________
(1) وهذا فيه تيسير.والقول والثاني أن نائب الفاعل هو المجرور وحده فهو مجرور في الظاهر ولكنه في محل رفع. فإن كان حرف الجر زائدًا نحو: ما أكرم من أحد. فلا خلاف في أن النائب هو المجرور وحده فهو مجرور لفظًا مرفوع محلاً. انظر (همع الهوامع للسيوطي 1/163) .


تقدم أن شرط النيابة عن الفاعل: تغيير صورة الفعل إيذانًا بهذه النيابة، وتفصيل ذلك كما يلي:
1-إذا كان الفعل ماضيًا صحيح العين خاليًا من التضعيف وجب ضم أوله وكسر ما قبل آخره، نحو: فَتَحَ العملُ بابَ الرزق فيقال: فُتح بابُ الرزق. فـ (فتح) فعل ماض مبني للمجهول (باب) نائب فاعل مرفوع و (الرزق) مضاف إليه.
2-إذا كان الفعل مضارعًا وجب ضم أوله وفتح ما قبل آخره، نحو: يحترم الناسُ العالِمَ، فيقال: يُحتَرَمُ العالمُ، فـ (يحترم) فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بالضمة (العالم) نائب فاعل مرفوع.
وهذا معنى قوله: (يُضم أول الفعل مطلقًا) أي: ماضيًا كان أو مضارعًا، ثلاثيًا كان أو رباعيًا، مجردًا أو مزيدًا. كما سيأتي.
3-إذا كان الفعل مبدوءاً بتاء زائدة وجب ضم الحرف الثاني مع الأول نحو: تعَلَّم خليلٌ النحوَ، فيقال: تُعُلِّم النحوُ.
4-إذا كان الماضي مبدوءًا بهمزة وصل وجب ضم ثالثه مع أوله نحو: انطلق خالدٌ يومَ الخميس، فيقال: اُنطُلق يومُ الخميسِ.
(1) إذا كان الماضي ثلاثيًا مُعَلَّ العين (1) جاز في فائه عند بنائه للمجهول ثلاثة أوجه، سواء كان واويًّا أو يائيًّا، وهي:
__________
(1) هناك فرق بين معل العين ومعتل العين. فـ (معل العين) ما كان وسطه حرف علة وخضع لأحكام الإعلال كالقلب - مثلاً - نحو: قال، باع. فأصلهما قَوَلَ وبَيَعَ. فتحركت الواو والياء وفتح ما قبلهما فقلبتا ألفًا.
5-ومعتل العين ما كان وسطه حرف علة ولا يخضع لأحكام الإعلال مثل: عَوِرَ، هَيَفَ. [والهَيَفُ: ضمور البطن] .


