الروض الأنف ت السلامي

أمر الفيل، وقصة النسأة
بناء القليس:
ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
__________
خبر القليس مع الفيل وذكر بنيان أبرهة للقليس:
وهي الكنيسة التي أراد أن يصرف إليها حج العرب، وسميت هذه الكنيسة القليس لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرءوس ويقال تقلنس الرجل وتقلس إذا لبس القلنسوة وقلس طعاما أي ارتفع من معدته إلى فيه وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعا من السخر وكان ينقل إليها العدد من الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صاحبة سليمان - عليه السلام - وكان في موضع هذه الكنيسة على فراسخ وكان فيه بقايا من آثار ملكها، فاستعان بذلك على ما أراده في هذه الكنيسة من بهجتها وبهائها، ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والآبنس1 وكان أراد أن يرفع في بنائها حتى يشرف منها على عدن، وكان حكمه
ـــــــ
1 يريد خشب الآبنوس الذي ينبت في الحبشة والهند، وخشبه أسود صلب.

(1/136)


....................................................
ـــــــ
في العامل إذا طلعت عليه الشمس قبل أن يأخذ في عمله أن يقطع يده فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا أن يقطع يده فقالت اضرب بمعولك اليوم فاليوم لك، وغدا لغيرك، فقال ويحك ما قلت؟ فقالت نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك، فكذلك يصير منك إلى غيرك، فأخذته موعظتها، وأعفى الناس من العمل فيها بعد. فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات وكان كل من أراد أن يأخذ شيئا منها أصابته الجن1، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئا إلى زمن أبي العباس فذكر له أمرها، وما يتهيب من جنها وحياتها، فلم يرعه ذلك. وبعث إليها بابن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة2 فخربها، وحصلوا منها مالا كثيرا ببيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها، فعفا بعد ذلك رسمها، وانقطع خبرها، ودرست آثارها، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته صنمين كانت الكنيسة عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته أصيب الذي كسره بجذام فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم3 وقالوا: أصابه كعيب وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيبا كان من خشب طوله ستون ذراعا4.
ـــــــ
1 خرافة قولاً واحداً.
2 القوة مع الصبر على المكروه.
3 الطغام: الأوغاد من الناس واحدة: طغامة مثل سحابة، والرعاع بضم الراء وفتحها مفردها: رعاعة، وهو من لا قلب له وولا عقل.
4 كيف إذن يصيب هذا الخشب الناس بسوء؟

(1/137)


معنى النسأة:
النسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من الأشهر الحرم، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37].
المواطأة لغة:
قال ابن هشام: ليواطئوا: ليوافقوا، والمواطأة الموافقة تقول العرب: واطأتك على هذا الأمر أي وافقتك عليه والإيطاء في الشعر الموافقة وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد وجنس واحد نحو قول العجاج - واسم العجاج عبد الله بن رؤبة أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار:
في أثعبان المنجنون المرسل
ثم قال:
مد الخليج في الخليج المرسل
وهذان البيتان في أرجوزة له.
تاريخ النسء عند العرب:
قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما أحل
ـــــــ
النسيء والنسأة:
وذكر النسأة والنسيء من الأشهر. فأما النسأة فأولهم: القلمس واسمه حذيفة بن عبد بن فقيم وقيل له القلمس لجوده إذ القلمس من أسماء البخر وأنشد قاسم بن ثابت:

(1/138)


وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ثم قام بعد عباد قلع بن عباد ثم قام بعد قلع أمية بن قلع ثم قام بعد أمية عوف بن أمية ثم قام بعد عوف أبو ثمامة جنادة بن عوف. وكان آخرهم وعليه قام الإسلام وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر
ـــــــ.
إلى نضد من عبد شمس كأنهم ... هضاب أجا أركانه لم تقصف1
قلامسة ساسوا الأمور فأحكمت ... سياستها حتى أقرت لمردف
وذكر أبو علي القالي في "الأمالي" أن الذي نسأ الشهور منهم نعيم بن ثعلبة وليس هذا بمعروف2 وأما نسؤهم للشهر فكان على ضربين أحدهما: ما ذكر ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما، أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته ولذلك قال عليه السلام في حجة الوداع : "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" 3 وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته ولم يحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته ولطوافهم بالبيت عراة - والله أعلم - إذ كانت مكة بحكمهم حتى فتحها الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا أبو بكر نرى أن قول الله سبحانه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وخص الحج بالذكر دون غيره من العبادات المؤقتة بالأوقات تأكيدا لاعتباره بالأهلة دون حساب الأعاجم من أجل ما كانوا أحدثوا في الحج من
ـــــــ
1 أجأ: أحد جبلي طيء، وفيه قرى كثيرة، والنضد: الشرف والشريف من القوم: جماعتهم وعددهم.
2 انظر: "الأمالي" 1/4. ط2. دار الكتب.
3 أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم.

