الروض
الأنف ت السلامي ـــــــ
شرح ما في حديث الرضاع:
الرضعاء والمراضع:
قال ابن إسحاق: فالتمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرضعاء. قال
ابن هشام إنما هو المراضع. قال وفي كتاب الله سبحانه {وَحَرَّمْنَا
عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] والذي قاله ابن هشام
ظاهر لأن المراضع جمع مرضع والرضعاء جمع رضيع ولكن لرواية ابن إسحاق
مخرج من وجهين أحدهما حذف المضاف كأنه قال ذوات الرضعاء والثاني أن
يكون أراد بالرضعاء الأطفال على حقيقة اللفظ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة
ترضعه فقد وجدوا له رضيعا، يرضع معه فلا يبعد أن يقال التمسوا له
رضيعا، علما بأن الرضيع لا بد له من مرضع.
(2/101)
نسب أبيه صلى
الله عليه وسلم في الرضاع:
واسم أبيه الذي أرضعه - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عبد العزى بن
رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
قال ابن هشام: ويقال هلال بن ناصرة.
إخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاع:
قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت
الحارث وخدامة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في
قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب، عبد الله بن الحارث، أم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -
ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذا كان عندهم.
ـــــــ
مرضعاته عليه الصلاة السلام:
وأرضعته - عليه السلام - ثويبة1 قبل حليمة. أرضعته وعمه حمزة وعبد الله
بن جحش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف ذلك لثويبة ويصلها
من المدينة ، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما
ماتا، وسأل عن قرابتها، فلم يجد أحدا منهم حيا. وثويبة كانت جارية لأبي
لهب، وسنذكر بقية حديثها - إن شاء الله - عند وفاة أبي لهب.
ـــــــ
1 توفيت سنة سبع. قال ابن منده: اختلف في إسلامها، وقال أبونعيم: لا
أعلم أحداً ذكره انظر "المواهب" 1/137. وحديث حليمة بهذا السند رواه
الحاكم وابن حبان وابن راهوية وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم.
(2/102)
حديث حليمة عما
رأته من الخير بعد تسلمها له صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي، عن
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أو عمن حدثه عنه قال:
كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. أم رسول الله التي أرضعته، تحدث:
أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد
بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء، لم تبق لنا شيئاً.
قالت: فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة،
وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في
ثديي ما يغنيه، وما في
ـــــــ
يغذيه أو يغديه:
وذكر قول حليمة: وليس في شارفنا ما يغذيه. وقال ابن هشام: ما يغذيه
بالذال المنقوطة وهو أتم في المعنى من الاقتصار على ذكر الغداء دون
العشاء1 وليس في أصل الشيخ رواية ثالثة وعند بعض الناس رواية غير هاتين
وهي يعذبه بعين مهملة وذال منقوطة وباء معجمة بواحدة ومعناها عندهم ما
يقنعه حتى يرفع رأسه وينقطع عن الرضاع يقال منه عذبته وأعذبته: إذا
قطعته عن الشرب ونحوه والعذوب الرافع رأسه عن الماء وجمعه عذوب بالضم
ولا يعرف فعول جمع على فعول غيره قاله أبو عبيد2 والذي في الأصل أصح في
المعنى والنقل.
من شرح حديث الرضاعة:
وذكر قولها: حتى أذممت بالركب. تريد أنها حبستهم وكأنه من الماء
ـــــــ
1 يقول أبو ذر الخشني: ومن رواه ما يغذيه فمعناه: ما يقنعه ولا يمنعه
من البكاء.
2 في "اللسان" جمعه: عذب بضم العين والذال، وقد خطأ الأزهري أبا عبيدة.
(2/103)
شارفنا ما
يغديه - قال ابن هشام: ويقال يغذيه - ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج
فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا،
حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا
إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع
أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا
غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من
بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال لا
عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه
فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت فلما أخذته،
ـــــــ
الدائم وهو الواقف ويروى: حتى أذمت. أي أذمت الأتان أي جاءت بما تذم
عليه أو يكون من قولهم بئر ذمة أي قليلة الماء وليست هذه عند أبي
الوليد ولا في أصل الشيخ أبي بحر وقد ذكرها قاسم في الدلائل ولم يذكر
رواية أخرى، وذكر تفسيرها عن أبي عبيدة أذم بالركب إذا أبطأ حتى حبستهم
من البئر الذمة وهي القليلة الماء1.