الأول: إخلاص الكسر، فينقلب حرف العلة ياء، وهذا هو الأفصح، نحو: صام المسلمون رمضانَ، باع التاجر بضاعَتَهُ. فيقال: صِيمَ رمضانُ، وبيعت البضاعةُ. ومنه قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} (1) فـ (سيق) فعل ماض مبني للمجهول و (الذين) اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، وجملة (اتقوا ربهم) صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، و (زمراً) حال.
الثاني: إخلاص الضم، فينقلب حرف العلة واواً، وهذا أضعف الأوجه، فيقال: صُوم وبُوع.
الثالث: الإشمام وهو في النطق لا في الكتابة، وهو عند النحاة: النطق بحركة صوتية تجمع بين ضمة قصيرة وكسرة طويلة على التوالي السريع.
باب الاشتغال
قوله: (يَجُوزُ فِي نَحْو زَيْداً ضَرَبْتُهُ، أَوْ ضَرَبْتُ أَخَاهُ، أَوْ مَرَرْتُ بِهِ، رَفْعُ زَيْدِ بِالابْتِدَاءِ فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ ونَصْبُهُ بِإضْمَارِ ضَرَبْتُ وَأَهَنْتُ وجَاوَزْتُ وَاجِبَةَ الْحَذْفِ، فَلاَ مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ) .
الاشتغال: أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عامل مشغول عن نصبه بالعمل في ضميره أو مضافٍ لضميره.
مثال المشتغل بالضمير: الضعيفَ ساعدتُه، محمدًا مررتُ به.
ومثال المشتغل بمضاف للضمير: خالدًا ضربتُ ابنه.
في هذه الأمثلة تقدم اسم، وتأخر عنه فعل اشتغل عن نصبه بنصب الضمير العائد عليه، لفظاً كما في المثال الأول. أو محلاً كما في المثال الثاني، أو بنصب اسم متصل بالضمير العائد عليه كما في المثال الثالث، ولو لم يشتغل الفعل بنصب الضمير أو ما اتصل بالضمير لتسلط على الاسم السابق فنصبه.
وأركان الاشتغال ثلاثة: مشغول عنه، وهو الاسم المتقدم، ومشغول وهو العامل، ومشغول به وهو ضمير الاسم السابق أو ما اتصل بضميره.
وإذا وجد المثال على الهيئة المذكورة فالأصل أن ذلك الاسم يجوز فيه وجهان:
__________
(1) سورة الزمر، آية: 73.


الأول: راجح لسلامته من التقدير، وهو أن يعرب الاسم السابق مبتدأ، والجملة بعده خبر، وجملة الكلام حينئذ اسمية؛ لأنها مبدوءة باسم.
الثاني: مرجوح لاحتياجه إلى تقدير، وهو أن ينصب الاسم السابق على أنه مفعول به لفعل محذوف وجوباً يفسره المذكور بعده.
وهذا الفعل المحذوف لابد أن يكون موافقاً للمذكور، إما لفظًا ومعنى كالمثال الأول، فإن التقدير: ساعدت الضعيفَ ساعدته. أو معنى فقط كالمثال الثاني فإن تقديره: جاوزت محمدًا مررت به. أو غير موافق لفظًا ولا معنى، ولكنه لازم للمذكور كالمثال الأخير فإن تقديره: أهنت خالدًا ضربت ابنه.
وعلى هذا الإعراب فما بعد الاسم السابق جملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب (1) وجملة الكلام حينئذ فعلية، لأنها مبدوءة بالفعل المحذوف وهذا معنى قوله: (فلا موضع للجملة بعده) .
وقوله: (وَيَتَرَجَّحُ النَّصْبُ فِي نَحْو زَيْداً اضْرِبْهُ لِلطَّلَبِ، ونَحْوِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) مُتَأَوَّلٌ. وفِي نَحْوِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} (3) لِلَّتَناسُبِ ونَحْوِ: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} (4) ومَا زَيْداً رَأَيْتُهُ لِغَلَبَةِ الْفِعْلِ) .
__________
(1) هذا على أحد القولين والآخر أن الجملة التفسيرية تأخذ حكم الجملة المفسَّرة فإن كان لها محل فالتفسيرية لها محل نحو: خالدٌ الواجبَ يؤديه. فـ (يؤديه) في محل رفع خبر؛ لأنها مفسرة للجملة المحذوفة وهي في محل رفع خبر للمبتدأ (خالد) لأن التقدير: خالد يؤدي الواجب يؤديه، وإن لم يكن لها محل فالتفسيرية كذلك نحو: الضيف أكرمته، فلا محل للجملة المقدرة، لأنها مستأنفة فكذا التفسيرية.
(2) سورة المائدة، آية: 38.
(3) سورة النحل، آية: 5.
(4) سورة القمر، آية: 24.


