الروض
الأنف ت السلامي
تحير الوليد بن المغيرة فيما يصفه به القرآن
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم وقد
حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود
العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا
واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا:
فأنت يا أبا
__________
موقف الوليد من القرآن
وذكر خبر الوليد بن المغيرة وقوله فيما جاء به النبي - صلى الله عليه
وسلم - من الوحي والقرآن قد سمعنا الشعر فما هو بهزجه ولا رجزه. والهزج
من أعاريض الشعر معروف عند العروضيين ولا أعرف له اشتقاقا إلا أن يكون
من قولهم في وصف الذباب هزج أي مترنم وأما الرجز فيحتمل أن يكون من
رجزت الحمل إذا عدلته بالرجازة وهو شيء يعدل به الحمل وكذلك الرجز في
الشعر أشطار معدلة ويجوز أن يكون من رجزت الناقة إذا أصابتها رعدة عند
قيامها، كما قال الشاعر:
حتى تقوم تكلف الرجزاء
فالمرتجز كأنه مرتعد عند إنشاده لقصر الأبيات.
وقوله قد سمعنا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه الزمزمة صوت ضعيف
كنحو ما كانت الفرس تفعله عند شربها الماء ويقال أيضا: زمزم الرعد وهو
(3/18)
عبد شمس، فقل
وأقم لنا رأيا نقول به قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا: نقول كاهن قال
لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه
قالوا: فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو
بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا: فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد
عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر
قالوا: فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو
بنفثهم ولا عقدهم قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال والله إن لقوله
لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام: ويقال لغدق -
وما
ـــــــ
صوت له قبل الهدر وكذلك الكهان كانت لهم زمزمة الله أعلم بكيفيتها،
وأما زمزمة الفرس، فكانت من أنوفهم.
وقول الوليد إن أصله لعذق وإن فرعه لجناة. استعارة من النخلة التي ثبت
أصلها، وقوي وطاب فرعها إذا جنى، والنخلة هي العذق بفتح العين ورواية
ابن إسحاق أفصح من رواية ابن هشام ; لأنها استعارة تامة يشبه آخر
الكلام أوله ورواية ابن هشام: إن أصله لغدق وهو الماء الكثير ومنه يقال
غيدق الرجل إذا كثر بصاقه وأحد أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
يسمى: الغيداق لكثرة عطائه والغيدق أيضا ولد الضب وهو أكبر من الحسل
قاله قطرب في كتاب الأفعال والأسماء له.
ذرني ومن خلقت وحيدا
فصل وذكر ابن إسحاق قول الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيداً}
(3/19)
أنتم بقائلين
من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء
بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء
وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس
حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.
فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وفي ذلك من قوله {ذَرْنِي
وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ
شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً} [المدثر 11 - 16] أي خصيما.
قال ابن هشام: عنيدا: معاند مخالف. قال رؤبة بن العجاج:
ونحن ضرابون رأس العند
__________
[المدثر 11 - 16] الآيات التي نزلت في الوليد وفيها له تهديد ووعيد
شديد لأن معنى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} أي دعني وإياه فسترى ما أصنع
به كما قال {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم
44] وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن
اغتاظ عليه فمعنى الكلام أي لا شفاعة تنفع لهذا الكافر ولا استغفار يا
محمد منك، ولا من غيرك وقوله {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر: 13] أي
مقيمين معه غير محتاجين إلى الأسفار والغيبة عنه لأن ماله ممدود والمال
الممدود عندهم اثنا عشر ألف دينار، فصاعدا {وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً}[ المدثر: 14] أي هيأت له وقدمت له مقدمات استدراجا له
وقوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17] هي عقبة في جهنم
يقال لها: الصعود مسيرها سبعون سنة يكلف الكافر أن يصعدها، فإذا صعدها
بعد عذاب طويل صب من أعلاها، ولا يتنفس ثم لا يزال كذلك أبدا، كذلك جاء
في التفسير.
(3/20)
وهذا البيت في
أرجوزة له.
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ} [المدثر 17 - 22]. قال ابن هشام: بسر كره وجهه. قال العجاج:
مضبر اللحيين بسرا منهسا
يصف كراهية وجهه. وهذا البيت في أرجوزة له
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر 23 - 25].
قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى: في رسوله - صلى الله عليه وسلم -
وفيما جاء به من الله تعالى، وفي النفر الذين كانوا معه يصنفون القول
في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به من الله تعالى: {كَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ
عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} [الحجر: 90 - 93].
قال ابن هشام: واحدة العضين عضة يقول عضوه فرقوه. قال رؤبة بن العجاج:
وليس دين الله بالمعضى
__________
وقوله سبحانه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 19] أي لعن كيفما كان
تقديره فكيف هاهنا من حروف الشرط وقيل معنى قتل أي هو أهل أن يدعى عليه
بالقتل وقد فسر ابن هشام: بسر والبسر أيضا: القهر والبسر حمل الفحل على
الناقة قبل وقت الضراب. وفسر عضين وجعله من عضيت أي فرقت، وفي الحديث
"لا تعضية في ميراث إلا ما احتمله القسم" ومعنى هذا الحديث موافق لمذهب
ابن القاسم
(3/21)
وهذا البيت في
أرجوزة له.
قال ابن إسحاق: فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لمن لقوا من الناس وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
شعر أبي طالب في استعطاف قريش:
فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ
فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم
وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال:
ـــــــ
ورأيه في كل ما لا ينتفع به إذا قسم أو كان فيه ضرر على الشريكين ألا
يقسم وهو خلاف رأي مالك، وحجة مالك قول الله تعالى: {مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء 7]. وقد قيل في عضين
إنه جمع عضة وهي السحر وأنشدوا:
أعوذ بربي من النافثا ... ت في العقد العاضه المعضه
ومنه قولهم:
يا للعضيهة ويا للأفيكة [ويا للبهيتة]
شرح لامية أبي طالب:
فصل وذكر قصيدة أبي طالب إلى آخرها، وفيها: وأبيض عضب من تراث
(3/22)
ولما رأيت
القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
__________
المقاول. قد شرحنا الأقيال والمقاول فيما تقدم وتراث أصله وراث من
ورثت، ولكن لا تبدل هذه الواو تاء إلا في مواضع محفوظة وعلتها كثرة
وجود التاء في تصاريف الكلمة فالتراث مال قد توورث وتوارثه قوم عن قوم
فالتاء مستعملة في التوريث والتوارث وكذلك تجاه البيت التاء مستعملة في
التوجه والتوجيه ونحوه فلما ألفوها في تصاريف الكلمة لم ينكروا قلب
الواو إليها، كما فعلوا في ريحان وهو من الروح لكثرة الياء في تصاريف
الكلمة كما قدمنا قبل وهي في تراث وبابه أبعد لأن الياء المألوفة في
مادة الكلمة زائدة وياء ريحان ليست كذلك وكذلك التكأة من توكأت وتترى
من التواتر والتولج من التولج والمتلج لأنهم يقولون اتلج بالتشديد
فتصير الواو تاء للإدغام حتى يقولوا: متلج فيجعلونها تاء دون الإدغام.