(1/139)


....................................................
ـــــــ
الاعتبار بالشهور العجمية والله أعلم.
وذكر ابن هشام قول العجاج:
في أثعبان المنجنون المرسل1. الأثعبان ما يندفع من الماء من شعبه. والمنجنون أداة السانية والميم في المنجنون أصلية في قول سيبويه، وكذلك النون لأنه يقال فيه منجنين مثل عرطليل2 وقد ذكر سيبويه أيضا في موضع آخر من كتابه أن النون زائدة إلا أن بعض رواة الكتاب قال فيه منحنون بالحاء فعلى هذا لم يتناقض كلامه - رحمه الله - وفي أداة السانية الدولاب بضم الدال وفتحها، والشهرق وهو الذي يلقى عليه حبل الأقداس واحدها: قدس والعامة تقول قادوس والعصامير عيدان السانية قاله أبو حنيفة: وقال صاحب العين العصمور عود السانية. وقوله مد الخليج. الخليج: الجبل والخليج أيضا: خليج الماء. وذكر اسم العجاج ولم يكنه وكنيته أبو الشعثاء، وسمي العجاج بقوله حتى يعج عندها من عججا.
وقال عمير بن قيس: كرام الناس أن لهم كراما. أي آباء كراما، وأخلاقا كراما. وقوله وأي الناس لم نعلك لجاما. أي لم نقدعهم ونكفهم كما يقدع الفرس باللجام. تقول أعلكت الفرس لجامه إذا رددته عن تنزعه فمضغ اللجام كالعلك من نشاطه فهو مقدوع قال الشاعر:
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر
وكان عمير هذا من أطول الناس وهو مذكور في مقبلي الظعن وسمي جذل الطعان لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف وقيل لأنه كان يستشفى برأيه،
ـــــــ
1 المنجنون: الدولاب يستقى عليه، أو البكرة العظيمة , والسانية: الدلو العظيمة وأداتها.
2 العرطليل: الضخم والفاحش، والعرطويل: الحسن الشباب والقد.

(1/140)


الحرم الأربعة رجبا، وذا القعدة وذا الحجة والمحرم. فإذا أراد أن يحل شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفرا فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم. فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال "اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل"1. فقال في ذلك عمير بن قيس "جذل الطعان" أحد بني فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، يفخر بالنسأة على العرب:
لقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
قال ابن هشام: أول الأشهر الحرم: المحرم.
ـــــــ
ويستراح إليه كما تستريح البهيمة الجرباء إلى الجذل تحتك به ونحو منه قول الحباب [ابن المنذر]: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وقول الأعرابي يصف ابنه إنه لجذل حكاك ومدره لكاك. واللكاك الزحام.
فصل: وذكر جنادة بن عوف من النسأة، وعليه قام الإسلام ولم يذكر هل أسلم أم لا، وقد وجدت له خبرا يدل على إسلامه حضر الحج في زمن عمر فرأى الناس يزدحمون على الحج فنادى: أيها الناس إني قد أجرته منكم فخفقه عمر بالدرة وقال ويحك: إن الله قد أبطل أمر الجاهلية. وذكر البرقي عن ابن الكلبي قال فنسأ قلع بن عباد سبع سنين ونسأ بعده أمية بن قلع إحدى وعشرين سنة ثم نسأ من بعده جنادة وهو أبو أمامة وهو القلمس أربعين سنة.
الأشهر الحرم:
وقول ابن هشام: أول الأشهر الحرم: المحرم قول وقد قيل أولها ذو
ـــــــ
1 كان النسيء عندهم على ضربين: أحدهما ما ذكر ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر=

(1/141)


إحداث الكناني في القليس، وحملة أبرهة على الكعبة:
قال ابن إسحاق: فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها - قال ابن هشام:
ـــــــ
القعدة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ به حين ذكر الأشهر الحرم1، ومن قال المحرم أولها، احتج بأنه أول السنة وفقه هذا الخلاف أن من نذر صيام الأشهر الحرم، فيقال له على الأول ابدأ بالمحرم ثم برجب ثم بذي القعدة وذي الحجة وعلى القول الآخر يقال له ابدأ بذي القعدة حتى يكون آخر صيامك في رجب من العام الثاني.
القعود على المقابر:
وقوله خرج الكناني حتى قعد في القليس أي أحدث فيها، وفيه شاهد لقول مالك، وغيره من الفقهاء في تفسير القعود على المقابر المنهي عنه وأن ذلك للمذاهب كما قال مالك والله أعلم.
أنساب:
وذكر قول نفيل الخثعمي وهاتان يداي لك على شهران وناهس، وهما قبيلا خثعم، أما خثعم: فاسم جبل سمي به بنو عفرس2 بن خلف بن أفتل بن أنمار، لأنهم نزلوا عنده وقيل إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه بينهم أي:
ـــــــ
= لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات. والثاني تأخيرهم الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية.
1 راجع حديث: "إن الزمان استدار".
2 في "الاشتقاق" عفرس: الأخذ بالقهر والغلبة. أما أفتل فمن قولهم بعير أفتل: وهو الذي يتباعد منكباه عن زوره. وشهران: إما من الشهرة وإما من الأشهر وهو البياض الذي حول صفرة النرجس وناهس: من النهس وهو النهش.

