الروض الأنف ت السلامي

أمر عبد الله بن الثامر وقصة أصحاب الأخدود:
فيمون وابن الثامر واسم الله الأعظم:
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها:
"أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان" وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران: القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فيميون - ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران، وبين تلك القرية التي بها الساحر فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر فبعث إليه الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة
ـــــــ
خبر ابن الثامر:
التفاضل بين الأسماء الإلهية:
وذكر فيه الاسم الأعظم وقول الراهب له إنك لن تطيقه. أي لن تطيق شروطه والانتهاض بما يجب من حقه وقد قيل في قول الله تعالى :{قَالَ الَّذِي

(1/107)


أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال له يا بن أخي إنك لن تحمله أخشى عليك ضعفك عنه - والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا
ـــــــ
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل 40] إنه أوتي الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وهو آصف بن برخيا في قول أكثرهم وقيل غير ذلك1. وأعجب ما قيل فيه إنه ضبة بن أد بن طابخ قاله النقاش ولا يصح، وهي مسألة اختلف فيها العلماء فذهبت طائفة إلى ترك التفضيل بين أسماء الله تعالى، وقالوا: لا يجوز أن يكون اسم من أسمائه أعظم من الاسم الآخر وقالوا: إذا أمر في خبر أو أثر ذكر الاسم الأعظم فمعناه العظيم كما قالوا: إني لأوجل أي وجلا، وكما قال بعضهم في أكبر من قولك: الله أكبر إن أكبر بمعنى كبير وإن لم يكن قول سيبويه، وذكروا أن أهون بمعنى: هين من قوله عز وجل {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وأكثروا الاستشهاد على هذا ونسب أبو الحسن بن بطال هذا القول إلى جماعة منهم ابن أبي زيد، والقابسي وغيرهما، ومما احتجوا به أيضا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليحرم العلم بهذا الاسم وقد علمه من هو دونه من ليس بنبي ولم يكن ليدعو حين اجتهد في الدعاء لأمته ألا يجعل بأسهم بينهم وهو رءوف بهم عزيز عليه عنتهم إلا بالاسم الأعظم ليستجاب له فيه فلما منع ذلك علمنا أنه ليس اسم من أسماء الله إلا وهو كسائر الأسماء في الحكم والفضيلة يستجيب الله إذا دعي ببعضها إن شاء ويمنع إذا شاء وقال الله سبحانه {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا
ـــــــ
1 ورأي آخر أحق بالتقديم يقرر أنه نفس سليمان، فهو الذي كان عنده علم من الكتاب.

(1/108)


مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه فقال وما هو؟ قال هو
ـــــــ
تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وظاهر هذا الكلام التسوية بين أسمائه الحسنى، وكذلك ذهب هؤلاء وغيرهم من العلماء إلى أنه ليس شيء من كلام الله تعالى أفضل من شيء لأنه كلام واحد من رب واحد فيستحيل التفاضل فيه.
قال الشيخ الفقيه الحافظ أبو القاسم - عفا الله عنه وجه استفتاح الكلام معهم أن يقال هل يستحيل هذا عقلا، أم يستحيل شرعا؟ ولا يستحيل عقلا أن يفضل الله سبحانه عملا من البر على عمل وكلمة من الذكر على كلمة فإن التفضيل راجع إلى زيادة الثواب ونقصانه وقد فضلت الفرائض على النوافل بإجماع وفضلت الصلاة والجهاد على كثير من الأعمال والدعاء والذكر عمل من الأعمال فلا يبعد أن يكون بعضه أقرب إلى الإجابة من بعض وأجزل ثوابا في الآخرة من بعض والأسماء عبارة عن المسمى، وهي من كلام الله سبحانه القديم1 ولا نقول في كلام الله هو هو ولا هو غيره كذلك لا نقول في أسمائه التي تضمنها كلامه إنها هو ولا هي غيره2 فإن تكلمنا نحن بها بألسنتنا المخلوقة وألفاظنا المحدثة فكلامنا عمل من أعمالنا، والله - سبحانه وتعالى – يقول {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:69]، وقبحا للمعتزلة ; فإنهم زعموا أن كلامه مخلوق فأسماؤه على أصلهم الفاسد محدثة غير المسمى بها، وسووا بين كلام الخالق وكلام
ـــــــ
1 لا يجوز الإخبار عن الله بأنه قديم، إذ لم يرد هذا في قرآن أو حديث، وإنما يقال عنه: إنه الأول بدلا من القديم، فقد وصف الضلال بأنه قديم، والعرجون كذلك، ثم القدم لا يمنع من أن يكون له أول أو بداية.
2 الرجل أشعري العقيدة، ورأيهم في الصفات منبوذ من سلف الأمة، وقد رجع الأشعري عن هذا المذهب في كتابه "الإبانة" و"مقالات الإسلاميين".