هذا أشبه بقياس ريحان وبابه فإن التاء الأولى من متلج أصلية وهي في
متلج إذا ضعفت أصلية أيضا، فهي هي فقف على هذا الأصل فإنه سر الباب.
وأراد بالمقاول آباءه شبههم بالملوك ولما يكونوا ملوكا، ولا كان فيهم
من ملك بدليل حديث أبي سفيان حين قال له هرقل: هل كان في آبائه من ملك
؟ فقال لا. ويحتمل أن يكون هذا السيف الذي ذكر أبو طالب من هبات الملوك
لأبيه فقد وهب ابن ذي يزن لعبد المطلب هبات جزلة حين وفد عليه مع قريش،
يهنئونه بظفره بالحبشة وذلك بعد مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بعامين.
(3/23)
وأحضرت عند
البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدي حيث يقضى حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل
موسمة الأعضاد أو قصراتها ... مخيسة بين السديس وبازل
__________
وقوله: موسمة الأعضاد أو قصراتها: يعني [معلمة] بسمة في أعضادها، ويقال
لذلك الوسم السطاع والخباط في الفخذ والرقمة أيضا في العضد ويقال للوسم
في الكشح الكشاح ولما في قصرة العنق العلاط والعلطتان والشعب أيضا في
العنق وهو كالمحجن وفي العنق وسم آخر أيضا يقال له قيد الفرس. قال
الراجز:
كوم على أعناقها قيد الفرس
تنجو إذا الليل تدانى، والتبس
ولوسوم الإبل أسماء كثيرة وباب طويل ذكر أبو عبيد أكثره في كتاب الإبل
فمنها المشيطنة والمفعاة والقرمة وهي في الأنف وكذلك الجرف والخطاف وهي
في العنق والدلو والمشط والفرتاج والثؤثور والدماع في موضع الدمع
والصداغ في موضع الصدغ واللجام من الخد إلى العين يقال منه بعير ملجوم
والهلال والخراش وهو من الصدغ إلى الذقن.
وقوله: أو قصراتها جمع قصرة وهي أصل العنق وخفضها بالعطف على الأعضاد
ولا يجوز أن تكون في موضع نصب كما تقول هو ضارب الرجل وزيدا في باب اسم
الفاعل لأن قوله موسمة الأعضاد من باب الصفة المشبهة وهي لا تعمل إلا
مضمرة واسم الفاعل يضمر إذا عطف على المخفوض وذلك أن الصفة لا تعمل
بالمعنى، وإنما تعمل بشبه لفظي بينها، وبين اسم الفاعل فإذا زال اللفظ
ورجع إلى الإضمار لم تعمل وتخالف اسم الفاعل أيضا; لأن معمولها لا
يتقدم عليها، كما يتقدم المفعول على اسم الفاعل وذلك أن منصوبها فاعل
في المعنى،
(3/24)
ترى الودع
فيها، والرخام وزبنة ... بأعناقها معقودة كالعثاكل
ـــــــ
والفاعل لا يتقدم والصفة لا يفصل بينها وبين منصوبها بالظرف ويجوز ذلك
في اسم الفاعل والصفة لا تعمل إلا بمعنى الحال واسم الفاعل يعمل بمعنى
الحال والاستقبال نعم ويعمل بمعنى الماضي إذا دخلت عليه الألف واللام
ولو روي موسمة الأعضاد بنصب الدال على معنى: موسمة الأعضاد بالتنوين
وحذفه لالتقاء الساكنين لجاز كما روي في شعر حندج:
كبكر مقاناة البياض
بالنصب وبالرفع أيضا، أي البياض منهم على نية التنوين في مقاناة وحذفه
لالتقاء الساكنين وأما الخفض فلا خفاء به. وإذا كانت القصرات مخفوضة
بالعطف على الأعضاد ففيه شاهد لمن قال هو حسن وجهه كما روى سيبويه حين
أنشد:
كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
وفي حديث أم زرع صفر ردائها، وملء كسائها مثل حسنة وجهها، وفي الأمالي
<19> من صفة النبي صلى الله عليه وسلم شثن الكفين طويل أصابعه أعني:
مثل صفر ردائها.
وقوله ترى الودع فيه. الودع والودع بالسكون والفتح خرزات تنظم ويتحلى
بها النساء والصبيان كما قال:
[السن من جلنزيز عوزم خلق] ... والحلم حلم صبي يمرس الودعه
(3/25)
أعوذ برب الناس
من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
__________
وقال الشاعر:
إن الرواة بلا فهم لما حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
ويقال: إن هذه الخرزات يقذفها البحر وأنها حيوان في جوف البحر فإذا
قذفها ماتت ولها بريق ولون حسن وتصلب صلابة الحجر، فتثقب ويتخذ منها
القلائد واسمها مشتق من ودعته أي تركته، لأن البحر ينضب عنها ويدعها،
فهي ودع مثل قبض ونفض وإذا قلت الودع بالسكون فهي من باب ما سمي
بالمصدر.
وقوله والرخام أي ما قطع من الرخام فنظم وهو حجر أبيض ناصع والعثاكل
أراد العثاكيل فحذف الياء ضرورة كما قال ابن مضاض وفيها العصافر أراد
العصافير وفي أول القصيدة وقد حالفوا قوما علينا أظنة [جمع ظنين] أي
متهم ولو كان بالضاد مع قوله علينا، لعاد معناه مدحا لهم كأنه قال أشحة
علينا، كما أنشد عمرو بن بحر [الجاحظ] :
لو كنت في قوم عليك أشحة ... عليك ألا إن من طاح طائح
يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... وهل يدفع الموت النفوس الشحائح
وفيها:
(3/26)
وبالبيت حق
البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
__________
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
ثور جبل بمكة وثبير: جبل من جبالها ذكروا أن ثبيرا كان رجلا من هذيل
مات في ذلك الجبل فعرف الجبل به كما عرف أبو قبيس بقبيس بن شالح رجل من
جرهم، كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية فنذرت ألا تكلمه
وكان شديد الكلف بها، فحلف ليقتلن قبيسا، فهرب منه في الجبل المعروف به
وانقطع خبره فإما مات وإما تردى منه فسمي الجبل أبا قبيس وهو خبر طويل
ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب.