(1/142)


يعني أحدث فيها - قال ابن إسحاق: ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال من صنع هذا؟ فقيل له صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك: "أصرف إليها حج العرب" غضب فجاء فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة، بيت الله الحرام.
__________
تلطخوا، وقيل بل خثعم ثلاث شهران وناهس وأكلب غير أن أكلب عند أهل النسب هو ابن ربيعة بن نزار ولكنهم دخلوا في خثعم، وانتسبوا إليهم فالله أعلم. قال رجل من خثعم:
ما أكلب منا، ولا نحن منهم ... وما خثعم يوم الفخار وأكلب
قبيلة سوء من ربيعة أصلها ... فليس لها عم لدينا، ولا أب
فأجابه الأكلبي فقال:
إني من القوم الذين نسبتني ... إليهم كريم الجد والعم والأب
فلو كنت ذا علم بهم ما نفيتني ... إليهم ترى أني بذلك أثلب
فإن لا يكن عماي خلفا وناهسا ... فإني امرئ قلبه كيف يركب
يريد أنه من ربيعة، وربيعة كان يقال له: ربيعة الفرس.
وأما ثقيف وما ذكر من اختلاف النسابين فيهم فبعضهم ينسبهم إلى إياد، وبعضهم ينسبهم إلى قيس، وقد نسبوا إلى ثمود أيضا. وقد روي في ذلك حديث عنه - عليه السلام - رواه معمر بن راشد في جامعه وكذلك أيضا روي في الجامع أن أبا رغال من ثمود، وأنه كان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة فلما خرج من الحرم أصابه من الهلاك ما أصاب قومه فدفن هناك ودفن معه غصنان من ذهب وذكر أن

(1/143)


هزيمة ذي نفر أمام أبرهة:
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد
ـــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالقبر، وأمر باستخراج الغصنين منه فاستخرجا1. وقال جرير أو غيره:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال
ووقع في هذه النسخة في نسب ثقيف الأول ابن إياد بن معد. وفي الحاشية أن القاضي أبا الوليد غيره فجعل مكان ابن معد من معد وذلك - والله أعلم - لأن إياد هذا هو ابن نزار وليس بابن معد لصلبه ولمعد ابن اسمه: إياد، وهو ابنه لصلبه، وقد ذكره ابن إسحاق، وقد قدمنا ذكره مع بني معد في أول الكتاب وهو عم إياد، والإياد في اللغة التراب الذي يضم إلى الخباء ليقيه من السيل ونحوه وهو مأخوذ من الأيد وهي القوة لأن فيه قوة للخباء وهو بين النؤي والخباء والنؤي يشتق من النائي، لأنه حفير ينأى به المطر أي يبعد عن الخباء.
وأنشد لأمية بن أبي الصلت واسم أبي الصلت ربيعة بن وهب في قول الزبير:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أولو أقاموا، فتهزل النعم
يريد: أي: لو أقاموا بالحجاز وإن هزلت نعمهم لأنهم انتقلوا عنها، لأنها ضاقت عن مسارحهم فصاروا إلى ريف العراق; ولذلك قال والقط والقلم والقط: ما قط من الكاغد والرق2 ونحوه وذلك أن الكتابة كانت في تلك البلاد التي ساروا إليها، وقد قيل لقريش ممن تعلمتم القط؟ فقالوا: تعلمناه من أهل الحيرة، وتعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار ونصب قوله فتهزل النعم بالفاء على
ـــــــ
1 هذا ليس من كلام النبي، وإنما هو من الخرافات.
2 الكاغد: القرطاس، معرب، والرق بكسر الراء وفتحها: جلد رقيق يكتب فيه. ما قُطَّ: أي ما قطع.

(1/144)


من هدمه وإخرابه فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر، فأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق وكان أبرهة رجلا حليما.
ما وقع بين نفيل وأبرهة:
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا، فأتي به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم: شهران وناهس بالسمع والطاعة فخلى سبيله.
ابن معتب وأبرهة:
وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف.
__________
جواب التمني المضمن في لو نحو قوله تعالى : {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] وأما تسمية قسي بثقيف فسيأتي سبب ذلك في غزوة الطائف - إن شاء الله تعالى.
المغمس:
وقوله فلما نزل أبرهة المغمس هكذا ألفيته في نسخة الشيخ أبي بحر المقيدة على أبي الوليد القاضي بفتح الميم الآخرة من المغمس. وذكر البكري في كتاب المعجم عن ابن دريد وعن غيره من أئمة اللغة أنه المغمس. بكسر الميم الآخرة وأنه أصح ما قيل فيه وذكر أيضا أنه يروى بالفتح فعلى رواية الكسر هو مغمس مفعل من غمست، كأنه اشتق من الغميس وهو الغمير، وهو النبات الأخضر الذي ينبت في الخريف تحت اليابس يقال: غمس المكان وغمر إذا نبت فيه ذلك كما

(1/145)


نسب ثقيف وشعر ابن أبي الصلت في ذلك:
واسم ثقيف: قسي بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد1 بن نزار بن معد بن عدنان. قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعا والقط والقلم
وقال أمية بن أبي الصلت أيضا:
فإما تسألي عني - لبينى ... وعن نسبي - أخبرك اليقينا
فإنا للنبيت أبي قسي ... لمنصور بن يقدم الأقدمينا
قال ابن هشام: ثقيف: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، والبيتان الأولان والآخران في قصيدتين لأمية.
استسلام أهل الطائف لأبرهة:
قال ابن إسحاق: فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللاتي - إنما يريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم.
ـــــــ
يقال صوح وشجر2 وأما على رواية الفتح فكأنه من غمست الشيء إذا غطيته، وذلك أنه مكان مستور إما بهضاب وإما بعضاه3 وإنما قلنا هذا; لأن
ـــــــ
1 بين النسابين خلاف في نسب ثقيف، فبعضهم ينسبهم إلى إياد، وبعضهم ينسبهم إلى قيس، وبعضهم ينسبهم إلى ثمود.
2 صوح النبت: يبس حتى تشقق. وشجر النبات: صار شجراً.
3 العضاه: كل شجر له شوك صغر أو كبر.