تقدم أن الاسم المشغول عنه يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أرجح، ولا تكون المسألة حينئذ من باب الاشتغال؛ لعدم صدق التعريف عليه، لكنه قد يطرأ على الاسم السابق ما يرجح نصبه، أو يوجبه، أو يوجب الرفع، أو يجوز الوجهين على حد سواء.
فيترجح نصب المشغول عنه في ثلاث مسائل:
الأولى: أن يقع بعد المشغول عنه فعل دال على طلب، نحو: خالدًا أكرمه. فيترجح نصب المشغول عنه (خالداً) على رفعه؛ لأنه لو رفع لصارت الجملة بعده خبرًا. والإخبار بالجملة الطلبية - وإن كان جائزًا عند الجمهور - فهو على خلاف الأصل، لأن الطلبية لا تحتمل الصدق والكذب.
فإن قيل: ما توجيه الرفع في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) فإن ظاهره أن الطلب خبر، وقد أجمع السبعة على الرفع؟ فالجواب: أنه متأول (2) كما قال ابن هشام رحمه الله على أن الخبر محذوف تقديره: (مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ، فحذف الخبر (مما يتلى عليكم) ثم حذف المضاف (حكم) وأقيم المضاف إليه مقامه، والفاء حرف استئناف، وجملة الطلب استئنافية، لبيان الحكم فلم تقع خبرًا كما هو الظاهر.
__________
(1) سورة المائدة، آية: 38.
(2) هذا التأويل لسيبويه. وأما المبرد فالإعراب عنده على ظاهر الآية: فتكون جملة (فاقطعوا) خبراً. ولا تأويل. انظر معاني القرآن للزجاج (2/171) ، والكامل في اللغة والأدب للمبرد (2/822) . وانظر: كتاب سيبويه (1/142) .


المسألة الثانية: أن يكون الاسم المشغول عنه مقترنًا بعاطف مسبوق بجملة فعلية كقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} (1) فـ (الأنعام) منصوب بفعل محذوف، أي: وخلق الأنعامَ، وحَسُنَ النصب ليُعطف جملة فعلية وهي جملة: (والأنعامَ) على جملة فعلية تقدمت، وهي (خَلَق الإنسان) ، وهذا فيه تناسب، وهذه قراءة السبعة.
المسألة الثالثة: أن يقع المشغول عنه بعد أداة يغلب أن يليها الفعل، كهمزة الاستفهام، وما النافية وغيرهما، نحو: أوالدَك احترمته؟ ومنه قوله تعالى: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} (2) فـ (بشراً) مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور، وجملة (نتبعه) تفسيرية، وإنما ترجح النصب؛ لأنه لو رُفِعَ لصار مبتدأ، ورَفعُ المبتدأ بعد همزة الاستفهام - مع جوازه - قليل، لكثرة دخولها على الأفعال. ومثلها (ما) النافية نحو: ما صديقًا أهنته، فـ (صديقًا) مفعول به لفعل محذوف، وجملة (أهنته) تفسيرية.
قوله: (وَيَجِبُ فِي نَحْوِ: إنْ زَيْداً لَقيِتَهُ فَأَكْرِمُهُ، وهَلاَّ زَيْداً أَكْرَمْتَهُ لِوُجُوِبِه) .
__________
(1) سورة النحل، آية: 4، 5.
(2) سورة القمر، آية: 24.