(1/109)


كذا وكذا، قال وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع قال أي ابن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.
__________
المخلوق في الغيرية والحدوث وإذا ثبت هذا، وصح جواز التفضيل بين الأسماء إذا دعونا بها، فكذلك القول في تفضيل السور والآي بعضها على بعض فإن ذلك راجع إلى التلاوة التي هي عملنا، لا إلى المتلو الذي هو كلام ربنا، وصفة من صفاته القديمة وقد قال - صلى الله عليه وسلم – لأبي: "أي آية معك في كتاب الله أعظم"؟ فقال الله لا إله إلا هو الحي القيوم فقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" 1 ومحال أن يريد بقوله أعظم معنى عظيم لأن القرآن كله عظيم فكيف يقول له أي آية في القرآن عظيمة وكل آية فيه عظيمة كذلك؟ وكل ما استشهدوا به من قولهم أكبر بمعنى كبير وأهون بمعنى هين باطل عند حذاق النحاة ولولا أن نخرج عما نحن بصدده لأوضحنا بطلانه بما لا قبل لهم به ولو كان صحيحا في العربية ما جاز أن يحمل عليه قوله "أي آية معك في كتاب الله أعظم", لأن القرآن كله عظيم وإنما سأله عن الأعظم منه والأفضل في ثواب التلاوة وقرب الإجابة وفي هذا الحديث دليل أيضا على ثبوت الاسم الأعظم وأن لله اسما هو أعظم أسمائه ومحال أن يخلو القرآن عن ذلك الاسم والله تعالى يقول {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38]، فهو في القرآن لا محالة. وما كان الله ليحرمه محمدا، وأمته وقد فضله على الأنبياء وفضلهم على الأمم فإن قلت: فأين هو في القرآن؟ فقد قيل إنه أخفي فيه كما أخفيت الساعة في يوم الجمعة وليلة القدر في رمضان ليجتهد الناس ولا يتكلوا. قال الفقيه الحافظ أبو القاسم - رضي الله عنه - في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي أي "آية معك في كتاب الله أعظم" ولم يقل أفضل إشارة إلى الاسم الأعظم أنه فيها، إذ لا يتصور أن تكون هي أعظم آية ويكون الاسم الأعظم في أخرى دونها. بل إنما صارت أعظم الآيات لأن الاسم الأعظم فيها. ألا ترى كيف هنأ
ـــــــ
1 المسؤول هو أبي بن كعب، والحديث في مسلم ومسند أحمد.

(1/110)


ابن ثامر ودعوته إلى النصرانية بنجران:
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال [له] يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني، وادعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟
ـــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبيا، بما أعطاه الله تعالى من العلم وما هنأه إلا بعظيم بأن عرف الاسم الأعظم والآية العظمى التي كانت الأمم قبلنا لا يعلمه منهم إلا الأفراد عبد الله بن الثامر، وآصف صاحب سليمان عليه السلام وبلعوم قبل أن يتبعه الشيطان1 فكان من الغاوين وقد جاء منصوصا في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - الذي خرجه الترمذي وأبو داود، ويروى أيضا عن أسماء بنت يزيد - وكنيتها: أم سلمة فلعل الحديث واحد أنها" سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاسم الأعظم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هاتين الآيتين {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2]"، وقال سبحانه {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] الآية أي: فادعوه بهذا الاسم ثم قال { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] تنبيها لنا على حمده وشكره إذ علمنا من هذا الاسم العظيم ما لم نكن نعلم فإن قلت: فقد روى أبو داود والترمذي أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا - وهو زيد أبو عياش الزرقي - ذكر اسمه الحارث بن أبي أسامة في مسنده - يقول "اللهم إني أسألك، بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام فقال لقد دعا الله باسمه الأعظم" 2. ويروى أنه قال له في هذا الحديث غفر الله له غفر الله له. وروى الترمذي نحو هذا فيمن قال "اللهم إني أسألك ; فإنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم تلد ولم تولد "3 وهذا معارض لحديث أم سلمة قلنا:
ـــــــ
1 لست أدري من أين جاء بهذا؟! وهذا يأفكه المبطلون المشعبذون الذين يفترون أنهم يعرفون اسم الله الأعظم.
2 رواه الترمذي وأبو داود والنسائي.
3 رواه الترمذي وأبو داود.