(1/146)


اللات:
واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة. قال ابن هشام: أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفهري:
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر
وهذا البيت في أبيات له.
معونة أبي رغال لأبرهة وموته وقبره:
قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس1، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.
الأسود واعتداؤه على مكة:
فلما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
حناطة وعبد المطلب:
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي
__________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان بمكة كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس، وهو على ثلث فرسخ منها، كذلك رواه علي بن السكن في كتاب "السنن" له وفي
ـــــــ
1 المغمس "بالكسر على صيغة الفاعل، وروي بالفتح على زنة اسم المفعول": موضع بطريق الطائف على ثلثي فرسخ من مكة المكرمة.

(1/147)


فأتني به فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له عبد المطلب بن هاشم فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من1 طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه2 وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه فقال له حناطة فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
ذو نفر وأنيس وتوسطهما لعبد المطلب لدى أبرهة:
فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا؟ ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك. ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عير3 مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال وقد أصاب له الملك مئتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت، فقال أفعل.
فكلم أنيس أبرهة فقال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال فأذن له عليك، فيكلمك4 في حاجته[وأحسن إليه] قال فأذن له أبرهة
ـــــــ
"السنن" لأبي داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد البراز أبعد، ولم يبين مقدار البعد
ـــــــ
1 كذا في "الطبري"، وفي الأصول: "منه".
2 كذا في "الطبري"، وفي الأصول: "حرمته".
3 كذا في "الطبري"، وفي الأصل "عين".
4 كذا في "الطبري"، وفي سائر الأصول "فليكلمك".

(1/148)


عبد المطلب وخويلد بين يدي أبرهة:
قال وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال ما كان ليمتنع مني، قال أنت وذاك.
وكان - فيما يزعم بعض أهل العلم - قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد بني بكر - وخويلد بن واثلة الهذلي - وهو يومئذ سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة، على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا، فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له.
ـــــــ
وهو مبين في حديث ابن السكن - كما قدمنا - ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأتي مكانا للمذهب إلا وهو مستور منخفض فاستقام المعنى فيه على الروايتين جميعاً.
وسامة عبد المطلب:
وقوله في صفة عبد المطلب: أوسم الناس وأجمله1. ذكر سيبويه هذا الكلام محكيا عن العرب، ووجهه عندهم أنه محمول على المعنى، فكأنك قلت: أحسن
ـــــــ
1 في "السيرة" وأجملهم.

(1/149)


عبد المطلب في الكعبة يستنصر بالله على رد أبرهة:
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز1 في شعف2 الجبال والشعاب3 تخوفا عليهم من معرة4 الجيش ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يم ... نع رحله فامنع حلالك5
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها.
ـــــــ
رجل وأجمله فأفرد الاسم المضمر التفاتا إلى هذا المعنى، وهو عندي محمول على الجنس كأنه حين ذكر الناس قال هو أجمل هذا الجنس من الخلق وإنما عدلنا عن ذلك التقدير الأول لأن في الحديث الصحيح "خير نساء ركبن الإبل صوالح نساء قريش: أحناه على ولده في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده"6، ولا يستقيم ههنا حمله على الإفراد لأن المفرد ههنا امرأة فلو نظر إلى واحد النساء لقال أحناها على ولده فإذا التقدير أحنى هذا الجنس الذي هو النساء وهذا الصنف ونحو هذا.
وذكر قول عبد المطلب:
ـــــــ
1 التحرز: التمنع، ويروى: "التحرز"، وهو أن ينحاز إلى جهة ويتمنع.
2 شعف الجبال: رؤوسها.
3 الشعاب: المواضع الخفية بين الرجال.
4 معرة الجيش: شدته.
5 لاهم: أصلها اللهم. الحلال "بالكسر": جمع حلة, وهي جماعة البيوت.
6 متفق عليه، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة.

(1/150)


شعر لعكرمة في الدعاء على الأسود بن مقصود:
قال ابن إسحاق: وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي:
لا هم أخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد1
بين حراء وثبير فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد2
فضمها إلى طماطم سود ... أخفره يا رب وأنت محمود
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، والطماطم الأعلاج.
قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.
__________
لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك
العرب تحذف الألف واللام من اللهم وتكتفي بما بقي وكذلك تقول لاه أبوك تريد لله أبوك، وقد تقدم قول من قال في لهنك [أو: لهنك]، وأن المعنى: والله إنك، وهذا لكثرة دور هذا الاسم على الألسنة وقد قالوا فيما هو دونه في الاستعمال أجنك تفعل كذا وكذا. أي من أجل أنك تفعل كذا وكذا والحلال في هذا البيت القوم الحلول في المكان والحلال مركب من مراكب النساء. قال الشاعر:
بغير حلال غادرته مجحفل3
ـــــــ
1 الهجمة: القطعة من الإبل ما بين التسعين إلى المائة. التقليد: يريد في أعناقها القلائد.
2 حراء وثبير: جبلان.
3 جحفلة: صرعه ورماه وبكته, والبيت لطفيل وهو:
وراكضة ما تستجن بجنة
بغير حلال غادرته مجحفل

(1/151)