وقوله: وراق ليرقى قد تقدم القول فيه وأصح الروايتين فيه وراق لبرقي
حراء ونازل. قال البرقي: هكذا رواه ابن إسحاق وغيره وهو الصواب. قال
المؤلف فالوهم فيه إذا من ابن هشام، أو من البكائي والله أعلم.
وقوله وبالحجر الأسود فيه زحاف يسمى: الكف، وهو حذف النون من مفاعيلن
وهو بعد الواو من الأسود ونحوه قول حندج:
ألا رب يوم لك منهن صالح
وموضع الزحاف بعد اللام من ذلك. وقوله:
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
الأصائل جمع أصيلة والأصل جمع
(3/27)
.............................................
__________
أصيل وذلك أن فعائل جمع فعيلة والأصيلة لغة معروفة في الأصيل وظن بعضهم
أن أصائل جمع آصال على وزن أفعال وآصال جمع أصل نحو أطناب وطنب وأصل
جمع أصيل مثل رغف جمع رغيف فأصائل على قولهم جمع جمع الجمع وهذا خطأ
بين من وجوه منها: أن جمع جمع الجمع لم يوجد <21> قط في الكلام فيكون
هذا نظيره وعن جهة القياس إذ كانوا لا يجمعون الجمع الذي ليس لأدنى
العدد فأحرى ألا يجمعوا جمع الجمع وأبين خطأ في هذا القول غفلتهم عن
الهمزة التي هي فاء الفعل التي في أصيل وأصل وكذلك هي فاء الفعل في
أصائل لأنها فعائل وتوهموها زائدة كالتي في أقاويل ولو كانت كذلك كانت
الصاد فاء الفعل وإنما هي عينه كما هي في أصيل وأصل فلو كانت أصائل جمع
آصال مثل أقوال وأقاويل لاجتمعت همزة الجمع مع همزة الأصل ولقالوا فيه
أواصيل بتسهيل الهمزة الثانية ووجه آخر من الخطأ بين أيضا، وهو أن
أفاعيل جمع أفعال لا بد من ياء قبل آخره كما قالوا في أقاويل فكان يكون
أواصيل وليس في أصائل حرف مد ولين قبل آخره إنما هي همزة فعائل ومن
الخطأ في قولهم أيضا: أن جعلوا أصلا جمعا كثيرا مثل رغف ثم زعموا أن
آصالا جمع له فهم بمنزلة من قال في رغف جمع أرغاف فإن قيل فجمع أي شيء
هي آصال ؟ قلنا: جمع أصل الذي هو اسم مفرد في معنى الأصائل لا جمع أصل
الذي هو جمع، فإن قيل فهل يقال أصل واحد كما يقال أصيل واحد ؟ قلنا: قد
قال بعض أرباب اللغة ذلك واستشهدوا بقول الأعشى:
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
أي دنا الأصيل فإن صح أن الأصل بمعنى الأصيل وإلا فآصال جمع أصيل
(3/28)
وموطئ إبراهيم
في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل
__________
على حذف الياء الزائدة مثل طوي وأطواء ولا أعرف أحدا قال هذا القول
أعني: جمع جمع الجمع غير الزجاجي وابن عزيز.
وقوله: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة. يعني موضع قدميه حين غسلت كنته
رأسه وهو راكب فاعتمد بقدمه على الصخرة حين أمال رأسه ليغسل وكانت سارة
قد أخذت عليه عهدا حين استأذنها في أن يطالع تركته بمكة فحلف لها أنه
لا ينزل عن دابته ولا يزيد على السلام واستطلاع الحال غيرة من سارة
عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة أبقى الله فيها أثر قدمه آية. قال
الله سبحانه {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل
عمران: 97] أي منها مقام إبراهيم، ومن جعل مقاما بدلا من آيات قال
المقام جمع مقامة وقيل بل هو أثر قدمه حين رفع القواعد من البيت وهو
قائم عليه.
وقوله بين المروتين هو كنحو ما تقدم في بطن المكتين والحمتين وعنيزتين
مما ورد مثنى من أسماء المواضع وهو واحد في الحقيقة وذكرنا العلة في
مجيئه مثنى ومجموعا في الشعر. وفيها قوله:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له ألالا
البيت. فالمشعر الأقصى: عرفة وألالا: جبل عرفة. قال النابغة:
(3/29)
ومن حج بيت
الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... إلآل إلى مفضى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزفه ... سراعا كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
ـــــــ
يزيزرن ألالا سيرهن التدافع
وسمي ألالا لأن الحجيج إذا رأوه ألوا في السير أي اجتهدوا فيه ليدركوا
الموقف قال الراجز:
مهر أبي الحبحاب لا تشلي ... بارك فيك الله من ذي أل
والشراج: جمع شرج، وهو مسيل الماء والقوابل المتقابلة. وفيها قوله
وحطمهم سمر الصفاح جمع صفح وهو سطح الجبل والسمر يجوز أن يكون أراد به
السمر يقال فيه سمر وسمر بسكون الميم ويجوز نقل ضمة الميم إلى ما قبلها
إلى السين كما قالوا في حسن حسن وكذا وقع في الأصل بضم السين غير أن
هذا النقل إنما يقع غالبا فيما يراد به المدح أو الذم نحو حسن وقبح كما
قال وحسن ذا أدبا. أي حسن ذا أدبا، وجائز أن يراد بالسمر ههنا جمع:
أسمر وسمراء ويكون
(3/30)
وكندة إذ هم
بالحصاب عشية ... تجيز بهم حجاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما اختلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهم سمر الرماح وشرحه ... وشبرقه وخد النعام الحوامل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عاذل
يطاع بنا أمر العدا ود أننا ... تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم - وبيت الله - نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
__________
وصفا للنبات والشجر كما يوصف بالدهمة إذا كان مخضرا، وفي التنزيل
{مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن 64] أي خضراوان إلى السواد.
وقوله وشبرقه. وهو نبات يقال ليابسه الحلي، والرطبة: الشبرق.
وقوله: نبدي محمدا أي نسلبه ونغلب عليه.