(1/111)


فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال:
ـــــــ
لا معارضة بين هذا، وبين ما تقدم فإنا لم نقل إن الاسم الأعظم هو الحي القيوم بل الحي القيوم صفتان تابعتان للاسم الأعظم. وتتميم لذكره وكذلك المنان. وذو الجلال والإكرام في حديث أبي داود وقد خرجه الترمذي أيضا في الدعوات وكذلك الأحد الصمد في حديث الترمذي. وقولك: الله لا إله إلا هو هو الاسم لأنه لا سمي له ولم يتسم به غيره وقد قال بعض العلماء في التسعة والتسعين اسما: إنها كلها تابعة للاسم الذي هو الله وهو تمام المائة فهي مائة على عدد درج الجنة إذ قد ثبت في الصحيح أنها مائة1 درجة بين كلك قوله في الصحيح "أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم" ووقع في جامع ابن وهب: "سبحانك لا أحصي أسما درجتين مسيرة مائة عام وقال في الأسماء "من أحصاها دخل الجنة " 2 فهي على عدد درج الجنة وأسماؤه تعالى لا تحصى، وإنما هذه الأسماء هي المفضلة على غيرها، والمذكورة في القرآن. يدل على ذلءك" ومما يدل على أنه الاسم الأعظم أنك تضيف جميع الأسماء إليه ولا تضيفه إليها. تقول العزيز اسم من أسماء الله ولا تقل الله اسم من أسماء العزيز وفخمت اللام من اسمه - وإن كانت لا تفخم لام في كلام العرب إلا مع حروف الإطباق نحو الطلاق ولا تفخم لام في شيء من أسمائه ولا شيء من الحروف الواقعة في أسمائه التي ليست بمستعلية إلا في هذا الاسم العظيم المنتظم من ألف ولامين وهاء. فالألف من مبدأ الصوت والهاء راجعة إلى مخرج الألف فشاكل
ـــــــ
1 ورد عدد درجات الجنة في حديث رواه البخاري والترمذي، ورواية البخاري: "ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" .
2 يشير إلى الحديث: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" متفق عليه.

(1/112)


لا تقدر على ذلك. قال فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها، فيخرج ليس به بأس فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني. قال فوحد الله تعالى ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ثم هلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر - وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من
ـــــــ
اللفظ المعنى، وطابقه لأن المسمى بهذا الاسم منه المبدأ وإليه المعاد. والإعادة أهون من الابتداء عند المخاطبين فكذلك الهاء أخف وألين في اللفظ من الهمزة التي هي مبدأ الاسم. أخبرت بهذا الكلام أو نحوه في الاسم وحروفه عن ابن فورك رحمه الله. ذكره أبو بكر شيخنا في كتاب شرح الأسماء الحسنى له. فإن قيل فأين ما ذكروه عن الاسم الأعظم وأنه لا يدعى الله به إلا أجاب ولا يسأل به شيئا إلا أعطاه.
قلنا: عن ذلك جوابان أحدهما: أن هذا الاسم كان عند من كان قبلنا - إذا علمه - مصونا غير مبتذل معظما لا يمسه إلا طاهر ولا يلفظ به إلا طاهر ويكون الذي يعرفه عاملا بمقتضاه متألها مخبتا، قد امتلأ قلبه بعظمة المسمى به لا يلتفت إلى غيره ولا يخاف سواه فلما ابتذل وتكلم به في معرض البطالات والهزل ولم يعمل بمقتضاه ذهبت من القلوب هيبته فلم يكن فيه من سرعة الإجابة وتعجيل قضاء الحاجة للداعي ما كان قبل. ألا ترى قول أيوب عليه السلام في بلائه "قد كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله - يعني في تنازعهما، أي تخاصمهما - فأرجع إلى بيتي، فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق" وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم – "كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" فقد لاح لك تعظيم الأنبياء له.
والجواب الثاني: أن الدعاء به إذا كان من القلب ولم يكن بمجرد اللسان

