الروض
الأنف ت السلامي
ما نزل من البقرة في المنافقين ويهود:
ما نزل في الأحبار:
ففي هؤلاء من أخبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج، نزل صدر سورة
البقرة إلى المائة منها - فيما بلغني - والله أعلم. يقول الله سبحانه
وبحمده {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه. قال ابن
همام قال ساعدة بن جؤية الهذلي
فقالوا عهدنا القوم قد حصروا به ... فلا ريب أن قد كان ثم لحيم
وهذا البيت في قصيدة له والريب أيضا: الريبة. قال خالد بن زهير الهذلي:
كأنني أريبه بريب
قال ابن هشام: ومنهم من يرويه
كأنني أربته بريب
وهذا البيت في أبيات له. وهو ابن أخي أبي ذؤيب الهذلي. {هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من
الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاءهم منه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
ـــــــ
ذكر ما أنزل الله في المنافقين
فصل: وذكر ما أنزل الله في المنافقين والأحبار ومن يهود من صدر سورة
البقرة واستشهد ابن هشام على الريب بمعنى الريبة بقول خالد بن زهير ابن
أخت أبي ذؤيب، واسم أبي ذؤيب: خويلد بن خالد والرجز الذي استشهد ببيت
منه:
يا قوم ما لي وأبا ذؤيب ... كنت إذا أتيته من غيب
يشم عطفي ويمس ثوبي ... كأنني أربته بريب
وكان أبو ذؤيب قد اتهمه بامرأته فلذلك قال هذا.
وذكر ابن إسحاق: والذين يقيمون الصلاة وأغفل التلاوة وإنما هو:
{الَّذِينَ
(4/220)
الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي يقيمون الصلاة بفرضها، ويؤتون
الزكاة احتسابا لها: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي يصدقونك بما جئت به من الله
عز وجل وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما
جاءوهم به من ربهم. {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي بالبعث
والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان أي هؤلاء الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما كان من قبلك، وبما جاءك من ربك {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ
رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي على نور من ربهم
واستقامة على ما جاءهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الذين
أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك {سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
أي أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق
لك، فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما
ـــــــ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]. وكذلك وجدته منبها عليه في
حاشية الشيخ وفي الإيمان بالغيب أقوال منها أن الغيب هاهنا ما بعد
الموت من أمور الآخرة ومعها: أن الغيب القدر ومعها قول من قال إن الغيب
القلب أي يؤمنون بقلوبهم وقيل يؤمنون بالغيب أي بالله عز وجل وأحسن ما
في هذه الأقوال قول الربيع بن أنس، أي يؤمنون بظهر الغيب أي ليسوا
كالمنافقين الذين يؤمنون إذا لقوا الذين آمنوا ويكفرون إذا غابوا عنهم
ويدل على صحة هذا التأويل بسياقة الكلام مع قوله عز وجل: {يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الانبياء: 49] فلا يحتمل قوله يخشون ربهم
بالغيب إلا تأويلا واحدا، فإليه يرد ما اختلف فيه. وقوله سبحانه: {لا
رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وقد ارتاب فيه كثير من الناس قيل هو على
الخصوص في المؤمنين أي لا ريب فيه عند. قال المؤلف رضي الله عنه وهذا
ضعيف لأن التبرئة تعطي العموم وأصح منه. أن الكلام ظاهره الخبر، ومعناه
النهي أي لا ترتابوا، وهذا النهي عام لا يخصص وأدق من هذا أن يكون خبرا
محضا عن القرآن أي ليس فيه ما يريب تقول رابني منك كذا وكذا، إذا رأيت
ما تنكر وليس في القرآن ما تنكره العقول. والريب وإن كان مصدرا فقد
يعبر به عن
(4/221)
جاءهم به غيرك،
فكيف يستمعون منك إنذارا أو تحذيرا، وقد كفروا بما عندهم من علمك.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا، يعني بما كذبوك
به من الحق الذي جاءك من ربك حتى يؤمنوا به وإن آمنوا بكل ما كان قبلك،
ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم.
فهذا في الأحبار من يهود فيما كذبوا به من الحق بعد معرفته.
ما نزل في منافقي الأوس والخزرج
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يعني المنافقين من الأوس والخزرج،
ومن كان على أمرهم. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي شك
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أي شكا {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ} أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل
الكتاب. يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ
النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} من
يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب بالحق وخلاف ما جاء به الرسول {إِنَّا
مَعَكُمْ} أي إنا على مثل ما أنتم عليه. {إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ} أي إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. يقول الله عز وجل
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ} [البقرة:8-15]
__________
الشيء الذي يريب كما يعبر بالضيف عن الضائف وبالطيف عن الخيال الطائف،
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:
9] فهذا خبر لأن النهي لا يكون في موضع الصفة.
وقوله لا ريب فيه في موضع الصفة ليوم والحياة بعد الموت ليس فيه ما
(4/222)
تفسير ابن هشام
لبعض الغريب:
قال ابن هشام يعمهون يحارون. تقول العرب: رجل عمه وعامه أي حيران. قال
رؤبة بن العجاج يصف بلدا:
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
وهذا البيت في أرجوزة له. فالعمه جمع عامه وأما عمه فجمعه عمهون.
والمرأة عمهة وعمهاء.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي الكفر
بالإيمان {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
قال ابن إسحاق: ثم ضرب لهم مثلا، فقال تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} أي لا
يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم
به ونفاقهم فيه فتركهم الله في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا
يستقيمون على حق {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا
يرجعون إلى الهدى، صم بكم عمي عن الخير لا يرجعون إلى خير ولا يصيبون
نجاة ما كانوا على ما هم عليه {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:16-19] قال ابن هشام: الصيب المطر وهو من صاب
يصوب مثل قولهم السيد
__________
يريبك، لأن من قدر على البدأة فهو على الإعادة أقدر وليس الريب بمعنى
الشك على الإطلاق لأنك تقول رابني منك رائب ولا تقول شكني، بل تقول
ارتبت كما تقول شككت، فالارتياب قريب من الشك.
(4/223)
من ساد يسود
والميت من مات يموت وجمعه صيائب. قال علقمة بن عبدة، أحد بني ربيعة بن
مالك بن زيد مناة بن تميم:
كأنهم صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب
وفيها:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر ... سقتك روايا المزن حيث تصوب
وهذان البيتان في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: أي هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل من
الذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم على مثل ما وصف من الذي هو ( في )
ظلمة الصيب يجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت. يقول والله
منزل ذلك بهم. من النقمة أي هو محيط بالكافرين {يَكَادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي لشدة ضوء الحق {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي يعرفون الحق
ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه في الكفر
قاموا متحيرين. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ} أي لما تركوا من الحق بعد معرفته إن الله على كل شيء
قدير.
ثم قال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعا،
من الكفار والمنافقين أي وحدوا ربكم {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:20-22]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: الأنداد الأمثال واحدهم ند. قال لعبيد بن ربيعة:
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
__________
وذكر قول الله سبحانه {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] وأصل المرض
الضعف وفتور الأعضاء وهو هاهنا ضعف اليقين وفتور القلب عن كد النظر
(4/224)
وهذا البيت في
قصيدة له.
قال ابن إسحاق: أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا
تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم
إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي في شك مما جاءكم به {فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
أي من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فقد تبين لكم الحق
{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24] أي لمن كان على مثل ما أنتم
عليه من الكفر.