وذكر قول حليمة: فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن
فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي.
وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقبل
إلا على ثديها الواحد وكانت تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه كأنه قد أشعر
- عليه السلام - أن معه شريكا في لبانها، وكان مفطورا على العدل مجبولا
على المشاركة والفضل - صلى الله عليه وسلم -.
التماس الأجر على الرضاع:
قال المؤلف والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء
ـــــــ
1 عند أبي ذر الخشني: أذمت: تأخرت بالركب، أي تأخر الركب بسببها.
(2/104)
....................................................
ـــــــ
العرب، حتى جرى المثل تجوع المرأة ولا تأكل بثدييها1، وكان عند بعضهن
لا بأس به فقد كانت حليمة وسيطة في بني سعد، كريمة من كرائم قومها،
بدليل اختيار الله - تعالى - إياها لرضاع نبيه - صلى الله عليه وسلم -
كما اختار له أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنه يغير الطباع.
في المسند عن عائشة - رضي الله عنها – ترفعه"لا تسترضعوا الحمقى ; فإن
اللبن يورث" ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضعاء اضطرارا
للأزمة التي أصابتهم والسنة الشهباء التي اقتحمتهم.
لم كانت قريش تدفع أولادها إلى المراضع؟
وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك
لوجوه. أحدها: تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة
- رضي الله عنها - وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت
أبي سلمة، فقال دعي هذه المقبوحة المشقوحة2 التي آذيت بها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم – وقد يكون ذلك منهم أيضا لينشأ الطفل في الأعراب،
فيكون أفصح للسانه وأجلد لجسمه وأجدر أن لا يفارق الهيئة المعدية3 كما
قال عمر رضي الله عنه تمعددوا وتمعززوا4 واخشوشنوا [رواه ابن أبي
حدرد].
وقد قال - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه - حين قال له "ما
رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: "وما
ـــــــ
1 روايته: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أي: لا تكون ظئراً، وإن آذاها
الجوع، وأول من قاله: الحارث بن سليل الأسدي. انظر "مجمع الأمثال
للميداني".
2 المشقوحة: المكسورة أو المبعدة، من الشقح، وهو الكسر أو البعد،
ومشقوحة اتباع لمقبوحة.
3 نسبة إلى قوم معد، أي: تصلبوا وتشبهوا بمعدة.
4 وتمعززوا: تعزز لحمه: اشتد وصلب، وتمعز البعير: اشتد عدوه.
(2/105)
رجعت به إلى
رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي
وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي
إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى
انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. قالت يقول صاحبي حين أصبحنا:
تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة قالت فقلت: والله إني
لأرجو ذلك. قالت ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت
بالركب ما يقدر عليها شيء من خمرهم حتى إن صواحبي ليقفن لي: يا ابنة
أبي ذؤيب، ويحك اربعي1 علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟
فأقول لهن بلى والله إنها لهي هي فيقلن والله إن لها شأنا. قالت ثم
قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد. وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها.
فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا. فنحلب ونشرب. وما
يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع. حتى كان الحاضرون من قومنا
يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح
أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف
من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ; وكان يشب شبابا لا يشبه
الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا. قالت فقدمنا به على أمه
ونحن أحرص شيء على مكثه فينا ; لما كنا نرى من بركته. فكلمنا أمه وقلت
لها: لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وبأ2 مكة
ـــــــ
يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟" فهذا ونحوه كان يحملهم على
دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات. وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان
كان يقول أضر بنا حب الوليد لأن الوليد كان لحانا، وكان سليمان فصيحا ;
لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية،
فتعربوا، ثم أدبوا فتأدبوا، وكان
ـــــــ
1 أربعي: أقيمي وانتظري. يقال: ربع فلان على فلان إذا أقام عليه
وانتظره.
2 الوبأ: يهمز ويقصر "والوبأ" بالمد: الطاعون.