وقوله: نهوض الروايا. هي الإبل تحمل الماء واحدتها: راوية والأسقية
أيضا يقال لها: روايا، وأصل هذا الجمع رواوي ثم يصير في القياس روائي
مثل حوائل جمع: حول ولكنهم قلبوا الكسرة فتحة بعدما قدموا الياء قبلها،
وصار وزنه فوالع وإنما قلبوه كراهية اجتماع واوين واو فواعل الواو التي
هي عين الفعل ووجه آخر وهو أن الواو الثانية قياسها أن تنقلب همزة في
الجمع لوقوع الألف بين واوين فلما انقلبت همزة قلبوها ياء كما فعلوا في
خطايا وبابه مما الهمزة فيه معترضة في الجمع والصلاصل. المزادات لها
صلصلة بالماء.
(3/31)
وحتى ترى ذا
الضغن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا - لعمر الله - إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
شهورا وأياما وحولا مجرما ... علينا وتأتي حجة بعد قابل
وما ترك قوم - لا أبا لك - سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد أجرى أسيد وبكره ... إلى بغضنا وجزآنا لآكل
وعثمان لم يربع علينا وقنفذ ... ولكن أطاعا أمر تلك القبائل
أطاعا أبيا، وابن عبد يغوثهم ... ولم يرقبا فينا مقالة قائل
كما قد لقينا من سبيع ونوفل ... وكل تولى معرضا لم يجامل
فإن يلفيا، أو يمكن الله منهما ... نكل لهما صاعا بصاع المكايل
وذاك أبو عمرو أبى غير بغضنا ... ليظعننا في أهل شاء وجامل
ـــــــ
وفيها قوله غير ذرب مواكل. وهو مخفف من ذرب والذرب اللسان الفاحش
المنطق والمواكل الذي لا جد عنده فهو يكل أموره إلى غيره.
وفيها قوله ثمال اليتامى، أي يثملهم ويقوم بهم يقال هو ثمال مال أي
يقوم به.
وفيها قوله: ليظعننا في أهل شاء وجامل
الشاء والشوي: اسم للجمع مثل الباقر والبقير ولا واحد لشاء والشوي من
لفظه وإذا قالوا في الواحد شاة فليس من هذا ; لأن لام الفعل في شاة هاء
بدليل قولهم في التصغير شويهة وفي الجمع شياه والجامل اسم جمع بمنزلة
الباقر.
(3/32)
يناجي بنا في
كل ممسى ومصبح ... فناج أبا عمر بنا ثم خاتل
ويؤلي لنا بالله ما إن يغشنا ... بلى قد تراه جهرة غير حائل
أضاق عليه بغضنا كل تلعة ... من الأرض بين أخشب فمجادل
وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا ... بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
وكنت امرئ ممن يعاش برأيه ... ورحمته فينا ولست بجاهل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول
ومر أبو سفيان عني معرضا ... كما مر قيل من عظام المقاول
يفر إلى نجد وبرد مياهه ... ويزعم أني لست عنكم بغافل
ويخبرنا فعل المناصح أنه ... شفيق ويخفي عارمات الدواخل
أمطعم لم أخذلك في يوم بحدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل
__________
وقوله وكنتم زمانا حطب قدر حطب اسم للجمع مثل ركب وليس بجمع لأنك تقول
في تصغيره حطيب وركيب.
وقوله حطاب أقدر هو جمع حاطب فلا يصغر إلا أن ترده إلى الواحد فتقول
حويطبون ومعنى البيت أي كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدر واحدة فأنتم
الآن بخلاف ذلك.
وفيها قوله: من الأرض بين أخشب فمجادل أراد الأخاشب، وهي جبال مكة،
وجاء به على أخشب لأنه في معنى أجبل مع أن الاسم قد يجمع على حذف
الزوائد كما يصغرونه كذلك والمجادل جمع مجدل وهو القصر كأنه يريد ما
بين جبال مكة، فقصور الشام أو العراق، والفاء من قوله فمجادل تعطي
الاتصال بخلاف الواو كقوله:
(3/33)
ولا يوم خصم إذ
أتوك ألدة ... أولي جدل من الخصوم المساجل
أمطعم إن القوم ساموك خطة ... وإني متى أوكل فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل
ـــــــ
بين الدخول فحومل
وتقول: مطرنا بين مكة فالمدينة إذا اتصل المطر من هذا إلى هذه ولو كانت
الواو لم تعط هذا المعنى.
وقوله: أولي جدل من الخصوم المساجل يروى بالجيم وبالحاء فمن رواه
بالجيم فهو من المساجلة في القول وأصله في استقاء الماء بالسجل وصبه
فكأنه جمع مساجل على تقدير حذف الألف الزائدة من مفاعل أو جمع مسجل
بكسر الميم وهو من نعت الخصوم ومن رواه المساحل بالحاء فهو جمع مسحل
وهو اللسان وليس بصفة للخصوم إنما هو مخفوض بالإضافة أي خصماء الألسنة
وقال ابن أحمر:
من خطيب إذا ما انحل مسحله
أي: لسانه وهو أيضا من السحل وهو الصب، ومنه حديث أيوب حين فرج عنه
فجاءت سحابة فسحلت في بيدره ذهبا، وجاءت أخرى فسحلت في البيدر الآخر
فضة.