ثم رغبهم وحذرهم نقض الميثاق الذي أخذ عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم
إذا جاءهم وذكر لهم بدء خلقهم حين خلقهم وشأن أبيهم آدم عليه السلام
وأمره وكيف صنع به حين خالف عن طاعته ثم قال {يَا بَنِي إِسْرائيلَ}
للأحبار من يهود {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}
أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاها به فرعون وقومه {أَوْفُوا
بِعَهْدِي} الذي أخذت في أعناقكم لنبي أحمد إذا جاءكم {أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ أنجز لكم ما وعدتكم على تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم
من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من
آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره {وَآمِنُوا بِمَا
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ
بِهِ} وعندكم من العلم فيه ما ليس عند غيركم {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[البقرة:40-41] أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة
ـــــــ
وعطف فزادهم الله وإن كان الفعل لا يعطف على الاسم ولا على مثل هذه
الجملة لو قلت: في الدار زيد فأعطيته درهما لم يجز ولكن لما كان في
معنى قوله {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كمعنى مرضت قلوبهم صح عطف الفعل
عليه.
وذكر قوله سبحانه {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:40] ووهم في التلاوة
(4/225)
برسولي وبما
جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أي
أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون
أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون
ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
ثم عدد عليهم أحداثهم فذكر لهم العجل وما صنعوا فيه وتوبته عليهم
وإقالته إياهم ثم قولهم {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}[ النساء: 153]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: جهرة أي ظاهرا لنا لا شيء يستره عنا. قال أبو الأخزر
الحماني واسمه قتيبة
يجهر أجواف المياه السدم
وهذا البيت في أرجوزة له. يجهر يقول يظهر الماء ويكشف عنه ما يستره من
الرمل وغيره. قال ابن إسحاق: وأخذ الصاعقة إياهم عند ذلك لغرتهم ثم
إحياؤه إياهم بعد موتهم وتظليله عليهم الغمام وإنزاله عليهم المن
والسلوى، وقوله لهم {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ}
[البقرة: 58] أي قولوا ما آمركم به أحط به ذنوبكم عنكم وتبديلهم ذلك من
قوله استهزاء بأمره وإقالته إياهم ذلك بعد هزئهم.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: المن: شيء كان يسقط في السحر على شجرهم فيجتنونه حلوا
ـــــــ
فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} كما وهم في أول السورة. وبنو إسرائيل: هم
بنو يعقوب وكان يسمى: إسرائيل أي سري الله لكن لم يذكروا في القراءة
إلا أضيفوا إلى
(4/226)
مثل العسل
فيشربونه ويأكلونه. قال أعشى بني قيس بن ثعلبة
لو أطعموا المن والسلوى مكانهم ... ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا
وهذا البيت في قصيدة له. والسلوى: طير واحدتها: سلواة ويقال إنها
السمانى، ويقال للعسل أيضا: السلوى. وقال خالد بن زهير الهذلي
وقاسمها بالله حقا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وهذا البيت في قصيدة له. وحطة أي حط عنا ذنوبنا.
قال ابن إسحاق: وكان من تبديلهم ذلك كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح
مولى التوأمة بنت أمية بن خلف، عن أبي هريرة ومن لا أتهم عن ابن عباس،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دخلوا الباب الذي أمروا أن
يدخلوا منه سجدا يزحفون وهم يقولون حنط في شعير".
قال ابن هشام: ويروى: حنطة في شعيرة
قال ابن إسحاق: واستسقاء موسى لقومه وأمره إياه أن يضرب بعصاه الحجر
فانفجرت لهم منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين يشربون منها، قد علم كل
سبط عينه التي منها يشرب وقولهم لموسى عليه السلام {لَنْ نَصْبِرَ
عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} [البقرة:
61] قال ابن هشام: الفوم الحنطة. قال أمية بن الصلت الثقفي:
فوق شيزي مثل الجوابي عليها ... قطع كالوذيل في نقي فوم
__________
إسرائيل ولم يسموا فيه بنو يعقوب ومتى، ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب لم
يسم إسرائيل وذلك لحكمة فرقانية وهو أن القوم لما خوطبوا بعبادة الله
وفكروا بدين أسلافهم موعظة لهم وتنبيها من غفلتهم سموا بالاسم الذي فيه
تذكرة بالله فإن
(4/227)
تفسير ابن هشام
لبعض الغريب:
قال ابن هشام: الوذيل قطع الفضة والفوم القمح واحدته فومة. وهذا البيت
في قصيدة له. {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] قال ابن إسحاق: فلم يفعلوا. ورفعه
الطور فوقهم ليأخذوا ما أوتوا ; والمسخ الذي كان فيهم إذ جعلهم قردة
بأحداثهم والبقرة التي أراهم الله عز وجل بها العبرة في القتيل الذي
اختلفوا فيه حتى بين الله لهم أمره بعد التردد على موسى عليه السلام في
صفة البقرة وقسوة قلوبهم بعد ذلك حتى كانت كالحجارة أو أشد قسوة. ثم
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} أي وإن
من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق {وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]
ثم قال لمحمد عليه الصلاة السلام ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ
مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] وليس قوله يسمعون
التوراة، أن كلهم قد سمعها، ولكنه فريق منهم أي خاصة.
قال ابن إسحاق، فيما بلغني عن بعض أهل العلم قالوا لموسى: يا موسى، قد
حيل بيننا وبين رؤية الله فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى عليه
السلام من ربه فقال له نعم مرهم فليطهروا، أو ليطهروا ثيابهم وليصوموا،
ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى بهم الطور ، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى
فوقعوا سجدا، وكلمه ربه فسمعوا كلامه تبارك وتعالى، يأمرهم وينهاهم حتى
عقلوا عنه ما
ـــــــ
إسرائيل اسم مضاف إلى الله تعالى في التأويل. ألا ترى: كيف نبه على هذا
المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين دعا إلى الإسلام قوما، يقال
لهم بنو عبد الله فقال لهم: "يا بني
(4/228)
سمعوا، ثم
انصرف بهم إلى بني إسرائيل فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به
وقالوا: حين قال موسى لبني إسرائيل إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال
ذلك الفريق الذي ذكر الله عز وجل إنما قال كذا وكذا، خلافا لما قال
الله لهم فهم الذين عنى الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي
بصاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة. {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ قَالُوا} لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به
عليهم فكان فيهم. فأنزل الله عز وجل فيهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ
بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[ البقرة:76] أي تقرون بأنه
نبي، وقد عرفتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبركم أنه
النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ; اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول
الله عز وجل {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام، عن أبي عبيدة إلا أماني إلا قراءة لأن الأمي الذي يقرأ
ولا يكتب. يقول لا يعلمون الكتاب إلا "أنهم" يقرءونه.
قال ابن هشام: عن أبي عبيدة ويونس أنهما تأولا ذلك عن العرب في قول
الله عز وجل حدثني أبو عبيدة بذلك.
قال ابن هشام: وحدثني يونس بن حبيب النحوي وأبو عبيدة أن العرب تقول
تمنى، في معنى قرأ. وفي كتاب الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]قال وأنشدني أبو
عبيدة النحوي:
ـــــــ
عبد الله إن الله قد حسن اسم أبيكم" يحرضهم بذلك على ما يقتضيه اسمهم
من العبودية لله فكذلك قوله سبحانه يا بني إسرائيل إنما ورد في معرض
التذكرة لهم
(4/229)
تمنى كتاب الله
أول ليله ... وآخره وافى حمام المقادر
وأنشدني أيضا:
تمنى كتاب الله في الليل خاليا ... تمني داود الزبور على رسل
وواحدة الأماني أمنية. والأماني ( أيضا ): أن يتمنى الرجل المال أو
غيره.
قال ابن إسحاق: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] أي لا
يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه وهم يجحدون نبوتك بالظن. {وَقَالُوا
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:
80]
دعوى اليهود قلة العذاب في الآخرة ورد الله عليهم:
قال ابن إسحاق: وحدثني مولى لزيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
واليهود تقول إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس في
النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة
وإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله في ذلك من قولهم
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ
كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي من عمل بمثل
أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به يحيط كفره بما له عند الله من حسنة
{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]
أي خلد أبدا. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] أي من آمن
بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم
أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا، لا انقطاع له.