(1/113)


الإنجيل وحكمه - ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران والله أعلم بذلك.
ـــــــ
استجيب للعبد غير أن الاستجابة تنقسم كما قال - عليه السلام - إما أن يعجل له ما سأل وإما أن يدخر له وذلك خير مما طلب وإما أن يصرف عنه من البلاء بقدر ما سأل من الخير1 وأما دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته ألا يجعل بأسهم بينهم2 فمنعها، فقد أعطي عوضا لهم من ذلك الشفاعة لهم في الآخرة وقد قال "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذاب عذابها في الدنيا: الزلازل والفتن خرجه أبو داود3، فإذا كانت الفتن سببا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة فما خاب دعاؤه لهم. على أنني تأملت هذا الحديث وتأملت حديثه الآخر" حين نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام 65]. فقال أعوذ بوجهك. فلما سمع {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] قال أعوذ بوجهك، فلما سمع {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} [الأنعام: 65] قال هذه أهون4.
فمن هاهنا - والله أعلم - أعيذت أمته من الأولى والثانية ومنع الثالثة حين سألها بعد. وقد عرضت هذا الكلام على رجل من فقهاء زماننا، فقال هذا حسن جدا، غير أنا لا ندري: أكانت مسألته بعد نزول الآية أم لا؟ فإن كان بعد نزول الآية فأخلق بهذا النظر أن يكون صحيحا. قلت له أليس في الموطأ أنه دعا بها في مسجد بني معاوية وهو في المدينة، ولا خلاف أن سورة الأنعام مكية؟ فقال نعم وسلم وأذعن للحق وأقر به. رحمه الله.
ـــــــ
1 يشير إلى الحديث: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث..." الحديث رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة.
2 يشير إلى حديث "سألت ربي ثلاثاً..." الحديث رواه مسلم وأحمد.
3 ورواه الطبراني في "الكبير" والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "الشعب" ولكن لن تكون شفاعة إلا بعد إذن الله.
4 رواه البخاري والنسائي وابن حبان.

(1/114)


قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، والله أعلم أي ذلك كان.
ـــــــ
هل الشهداء أحياء في قبورهم؟
فصل وذكر من وجدان عبد الله في خربة من خرب نجران. يصدقه قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] الآية وما وجد في صدر هذه الآية من شهداء أحد، وغيرهم على هذه الصورة لم يتغيروا بعد الدهور الطويلة كحمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فإنه وجد حين حفر معاوية العين صحيحا لم يتغير وأصابت الفأس أصبعه فدميت وكذلك أبو جابر عبد الله بن حرام وعمرو بن الجموح، وطلحة بن عبد الله - رضي الله عنهم - استخرجته بنته عائشة من قبره حين رأته في المنام فأمرها أن تنقله من موضعه فاستخرجته من موضعه بعد ثلاثين سنة لم يتغير. ذكره ابن قتيبة في المعارف. والأخبار بذلك صحيحة1. وقد قال عليه السلام "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". خرجه سليمان بن الأشعث. وذكر أبو جعفر الداوودي في "كتاب الناس" هذا الحديث بزيادة: ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين، وهي زيادة غريبة لم تقع لي في مسند، غير أن الداوودي من أهل الثقة والعلم، وفي المسند من طريق أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "الأنبياء أحياء يصلون في قبورهم" . انفرد به ثابت البناني عن أنس وقد روي أن ثابتا التمس في قبره بعدما دفن فلم يوجد فذكر ذلك لبنته. فقالت كان يصلي فلم تروه لأني كنت أسمعه إذا تهجد بالليل يقول "اللهم اجعلني ممن يصلي في قبره بعد الموت" 2. وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "مررت بموسى - عليه السلام - وهو يصلي في
ـــــــ
1 إنما أساطير تسكر العاطفة، فتذهلها عن هدى الكتاب السنة... ألخ.
2 هذا وما قبله لا مع النقل الصحيح، ولا مع العقل الصريح، إنما هو خرافات يراد بها ربط الناس بالموتى، لا بالحي القيوم.