....................................................
ـــــــ
والحلال أيضا: متاع البيت وجائز أن يستعيره ههنا، وفي الرجز بيت ثالث لم يقع في الأصل وهو قوله
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
وفيه حجة على النحاس والزبيدي حيث زعما، ومن قال بقولهما أنه لا يقال اللهم صل على محمد وعلى آله لأن المضمر يرد المعتل إلى أصله وأصله أهل فلا يقال إلا: وعلى أهله وبهذه المسألة ختم النحاس كتابه الكافي. وقولهما خطأ من وجوه وغير معروف في قياس ولا سماع وما وجدنا قط مضمرا يرد معتلا إلى أصله إلا قولهم أعطيتكموه برد الواو وليس هو من هذا الباب في ورد ولا صدر ولا نقول أيضا: إن آلا أصله أهل ولا هو في معناه ولا نقول إن أهيلا تصغير آل كما ظن بعضهم ولتوجيه الحجاج عليهم موضع غير هذا، وفي الكامل من قول الكتابي لمعاوية حين ذكر عبد الملك من آلك، وليس منك1.
وقول عكرمة بن عامر: الآخذ الهجمة فيها التقليد الهجمة هي ما بين التسعين إلى المائة والمائة منها: هنيدة والمائتان هند، وقال بعضهم والثلاثمائة أمامة وأنشدوا:
تبين رويدا ما أمامة من هند2
وكأن اشتقاق الهجمة من الهجيمة وهو الثخين من اللبن لأنه لما كثر لبنها لكثرتها، لم يمزج بماء وشرب صرفا ثخينا، ويقال للقدح الذي يحلب فيه إذا كان كبيرا: هجم3.
ـــــــ
1 في "اللسان" كلام طويل عن آل في مادة أهل فانظره.
2 في "اللسان" ورد هكذا في مادة: أمم.
3 وقيل: يحرك أيضاً.

(1/152)


دخول أبرهة مكة، وما وقع له ولفيله، وشعر نفيل في ذلك:
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبى جيشه - وكان اسم الفيل محمودا - وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال ابرك محمود أو ارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه. فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين1 ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن2 لهم في مراقه3 فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك فأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر معها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
ـــــــ
في حديث الفيل:
وقوله: أخفره يا رب. أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته أخفره إذا أجرته، فينبغي أن لا يضبط هذا إلا بقطع الهمزة وفتحها، لئلا يصير الدعاء عليه دعاء له.
وقوله إلى طماطم سود. يعني: العلوج. ويقال لكل أعجمي طمطماني
ـــــــ
1 آلة معقفة من حديد، وطبر بالفارسية معناها الفأس.
2 جمع محجن وهي عصا معوجة وقد يجعل طرفها من حديد.
3 يعني أسفل بطنه.

(1/153)


أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
قال ابن هشام: قوله "ليس الغالب" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال نفيل أيضا:
ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا1
ردينة لو رأيت - ولا تريه ... لذي جنب المحصب ما رأينا2
إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط [أنامله] أنملة أنملة كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمث3 قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث.
أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر4 ذلك العام.
ماذكر في القرآن عن قصة الفيل، وشرح ابن هشام لمفرداته:
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال الله
__________
وطمطم ويذكر عن الأخفش طمطم بفتح الطاء.
ـــــــ
1 ردين مرخم ردينة وهو اسم امرأة.
2 المصحف موضع فيما بين مكة ومنى.
3 مث يمث: رشح.
4 شجر مر له صمغ ولبن وتعالج بلبنة الجلود قبل الدباغ.

(1/154)


تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1-5]. وقال {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 – 4]. أي لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه1 وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب قال رؤبة بن العجاج:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ... ترميهم حجار من سجيل
ولعبت طير بهم أبابيل
وهذه الأبيات في أرجوزة له. ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج الحجر، وبالجل الطين يعني: الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين. والعصف ورق الزرع الذي لم يعصف وواحدته عصفة. قال وأخبرني أبو عبيدة النحوي أنه يقال له العصافة والعصيفة. وأنشدني لعلقمة بن عبدة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم:
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... جدورها من أتي الماء مطموم2
ـــــــ
وقوله عبى جيشه. يقال عبيت الجيش بغير همزة وعبأت المتاع بالهمز وقد حكي عبأت الجيش بالهمز وهو قليل.
ـــــــ
1 وقيل: إن واحدها أبيل وأبول وإبالة.
2 المذانب: جمع مذنب وهو مسيل الماء إلى الروضة. حدورها: بالحاء المهملة أي ما انحدر منها ويروى جدورها جمع جدر، وهي الحواجز التي تحبس الماء. الأتي : السيل يأتي من بلد بعيد. مطموم: مرتفع.

(1/155)