قال ابن إسحاق: ثم قال الله عز وجل يؤنبهم {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ
بَنِي
__________
بدين أبيهم وعبوديته لله فكان ذكرهم بهذا الاسم أليق بمقام التذكرة
والتحريض من أن يقول لهم يا بني يعقوب ولما ذكر موهبته لإبراهيم
وتبشيره بإسحاق ثم يعقوب
(4/230)
إِسْرائيل} أي
ميثاقكم {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي تركتم ذلك كله ليس
بالتنقص. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ}[البقرة: 84]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: تسفكون تصبون. تقول العرب: سفك دمه أي صبه وسفك الزق أي
هراقه. قال الشاعر:
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال
قال ابن هشام: يعني " بالحال ": الطين الذي يخالطه الرمل وهو الذي تقول
له العرب: السهلة. وقد جاء في الحديث إن جبريل لما قال فرعون: {آمَنْتُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ}
[يونس:90]أخذ من حال البحر وحمأته فضرب به وجه فرعون. والحال مثل
الحمأة. قال ابن إسحاق: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} على أن هذا حق
من ميثاقي عليكم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي أهل الشرك حتى يسفكوا
دماءهم معهم ويخرجوهم من ديارهم معهم {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ} وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم {وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ} في كتابكم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة: 85], "أي" أتفادونهم
ـــــــ
كان لفظ يعقوب أولى بذلك المقام لأنها موهبة بعقب أخرى، وبشرى عقب بها
بشرى وإن كان اسم يعقوب عبرانيا، ولكن لفظه موافق للعربي في العقب
والتعقيب فانظر مشاكلة الاسمين للمقامين فإنه من باب النظر في إعجاز
القرآن
(4/231)
مؤمنين بذلك
وتخرجونهم كفارا بذلك. {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ
إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ} [البقرة:84 86] فأنبهم الله عز وجل بذلك من فعلهم وقد حرم
عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم.
فكانوا فريقين منهم بنو قينقاع ولفهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة
ولفهم حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو
قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من
الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم
التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون
الأوثان. لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا، ولا
حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أساراهم تصديقا لما
في التوراة، وأخذ به بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم
في أيدي الأوس وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم ويطلون ما
أصابوا من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك
عليهم.
يقول الله تعالى حين أنبهم بذلك {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة: من الآية85] أي تفاديه بحكم التوراة
وتقتله وفي حكم التوراة أن لا تفعل تقتله وتخرجه من داره وتظاهر عليه
من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا. ففي ذلك من
فعلهم مع الأوس والخزرج. فيما بلغني - نزلت هذه القصة.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}
أي الآيات التي وضعت على يديه من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة
الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وإبراء الأسقام والخبر عن كثير
من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم وما رد عليهم من التوراة مع
ـــــــ
وبلاغة ألفاظه وتنزيل الكلام في منازله اللائقة به.
(4/232)
الإنجيل، الذي
أحدث الله إليه. ثم ذكر كفرهم بذلك كله فقال { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} ثم قال تعالى: {وَقَالُوا
قُلُوبُنَا غُلْفٌ} في أكنة يقول الله عز وجل بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
[البقرة:89]
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال
قالوا: فينا والله وفيهم نزلت هذه القصة كنا قد علوناهم ظهرا في
الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث
الآن نتبعه قد أظل زمانه نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله
صلى الله عليه وسلم من قريش فاتبعناه كفروا به. يقول الله {فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي أن جعله في غيرهم {فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:
90]تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ} أي اعترفوا به واحتملوه. قال أعشى
بني قيس بن ثعلبة:
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
قال ابن هشام: يسرتها: أجلستها للولادة. وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: فالغضب على الغضب لغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من
التوراة، وهي معهم وغضب بكفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي
أحدث الله إليهم.
ثم أنبهم برفع الطور عليهم واتخاذهم العجل إلها دون ربهم يقول الله
تعالى
ـــــــ
.............................................
(4/233)
لمحمد صلى الله
عليه وسلم {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ
اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94] أي ادعوا بالموت على أي الفريقين
أكذب عند الله فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] أي بعلمهم بما عندهم
من العلم بك، والكفر بذلك فيقال لو تمنوه يوم قال ذلك لهم ما بقي على
وجه الأرض يهودي إلا مات.
ثم ذكر رغبتهم في الحياة الدنيا وطول العمر فقال تعالى:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} اليهود {وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:
96] أي ما هو بمنجيه من العذاب وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت
فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما
ضيع مما عنده من العلم. ثم قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
[البقرة: 97]
سؤال اليهود الرسول وإجابته لهم عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر
بن حوشب الأشعري أن نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت ذلك اتبعناك
وصدقناك وآمنا بك. قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم
بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقنني ؟ قالوا: نعم قال
فاسألوا عما بدا لكم قالوا: فأخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة
من الرجل ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدكم بالله
وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة
المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه ؟ قالوا: اللهم
نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك ؟ فقال أنشدكم بالله وبأيامه عند بني
إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه
يقظان ؟ فقالوا: اللهم نعم قال فكذلك نومي،
ـــــــ
.......................................
(4/234)
تنام عيني
وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال أنشدكم
بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب
إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى، فعافاه الله منها، فحرم
على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله فحرم على نفسه لحوم الإبل
وألبانها ؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح ؟ قال أنشدكم
بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبريل وهو الذي يأتيني ؟
قالوا: اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة
وبسفك الدماء ولولا ذلك لاتبعناك ، قال فأنزل الله عز وجل فيهم {قُلْ
مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] إلى قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا
عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ )وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ} أي السحر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:
102]
إنكار اليهود نبوة سليمان بن داود عليه السلام ورد الله عليهم
قال ابن إسحاق: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -
لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين قال بعض أحبارهم ألا تعجبون من
محمد، يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا، والله ما كان إلا ساحرا. فأنزل
الله تعالى في ذلك من قولهم {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} أي باتباعهم السحر وعملهم به. {وَمَا أُنْزِلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ
مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102]
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان
يقول الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما
كان على الظهر فإن ذلك كان يقرب للقربان فتأكله النار
ـــــــ
.......................................
(4/235)
كتابه صلى الله
عليه وسلم إلى يهود خيبر:
قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر، فيما
حدثني مولى لآل زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب
موسى وأخيه والمصدق لما جاء به موسى: ألا إن الله قد قال لكم يا معشر
أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى
سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29]
وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم وأنشدكم بالذي أطعم من كان
قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى
أنجاهم من فرعون وعمله إلا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم
أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم. قد
تبين الرشد من الغي - فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: شطؤه فراخه وواحدته شطأة. تقول العرب: قد أشطأ الزرع إذا
أخرج فراخه. وآزره عاونه فصار الذي قبله مثل الأمهات. قال امرؤ القيس
بن حجر الكندي:
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش غانمين وخيب
وهذا البيت في قصيدة له. وقال حميد بن مالك الأرقط أحد بني ربيعة بن
مالك بن زيد مناة
ـــــــ
.......................................
(4/236)
زرعا وقضبا
مؤزر النبات
وهذا البيت في أرجوزة له. وسوقه غير مهموز جمع ساق لساق الشجرة.