أي يجب نصب المشغول عنه إذا وقع بعد ما يختص بالفعل، كأداة الشرط نحو: إن خالدًا لقيته فأكرمه، أو أداة التحضيض نحو: هلا زيدًا أكرمته. أو أداة العرض (1) نحو: ألا الحديثَ حفظته. فيجب نصب ما بعد هذه الأدوات بفعل محذوف، لوجوب وقوع الفعل بعدها. ولو جاز الرفع على الابتداء لخرجت عن اختصاصها بالأفعال (2) .
وقوله (لوجوبه) أي لوجوب وقوع الفعل بعد هذه الأدوات.
قوله: (وَيجِبُ الرَّفْعُ فِي نَحْوِ خَرَجْتُ فَإذَا زَيْدٌ يَضْربُهُ عَمْروٌ لامْتِنَاعِهِ) .
أي يجب رفع المشغول عنه إذا وقع بعد ما يختص بالابتداء، كـ (إذا) الفجائية (3) نحو: خرجت فإذا الغبارُ تثيره الرياح، برفع (الغبار) على أنه مبتدأ وما بعده خبر، و (إذا) حرف دال على المفاجأة، ولا يجوز نصبه بتقدير فعل. لامتناع وقوع الفعل بعدها.
__________
(1) التحضيض: طلب الفعل بحث وإلحاح. والعرض: طلب الشيء برفق ولين.
(2) أما رفعه على أنه فعال أو نائب فاعل لفعل محذوف فجائز كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} فـ (أحد) فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور. وقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} فالشمس: نائب فاعل لفعل محذوف. ويرى بعض النحاة أن هذا المرفوع لا يلزم إعرابه فاعلاً لفعل محذوف بل يعرب مبتدأ ولا حاجة إلى التقدير، وبعضهم يرى أنه فاعل للفعل المذكور بعدُ، ولا ضيرَ في الأخذ بهذا أو الذي قبله.
(3) هي حرف دال على المفاجأة وقيل إنها ظرف.


وكذلك يجب الرفع إذا وقع الفعل المشتغل بالضمير بعد ماله صدر الكلام، كأدوات الشرط والاستفهام وغيرهما، نحو: الكتابُ إن استعرته فحافظ عليه. المريضُ هل زرتَه؟ فيجب رفع المشغول عنه في المثالين وهما: (الكتاب) و (المريض) ولا يجوز نصبه لأن ماله صدر الكلام لا يعمل ما بعده فيما قبله، وما لا يعمل لا يصلح أن يكون مفسرًا لعامل محذوف. (1)
وقوله (لامتناعه) أي لامتناع الفعل بعد (إذا) الفجائية.
قوله: (وَيَسْتَوِيَانِ فِي نَحْوِ زَيدٌ قَامَ أَبُوهُ وعَمْروٌ أَكْرَمْتُهُ لِلتَّكافُؤِ) .
أي يجوز رفع المشغول عنه ونصبه على حد سواء. إذا وقع المشغول عنه بعد عاطف تقدمته جملة ذات وجهين، وفَسَّروا الجملة ذات الوجهين بأنها جملة اسمية وخبرها جملة فعلية. (2) نحو: زيد قام أبوه وعمرو أكرمته. فيجوز رفع (عمرو) على أنه مبتدأ خبره (أكرمته) وتُعطف جملة اسمية على جملة اسمية، وهي: زيد قام أبوه، ويجوز نصبه بفعل محذوف. وتُعطف جملة فعلية على جملة فعلية وهي (قام أبوه) وإنما جاز الوجهان على السواء (للتكافؤ) الحاصل على كلا التقديرين؛ لأن الجملة الأولى اسمية الصدر فعلية العجز، فإن راعيت صدرها رفعت. وإن راعيت عجزها نصبت، فالتشاكل بين المتعاطفين موجود على كلا التقديرين ولا مرجح.
قوله: (وَلَيْسَ مِنْهُ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) } (3) ، وأَزَيْدٌ ذُهِبَ بِهِ؟) .
__________
(1) اعلم أن وجوب رفع المشغول عنه ليس من مسائل هذا الباب - كما تقدم -؛ لأن تعريف الاشتغال لا ينطبق عليه، لأن من شرطه أنه لو تفرغ العامل من الضمير (المشغول به) لنصب الاسم السابق (المشغول عنه) وهذا لا يتم فيما وجب رفعه. لأن المتقدم مرفوع. والمتأخر يطلب منصوبًا لا مرفوعًا.
(2) الجملة إذا وقعت خبراً عن مبتدأ فهي الجملة الصغرى. والجملة التي يقع خبرها جملة هي الجملة الكبرى. وقد مضى ذلك عند تعريف الكلام.
(3) سورة القمر، آية: 52.