(1/115)


ذو نواس وخد الأخدود:
فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود، فحرق من حرق بالنار وقتل من قتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4 - 8]
ـــــــ
قبره" 1.
أصحاب الأخدود:
وحديث عبد الله بن الثامر إنما رواه ابن إسحاق موقوفا على محمد بن كعب القرظي عن بعض أهل نجران، ليصل به حديث فيمؤن وهو حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن أبي ليلى عن صهيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أولى أن يعتمد عليه وهو يخالف حديث ابن إسحاق في ألفاظ كثيرة.
قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حدث بهذا الحديث يعني حديثا تقدم قبل هذا الحديث يحدث بهذا الحديث الآخر. قال كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن2 يكهن له فقال الكاهن انظروا لي غلاما فهما أو قال فطنا لقنا ; فأعلمه علمي هذا، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه قال فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين3. قال فجعل الغلام يسأل الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله قال فجعل الغلام يمكث عند
ـــــــ
1 كان هذا ليلة الإسراء، وهي من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 وفي رواية: ساحر.
3 هذا تعبير دقيق، فكل من آمن بالله وبالرسول فهو مسلم.

(1/116)


....................................................
ـــــــ
الراهب ويبطئ على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك الكاهن أين كنت، فقل كنت عند أهلي، فإذا قال لك أهلك: أين كنت؟ فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن قال فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة فقال بعضهم إن تلك الدابة كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا، فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن تقتله قال ثم رمى، فقتل الدابة فقال الناس من قتلها؟ فقالوا: الغلام ففزع الناس وقالوا: لقد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد. قال فسمع به أعمى، فقال له إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا، فقال له لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك أتؤمن بالذي رده؟ قال نعم. قال فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله ثم قتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام قال ثم رجع فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقونه فيه فانطلق به إلى البحر فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني، وتقول إذا رميتني: "باسم الله رب هذا الغلام". قال فأمر به فصلب ثم رماه فقال باسم الله رب هذا الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام قال فقيل للملك أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال فخد أخدودا1، ثم ألقى فيه الحطب والنار ثم جمع
ـــــــ
1 خدَّ: شق، والأخدود: شق في الأرض مستطيل غائص، جمعه: أخاديد.

(1/117)


....................................................
ـــــــ
الناس فقال من رجع عن ذنبه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود.
قال يقول الله سبحانه – {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} حتى بلغ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4 -8]. قال فأما الغلام فإنه دفن. قال: فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل. رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عن معمر ورواه مسلم عن هداب بن خالد عن حماد بن سلمة، ثم اتفقا عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب غير أن في حديث مسلم أن الأعمى الذي شفي كان جليسا للملك وأنه جاءه بعد ما شفي فجلس من الملك كما كان يجلس فقال من رد عليك بصرك، قال ربي، قال وهل لك رب غيري؟ فقال الله ربي وربك، فأمر بالمنشار فجعل على رأسه حتى وقع شقاه وأمر بالراهب ففعل به مثل ذلك وزاد مسلم في آخر الحديث. قال فأتي بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي يرضع فقال لها الغلام يا أمه لا تجزعي، فإنك على الحق وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع كان من سبعة أشهر1.
ـــــــ
1 ورواه أحمد أيضاً، وقد ذكر السدي: كانت الأخدود ثلاثة: خد بالعراق، وخد بالشام، وخد باليمن, رواه ابن أبي حاتم.

(1/118)