ما نزل في أبي ياسر وأخيه:
قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود
الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليلبسوا الحق بالباطل - فيما ذكر لي عن
عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله بن رئاب - أن أبا ياسر بن أخطب مر
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة البقرة {الم ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فأتى أخاه حيي بن أخطب في
رجال من يهود فقال تعلموا والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} فقالوا: أنت سمعته ؟ فقال نعم فمشى حيي بن
أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا
له يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك: {الم ذَلِكَ
الْكِتَابُ} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، قالوا: أجاءك
بها جبريل من عند الله ؟ فقال نعم قالوا: لقد بث الله قبلك أنبياء ما
نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أكل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب،
وأقبل على من معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون
فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى
وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد
هل مع هذا غيره ؟ قال نعم قال ماذا ؟ قال {المص} [لأعراف:1]قال هذه
والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد
تسعون فهذه إحدى وستون ومائة سنة هل مع هذا يا
ـــــــ
حديث أبي ياسر بن أخطب:
فصل: وذكر ابن إسحاق حديث أبي ياسر بن أخطب وأخيه حيي بن أخطب حين سمعا
{المص} [لأعراف:1]ونحوها من الحروف وأنهم أخذوا تأويلها من حروف أبجد
إلى قوله لعله قد جمع لمحمد وأمته هذا كله. قال المؤلف وهذا القول من
أحبار يهود وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن
(4/237)
محمد غيره ؟
قال نعم {الر}[إبراهيم ، هود يوسف الحجر يونس 1]قال هذه والله أثقل
وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون
ومائتان هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال نعم {المر}[الرعد:1] قال هذه
والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء
مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة ثم قال لقد لبس علينا أمرك يا محمد
حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا عنه فقال أبو ياسر لأخيه
حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد
إحدى وسبعون
ـــــــ
يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة فإن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لم يكذبهم فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم. وقال في حديث آخر
"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وبرسوله" . وإذا
كان في حد الاحتمال وجب أن يفحص عنه في الشريعة هل يشير إلى صحته كتاب
أو سنة فوجدنا في التنزيل {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ووجدنا في حديث زمل الخزاعي حين
قص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا، وقال فيها: " رأيتك يا
رسول الله على منبر له سبع درجات ؟ وإلى جنبه ناقة عجفاء كأنك تبعثها،
ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الناقة بقيام الساعة التي أنذر بها،
وقال في المنبر ودرجاته الدنيا: سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا"
والحديث وإن كان ضعيف الإسناد فقد روي موقوفا على ابن عباس من طرق صحاح
أنه قال الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة وبعث رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في آخر يوم منها. وقد مضت منه سنون أو قال مئون وصحح أبو
جعفر الطبري هذا الأصل وعضده بآثار وذكر قول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - "بعثت أنا والساعة كهاتين، وإنما سبقتها بما سبقت هذه هذه"
يعني: الوسطى والسبابة وأورد هذا
(4/238)
وإحدى وستون
ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع
وثلاثون سنة فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات
نزلت فيهم {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]
قال ابن إسحاق: وقد سمعت من لا أتهم من أهل العلم يذكر أن هؤلاء الآيات
إنما أنزلن في أهل نجران، حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسألونه عن عيسى ابن مريم عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنه قد
سمع أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود ولم يفسر ذلك لي. فالله
أعلم أي ذلك كان.
ـــــــ
الحديث من طرق كثيرة صححها وأورد منها قوله عليه السلام: "لن يعجز الله
أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم" يعني: خمسمائة عام وقد خرج هذا الحديث
الأخير أبو داود أيضا.
قال الطبري: وهذا في معنى ما قبله يشهد له ويبينه فإن الوسطى تزيد على
السبابة بنصف سبع أصبع كما أن نصف يوم من سبعة نصف سبع.
قال المؤلف وقد مضت الخمسمائة من وفاته إلى اليوم بنيف عليها، وليس في
قوله: "لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم" ما ينفي الزيادة على
النصف ولا في قوله: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ما يقطع به على صحة
تأويله فقد قيل في تأويله غير هذا، وهو أن ليس بينه وبين الساعة نبي
غيره ولا شرع غير شرعه مع التقريب لحينها، كما قال سبحانه {اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] ولكن إذا قلنا: إنه - عليه السلام -
بعث في الألف الآخر بعدما مضت منه سنون ونظرنا بعد إلى الحروف المقطعة
في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها: قولك:
ألم يسطع نص حق كره
ثم نأخذ العدد على حساب أبي جاد فنجد ق مائة و: ر مائتين و:
(4/239)
كفر اليهود به
صلى الله عليه وسلم بعد استفتاحهم به وما نزل في ذلك
قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به
وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن
معرور، أخو بني سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم
تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا
بصفته فقال سلام بن مشكم، أحد بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو
بالذي كنا نذكره لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم { وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
[البقرة:89]
ـــــــ
ما نزل في نكران مالك بن الصيف العهد إليهم بالنبي:
قال ابن إسحاق: وقال مالك بن الصيف، حين بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه
والله ما عهد إلينا في محمد عهد، وما أخذ له علينا من ميثاق. فأنزل
الله فيه {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]
س ثلاثمائة فهذه ستمائة و: ع سبعين و: ص ستين فهذه سبعمائة وثلاثون و:
ن خمسين و: ك عشرين فهذه ثمانمائة و: م أربعين و: ل ثلاثين فهذه
ثمانمائة وسبعون و: ي عشرة. و: ط تسعة و: أ واحد فهذه ثمانمائة وتسعون
و: ح ثمانية و: ه خمسة فهذه تسعمائة وثلاثة ولم يسم الله سبحانه في
أوائل السور إلا هذه الحروف فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها وبعض
فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدمناه في حديث الألف
السابع الذي بعث فيه عليه السلام غير أن الحساب محتمل أن يكون من مبعثه
أو من وفاته أو من هجرته وكل قريب بعضه من بعض فقد جاء
(4/240)
ما نزل في قول
أبي صلوبا ما جئتنا بشيء نعرفه:
وقال أبو صلوبا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما
جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها. فأنزل الله
تعالى في ذلك من قوله {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99]
ما نزل في قول ابن حريملة ووهب :
وقال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا
محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك
ونصدقك. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
[البقرة:108]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: سواء السبيل وسط السبيل.
قال حسان بن ثابت:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
ما نزل في صد حيي وأخيه الناس عن الإسلام:
قال ابن إسحاق: وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب، من أشد
ـــــــ
أشراطها، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة وقد روي أن المتوكل العباسي سأل جعفر
بن عبد الواحد القاضي، وهو عباسي أيضا: عما بقي من الدنيا، فحدثه بحديث
يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " إن أحسنت أمتي،
فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة وإن أساءت فنصف يوم" ففي هذا
الحديث تتميم للحديث المتقدم وبيان له إذ قد انقضت الخمسمائة والأمة
باقية والحمد لله.
(4/241)
يهود للعرب
حسدا، إذ خصهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في
رد الناس عن الإسلام بما استطاعا. فأنزل الله تعالى فيهما: {وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[البقرة:109]
تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل فقال رجل
من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر
بالتوراة فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
[البقرة:113] ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به أي يكفر اليهود
بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى عليه
السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام وفي الإنجيل ما جاء به عيسى عليه
السلام من تصديق موسى عليه السلام وما جاء به من التوراة من عند الله
وكل يكفر بما في يد صاحبه.