فصل : وفيها:
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل
(3/34)
ونحن الصميم من
ذؤابة هاشم ... وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا ... علينا العدا من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتم وعجزتم ... وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل
__________
قيضا أي معاوضة ومنه قول النبي عليه السلام لذي الجوشن "إن شئت قايضتك
به المختار من دروع بدر" فقال ما كنت لأقيضه اليوم اليوم بشيء يعني:
فرسا له يقال له ابن القرحاء. وقال أبو الشيص:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براض
بدلت من برد الشباب ملاءة ... خلقا، وبئس مثوبة المقتاض
والغياطل: بنو سهم، لأن أمهم الغيطلة وقد تقدم نسبها، وقيل إن بني سهم
سموا بالغياطل لأن رجلا منهم قتل جانا طاف بالبيت سبعا، ثم خرج من
المسجد فقتله فأظلمت مكة، حتى فزعوا من شدة الظلمة التي أصابتهم
والغيطلة الظلمة الشديدة والغيطلة أيضا: الشجر الملتف، والغيطلة اختلاط
الأصوات والغيطلة البقرة الوحشية والغيطلة غلبة النعاس وقوله يخس شعيرة
أي ينقص والخسيس الناقص من كل شيء ويروى في غير السيرة يحص بالصاد
والحاء مهملة من حص الشعر إذا أذهبه. وقوله من كل طمل وخامل: الطمل
اللص
(3/35)
وكنتم حديثا
حطب قدر وأنتم ... ألان حطاب أقدر ومراجل
ليهنئ بني عبد مناف عقوقنا ... وخذلاننا، وتركنا في المعاقل
فإن نك قوما نتئر ما صنعتم ... وتحتلبوها لقحة غير باهل
وسائط كانت في لؤي بن غالب ... نفاهم إلينا كل صقر حلاحل
ورهط نفيل شر من وطئ الحصى ... وألام حاف من معد وناعل
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا ... وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة ... إذا ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم ... لكنا أسى عند النساء المطافل
فكل صديق وابن أخت نعده ... لعمري وجدنا غبه غير طائل
__________
كذا وجدته في كتاب أبي بحر وفي العين الطمل الرجل الفاحش والطمل
والطملال الفقير والطمل الذئب. وقوله لقحة غير باهل الباهل الناقة التي
لا صرار على أخلافها، فهي مباحة الحلب يقال ناقة مصرورة إذا كان على
خلفها صرار يمنع الفصيل من أن يرضع وليست المصراة من هذا المعنى، إنما
هي التي جمع لبنها في ضرعها، فهو من الماء الصرى، وقد غلط أبو علي في
البارع فجعل المصراة بمعنى المصرورة وله وجه بعيد وذلك أن يختبئ له
بقلب إحدى الراءين ياء مثل قصيت أظفاري، غير أنه بعيد في المعنى، وقالت
امرأة المغيرة تعاتب زوجها، وتذكر أنها جاءته كالناقة الباهلة التي لا
صرار على أخلافها: أطعمتك مأدومي وأبثثتك مكتومي، وجئتك باهلا غير ذات
صرار، وفي الحديث "لا تورد الإبل بهلا [أو بهلا]، فإن الشياطين
ترضعها،" أي لا أصرة عليها.
(3/36)
سوى أن رهطا من
كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل
وهنا لهم حتى تبدد جمعهم ... ويحسر عنا كل باغ وجاهل
وكان لنا حوض السقاية فيهم ... ونحن الكدى من غالب والكواهل
شباب من المطيبين وهاشم ... كبيض السيوف بين أيدي الصياقل
فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما ... ولا حالفوا إلا شر القبائل
بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم ... ضواري أسود فوق لحم خرادل
بني أمة محبوبة هندكية ... بني جمح عبيد قيس بن عاقل
ولكننا نسل كرام لسادة ... بهم نعي الأقوام عند البواطل
__________
وفيها قوله: براء إلينا من معقة خاذل
يقال قوم براء [بالضم] وبراء بالفتح وبراء بالكسر فأما براء بالكسر
فجمع بريء مثل كريم وكرام وأما براء فمصدر مثل سلام والهمزة فيه وفي
الذي قبله لام الفعل ويقال رجل براء ورجلان براء وإذا كسرتها أو ضممتها
لم يجز إلا في الجمع وأما براء بضم الباء فالأصل فيه برآء مثل كرماء
فاستثقلوا اجتماع الهمزتين فحذفوا الأولى، وكان وزنه فعلاء فلما حذفوا
التي هي لام الفعل صار وزنه فعاء وانصرف لأنه أشبه فعالا، والنسب إليه
إذا سميت به براوي، والنسب إلى الآخرين برائي وبرائي، وزعم بعضهم إلى
أن براء بضم أوله من الجمع الذي جاء على فعال وهي ثمانية ألفاظ فرير
وفرار وعرن وعران ولم يصنع شيئا، وقال النحاس براء بضم الباء.
(3/37)
ونعم ابن أخت
القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها ... وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا، ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنه سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل
فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل
رجال كرام غير ميل نماهم ... إلى الخير آباء كرام المحاصل
فإن تك كعب من لؤي صقيبة ... فلا بد يوما مرة من تزايل
قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم بالشعر ينكر
أكثرها.
عاء النبي صلى الله عليه وسلم حين أقحطوا, فنزل المطر, وود لو أن أبا
طالب حي فرأى ذلك:
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به قال "أقحط أهل المدينة، فأتوا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فشكوا ذلك إليه فصعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل
الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
الاستسقاء
فصل : وذكر حديث استسقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ،
وهو حديث مروي من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة.
(3/38)
"اللهم حوالينا
ولا علينا" ، فانجاب السحاب عن المدينة، فصار حواليها كالإكليل فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره"
فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال: "أجل"
قال ابن هشام: وقوله " وشبرقه " عن غير ابن إسحاق.
الأسماء التي وردت في قصيدة أبي طالب:
قال ابن إسحاق: والغياطل: من بني سهم بن عمرو بن هصيص، وأبو سفيان بن
__________
وقوله حتى أتاه أهل الضواحي يشكون الغرق. الضواحي: جمع ضاحية وهي الأرض
البراز التي ليس فيها ما يكن من المطر ولا منجاة من السيول وقيل ضاحية
كل بلد خارجه. وقوله عليه السلام "اللهم حوالينا، ولا علينا" كقوله في
حديث آخر "اللهم منابت الشجر وبطون الأودية وظهور الآكام" فلم يقل
اللهم ارفعه عنا - هو من حسن الأدب في الدعاء لأنها رحمة الله ونعمته
المطلوبة منه فكيف يطلب منه رفع نعمته وكشف رحمته وإنما يسأل سبحانه
كشف البلاء والمزيد من النعماء ففيه تعليم كيفية الاستسقاء. وقال
"اللهم منابت الشجر" ولم يقل اصرفها إلى منابت الشجر لأن الرب تعالى
أعلم بوجه اللطف وطريق المصلحة كان ذلك بمطر أو بندى أو طل أو كيف شاء
وكذلك بطون الأودية والقدر الذي يحتاج إليه من مائها.
فصل: فإن قيل كيف قال أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ولم يره قط استسقى، وإنما كانت استسقاءاته عليه السلام بالمدينة في سفر
وحضر وفيها شوهد ما كان من سرعة إجابة الله له.
(3/39)
حرب بن أمية.
ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن
عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب. قال ابن إسحاق:
وأسيد وبكره عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
بن قصي. وعثمان بن عبيد الله: أخو طلحة بن عبيد الله التيمي. وقنفذ بن
عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأبو الوليد عتبة
بن ربيعة. وأبي: الأخنس بن شريق الثقفي، حليف بني زهرة بن كلاب.