(2/106)
قالت فلم نزل
بها حتى ردته معنا.
حديث الملكين اللذين شقا بطنه صلى الله عليه وسلم:
قالت فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف
بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه
رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه قالت فخرجت أنا
وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت فالتزمته والتزمه أبوه
فقلنا له ما لك يا بني قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا
بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو. قالت فرجعنا إلى خبائنا.
رجوع حليمة به صلى الله عليه وسلم إلى أمه:
قالت وقال لي أبوه يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب
فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه
فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ قالت
فقلت: قد بلغ الله يا بني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته
إليك كما تحبين. قالت ما هذا شأنك، فأصدقيني خبرك. قالت فلم تدعني حتى
أخبرتها.
ـــــــ
من قريش أعراب ومنهم حضر فالأعراب منهم بنو الأدرم وبنو محارب، وأحسب
بني عامر بن لؤي كذلك لأنهم من أهل الظواهر، وليسوا من أهل البطاح1.
شق الصدر:
وذكر قول أخيه من الرضاعة نزل عليه رجلان أبيضان فشقا عن بطنه وهما
يسوطانه يقال سطت اللبن أو الدم أو غيرهما، أسوطه إذا ضربت بعضه ببعض.
والمسوط عود يضرب به.
ـــــــ
1 سبق الحديث عن قريش البطاح وقريش الظواهر.
(2/107)
قالت أفتخوفت
عليه الشيطان؟ قالت قلت: نعم قالت كلا. والله ما للشيطان عليه من سبيل
وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره. قالت بلى. قالت رأيت حين حملت به أنه
خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام. ثم حملت به فوالله ما
رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه
بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
تعريفه صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقد سئل عن ذلك:
قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم ولا أحسبه إلا عن
خالد بن معدان الكلاعي". أن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قالوا له يا رسول الله. أخبرنا عن نفسك؟ قال نعم أنا دعوة أبي
إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء
لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن
ـــــــ
وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق أنه نزل عليه كركيان1 فشق أحدهما بمنقاره
جوفه ومج الآخر بمنقاره فيه ثلجا، أو بردا، أو نحو هذا، وهي رواية
غريبة ذكرها يونس عنه واختصر ابن إسحاق حديث نزول الملكين عليه وهو
أطول من هذا.
وروى ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد يرفعه إلى أبي ذر - رضي الله عنه –
قال: "قلت: يا رسول الله كيف علمت أنك نبي، وبم علمت حتى استيقنت؟ قال
يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر
بين السماء والأرض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو؟ قال هو هو قال فزنه برجل
فوزنني برجل فرجحته، ثم قال زنه بعشرة فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة
فوزنني، فرجحتهم ثم قال زنه بألف فوزنني فرجحتهم حتى جعلوا يتثاقلون
علي من كفة الميزان فقال أحدهما لصاحبه شق بطنه فشق بطني، فأخرج قلبي،
ـــــــ
1 الكركي: طائر أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب. ومج الماء:
لفظه.
(2/108)
بكر. فبينا أنا
مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا. إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض
بطست من ذهب مملوءة ثلجا. ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه
فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها. ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى
أنقياه ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني به فوزنتهم ثم
قال زنه بمئة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته
فوزنني بهم فوزنتهم. فقال دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها".
__________
فأخرج معه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه اغسل
بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاء ثم قال أحدهما لصاحبه خط بطنه
فخاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ووليا عني، فكأني أعاين
الأمر معاينة" ففي هذا الحديث بيان لما أبهم في الأول لأنه قال فأخرج
منه مغمز الشيطان وعلق الدم فبين أن الذي التمس فيه هو الذي يغمزه
الشيطان من كل مولود إلا عيسى ابن مريم وأمه1 - عليهما السلام - لقول
أمها حنة {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]. فلم يصل إليه لذلك ولأنه لم يخلق من مني
الرجال فأعيذه من مغمز وإنما خلق من نفخة روح القدس، ولا يدل هذا على
فضل عيسى عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن محمدا - صلى
الله عليه وسلم - قد نزع منه ذلك المغمز وملئ قلبه حكمة وإيمانا، بعد
أن غسله روح القدس بالثلج والبرد وإنما كان ذلك المغمز فيه لموضع
الشهوة المحركة للمني والشهوات يحضرها الشياطين لا سيما شهوة من ليس
بمؤمن فكان ذلك المغمز راجعا إلى الأب لا إلى الابن المطهر - صلى الله
عليه وسلم-.