ما نزل في طلب ابن حريملة أن يكلمه الله:
قال ابن إسحاق: وقال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا
محمد إن كنت
ـــــــ
معاني الحروف في أوائل السور:
فصل : ولهذه الحروف في أوائل السور معان جمة وفوائد لطيفة وما كان الله
تعالى لينزل في الكتاب ما لا فائدة فيه ولا ليخاطب نبيه وذوي ألباب من
صحبه بما لا يفهمون وقد أنزله بيانا للناس وشفاء لما في الصدور ففي
تخصيصه هذه الحروف الأربعة عشر بالذكر دون غيرها حكمة بل حكم وفي
إنزالها مقطعة على هيئة
(4/242)
رسولا من الله
كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه. فأنزل الله تعالى في ذلك من
قوله {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ
أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة:118]
ما نزل في سؤال ابن صوريا للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يتهود:
وقال عبد الله بن صوريا الأعور الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهد وقالت النصارى مثل ذلك.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قول عبد الله بن صوريا وما قالت النصارى:
{وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]
ثم القصة إلى قول الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]
ـــــــ
التهجي فوائد علمية وفقهية وفي تخصيصه إياها بأوائل السور وفي أن كانت
في بعض السور دون بعض فوائد أيضا، وفي اقتران الألف باللام وتقدمها
عليها معان وفوائد وفي إرداف الألف واللام بالميم تارة وبالراء أخرى،،
ولا توجد الألف واللام في أوائل السور إلا هكذا مع تكررها ثلاث عشرة
مرة فوائد أيضا، وفي إنزال الكاف قبل الهاء والهاء قبل الياء ثم العين
ثم الصاد من {كهيعص} [مريم:1] معان أكثرها تنبه عليها آيات من الكتاب
وتبين المراد بها لمن تدبرها. والتدبر والتذكر واجب على أولي الألباب
والخوض في إيراد هذه المعاني، والقصد لإيضاح ما لاح لي عند الفكر
والنظر فيها، مع إيراد الشواهد على ذلك من كتاب وأثر وعربية ونظر
يخرجنا عن مقصود الكتاب وينأى بنا عن موضوعه والمراد به ويقتضي إفراد
جزء أشرح ما أمكن من ذلك ولعله أن يكون إن ساعد القدر والله المستعان
وهو ولي التوفيق لا شريك له.
(4/243)
مقالة اليهود
عند صرف القبلة إلى الكعبة:
قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب
على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ;
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب
بن الأشرف ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف
والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق
فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على
ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك،
وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه فأنزل الله تعالى فيهم {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ
يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي من الفتن أي الذين ثبت الله {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم
نبيكم واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة وطاعتكم نبيكم فيها: أي
ليعطينكم أجرهما جميعا {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
ثم قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ}[ البقرة: ،142- 144 ]
ـــــــ
ذكر تحويل القبلة:
فصل: وذكر تحويل القبلة وما قالته جماعة يهود حين قالوا: يا محمد ما
ولاك عن قبلتك، وهم السفهاء من الناس فيهم نزلت هذه الآية. وقال سيقول
بلفظ
(4/244)
تفسير ابن هشام
لبعض الغريب
قال ابن هشام: شطره نحوه وقصده. قال عمرو بن أحمر الباهلي - وباهلة بن
يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان - يصف ناقة له.
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة ... قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
وهذا البيت في قصيدة له. وقال قيس بن خويلد الهذلي يصف ناقته
إن النعوس بها داء مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: والنعوس ناقته وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير من قوله
وهو حسير.
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ
أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ
بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ} [البقرة:144- 145]
قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة147 ]
ـــــــ
الاستقبال لتقدم العلم القديم بأنهم سيقولون ذلك أي لم آمركم بتحويلها
إلا وقد علمت أن سيقولون ما قالوه وقد ذكرنا في حديث الهجرة قصة البراء
بن معرور فوائد في معنى تحويل القبلة فلتنظر هنالك وأنشد في تفسير
الشطر بيت ابن أحمر:
(4/245)
كتمانهم ما في
التوراة من الحق:
وسأل معاذ بن جبل، أخو بني سلمة وسعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل
وخارجة بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في
التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم عنه. فأنزل الله تعالى فيهم
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}
[البقرة:159]
جوابهم للنبي عليه الصلاة والسلام حين دعاهم إلى الإسلام:
قال ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى
الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة،
ومالك بن عوف بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم
وخيرا منا. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]
ـــــــ
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة ... قد قارب العقد من إيفادها الحقبا
وألفيت في حاشية الشيخ على هذا البيت ما هذا نصه قال من إيفادها: من
إشرافها، كذا قال محمد بن عبد الله البرقي، وقال كارب موضع قارب ووقع
في شعر ابن أحمر:
تغدو بنا عرض جمع وهي موقدة ... قد قارب الغرض من إيفادها الحقبا
تعدو: من العدو بنا وبرحلي: يعني غلامه. عرض جمع : يعني مكة ، وعرض أحب
إلي وعرض كثرة الناس عن الأصمعي، وموفدة أي مشرفة. أوفد إذا أشرف وروى
غيره وهي عاقدة يريد عنقها لاويتها والغرض البطان وهو حزام الرحل. من
إيفادها، أي إشرافها، وقد اقتادت نصبت عنقها وعصرت بذنبها
(4/246)
جمعهم في سوق
بني قينقاع
ولما أصاب الله عز وجل قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يهود في سوق بني قينقاع، حين قدم المدينة ، فقال: "يا معشر يهود أسلموا
قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا" ، فقالوا له يا محمد لا
يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال
إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل
الله تعالى في ذلك من قولهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12، 13].
__________
وتخامصت ببطنها فقرب كل واحد من الغرض والحقب من صاحبه بذلك. هنا انتهى
ما كتبه الشيخ على هذا البيت وأوردته وقبل البيت
أنشأت أسأله عن حال رفقته ... فقال حي فإن الركب قد نصبا
ما أنزل الله في بني قينقاع
فصل وذكر ما أنزل الله سبحانه في بني قينقاع وقولهم للنبي صلى الله
عليه وسلم لو حاربتنا، لعلمت أنا نحن الناس {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}
[آل عمران:12، 13] فمن قرأه يرونهم بالياء فمعناه أن الكفار يرون
المؤمنين مثليهم وإن كانوا أقل منهم لما كثرهم بالملائكة. فإن قيل وكيف
وهو يقول في آية أخرى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [لأنفال:
44] قيل كان هذا قبل القتال عندما حزر الكفار المؤمنين فرأوهم قليلا،
فتجاسروا عليهم ثم أمدهم الله بالملائكة فرأوهم كثيرا فانهزموا، وقيل
إن الهاء في يرونهم عائدة على الكفار وإن المؤمنين رأوهم مثليهم وكانوا
ثلاثة أمثالهم فقللهم في عيون المؤمنين وأما من قرأها بالتاء فيجوز أن
يكون الخطاب لليهود أي ترون المشركين يوم بدر مثلي المؤمنين وذلك أنهم
كانوا ألفا، فانخذل عنهم الأخنس بن شريق ببني زهرة فصاروا سبعمائة
(4/247)
دخوله صلى الله
عليه وسلم بيت المدراس:
قال ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود
فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد على أي دين
أنت يا محمد ؟ قال: "على ملة إبراهيم ودينه" قالا: فإن إبراهيم كان
يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلم إلى التوراة، فهي
بيننا وبينكم فأبيا عليه" . فأنزل الله تعالى فيهما: {أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ
مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:23، 24]
اختلاف اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام
وقال أحبار يهود ونصارى نجران، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم فتنازعوا، فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت
النصارى من أهل نجران: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله عز وجل
فيهم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:65، 68]
__________
أو نحوها، ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أي ترون أيها المشركون
المؤمنين مثليهم حين أمدهم الله بالملائكة فيعود الكلام إلى المعنى
الأول الذي قدمناه في قراءة من قرأ بالياء. وفي الآية تخليط عن الفراء
أضربنا عن ذكره وجل ما ذكرناه آنفا مذكور في التفاسير بألفاظ مختلفة.
(4/248)
ما نزل فيما هم
به بعضهم من الإيمان غدوة والكفر عشية:
وقال عبد الله بن صيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض تعالوا
نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم
دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه فأنزل الله تعالى فيهم {
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ
إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل
عمران:71 - 73]
ما نزل في قول أبي رافع والنجراني أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى
عيسى:
وقال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل
نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد منا
يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ وقال رجل من أهل
نجران نصراني، يقال له الربيس "ويروى: الريس، والرئيس" : أوذاك تريد
منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني
الله ولا أمرني" أو كما قال. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما: {مَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} إلى قوله
تعالى: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79- 80]
قال ابن هشام: الربانيون العلماء الفقهاء السادة واحدهم رباني.