وهذا البيت في قصيدة له. وقال الراجز:
فصيروا مثل كعصف مأكول
قال ابن هشام: ولهذا البيت تفسير في النحو.
__________
وقوله فبرك الفيل. فيه نظر لأن الفيل لا يبرك فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض لما جاءه من أمر الله سبحانه ويحتمل أن يكون فعل فعل البارك الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك وقد سمعت من يقول إن في الفيلة صنفا منها يبرك كما يبرك الجمل فإن صح وإلا فتأويله ما قدمناه.
والأسود بن مقصود صاحب الفيل هو الأسود بن مقصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة ويقال فيه عله على وزن عمر ابن خالد1 بن مذجج وكان الأسود قد بعثه النجاشي مع الفيلة والجيش وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلا، فهلكت كلها إلا محمودا، وهو فيل النجاشي ; من أجل أنه أبى من التوجه إلى الحرم والله أعلم.
ونفيل الذي ذكره هو نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن جلف2 بن أفتل وهو خثعم. كذلك نسبه البرقي. وفي الكتاب نفيل بن حبيب ونفيل من المسمين بالنبات قاله أبو حنيفة. وقال هو تصغير نفل وهو نبت مسلنطح3 على الأرض.
وذكر النقاش أن الطير كانت أنيابها كأنياب السبع وأكفها كأكف الكلاب وذكر البرقي أن ابن عباس قال "أصغر الحجارة كرأس الإنسان وكبارها كالإبل" وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحاق في رواية يونس عنه. وفي تفسير النقاش أن
ـــــــ
1 في "الاشتقاق" و"جمهرة ابن حزم": جلد بفتح الجيم وسكون اللام.
2 في "جمهرة ابن حزم":حلف بالحاء المضمومة واللام الساكنة أو حلف بفتح الحاء وكسر اللام. وبنو عفرس في "جمهرة ابن حزم" هما: ناهس وشهران.
3 يعني أنه منبسط على الأرض.

(1/156)


....................................................
ـــــــ
السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
وقوله فضربوا رأسه بالطبرزين هكذا تقيد في نسخة الشيخ أبي بحر بسكون الباء وذكره البكري في المعجم وأن الأصل فيه طبرزين بفتح الباء وقال طبر هو الفأس وذكر طبرستان بفتح الباء وقال معناه شجر قطع بفأس لأنها قبل أن تبنى كانت شجراء فقطعت ولم يقل في طبرية مثل هذا. قال ولكنها نسبت إلى طباراء وهو اسم الملك الذي بناها، وقد ألفيته في شعر قديم طبرزين - بفتح الباء - كما قال البكري، وجائز في طبرزين - وإن كان ما ذكر أن تسكن الباء - لأن العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا لا يقرها على حال. قاله ابن جني.
وقوله فبزغوه أي أدموه ومنه سمي المبزغ وفي رواية يونس عن ابن إسحاق أن الفيل ربض فجعلوا يقسمون بالله أنهم رادوه إلى اليمن، فحرك لهم أذنيه كأنه يأخذ عليهم عهدا بذلك فإذا أقسموا له قام يهرول فيردونه إلى مكة، فيربض فيحلفون له فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم ففعلوا ذلك مرارا.
وقوله أمثال الحمص والعدس يقال حمص، وحمص، كما يقال جلق وجلق قاله الزبيدي، ولم يذكر أبو حنيفة في الحمص إلا الفتح وليس لهما نظير في الأبنية إلا الحلزة وهو القصير1 وقال ابن الأنباري الحلز البخيل بتشديد الزاي، وصوب القالي هذه الرواية في الغريب المصنف لأن فعلا بالتشديد ليس من الصفات عند سيبويه.
ويعني بمماثلة الحجارة للحمص أنها على شكلها - والله أعلم - لأنه قد روي أنها كانت ضخاما تكسر الرءوس وروي أن مخالب الطير كانت كأكف الكلاب - والله أعلم - وفي رواية يونس عن ابن إسحاق قال جاءتهم طير من
ـــــــ
1 والسيء الخلق، ونبات، والبوم, ودويبة.

(1/157)


....................................................
ـــــــ
البحر كرجال الهند، وفي رواية أخرى عنه أنهم استشعروا العذاب في ليلة ذلك اليوم لأنهم نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم ففزعوا لذلك.1
ولم تأسى على ما فات بينا
نصب بينا نصب المصدر المؤكد لما قبله إذ كان في معناه ولم يكن على لفظه لأن فات معنى: فارق وبان كأنه قال على ما فات فوتا، أو بان بينا، ولا يصح لأن يكون مفعولا من أجله يعمل فيه تأسى، لأن الأسى باطن في القلب والبين ظاهر ولا يجوز أن يكون المفعول من أجله إلا بعكس هذا. تقول بكى أسفا، وخرج خوفا، وانطلق حرصا على كذا، ولو عكست الكلام كان خلفا من القول وهذا أحد شروط المفعول من أجله ولعل له موضعا من الكتاب فنذكره فيه.
وقوله نعمناكم مع الإصباح عينا: دعاء أي نعمنا بكم فعدى الفعل لما حذف حرف الجر وهذا كما تقول أنعم الله بك عينا. وقوله في أول البيت ألا حييت عنا يا ردينا. هو اسم امرأة كأنها سميت بتصغير ردنة وهي القطعة من الردن وهو الحرير. ويقال لمقدم الكم ردن ولكنه مذكر وأما درينة بتقديم الدال على الراء فهو اسم للأحمق قاله الخليل.
وقوله في خبر أبرهة تبعتها مدة تمث قيحا ودما. ألفيته في نسخة الشيخ تمث، وتمث بالضم والكسر. فعلى رواية الضم يكون الفعل متعديا، ونصب قيحا على المفعول وعلى رواية الكسر يكون غير متعد ونصب قيحا على التمييز في قول أكثرهم وهو عندنا على الحال وهو من باب تصبب عرقا، وتفقأ شحما2،
ـــــــ
1 كل هذه الراويات تحتاج إلى سند.
2 مطاوع فقأ: شق الشيء وأخرج ما فيه.