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي من نفيس العلم وذلك أن خاتم النبوة لم
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم: "ما من مولود يولد إلا نخسه
الشيطان، فيستهل صارخاً من النخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، قال أبو
هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]
(2/109)
....................................................
ـــــــ
يدر هل خلق به أم وضع فيه بعدما ولد أو حين نبئ فبين في هذا الحديث متى
وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله علما، وأوزعنا شكر ما علم وفيه
البيان لما سأل عنه أبو ذر - رضي الله عنه - حين قال كيف علمت أنك
نبي1، فأعلمه بكيفية ذلك غير أن في هذا الحديث وهما من بعض النقلة وهو
قوله بينما أنا ببطحاء مكة، وهذه القصة لم تعرض له إلا وهو في بني سعد
مع حليمة، كما ذكر ابن إسحاق وغيره وقد رواه البزار من طريق عروة عن
أبي ذر - رضي الله عنه - فلم يذكر فيه بطحاء مكة.
حديث السكينة:
وذكر فيه أنه قال وأوتيت بالسكينة كأنها رهرهة فوضعت في صدري. قال ولا
أعلم لعروة سماعا من أبي ذر. وذكر من طريق آخر عن أبي ذر أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم – قال: "يا أبا ذر وزنت بأربعين أنت فيهم
فرجحتهم" والرهرهة بصيص البشرة فهذا بيان وضع الخاتم متى وضع.
مسألة شق الصدر مرة أخرى:
وأما متى وجبت له النبوة فروي عن ميسرة أنه قال له متى وجبت لك النبوة
ـــــــ
1 كل حديث يزعم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنه نبي
هو حديث كذب لا يعتد به لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى ليلة
الوحي أنه نبي. وعن خاتم النبوة ورد حديث رواه الشيخان والترمذي عن
السائب بن يزيد: "فنظرت إلى خاتم..." الحديث.
(2/110)
....................................................
ـــــــ
يا رسول الله؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد" ويروى : "وآدم مجندل في
طينته"1 .
وهذا الخبر يروى عنه - عليه السلام - على وجهين أحدهما: أنه شق عن قلبه
وهو مع رابته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل
به قلبه والثاني فيه أنه غسل بماء زمزم، وأن ذلك كان ليلة الإسراء حين
عرج به إلى السماء بعدما بعث بأعوام وفيه أنه أتي بطست من ذهب ممتلئ
حكمة وإيمانا، فأفرغ في قلبه. وذكر بعض من ألف في شرح الحديث أنه تعارض
في الروايتين وجعل يأخذ في ترجيح الرواة وتغليط بعضهم وليس الأمر كذلك
بل كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين.
الأولى: في حال الطفولية لينقى قلبه من مغمز الشيطان وليطهر ويقدس من
كل خلق ذميم حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال وحتى لا يكون في
قلبه شيء إلا التوحيد ولذلك قال فوليا عني، يعني: الملكين وكأني أعاين
الأمر معاينة.
والثانية: في حال اكتهال وبعدما نبئ وعندما أراد الله أن يرفعه إلى
الحضرة المقدسة التي لا يصعد إليها إلا مقدس وعرج به هنالك لتفرض عليه
الصلاة وليصلي بملائكة السموات ومن شأن الصلاة الطهور فقدس ظاهرا
وباطنا، وغسل بماء زمزم.
وفي المرة الأولى بالثلج لما يشعر الثلج من ثلج اليقين وبرده على
الفؤاد وكذلك هناك حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به وبوحدانية ربه.
ـــــــ
1 وهكذا كل إنسان في قدر، فإن الله تعالى كتب عنده مقادير الكائنات
جميعها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى ليلة الوحي الأولى
أنه نبي أو النبوة ستأتيه، وهذا ما ظهر عليه لما رجع إلى خديجة رضي
الله عنها
(2/111)
....................................................