__________
فالجواب أن أبا طالب قد شاهد من ذلك أيضا في حياة عبد المطلب ما دله
على ما قال روى أبو سلمان حمد بن محمد بن إبراهيم [بن الخطاب الخطابي]
البستي النيسابوري، أن رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم قالت تتابعت على
قريش سنو جدب قد أقحلت الظلف وأرقت العظم فبينا أنا راقدة اللهم أو
مهدمة ومعي صنوى إذ أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل يقول يا معشر قريش إن
هذا النبي المبعوث معكم هذا إبان نجومه فحي هلا بالحيا والخصب ألا
فانظروا منكم رجلا طوالا عظاما أبيض فظا، أشم العرنين له فخر يكظم
عليه. ألا فليخلص هو وولده وليدلف إليه من كل بطن رجل ألا فليشنوا من
الماء وليمسوا من الطيب وليطوفوا بالبيت سبعا، ألا وفيهم الطيب الطاهر
لذاته ألا فليدع الرجل وليؤمن القوم ألا فغثتم أبدا ما عشتم. قالت
فأصبحت مذعورة قد قف جلدي، ووله عقلي، فاقتصصت رؤياي فوالحرمة والحرم
إن بقي أبطحي إلا قال هذا شيبة الحمد وتتامت عنده قريش، وانفض إليه
الناس من كل بطن رجل فشنوا ومسوا واستلموا واطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس
وطفق القوم يدفون حوله ما إن يدرك سعيهم
(3/40)
قال ابن هشام:
وإنما سمي الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر وإنما اسمه أبي، وهو من بني
علاج وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقبة. والأسود بن عبد يغوث بن وهب
بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. وسبيع بن خالد، أبو بلحارث بن فهر. ونوفل
بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن العدوية. وكان من <31>
شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله رضي
الله عنهما في حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين فقتله علي بن
أبي طالب عليه السلام يوم بدر. وأبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن
عبد مناف " وقوم علينا أظنة ": بنو بكر بن عبد مناة بنت كنانة فهؤلاء
الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب.
انتشار ذكر الرسول في القبائل، ولا سيما في الأوس والخزج:
فلما انتشر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العرب، وبلغ
البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حين ذكر وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج،
وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء
__________
مهلة حتى قروا بذروة الجبل واستكفوا جنابيه فقام عبد المطلب، فاعتضد
ابن ابنه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام
قد أيفع أو قد كرب ثم قال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير
معلم ومسئول غير مبخل وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم
فاسمعن اللهم وأمطرن علينا غيثا مريعا مغدقا، فما راموا والبيت حتى
انفجرت السماء بمائها، وكظ الوادي بثجيجه. رواه أبو سليمان عن ابن
الأعرابي. قال حدثنا محمد بن علي بن البختري، نا يعقوب بن محمد بن عيسى
بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، نا عبد العزيز بن عمران عن
ابن حويصة قال يحدث مخرمة بن نفيل عن أمه رقيقة بنت أبي صيفي.
وذكر الحديث ورواه بإسناد آخر إلى رقيقة وفيه ألا فانظروا منكم رجلا
(3/41)
ومعهم في
بلادهم. فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف.
قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف.
نسب أبي قيس بن الأسلت:
قال ابن هشام: نسب ابن إسحاق أبا قيس هذا ههنا إلى بني واقف ونسبه في
حديث الفيل إلى خطمة لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر
معه.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن الحكم بن عمرو الغفاري من ولد نعيلة
أخي غفار، وهو غفار بن مليل ونعيلة بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة
وقد قالوا: عتبة بن غزوان السلمي وهو من ولد مازن بن منصور وسليم بن
منصور.
قال ابن هشام: فأبو قيس بن الأسلت من بني وائل ووائل وواقف وخطمة إخوة
من الأوس.
شعر ابن الأسلت في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشا، وكان لهم
__________
وسيطا عظاما جساما أوطف الأهداب وأن عبد المطلب قام ومعه رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قد أيفع أو كرب وذكر القصة.
ابن الأسلت وقصيدته:
فصل: وذكر ابن هشام كل من سماه أبو طالب في قصيدته أو أشار إليه
(3/42)
صهرا، كانت
عنده أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان يقيم عندهم السنين
بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشا فيها عن الحرب ويأمرهم
بالكف بعضهم عن بعض ويذكر فضلهم وأحلامهم ويأمرهم بالكف عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده
عنهم فقال:
يا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك ناصب
__________
وعرف بهم تعريفا مستغنيا عن الزيد. وذكر قصيدة أبي قيس صيفي بن الأسلت
واسم الأسلت عامر والأسلت هو الشديد الفطس يقال سلت الله أنفه ومن
السلت حديث بشر بن عاصم حين أراد عمر أن يستعمله فلما كتب له عهده أبى
أن يقبله وقال لا حاجة لي به. إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقول: "إن الولاة يجاء بهم يوم القيامة فيقفون على جسر جهنم فمن كان
مطاوعا لله تناوله بيمينه حتى ينجيه ومن كان عاصيا لله انخرق به الجسر
إلى واد من نار تلتهب التهابا" قال فأرسل عمر إلى أبي ذر وإلى سلمان
فقال لأبي ذر أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
نعم والله وبعد الوادي واد آخر من نار. قال وسأل سلمان فكره أن يخبره
بشيء فقال عمر من يأخذها بما فيها ؟ فقال أبو ذر من سلت الله أنفه
وعينيه وأضرع خده إلى الأرض ذكره ابن أبي شيبة.
وأول القصيدة: يا راكبا إما عرضت فبلغن البيت. المغلغلة الداخلة إلى
أقصى ما يراد بلوغه منها، ومنه تغلغل في البلاد إذا بالغ في الدخول
فيها، وأصله تغلل ومغللة ولكن قلبوا إحدى اللامين غينا، كما فعلوا في
كثير من المضاعف وأصله من الغلل والغلالة فأما الغلل فماء يستره النبات
والشجر وأما الغلالة فساترة لما تحتها.