__________
وذكر ابن هشام في الربانيين أنهم العلماء الفقهاء السادة وفي البخاري
عن بعض أهل العلم قال الربانيون الذين يربون الناس بصغار العلم قبل
كباره وقيل نسبوا إلى علم الرب والفقه فيما أنزل وزيدت فيه الألف
والنون لتفخيم الاسم وأنشد ابن هشام:
(4/249)
قال الشاعر:
لو كنت مرتهنا في القوس أفتنني ... منها الكلام ورباني أحبار
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: القوس صومعة الراهب. وأفتنني، لغة تميم. وفتنني، لغة
قيس. قال جرير
لا وصل إذ صرمت هند ولو وقفت ... لاستنزلتني وذا المسحين في القوس
أي صومعة الراهب. والرباني: مشتق من الرب وهو السيد. وفي كتاب الله
فيسقي ربه خمرا، أي سيده.
قال ابن إسحاق: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلعمران:80]
__________
لو كنت مرتهنا في القوس أفتنني ... منها الكلام ورباني أحبار
وقال القوس الصومعة ومن كلام العرب: أنا بالقوس وأنت بالقرقوس فكيف
نجتمع ؟ وقال في أفتنني: هي لغة تميم وفرق سيبويه بين فتنته وأفتنته
وجعله من قول الخليل قال أفتنته صيرته مفتتنا أو نحو هذا، وفتنته، جعلت
فيه فتنة كما تقول كحلته جعلت في عينيه كحلا، ومآل هذا الفرق إلى أن
فتنته صرفته فجاء على وزنه لأن المفتون مصروف عن حق وأفتنته بمعنى
أضللته وأغويته، فجاء على وزن ما هو في معناه وأما فتنت الحديدة في
النار فعلى وزن فعلت، لا غير لأنها في معنى: خبرتها، وبلوتها ونحو ذلك.
(4/250)
ما نزل في أخذ
الميثاق عليهم:
قال ابن إسحاق: ثم ذكر ما أخذ الله عليهم وعلى أنبيائهم من الميثاق
بتصديقه إذ هو جاءهم وإقرارهم فقال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِين} [آل عمران:81] إلى آخر القصة.
سعيهم في الوقيعة بين الأنصار:
قال ابن إسحاق: ومر شأس بن قيس، وكان شيخا قد عسا، عظيم الكفر شديد
الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الأوس والخزرج. في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه
ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان
بينهم من العداوة في الجاهلية فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد
لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من
يهود كان معهم فقال اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان
قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.
شيء عن يوم بعاث:
وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ
للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد
بن حضير ; وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعا.
قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :
على أن قد فجعت بذي حفاظ ... فعاودني له حزن رصين
فإما تقتلوه فإن عمرا ... أعض برأسه عضب سنين
ـــــــ
...........................................
(4/251)
وهذان البيتان
في قصيدة له. وحديث يوم بعاث أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه
ما ذكرت من القطع.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب :
قال ابن هشام: سنين مسنون من سنه إذا شحذه.
قال ابن إسحاق: ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب
رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من
الأوس، وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما
لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد
فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - السلاح السلاح. فخرجوا
إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من
أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى
الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع
به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم" ،
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من
الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس. فأنزل الله
تعالى في شأس بن قيس وما صنع { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98- 99] وأنزل الله في أوس بن
قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما
أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
ـــــــ
.........................................
(4/252)
مُسْتَقِيمٍ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إلى قوله تعالى
{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 100- 105]
ما نزل في قولهم ما آمن إلا شرارنا:
قال ابن إسحاق: ولما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية، وأسيد بن
سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في
الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود أهل الكفر منهم ما آمن بمحمد ولا
اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا
إلى غيره. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113].
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: {آنَاءَ اللَّيْلِ} ساعات الليل وواحدها: إني. قال
المتنخل الهذلي واسمه مالك بن عويمر يرثي أثيلة ابنه :
حلو ومر كعطف القدح شيمته ... في كل إني قضاه الليل ينتعل
وهذا البيت في قصيدة له. وقال لبيد بن ربيعة يصف حمار وحش
يطرب آناء النهار كأنه ... غوي سقاه في التجار نديم
وهذا البيت في قصيدة له ويقال إني مقصور فيما أخبرني يونس.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114].
ـــــــ
تفسير آناء الليل:
فصل : وذكر ابن هشام في تفسير آناء الليل قال واحد الآناء إني واستشهد
عليه بقول الهذلي ثم أغرب بما حدثه به يونس فقال ويقال إني فيما حدثني
يونس بن حبيب وهذا الذي قاله آخرا هو لغة القرآن قال الله تعالى:
{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]
(4/253)
ما نزل في نهي
المسلمين عن مباطنة اليهود:
قال ابن إسحاق: وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما
كان بينهم من الجوار والحلف فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي تؤمنون بكتابكم وبما مضى من
الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم
لكم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا
عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}
[آل عمران: ،118- 119] إلى آخر القصة.
ما كان بين أبي بكر وفنحاص:
ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود فوجد منهم ناسا كثيرا قد
اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه
حبر من أحبارهم يقال له أشيع فقال أبو بكر لفنحاص ويحك يا فنحاص اتق
الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله قد جاءكم بالحق من
عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر
والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر لأنه إلينا لفقير وما نتضرع
إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني ولو كان عنا
غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم ينهاكم
ـــــــ
ذكر جمل من الآيات المنزلة في قصص الأحبار
فصل: وذكر ابن إسحاق جملا من الآيات المنزلة في قصص الأحبار ومسائلهم
كلها واضحة والتكلم عليها يخرج عن غرض الكتاب إلى تفسير القرآن وفي
جملتها قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 42] وقال الفراء
في أيان هي كلمتان جعلت واحدة والأصل أي آن والآن والأوان بمعنى واحد
كما يقال راح ورياح وأنشد:
(4/254)
عن الربا
ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا. قال فغضب أبو بكر فضرب وجه
فنحاص ضربا شديدا، وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم
لضربت رأسك، أي عدو الله. قال فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لأبي بكر "ما حملك على ما صنعت" ؟ فقال أبو بكر يا رسول الله إن
عدو الله قال قولا عظيما، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال
ذلك غضبت لله مما قال وضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك.
فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر {لَقَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
[آل عمران:181]
ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما بلغه في ذلك من الغضب
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] يعني فنحاص وأشيع وأشباههما من
الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من
الضلالة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، أن يقول
ـــــــ
نشاوى تسافوا بالرياح المفلفل
وقد ذكر الهروي في أيان وجها آخر قال يجوز أن يكون أصله أيوان فاندغمت
الياء في الواو مثل قيام.
(4/255)
الناس علماء
وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا حق ويحبون أن يقول الناس قد
فعلوا.
أمرهم المؤمنين بالبخل:
قال ابن إسحاق: وكان كردم بن قيس، حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب،
ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن
التابوت يأتون رجالا من الأنصار كانوا يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى
عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام
يكون. فأنزل الله فيهم {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي من
التوراة، التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}إلى قوله {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ
عَلِيماً} [النساء: 37- 39].
جحدهم الحق:
قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود إذا كلم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوى لسانه وقال أرعنا سمعك يا محمد
حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه. فأنزل الله فيه {أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى
بِاللَّهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا} "أي راعنا سمعك" {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
قَلِيلاً} [النساء: 44- 46] وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء
من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا
ـــــــ
.....................................................
