الروض الأنف ت السلامي

ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه:
سفهاء قريش ورميه صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون:
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم على كفرهم.
__________
ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه:
فصل : فيما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه ذكر ابن إسحاق والواقدي والتيمي، وابن عقبة وغيرهم في هذا الباب أمورا كثيرة تتقارب ألفاظها ومعانيها، وبعضهم يزيد على بعض فمنها حثو سفهائهم التراب على رأسه ومنها أنهم كانوا ينضدون الفرث والأفحاث والدماء على بابه ويطرحون رحم الشاة في برمته ومنها: بصق أمية بن خلف في وجهه ومنها: وطء عقبة بن أبي معيط على رقبته وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان ومنها أخذهم بمخثقه حين اجتمعوا له عند الحجر، وقد ذكره ابن إسحاق، وزاد غيره الخبر أنهم خنقوه خنقا شديدا وقام أبو بكر دونه فجبذوا رأسه ولحيته حتى سقط أكثر شعره وأما السب والهجو والتلقيب

(3/53)


حديث ابن العاص عن أكثر ما رأي قريشا نالته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانوا يظهرون من عداوته ؟ قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط: سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال "أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح." قال فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا. قال فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم أنا الذي أقول ذلك" قال فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط.
__________
وتعذيب أصحابه وأحبائه وهو ينظر فقد ذكر من ذلك ابن إسحاق ما في الكتاب وقد قال أبو جهل لسمية أم عمار بن ياسر: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها، والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

(3/54)


بعض ما نال أبا بكر في سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أم كلثوم ابنة أبي بكر أنها قالت رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جبذوه بلحيته وكان رجلا كثير الشعر.
أشد ما أوذي به الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم إن أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا عذبه وآذاه لا حر ولا عبد فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثر من شدة ما أصابه فأنزل الله تعالى عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر 1 - 2].
ـــــــ
السبب في تلقيبه بالمدثر والنذير العريان
وذكر ابن إسحاق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " دثروني دثروني" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر 1 - 2]. قال بعض أهل العلم في تسميته إياه بالمدثر في هذا المقام ملاطفة وتأنيس ومن عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو فيها، كقوله عليه السلام لحذيفة: "قم يا نومان" وقوله لعلي بن أبي طالب - وقد ترب جنبه: "قم أبا تراب" فلو ناداه سبحانه وهو في تلك الحال من الكرب باسمه أو بالأمر المجرد من هذه الملاطفة لهاله ذلك ولكن لما بدئ ب {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أنس وعلم أن ربه راض عنه ألا تراه كيف قال عندما لقي من أهل الطائف من شدة البلاء والكرب ما لقي: "رب إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي" إلى آخر الدعاء فكان مطلوبه رضا ربه وبه كانت تهون عليه الشدائد. فإن قيل كيف ينتظم يا أيها المدثر مع قوله {قُمْ فَأَنْذِرْ} وما

(3/55)


................................................
__________
الرابط بين المعنيين حتى يلتئما في قانون البلاغة ويتشاكلا في حكم الفصاحة ؟ قلنا: من صفته عليه السلام ما وصف به نفسه حين قال: "أنا النذير العريان" وهو مثل معروف عند العرب، يقال لمن أنذر بقرب العدو وبالغ في الإنذار وهو النذير العريان وذلك أن النذير الجاد يجرد ثوبه ويشير به إذا خاف أن يسبق العدو صوته وقد قيل إن أصل المثل لرجل من خثعم سلبه العدو ثوبه وقطعوا يده فانطلق إلى قومه نذيرا على تلك الحال فقوله عليه السلام "أنا النذير العريان" أي مثلي مثل ذلك والتدثر بالثياب مضاد للتعري، فكان في قوله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]مع قوله {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] والنذير الجاد يسمى: العريان تشاكل بين والتئام بديع وسماقة في المعنى، وجزالة في اللفظ.
تقديم المفعول على الفعل:
وقوله بعد هذا: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر : 3] أي ربك كبر لا غيره لا يكبر عليك شيء من أمر الخلق وفي تقديم المفعول على فعل الأمر إخلاص ومثله قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي لا نعبد غيرك [ولا نستعين إلا بك]، ولم يقل نعبدك ونستعينك، وفي الحديث "إذا قال العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يقول الله تعالى: أخلص لي عبدي العبادة واستعانني عليها، فهذه بيني وبين عبدي"
عتبة بن ربيعة والرئي:
فصل وذكر قول عتبة إن كان هذا رئيا تراه. ولغة بني تميم رئي بكسر

(3/56)


............................................
__________
الراء وكذلك يقولون في كل فعيل عين الفعل معه همزة أو غيرها من حروف الحلق يكسرون أوله مثل رحيم وشهيد والرئي: فعيل بمعنى مفعول ولا يكون إلا من الجن، ولا يكون فعيل بمعنى مفعول في غير الجن. إلا أن يؤثر فيه الفعل نحو جريح وقتيل وذبيح وطحين ولا يقال من الشكر شكير ولا ذكرته فهو ذكير ولا فيمن لطم لطيم إلا أن تغير منه اللطمة كما قالوا: لطيم الشيطان. قال ابن الزبير حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق [بن العاص] : ألا إن أبا ذبان قتل لطيم الشيطان {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام 29]. وقالوا من الحمد حميد ذهبوا به مذهب كريم وكذلك قالوا في الجن: رئي، وإن كانت الرؤيا لا تؤثر في المرئي لأنهم ذهبوا به مذهب قرين ونجي.

(3/57)