ـــــــ
وأما في الثانية فقد كان موقنا منبئا، فإنما طهر لمعنى آخر وهو ما
ذكرناه من دخول حضرة القدس والصلاة فيها، ولقاء الملك القدوس فغسله روح
القدس بماء زمزم التي هي هزمة روح القدس، وهمزة1 عقبه لأبيه إسماعيل
عليه السلام - وجيء بطست ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغ في قلبه وقد كان
مؤمنا، ولكن الله تعالى قال {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ
إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وقال {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَاناً} [المدثر: 31].
فإن قيل وكيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب والإيمان عرض
والأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به ولا يجوز فيه الانتقال
لأن الانتقال من صفة الأجسام لا من صفة الأعراض؟ قلنا:
إنما عبر عما كان في الطست بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن الذي
شربه وأعطى فضله عمر - رضي الله عنه - بالعلم فكان تأويل ما أفرغ في
قلبه حكمة وإيمانا، ولعل الذي كان في الطست كان ثلجا وبردا - كما ذكر
في الحديث الأول - فعبر عنه في المرة الثانية بما يئول إليه وعبر عنه
في المرة الأولى بصورته التي رآها، لأنه في المرة الأولى كان طفلا،
فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجا، حتى عرف تأويله بعد. وفي
المرة الثانية كان نبيا، فلما رأى طست الذهب مملوءا ثلجا علم التأويل
لحينه واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانا، فكان لفظه في الحديثين على
حسب اعتقاده في المقامين.
مناسبة الذهب للمعنى المقصود:
وكان الذهب في الحالتين جميعا مناسبا للمعنى الذي قصد به. فإن نظرت إلى
ـــــــ
1 هزم البئر: حفرها، والهمزة: النقرة، وسيأتي بيان أن الصلاة كانت
مفروضة قبل الإسراع بنص القرآن والأحاديث الصحيحة، وقوله: كأني أعاين
الأمر معاينة،يؤكد أنه رؤيا منامية.
(2/112)
....................................................
ـــــــ
لفظ الذهب فمطابق للإذهاب فإن الله - عز وجل - أراد أن يذهب عنه الرجس
ويطهره تطهيرا، وإن نظرت إلى معنى الذهب وأوصافه وجدته أنقى شيء وأصفاه
يقال في المثل أنقى من الذهب. وقالت بريرة في عائشة - رضي الله عنها –
"ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر" وقال حذيفة في
صلة بن أشيم رضي الله عنهما: إنما قلبه من ذهب وقال جرير بن حازم في
الخليل بن أحمد: إنه لرجل من ذهب يريدون النقاء من العيوب فقد طابق طست
الذهب ما أريد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من نقاء قلبه. ومن أوصاف
الذهب أيضا المطابقة لهذا المقام ثقله ورسوبه فإنه يجعل في الزيبق الذي
هو أثقل الأشياء فيرسب والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5].
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – "إنما ثقلت موازين المحقين يوم
القيامة لاتباعهم الحق وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا،
وقال في أهل الباطل بعكس هذا" وقد روي أنه أنزل عليه الوحي وهو على
ناقته فثقل عليها حتى ساخت قوائمها في الأرض فقد تطابقت الصفة المعقولة
والصفة المحسوسة. ومن أوصاف الذهب أيضا أنه لا تأكله النار وكذلك
القرآن لا تأكل النار يوم القيامة قلبا وعاه ولا بدنا عمل به قال النبي
- صلى الله عليه وسلم – "لو كان القرآن في إهاب ثم طرح في النار ما
احترق" 1 ومن أوصاف الذهب المناسبة لأوصاف القرآن والوحي أن الأرض لا
تبليه وأن الثرى لا يذريه وكذلك القرآن لا يخلق على كثرة الرد ولا
يستطاع تغييره ولا تبديله ومن أوصافه أيضا: نفاسته وعزته عند الناس
وكذلك الحق والقرآن عزيز قال سبحانه {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}
[فصلت: 41]. فهذا إذا نظرت إلى أوصافه ولفظه وإذا نظرت إلى ذاته وظاهره
فإنه زخرف الدنيا وزينتها، وقد فتح بالقرآن والوحي على محمد - صلى الله
عليه وسلم - وأمته خزائن الملوك وتصير إلى أيديهم ذهبها وفضتها، وجميع
زخرفها وزينتها، ثم
ـــــــ
1 رواه الطبراني، وفي "الجامع" للسيوطي أنه ضعيف.