(4/256)
الأعور وكعب بن
أسد، فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون
أن الذي جئتكم به لحق، قالوا: ما تعرف ذلك يا محمد فجحدوا ما عرفوا،
وأصروا على الكفر فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: نطمس نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم
ولا شيء مما يرى في الوجه وكذلك {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:
37] المطموس العين الذي ليس بين جفنيه شق. ويقال طمست الكتاب والأثر
فلا يرى منه شيء. قال الأخطل واسمه الغوث بن هبيرة بن الصلت التغلبي
يصف إبلا كلفها ما ذكر:
وتكليفناها كل طامسة الصوى ... شطون ترى حرباءها يتململ
وتكليفناها كل طامسة الصوى شطون ترى حرباءها يتململ وهذا البيت في
قصيدة له. قال ابن هشام: واحدة الصوى: صوة. والصوى: الأعلام التي يستدل
بها على الطرق والمياه. قال ابن هشام: يقول مسحت فاستوت بالأرض فليس
فيها شيء ناتئ.
النفر الذين حزبوا الأحزاب:
قال ابن إسحاق: وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة
حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي
الحقيق وأبو عمار ووحوح بن عامر وهوذة بن قيس. فأما وحوح وأبو عمار
وهوذة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش
قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم دينكم خير أم
دين محمد ؟
ـــــــ
..........................................
(4/257)
فسألوهم
فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله
تعالى فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: الجبت عند العرب: ما عبد من دون الله تبارك وتعالى.
والطاغوت كل ما أضل عن الحق. وجمع الجبت جبوت وجمع الطاغوت طواغيت.
قال ابن هشام: وبلغنا عن ابن أبي نجيح أنه قال الجبت السحر والطاغوت
الشيطان {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}
قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}
[النساء:54]
إنكارهم التنزيل:
قال ابن إسحاق: وقال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل
على بشر من شيء بعد موسى. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما: {إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ
وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:163-
165]
ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم فقال لهم "أما
والله إنكم لتعلمون أني رسول من الله إليكم" قالوا: ما نعلمه وما نشهد
عليه. فأنزل الله تعالى في ذلك
ـــــــ
............................................................
(4/258)
من قولهم
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
[النساء:166] اجتماعهم على طرح الصخرة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم
اجتماعهم على طرح الصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية
العامريين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري. فلما خلا بعضهم ببعض قالوا:
لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن رجل يظهر على هذا البيت فيطرح عليه
صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا، فأتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخبر، فانصرف عنهم فأنزل الله تعالى فيه وفيما أراد هو
وقومه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]
ادعاؤهم أنهم أحباء الله:
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشأس
بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا:
ما تخوفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى فأنزل
الله تعالى فيهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة:18]
ـــــــ
وذكر آية التيه وحبس بني إسرائيل فيه أربعين سنة عقوبة من الله تعالى
لمخالفتهم أمره حين فزعوا من الجبارين لعظم أجسامهم وقال لهم رجلان
وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوفيا من سبط يامين {ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}
[المائدة: 23] فلما عصوهما دعا عليهم موسى،
(4/259)
إنكارهم نزول
كتاب بعد موسى عليه السلام:
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام
ورغبهم فيه وحذرهم غير الله وعقوبته فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به
فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا
الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل
مبعثه وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حريملة، ووهب بن يهوذا: ما قلنا
لكم هذا قط، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشرا ولا نذيرا
بعد فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ
أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ
جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[المائدة:19]
ـــــــ
فتاهوا، أي تحيروا، وكانوا ستمائة ألف مقاتل فتاهوا في ستة فراسخ من
الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث أمسوا. وفي
ذلك السنين أنزل عليهم المن والسلوى، لأنهم شغلوا عن المعاش بالتيه في
الأرض وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال
وفيها استسقى لهم موسى، فأمر أن يأخذ حجرا من الطور ، فيضربه بعصاه
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وفيها ظلل عليهم الغمام لأنهم كانوا في
البرية فظللوا من الشمس وذلك أن موسى كان ندم حين دعا عليهم لما رأى من
جهدهم وحيرتهم في التيه فكان يدعو الله لهم في هذه الأمور لئلا يهلكوا
في التيه جوعا أو عريا أو عطشا، فلما آسى عليهم قال له {فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] أي للذين فسقوا أي خرجوا
عن أمرك - ومات في أيام التيه جميع كبارهم إلا يوشع وكالب فما دخل
الأرض على الجبارين إلا خلوفهم وأبناؤهم وقيل إن موسى مات في تلك
السنين أيضا ولم يشهد الفتح مع يوشع وقيل بل كان مع يوشع حين افتتحها.
(4/260)
ثم قص عليهم
خبر موسى وما لقي منهم وانتقاضهم عليه وما ردوا عليه من أمر الله حتى
تاهوا في الأرض أربعين سنة عقوبة.
رجوعهم إلى النبي في حكم الرجم:
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مزينة من أهل
العلم يحدث سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم أن أحبار يهود اجتمعوا
في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد
زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت فقالوا: ابعثوا بهذا
الرجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما، وولوه الحكم
عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية -
ـــــــ
ذكر المرجومة من اليهود:
فصل وذكر المرجومة من اليهود، وأن صاحبها الذي رجم معها حنا عليها
بنفسه ليقيها الحجارة. حنا بالحاء تقيد في إحدى الروايتين عن أبي
الوليد وكذلك في الموطأ من رواية يحيى، فجعل يحنى عليها، وفي الرواية
الأخرى عن أبي الوليد جنأ بالجيم والهمز وعلى هذه الرواية فسره أبو
عبيد، والجناء الانحناء قال الشاعر عوف بن محلم.
وبدلتني بالشطاط الجنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وفي حنوه عليها من الفقه أنهما لم يكونا في حفرتين كما ذهب إليه كثير
من الفقهاء في سنة الرجم وكذلك روي عن علي رحمه الله أنه حفر لشراحة
بنت مالك الهمدانية حين رجمها. وأما الأحاديث فأكثرها على ترك الحفر
للمرجوم واسم هذه المرجومة بسرة فيما ذكر بعض أهل العلم وفي قصتهما
أنزل الله {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} الآية
إلى قوله {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}
(4/261)
والتجبية الجلد
بحبل من ليف مطلي بقار ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وتجعل
وجوههما من قبل أدبار الحمارين - فاتبعوه فإنما هو ملك وصدقوه وإن هو
حكم فيهما بالرجم فإنه نبي، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه.
فأتوه فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت
فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال يا معشر يهود أخرجوا إلي
علماءكم فأخرج له عبد الله بن صوريا.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض بني قريظة أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ مع
ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا.
فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد
الله بن صوريا: هذا من أعلم من بقي بالتوراة.
قال ابن هشام: من قوله " وحدثني بعض بني قريظة - إلى أعلم من بقي
بالتوراة " من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله.
فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا
فألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة يقول له يا ابن صوريا،
أنشدك الله وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل هل
ـــــــ
[المائدة:43-44] يعني محمدا، ومن حكم بالرجم قبله لأنه حكم بالرجم
لأولئك اليهود الذين تحاكموا إليه {وَالرَّبَّانِيُّونَ} . يعني: عبد
الله بن سلام وابن صوريا من الأحبار {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ} لأنهم حفظوا أن الرجم في التوراة، لكنهم بدلوا وغيروا، وكانوا
عليه شهداء لأنهم شهدوا بذلك على اليهود إلى قوله {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] فحكم بالرجم رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهذا يبين لك أن الرجم في القرآن وعلى هذا فسره
مالك فيما بلغني، ولذلك قال عليه السلام للرجلين لأحكمن بينكما بكتاب
الله فحكم بالرجم كما في الكتاب المنزل على موسى، وعلى محمد صلى الله
عليهما، وقد قيل في معنى
(4/262)
تعلم أن الله
حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟ قال اللهم نعم أما والله
يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك. قال فخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني
غنم بن مالك بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيهم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا،
وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه. ثم قال {يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} أي الرجم {فَاحْذَرُوا} [المائدة:
41] فاحذروا إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن يزيد بن ركانة عن إسماعيل بن طلحة بن
إبراهيم عن ابن عباس، قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما،
فرجما بباب مسجده فلما وجد اليهودي مس الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ
عليها، يقيها مس الحجارة حتى قتلا جميعا.