(1/158)


....................................................
ـــــــ
وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسين في مثل هذا، وقد أفصح سيبويه في لفظ الحال في: ذهبن كلاكلا وصدورا1. وأشرق كاهلا، وهذا مثله ولكشف القناع عن حقيقة هذا موضع غير هذا وإنما قلنا: إن من رواه تمث بضم الميم فهو متعد كأنه مضاعف والمضاعف إذا كان متعديا كان في المستقبل مضموما نحو رده يرده إلا ما شذ منه نحو عل يعل ويعل، وهر الكأس يهر ويهر، وإذا كان غير متعد كان مكسورا في المستقبل نحو خف يخف، وفر يفر إلا ستة أفعال جاءت فيها اللغتان جميعا، وهي في أدب الكاتب وغيره2 فغنينا بذلك عن ذكرها. على أنهم قد أغفلوا: هب يهب وخب يخب وأج يؤج إذا أسرع وشك في الأمر يشك، ومعنى تمث قيحا: أي تسيل يقال فلان يمث كما يمث الزق3.
وقوله يسقط أنملة أنملة أي ينتثر جسمه والأنملة طرف الأصبع ولكن قد يعبر بها عن طرف غير الأصبع والجزء الصغير. ففي مسند الحارث بن أبي أسامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إن في الشجرة شجرة هي مثل المؤمن لا تسقط لها أنملة. ثم قال هي النخلة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة.
وقوله مرائر الشجر يقال شجرة مرة ثم تجمع على مرائر كما تجمع حرة على حرائر ولا تعرف فعلة تجمع على فعائل إلا في هذين الحرفين وقياس جمعهما فعل نحو درة ودرر ولكن الحرة من النساء في معنى: الكريمة والعقيلة ونحو ذلك فأجروها مجرى ما هو في معناها من الفعيلة وكذلك المر قياسه أن يقال فيه مرير لأن المرارة في الشيء طبيعة فقياس فعله: أن يكون فعل كما
ـــــــ
1 شطرته الأولى: "مشق الهواجر لحمهن مع السرى".
2 الأفعال هي: جد، وشب، وجم، وصد، وشح، وفح. انظر: "أدب الكاتب" 1/471.
3 وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف –للشرب وغيره- جمعها أزقاق زقاق، ومث الرجل مثا: عرق ورؤي على جلده مثل الدهن.

(1/159)


....................................................
ـــــــ
تقول عذب الشيء وقبح. وعسر إذا صار عسيرا، وإذا كان قياسه فعل فقياس الصفة منه أن تكون على فعيل والأنثى: فعيلة والشيء المر عسير أكله شديد فأجروا الجمع مجرى هذه الصفات التي هي على فعيل لأنها طباع وخصال وأفعال الطباع والخصال كلها تجري هذا المجرى.
وذكر العشر. وهو شجر مر يحمل ثمرا كالأترج وليس فيه منتفع ولبن العشر تعالج به الجلود قبل أن تجعل في المنيئة وهي المدبغة كما تعالج بالغلقة وهي شجرة وفي العشر الخرفع والخرفع وهو شبه القطن ويجنى من العشر المغافير واحدها: مغفور ومغافر وواحدها: مغفر ويقال لها: سكر العشر ولا تكون المغافير إلا فيه وفي الرمث1 وفي الثمام والثمام أكثرها لثى، وفي المثل هذا الجنى لا أن يكد المغفر من كتاب أبي حنيفة.
وذكر ابن هشام: الأبابيل وقال لم يسمع لها بواحد وقال غيره واحدها: إباله وإبول وزاد ابن عزيز وإبيل وأنشد ابن هشام لرؤبة
وصيروا مثل كعصف مأكول
وقال ولهذا البيت تفسير في النحو وتفسيره أن الكاف تكون حرف جر وتكون اسما بمعنى: مثل ويدلك أنها حرف وقوعها صلة للذي ; لأنك تقول رأيت الذي كزيد ولو قلت: الذي مثل زيد لم يحسن ويدلك أنها تكون اسما دخول حرف الجر عليها، كقوله ورحنا بكابن الماء ينفض رأسه. ودخول الكاف عليها، وأنشدوا: وصاليات ككما يؤثفين [أو يؤثفين]. وإذا دخلت على مثل كقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فهي إذا حرف إذ لا يستقيم أن يقال مثل مثله وكذلك هي حرف في بيت رؤبة "مثل كعصف" لكنها مقحمة لتأكيد التشبيه كما أقحموا اللام من قوله يا بؤس للحرب ولا يجوز أن يقحم حرف من
ـــــــ
1 الرمث: مرعى للإبل من الحمض وشجر يشبه الغضا.

(1/160)


حروف الجر سوى اللام والكاف أما اللام فلأنها تعطي بنفسها معنى الإضافة فلم تغير معناها، وكذلك الكاف تعطي معنى التشبيه فأقحمت لتأكيد معنى المماثلة غير أن دخول مثل عليها كما في بيت رؤبة قبيح ودخولها على مثل كما في القرآن أحسن شيء لأنها حرف جر تعمل في الاسم والاسم لا يعمل فيها، فلا يتقدم عليها إلا أن يقحمها كما أقحمت اللام.
وأنشد شاهدا على العصيفة قول علقمة، وآخره:
حدورها من أتي الماء مطموم.
وهذا البيت أنشده أبو حنيفة في النبات جدورها: هو جمع جدر بالجيم وهي الحواجز التي تحبس الماء ويقال للجدر حباس1 أيضا: وفي الحديث "أمسك الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله". وقد ذكر غيره رواية الجيم وقال إنما قال جدورها من أتي الماء مطموم. وأفرد الخبر، لأنه رده على كل واحد من الجدر كما قال الآخر:
ترى جوانبها بالشحم مفتوقا
أي: ترى كل جانب فيها.
فصل:
ويقال للعصيفة أيضا: أذنة2 ولما تحيط به الجدور التي تمسك الماء دبرة وحبس ومشارة ولمفتح الماء منها: آغية بالتخفيف والتثقيل [أو أتي].
ـــــــ
1 في "القاموس": حبس بكسر الحاء خشبة أو حجارة تبنى في مجرى الماء لتحبسه.
2 هي ورقة الحنة أول ما تنبت وخوصة الثمام والتبنة.