(2/113)
....................................................
ـــــــ
وعدوا باتباع القرآن والوحي قصور الذهب والفضة في الجنة.
قال - صلى الله عليه وسلم – "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما من ذهب"
وفي التنزيل {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} 1 [الزخرف: 7]
{يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} [الحج: 23،
وفاطر: 33] فكان ذلك الذهب يشعر بالذهب الذي يصير إليه من اتبع الحق
والقرآن وأوصافه تشعر بأوصاف الحق والقرآن ولفظه يشعر بإذهاب الرجس كما
تقدم فهذه حكم بالغة2 لمن تأمل واعتبار صحيح لمن تدبر والحمد لله.
وفي ذكر الطست وحروف اسمه حكمة تنظر إلى قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ
الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1] ومما يسأل عنه هل خص هو -
صلى الله عليه وسلم - بغسل قلبه في الطست أم فعل ذلك بغيره من الأنبياء
قبله ففي خبر التابوت والسكينة أنه كان فيه الطست التي غسلت فيها قلوب
الأنبياء عليهم السلام. ذكره الطبري3، وقد انتزع بعض الفقهاء من حديث
الطست حيث جعل محلا للإيمان والحكمة جواز تحلية المصحف بالذهب وهو فقه
حسن4 ففي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - هذا الذي قدمناه متى علم أنه
نبي.
الحكمة في ختم النبوة:
والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه لما ملئ قلبه حكمة
ويقينا، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، وأما وضعه
عند نغض5
ـــــــ
1 منحديث رواه الجماعة إلا أبا داود: "جنتان من فضة..." الحديث.
2 تأويلات مغربة، وإن كانت تشهد بذكاء، لكن شأن القرآن أعظم.
3 يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ...} [البقرة:248].
4 رد ابن القيم رحمه الله هذا الرأي.
5 هو أعلى منقطع غضروف الكتف.
(2/114)
....................................................
ـــــــ
كتفه فلأنه معصوم من وسوسة الشيطان وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن
آدم. روى ميمون بن مهران "عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأل ربه أن
يريه موضع الشيطان منه فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه والشيطان في
صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله
إلى قلبه يوسوس فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس".
رد حليمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
فصل: وكان رد حليمة إياه إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهر فيما ذكر أبو
عمر ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين إحداهما بعد تزويجه خديجة - رضي الله
عنها - جاءته تشكو إليه السنة وأن قومها قد أسنتوا فكلم لها خديجة،
فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات والمرة الثانية يوم حنين وسيأتي
ذكرها إن شاء الله.
تأويل النور الذي رأته آمنة:
فصل: وذكر النور الذي رأته آمنة حين ولدته عليه السلام فأضاءت لها قصور
الشام، وذلك بما فتح الله عليه من تلك البلاد حتى كانت الخلافة فيها
مدة بني أمية، واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره - صلى الله عليه وسلم
- وكذلك رأى خالد بن سعيد بن العاصي قبل المبعث بيسير نورا يخرج من
زمزم، حتى ظهرت له البسر1 في نخيل يثرب، فقصها على أخيه عمرو، فقال له
إنها حفيرة عبد المطلب، وإن هذا النور منهم فكان ذلك سبب مبادرته إلى
الإسلام.
ـــــــ
1 البسر أوله: طلع ثم: حلال بالفتح، ثم بلح بفتحتين، ثم بسر ثم رطب: ثم
تمر.
(2/115)
هو والأنبياء
قبله رعوا الغنم:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "ما من نبي
إلا وقد رعى الغنم" قيل وأنت يا رسول الله؟ قال "وأنا" .
اعتزازه صلى الله عليه وسلم بقرشيته، واسترضاعه في بن سعد:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه
"أنا أعربكم أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر" .