أي: ليس من باب الاشتغال قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) } لعدم صحة تسلط العامل على ما قبله على قاعدة الاشتغال، إذ لو صحَّ لكان التقدير: فعلوا كل شيء في الزبر. وهو فاسد؛ لأنه يقتضي أنهم فعلوا في الزبر - أي صحف الأعمال - كل شيء مع أنهم لم يفعلوا فيها شيئًا، بل الكرام الكاتبون أو قعوا فيها الكتابة، وليس هذا هو معنى الآية، وإنما معناها - والله أعلم - أن كل شيء فعلوه ثابت في صحائف أعمالهم. فيجب رفع (كل) على أنه مبتدأ، وجملة (فعلوه) في محل جر صفة لـ (شيء) والخبر هو الجار والمجرور (في الزبر) .
وكذا ليس من باب الاشتغال (أزيد ذُهِبَ به؟) ببناء الفعل للمجهول، لعدم صدق ضابط الباب عليه. إذ لو سلط العامل على ما قبله على قاعدة الاشتغال لم يَنْصِبْ، لأن الفعل (ذُهِبَ) لا يعمل النصب. لأنه فعل لازم مبني للمجهول، فالجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل، ويجب رفع (زيدٌ) على أنه مبتدأ وما بعده خبر. أو على أنه مرفوع بفعل محذوف لأجل الهمزة - التي يكثر دخولها على الفعل - والتقدير: أَذَهَبَ زيدٌ فَذُهِبَ به؟ والأول أرجح لوضوحه وسلامته من التقدير.
باب في التنازع
قوله: (يَجُوز في نحْوِ ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْداً، إعْمَالُ الأوَّلِ واخْتَارَهُ الكُوفيُّونَ، فَيُضْمَرُ في الثَّانِي كُلُّ ما يَحْتَاجُهُ، أَوِ الثَّانِي، واخْتَارَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَيُضْمَرُ في الأوَّلِ مَرْفُوعُه فَقَطْ، نَحْوُ: جَفَوْني ولمْ أَجْفُ الأخِلاَّءَ ... ) .
التنازع: توجه عاملين إلى معمول واحد، نحو: سمعتُ ورأيتُ القارئ. فكل واحد من (سمعتُ) و (رأيتُ) يطلب القارئ مفعولاً به ونحو: ضربني وضربت زيدًا، فالأول يطلب الاسم فاعلاً، والثاني يطلبه مفعولاً.


وقد يكون التنازع بين أكثر من عاملين. وقد يكون المتنازع فيه متعددًا، نحو: يجلس ويستمع ويكتب المتعلم. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تسبحون وتَحْمَدُون وتكبرون دبرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين " متفق عليه. فـ (دُبُرَ) منصوب على الظرفية، و (ثلاثاً وثلاثين) منصوب على أنه مفعول مطلق وقد تنازعهما ثلاث عوامل. (1)
ولا خلاف في جواز إعمال أيِّ العاملين أو العوامل، وإنما الخلاف في الأولى منهما فقال البصريون: الثاني أولى لقربه من الاسم، وقال الكوفيون: الأول أولى لتقدمه.
فإن أعملت الأول في الاسم الظاهر أعملت الثاني المهمل في ضميره، ويؤتى بهذا الضمير سواء كان مرفوعًا نحو: قام وقعدا أخواك، أو منصوبًا، نحو: قام وأكرمتهما أخواك، أو مجرورًا نحو: قام ومررت بهما أخواك. فـ (أخواك) فاعل (قام) وقد عمل الثاني في ضمير هذا الاسم، ولا محذور في الإتيان بالضمير، لرجوعه إلى متقدم رتبة؛ لأن مرجع الضمير وهو (أخواك) معمول للعامل الأول.
وإن أعملت الثاني في الاسم الظاهر أعملت اِلأول في ضميره ويؤتى بهذا الضمير إن كان مرفوعاً، لامتناع حذف العمدة، وإن لزم منه عوده على متأخر لفظًا ورتبة (2) فتقول: قاما وقعد أخواك. فـ (أخواك) فاعل (قعد) ، ومنه قول الشاعر:
جفوني ولم أجفُ الأخلاءَ إنني ……لغير جميل من خَلِيلِيَ مهملُ (3)
__________
(1) في هذا الحديث أعمل الأخير لقربه، وأعمل الأولان في ضميرهما وحذفا لأنهما فضلتان. والأصل: تسبحون الله فيه إياه، وتحمدون الله فيه إياه.
(2) عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة واقع في مسائل أخرى أشرنا إلى بعضها في أواخر باب الفاعل (في الهامش) وذكرنا مسألة التنازع.
(3) جفوني: من الجفاء وهو ترك المودة. والمعنى: هجرني الأصداقاء، فلم أقابلهم بالمثل. لأني أهمل وأترك ما ليس بحسن من أفعال أصدقائي.