(3/43)
وقد كان عندي
للهموم معرس ... فلم أقض منها حاجتي ومآربي
نبيتكم شرجين كل قبيلة ... لها أزمل من بين مذك وحاطب
أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة ... كوخز الأشافي وقعها حق صائب
فذكرهم بالله أول وهلة ... وإحلال أحرام الظباء الشوازب
وقل لهم والله يحكم حكمه ... ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب
متى تبعثوها، تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو للأقارب
__________
وفيها. نبيتكم شرجين. أي فريقين مختلفين ونبئتكم لفظ مشكل وفي حاشية
الشيخ نبيتكم شرجين وهو بين في المعنى، وفيه زحاف خرم ولكن لا يعاب
المعنى بذلك وأما لفظ التبيت في هذا البيت فبعيد من معناه والأزمل
الصوت والمذكي: الذي يوقد النار والحاطب الذي يحطب لها، ضرب هذا مثلا
لنار الحرب كما قال الآخر:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
وقوله وهي الغول للأدنى، أي هي الهلاك يقال الغضب غول الحلم أي يهلكه
والغول بفتح الغين وجع البطن قاله البخاري في تفسير قوله {لا فِيهَا
غَوْلٌ} [الصافات: 47] وقوله وإحلال أحرام الظباء الشوازب. أي إن بلدكم
بلد حرام تأمن فيه الظباء الشوازب التي تأتيه من بعد لتأمن فيه فهي
شاربة أي ضامرة من بعد المسافة وإذا لم تحلوا بالظباء فيه فأحرى ألا
تحلوا بدمائكم,
(3/44)
تقطع أرحاما،
وتهلك أمة ... وتبري السديف من سنام وغارب
وتستبدلوا بالأتحمية بعدها ... شليلا وأصداء ثياب المحارب
وبالمسك والكافور غبرا سوابغا ... كأن قتيريها عيون الجنادب
فإياكم والحرب لا تعلقنكم ... وحوضا وخيم الماء مر المشارب
تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بينت أم صاحب
__________
وإحرام الظباء كونها في الحرم، يقال لمن دخل في الشهر الحرام أو في
البلد الحرام: محرم. والأتحمية ثياب رقاق تصنع باليمن والشليل درع
قصيرة والأصداء جمع صدأ الحديد والقتير حلق الدرع شبهها بعيون الجراد
وأخذ هذا المعنى التنوخي فقال:
كأثواب الأراقم مزقتها ... فخاطتها بأعينها الجراد
وقوله في وصف الحرب:
تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بيتت أم صاحب
هو كقول عمرو بن معدي كرب:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها، فتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل
فقوله: أم صاحب أي عجوزا كأم صاحب لك، إذ لا يصحب الرجل إلا رجل في سنه
وفي جامع البخاري: كانوا إذا وقعت الحرب يأمرون بحفظ هذه
(3/45)
تحرق لا تشوي
ضعيفا، وتنتحي ... ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس ... فتعتبروا أو كان في حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسود ... طويل العماد ضيفه غير خائب
عظيم رماد النار يحمد أمره ... وذي شيمة محض كريم المضارب
وماء هريق في الضلال كأنما ... أذاعت به ريح الصبا والجنائب
__________
الأبيات يعني: أبيات عمرو المتقدمة. وقوله: ألم تعلموا ما كان في حرب
داحس.
يذكر معنى داحس إذا ذكره ابن إسحاق بعد هذه القصيدة إن شاء الله تعالى.
وقوله فيها: ولي امرئ فاختار دينا فإنما. أي هو ولي امرئ اختار دينا،
والفاء زائدة على أصل أبي الحسن قال في قولهم زيدا فاضرب الفاء معلقة
أي زائدة ومن لا يقول بهذا القول يجعل الفاء عاطفة على فعل مضمر كأنه
قال ولي امرئ تدين فاختار دينا، أو نحو هذا، وقد تقدم شرح باقي القصيدة
في آخر قصة الحبشة.
وقال فيها: كريم المضارب وفي حاشية كتاب الشيخ لعله الضرائب يريد جمع
ضريبة ولا يبعد أيضا أن يكون قال المضارب. يريد أن مضارب سيوفه غير
مذمومة ولا راجعة عليه إلا بالثناء والحمد والوصف بالمكارم.
وفيها قوله: وماء هريق في الضلال. ويروى: في الصلال جمع صلة وهي الأرض
التي لا تمسك الماء أي رب ماء هريق في الضلال من أجل السراب لأنه لا
يهريق ماء من أجل السراب إلا ضال غير مميز بمواضع الماء وأذاعت به أي
بددته فلم ينتفع به وهذا مثل ضربه للنظر في عواقب الأمور ويروى: وما
أهريق في أمر ومعناه والذي أهريق في أمر الضلال فوصل ألف القطع ضرورة
ويقال أريق الماء وأهريق بالجمع بين الهمزة والهاء وهي أقلها،
ولتعليلها موضع غير هذا.
(3/46)
يخبركم عنها
امرؤ حق عالم ... بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا ... حسابكم والله خير محاسب
ولي امرئ فاختار دينا، فلا يكن ... عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد يهتدى بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة ... تؤمون والأحلام غير عوازب
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهر ... لكم سرة البطحاء شم الأرانب
تصونون أجسادا كراما عتيقة ... مهذبة الأنساب غير أشائب
يرى طالب الحاجات نحو بيوتكم ... عصائب هلكى تهتدي بعصائب
لقد علم الأقوام أن سراتكم ... على كل حال خير أهل الجباجب
وأفضله رأيا، وأعلاه سنة ... وأقوله للحق وسط المواكب
فقوموا، فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبى يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمسي، ورجله ... على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله م الحبش غير عصائب
فإن تهلكوا، نهلك وتهلك مواسم ... يعاش بها، قول امرئ غير كاذب
__________
وقوله فيها: بين ساف وحاصب السافي: الذي يرمي بالتراب والحاصب الذي
يقذف بالحصباء.
وفيها ذكر الجباجب، وهي منازل منى. كذا قال ابن إسحاق، وقال البرقي: هي
حفر بمنى، يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها، وقيل
الجباجب: الكروش. يقال للكرش جبجبة بفتح الجيم والذي تقدم واحده جبجبة
بالضم.
(3/47)
قال ابن هشام:
أنشدني بيته وماء هريق ، وبيته فبيعوا الحراب ، وقوله ولي امرئ فاختار
، وقوله:
على القاذفات في رءوس المناقب
أبو زيد الأنصاري وغيره.