افتقدته حليمة صلى الله عليه وسلم حين رجوعها به، ووجده ورقة بن نوفل:
قال ابن إسحاق: وزعم الناس فيما يتحدثون والله أعلم أن أمه السعدية لما
قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله فالتمسته فلم تجده
فأتت عبد المطلب، فقالت له إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت
بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدري أين هو فقام عبد المطلب عند الكعبة
يدعو الله أن يرده فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من
قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه
عبد المطلب، فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل
به إلى أمه آمنة.
ـــــــ
رعيه الغنم:
فصل: وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم – "ما من نبي إلا وقد رعى
الغنم. قيل وأنت يا رسول الله؟ قال "وأنا". وإنما أراد ابن إسحاق بهذا
الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة وقد ثبت في الصحيح
أنه رعاها بمكة أيضا على قراريط لأهل مكة. ذكره البخاري، وذكر البخاري
عنه أيضا أنه قال "ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين وروى أن
إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه اكفني
أمر الغنم حتى آتي مكة، وكان بها عرس فيها لهو وزمر فلما دنا من الدار
ليحضر ذلك ألقي عليه النوم فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله له".
وفي المرة الآخرة قال لصاحبه مثل ذلك وألقي عليه النوم فيها،
(2/116)
قال ابن إسحاق:
وحدثني بعض أهل العلم أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه مع ما
ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت
به بعد فطامه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها: لنأخذن هذا
الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا ; فإن هذا غلام كائن له شأن نحن
نعرف أمره فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم.
ـــــــ
كما ألقي في المرة الأولى. ذكر هذا المعنى ابن إسحاق في غير رواية
البكائي. وفي غريب الحديث للقتبي "بعث موسى - صلى الله عليه وسلم - وهو
راعي غنم وبعث داود - صلى الله عليه وسلم - وهو راعي غنم وبعثت، وأنا
راعي غنم أهلي بأجياد"1 وإنما جعل الله هذا في الأنبياء تقدمة لهم
ليكونوا رعاة الخلق ولتكون أممهم رعايا لهم وقد رأى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه ينزع على قليب2 وحولها غنم سود وغنم عفر3 قال ثم
جاء أبو بكر - رضي الله عنه - فنزع نزعا ضعيفا، والله يغفر له ثم جاء
عمر فاستحالت غربا يعني: الدلو فلم أر عبقريا يفري فريه فأولها الناس
في الخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولولا ذكر الغنم السود
والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية إذ الغنم السود والعفر
عبارة عن العرب والعجم، وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث.
ذكره البزار في مسنده وأحمد بن حنبل أيضا، وبه يصح المعنى، والله أعلم.
في كفالة العم:
فصل:
وذكر كون النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفالة عمه يكلؤه ويحفظه. فمن
حفظ الله له في
ـــــــ
1 جبل بمكة، وهما أجيادان كبير وصغير، وهما محلتان بمكة.
2 القليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها يذكر ويؤنث. ونزع الدلو:
استقى بها.
3 العفر: جمع عفراء: ما يعلوا بياضها حمرة.
(2/117)
....................................................
ـــــــ
ذلك أنه كان يتيما ليس له أب يرحمه ولا أم ترأمه1 لأنها ماتت وهو صغير
وكان عيال أبي طالب ضففا، وعيشهم شظفا2، فكان يوضع الطعام له وللصبية
من أولاد أبي طالب فيتطاولون إليه ويتقاصر هو وتمتد أيديهم وتنقبض يده
تكرما منه واستحياء ونزاهة نفس وقناعة قلب فيصبحون غمصا رمصا، مصفرة
ألوانهم3 ويصبح هو - عليه السلام - صقيلا دهينا كأنه في أنعم عيش وأعز
كفاية لطفا من الله - عز وجل - به. كذلك ذكره القتبي في غريب الحديث.
ـــــــ
1 تحبه وتحنو عليه وتعطف.
2 الضفف: كثرة العيال، والشظف والشظاف: الضيق والشدة.
3 الرمص –كما في "الصحيح"- وسخ يجتمع في الموق، فإن سال فهو غمض، وإن
جمد فهو رمص، يقال: عين رمصاء.
(2/118)
|