إعرابه: (جفوني) فعل ماض. والواو فاعل. والنون للوقاية. والياء مفعول (ولم أجف) جازم ومجزوم. وعلامة جزمه حذف حرف العلة. والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: (أنا) (الأخلاء) مفعول به (إنني) إن حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها (لغير جميل) جار ومجرور متعلق بـ (مهمل) و (جميل) مضاف إليه. (من خليلي) جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ (جميل) والياء مضاف إليه (مهمل) خبر (إن) مرفوع.


فأعمل الشاعر الثاني وهو (لم أجف) في (الأخلاء) فنصبه على أنه مفعول به، وأعمل الأول في ضميره، وهو (واو الجماعة) ، وأثبت الضمير؛ لأنه وإن عاد على متأخر لفظاً ورتبة لكن مجيئه عن العرب دليل على جوازه هنا.
وإن كان الضمير منصوبًا أو مجرورًا حذفته نحو: ضربت وضربني زيد، ومررت ومر بي زيد، ولا يؤتى بهذا الضمير إذ لو قيل: ضربته وضربني زيد، ومررت به ومر بي زيد. لعاد الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، وهذا الضمير فضلة يستغني عنه الكلام، فيحذف.
قوله: (وَلَيْسَ مِنْهُ ­ كَفَانيِ ولَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المَالِ ­ لِفسَادِ المَعْنى) .
أي ليس من باب التنازع قول امرئ القيس:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ……كفاني ولم أطلب قليل من المال (1)
__________
(1) إعرابه: (لو) حرف امتناع لامتناع (أن) حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر (ما) مصدرية. (أسعى) فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة. والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: (أنا) و (ما) وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوب لأنه اسم (أن) . (لأدني) جار ومجرور خبر (أن) و (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون سعى لأدنى.. الخ. و (معيشة) مضاف إليه. (كفاني) فعل ماض. والنون للوقاية. والياء مفعول به. (ولم) الواو عاطفة. و (لم) أداة جزم (أطلب) فعل مضارع مجزوم. وفاعله ضمير مستتر. (قليل) فاعل (كفاني) (من المال) جار ومجرور صفة لـ (قليل) .


لأن من شرط التنازع صحة توجه كل واحد من العاملين إلى ذلك المعمول من غير فساد في اللفظ ولا في المعنى، وفي هذا البيت تقدم عاملان وهما: (كفاني) و (لم أطلب) وتأخر معمول واحد وهو (قليل من المال) ولو توجه إليه العاملان لفسد المعنى المراد. إذ يصير التقدير: (كفاني قليل من المال ولم أطلب قليلاً من المال) وهذا كلام غير مستقيم، فيتعين أن يكون مفعول (أطلب) محذوفاً، وتقدير الكلام: لو كان سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، ومقتضى ذلك أنه طالب للملك. وهذا هو المراد، بدليل قوله بعده:
ولكنما أسعى لمجدٍ مُؤثَّل ……وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ومجد مؤثَّل: أي: قديم.