حرب داحس:
قال ابن هشام: وأما قوله:
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
فحدثني أبو عبيدة النحوي: أن داحسا فرس كان لقيس بن زهير بن جذيمة بن
رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن
غطفان، أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن زيد بن جؤية بن لوذان بن
ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، يقال لها:
الغبراء. فدس حذيفة قوما وأمرهم أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء
سابقا، فجاء داحس سابقا،
__________
حرب داحس
فصل : وذكر حديث حرب داحس مختصرا، وداحس اسم فرس كان لقيس بن أبي زهير
ومعنى داحس مدحوس كما قيل ماء دافق أي مدفوق والدحس إدخال اليد بقوة في
ضيق كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بغلام يسلخ شاة
فأمره أن ينتحي ليريه ثم دحس عليه السلام بيده بين الجلد واللحم حتى
بلغ الإبط ثم صلى، ولم يتوضأ. فداحس سمي بهذا الاسم لأن أمه كانت لرجل
من بني تميم ثم من بني يربوع اسمه قرواش بن عوف وكان اسم الفرس: جلوى،
وكان ذو العقال فرسا عتيقا لحوط بن جابر فخرجت به فتاتان له لتسقياه
فبصر بجلوى، فأدلى
(3/48)
فضربوا وجهه
وجاءت الغبراء. فلما جاء فارس داحس أخبر قيسا الخبر، فوثب أخوه مالك بن
زهير فلطم وجه الغبراء فقام حمل بن بدر، فلطم مالكا. ثم إن أبا الجنيدب
العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله
فقال حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر:
قتلنا بعوف مالكا وهو ثأرنا ... فإن تطلبوا منا سوى الحق تندموا
__________
حين رآها، فضحك غلمة كانوا هنالك فاستحيت الفتاتان ونكستا رأسيهما،
فأفلت ذو العقال حتى نزا على جلوى، وقيل ذلك لحوط فأقبل مغضبا، وهو
يسعى حتى ضرب بيده في التراب ثم دحسها في رحم الفرس، فسطا عليها، فأخرج
ماء الفحل معها، واشتملت الرحم على بقية الماء وحملت بمهر فسموه داحسا،
وأظهر ما فيه أن يكون مثل لابن وتامر وأن لا يكون فاعلا بمعنى مفعول
فهو داحس بن ذي العقال بن أعوج الذي تنسب إليه الخيل الأعوجية في قول
بعضهم وقد تقدم غير هذا القول - ابن سبل وكان لغني بن يعصر وفيه يقال:
إن الجواد بن الجواد بن سبل ... إن دايموا جاد وإن جاد وبل
وفي ذي العقال يقول جرير:
تمسي جياد الخيل حول بيوتنا ... من آل أعوج أو لذي العقال
وأنشد:
(3/49)
وهذا البيت في
أبيات له. وقال الربيع بن زياد العبسي:
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
وهذا البيت في قصيدة له. فوقعت الحرب بين عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر
وأخوه حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير بن جذيمة يرثي حذيفة وجزع عليه:
كم فارس يدعى وليس بفارس ... وعلى الهباءة فارس ذو مصدق
فابكوا حذيفة لن ترثوا مثله ... حتى تبيد قبائل لم تخلق
__________
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
وفيه إقواء وهو حذف نصف سبب من القسم الأول وقد تكلمنا على معنى
الإقواء قبل وأما اختلاف القوافي فيسمى: اكتفاء وإقواء أيضا لأنه من
الكفء فكأنه جعل الرفع كفئا للخفض فسوى بينهما، وفيها قوله ترجو النساء
عواقب الأطهار. كقول الأخطل
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
فيقال إن حرب داحس دامت أربعين سنة لم تحمل فيها أنثى، لأنهم كانوا لا
يقربون النساء ما داموا محاربين وذكر الأصبهاني أن حرب داحس كانت بعد
يوم جبلة بأربعين سنة وقد تقدم يوم جبلة، وأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولد في تلك الأيام وقال لبيد:
وغنيت حرسا قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
(3/50)
وهذان البيتان
في أبيات له. وقال قيس بن زهير:
على أن الفتى حمل بن بدر ... بغى والظلم مرتعه وخيم
وهذا البيت في أبيات له وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير:
تركت على الهباءة غير فخر ... حذيفة عنده قصد العوالي
وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: ويقال أرسل قيس داحسا والغبراء وأرسل حذيفة الخطار
والحنفاء والأول أصح الحديثين. وهو حديث طويل منعني من استقصائه قطعه
حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
وكان لبيد في حرب جبلة ابن عشر سنين وقوله حرسا أي وقتا من الدهر ويروى
سبتا والمعنى واحد وكان إجراء داحس والغبراء على ذات الإصاد موضع في
بلاد فزارة وكان آخر أيام حرب داحس بقلهى من أرض قيس، وهناك اصطلحت عبس
ومنولة وهي أم بني فزارة شمخ وعدي ومازن فيقال لهذا الموضع قلهى، وأما
قلهي فموضع بالحجاز وفيه اعتزل سعد بن أبي وقاص حين قتل عثمان وأمر ألا
يحدث بشيء من أخبار الناس وألا يسمع منها شيئا، حتى يصطلحوا، ويقال إن
الحنفاء كانت فرس حذيفة وأنها أجريت مع الغبراء ذلك اليوم. قال الشاعر:
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
(3/51)
حرب حاطب:
قال ابن هشام: وأما قوله حرب حاطب. فيعني حاطب بن الحارث بن قيس بن
هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن
مالك بن الأوس، كان قتل يهوديا جارا للخزرج فخرج إليه يزيد بن الحارث
بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث
بن الخزرج - وهو الذي يقال له ابن فسحم وفسحم أمه وهي امرأة من القين
بن جسر - ليلا في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين
الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا، فكان الظفر للخزرج على الأوس،
وقتل يومئذ سويد بن صامت بن خالد بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن
عوف بن مالك بن الأوس، قتله المجذر بن ذياد البلوي، واسمه عبد الله
حليف بني عوف بن الخزرج. فلما كان يوم أحد خرج المجذر بن ذياد مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه الحارث بن سويد بن صامت، فوجد
الحارث بن سويد غرة من المجذر فقتله بأبيه. وسأذكر حديثه في موضعه - إن
شاء الله تعالى - ثم كانت بينهم حروب منعني من ذكرها واستقصاء هذا
الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس.
شعر حكيم بن أمية في صد قومه عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي، حليف بني
أمية وقد أسلم، يورع قومه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان فيهم شريفا مطاعا:
هل قائل قولا من الحق قاعد ... عليه وهل غضبان للرشد سامع
وهل سيد ترجو العشيرة نفعه ... لأقصى الموالي والأقارب جامع
تبرأت إلا وجه من يملك الصبا ... وأهجركم ما دام مدل ونازع
وأسلم وجهي للإله ومنطقي ... ولو راعني من الصديق روائع
__________
وأما حرب حاطب الذي ذكرها، فهي حرب كانت على يد حاطب بن الحارث بن قيس
بن هيشة بن الأوس، فنسبت إليه وكانت بين الأوس والخزرج.
(3/52)
|