(1/161)


وإيلاف قريش: إيلافهم الخروج إلى الشام في تجارتهم وكانت لهم خرجتان خرجة في الشتاء وخرجة في الصيف. أخبرني أبو زيد الأنصاري: أن العرب تقول ألفت الشيء إلفا، وآلفته إيلافا، في معنى واحد وأنشدني لذي الرمة:
من المؤلفات الرمل أدماء حرة1 ... شعاع الضحى في لونها يتوضح
وهذا البيت في قصيدة له. وقال مطرود بن كعب الخزاعي:
المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف
ـــــــ
وذكر إيلاف قريش للرحلتين وقال هو مصدر ألفت الشيء وآلفته فجعله من الإلف للشيء وفيه تفسير آخر أليق لأن السفر قطعة من العذاب ولا تألفه النفس وإنما تألف الدعة والكينونة مع الأهل. قال الهروي: هي حبال أي عهود كانت بينهم وبين ملوك العجم، فكان هاشم يؤالف إلى ملك الشام، وكان المطلب يؤالف إلى كسرى، والآخران يؤالفان أحدهما إلى ملك مصر، والآخر إلى ملك الحبشة، وهما: عبد شمس ونوفل. قال ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح ونحو هذا، فيكون الفعل منه أيضا آلف على وزن فاعل والمصدر إلافا بغير ياء مثل قتالا، ويكون الفعل منه أيضا آلف على وزن أفعل مثل آمن ويكون المصدر إيلافا بالياء مثل إيمانا، وقد قرئ لإلاف قريش بغير ياء ولو كان من آلفت الشيء على وزن أفعلت إذا ألفته لم تكن هذه القراءة صحيحة وقد قرأها ابن عامر فدل هذا على صحة ما قاله الهروي، وقد حكاه عمن تقدمه. وظاهر كلام ابن إسحاق أن اللام من قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} متعلقة بقوله سبحانه {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} وقد قاله غيره ومذهب الخليل وسيبويه: أنها متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي فليعبدوه من أجل ما فعل بهم. وقال قوم هي لام التعجب وهي متعلقة بمضمر كأنه قال اعجب لإيلاف قريش، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في سعد بن معاذ - رضي الله عنه - حين دفن "سبحان الله لهذا العبد
ـــــــ
1 الأدماء من الظباء: السمراء الظهر البيضاء البطن.

(1/162)


وهذا البيت في أبيات له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. والإيلاف أيضا: أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك. يقال آلف فلان إيلافا. قال الكميت بن زيد، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار معد:
بعام يقول له المؤلفو ... ن هذا المعيم لنا المرجل1
وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضا: أن يصير القوم ألفا، يقال آلف القوم إيلافا. قال الكميت بن زيد:
وآل مزيقياء غداة لاقوا ... بني سعد بن ضبة مؤلفينا
وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضا: أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه ويلزمه يقال آلفته إياه إيلافا. والإيلاف أيضا: أن تصير ما دون الألف ألفا، يقال آلفته إيلافا.
ما أصاب قائد الفيل وسائسه:
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة2 ابنة عبد الرحمن بن
__________
الصالح ضم في قبره حتى فرج الله عنه!!". وقال في عبد حبشي مات بالمدينة "لهذا العبد الحبشي جاء من أرضه وسمائه إلى الأرض التي خلق منها". أي اعجبوا لهذا العبد الصالح. وأنشد للكميت:
بعام يقول له المؤلفو ... ن أهذا المعيم لنا المرجل
المؤلف صاحب الألف من الإبل كما ذكر والمعيم بالميم من العيمة
ـــــــ
1 المعيم: من العيمة وهي الشوق إلى اللبن, ولمرجل: الذي تذهب إبله فيمشي على رجليه.
2 هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية الفقيهة، وكانت حجة توفيت [98هـ] وقيل [106هـ].

(1/163)


سعد1 بن زرارة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت
"لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس".
ـــــــ
أي تجعل تلك السنة صاحب الألف من الإبل يعام إلى اللبن وترجله فيمشي راجلا، لعجف الدواب وهزالها.
وذكر قول ابن الزبعرى:
تنكلوا عن بطن مكة
البيت. ونسبه إلى عدي بن سعيد بن سهم وكرر هذا النسب في كتابه مرارا وهو خطأ والصواب سعد بن سهم وإنما سعيد أخو سعد وهو في نسب عمرو بن العاص بن وائل وقد أنشد في الكتاب ما يدل على خلاف قوله وهو قول المبرق وهو عبد الله بن الحارث بن عدي بن سعد:
فإن تك كانت في عدي أمانة ... عدي بن سعد في الخطوب الأوائل
فقال عدي بن سعد ولم يقل سعيد وكذلك ذكره الواقدي والزبيريون وغيرهم.
ـــــــ
1 استشهد عبد الله يوم الطائف وستأتي قصيدته في الحديث عن المهاجرين.

(1/164)