قال وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا
منهما.
ـــــــ
الحديث أقوال غير هذا، والصحيح ما ذكرنا.
واستشهد ابن هشام في تفسير الجهرة بقول أبي الأخزر الحماني. واسمه
قتيبة وحمان هو ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فقال:
يجهر أفواه المياه السدم
(4/263)
قال ابن إسحاق:
وحدثني صالح بن كيسان، عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن عبد الله بن
عمر، لما حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، دعاهم بالتوراة
وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم قال فضرب عبد الله بن
سلام يد الحبر ثم قال هذه يا نبي الله آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحكم يا معشر يهود ما دعاكم
إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم" ؟ قال فقالوا: أما والله إنه قد كان
فينا يعمل به حتى زنى رجل منا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف
فمنعه الملك من الرجم ثم زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله
حتى ترجم فلانا، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية
وأماتوا ذكر الرجم والعمل به. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به" ثم أمر بهما فرجما عند باب
مسجده قال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما.
ظلمهم في الدية:
قال ابن إسحاق: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس: أن
الآيات من المائدة التي قال الله فيها: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إنما أنزلت في الدية بين بني
النضير وبين بني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير وكان لهم شرف يؤدون
الدية كاملة وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية فتحدثوا في ذلك إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء.
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
قصدهم الفتنة برسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا
ـــــــ
يقال ماء سدام إذا غطاه الرمل وجمعه سدم وجمعه على سدم غريب
(4/264)
وشأس بن قيس،
بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر
فأتوه فقالوا له يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم
وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين بعض قومنا
خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول
الله عليهم.
فأنزل الله فيهم {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49- 5].
جحودهم نبوة عيسى عليه السلام:
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر منهم أبو ياسر
بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر وخالد وزيد وإزار بن
أبي إزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال رسول الله "نؤمن
بالله {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فلما ذكر
عيسى ابن مريم جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن مريم ولا بمن آمن
به. فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ
تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ} [لمائدة:59]
ـــــــ
ويقال أيضا سدام وأسدام ونحو من قوله يجهر قول عائشة رضي الله عنها في
أبيها. واجتهر لهم عين الرواء وأنشد في تفسير القوم وأنه البر:
فوق شيزى مثل الجوابي عليها ... قطع كالوذيل في نقي فوم
(4/265)
ادعاؤهم أنهم
على الحق :
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم،
ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على
ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق
؟ قال: "بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من
الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم"
قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك،
ولا نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68]
إشراكهم بالله:
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم النحام بن زيد،
وقردم بن كعب، وبحري بن عمرو، فقالوا له يا محمد أما تعلم مع الله إلها
غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله لا إله إلا هو بذلك
بعثت، وإلى ذلك أدعو" . فأنزل الله فيهم وفي قولهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا
أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ}
نهيه تعالى للمؤمنين عن موادتهم:
وكان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا
ـــــــ
الشيزى: خشب أسود تصنع منه الجفان [مفردها: جفنة وهي القصعة والجوابي:
جمع جابية الحوض يجبى فيه الماء للإبل]، والوذيل جمع وذيلة وهي السبيكة
من الفضة. قال الشاعر:
(4/266)
فكان رجال من
المسلمين يوادونهما. فأنزل الله تعالى فيهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ
دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة:61].
سؤالهم عن قيام الساعة:
وقال جبل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يا محمد أخبرنا، متى تقوم الساعة إن كنت نبيا كما تقول ؟ فأنزل الله
تعالى فيهما: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا
هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا
بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
[الأعراف 187].
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى مرساها. قال قيس بن الحدادية
الخزاعي
فجئت ومخفى السر بيني وبينها ... لأسألها أيان من سار راجع ؟
وهذا البيت في قصيدة له. و {مُرْسَاهَا} منتهاها، وجمعه مراس.
قال الكميت بن زيد الأسدي:
والمصيبين باب ما أخطأ النا ... س ومرسى قواعد الإسلام
وهذا البيت في قصيدة له ومرسى السفينة حتى تنتهي. وحفي عنها – على
ـــــــ
وتريك وجها كالوذي ... لة لا ريان ممتلئ ولا جهم
ومنه قول عمرو بن العاص لمعاوية أما والله لقد ألفيت أمرك، وهو أشد
انفضاحا من حق الكهول. كذلك رواه الهروي وقال ابن قتيبة: الكهدل فما
زلت أرمه بوذائله وأصله بوصائله حتى تركته على مثل فلكة المدر. حق
الكهول بيت
(4/267)
التقديم
والتأخير - يقول يسألونك عنها كأنك حفي بهم فتخبرهم بما لا تخبر به
غيرهم. والحفي: البر المتعهد. وفي كتاب الله {إِنَّهُ كَانَ بِي
حَفِيّاً} [مريم: 47]. وجمعه أحفياء. وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
فإن تسألي عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
وهذا البيت في قصيدة له. والحفي أيضا: المستحفي عن علم الشيء المبالغ
في طلبه.
ادعاؤهم أن عزيرا ابن الله:
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم،
ونعمان بن أوفى أبو أنس ومحمود بن دحية وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف،
فقالوا له كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله
؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ
قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة 30] إلى
آخر القصة.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: {يُضَاهِئُونَ} أي يشاكل قولهم قول الذين كفروا، نحو أن
تحدث بحديث فيحدث آخر بمثله فهو يضاهيك.
طلبهم كتابا من السماء:
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان،
ونعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وعزير بن أبي عزير، وسلام بن مشكم،
فقالوا: أحق يا محمد أن
ـــــــ
العنكبوت وكما قاله الهروي قاله أبو عمر الزاهد في كتاب الياقوت كما
وقع في غريب الحديث للقتبي قاله أبو عبد الله بن القزاز في الكتاب
الكبير قال الكهدل العنكبوت وقيل في الكهول إنه ثدي العجوز وفي العين
الوذيلة المرآة وقيل في الفوم إنه الثوم واختاره ابن قتيبة، واحتج بأنه
في مصحف
(4/268)
هذا الذي جئت
به لحق من عند الله فإنا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة ؟ فقال لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند
الله. تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثله ما جاءوا به" فقالوا عند ذلك وهم جميع فنحاص وعبد الله بن
صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وأشيع وكعب بن أسد،
وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة: يا محمد أما يعلمك هذا إنس ولا
جن ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والله إنكم
لتعلمون أنه من عند الله وإني لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في
التوراة" ; فقالوا: يا محمد فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء
ويقدر منه على ما أراد فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه وإلا
جئناك بمثل ما تأتي به. فأنزل الله تعالى فيهم. وفيما قالوا: {قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88].
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: الظهير العون. ومنه قول العرب: تظاهروا عليه أي تعاونوا
عليه. قال الشاعر:
يا سمي النبي أصبحت للديـ ... ـن قواما وللإمام ظهيرا
أي عونا ; وجمعه ظهراء.
سؤالهم له صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين:
قال ابن إسحاق: وقال حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وأبو رافع وأشيع
ـــــــ
عبد الله بن مسعود: وثومها، ولا حجة في هذا لما ذكره أبو حنيفة في
النبات أن الثوم هو البر، وأنه يقال بالفاء وبالثاء ومن الشاهد على
الفوم وأنه البر قول أبي أحيحة بن الجلاح، وقيل هو لأبي محجن الثقفي:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... سكن المدينة عن زراعة فوم
وأنشد في بعض ما فسر بيت الأخطل قال وهو الغوث بن هبيرة بن الصلت
(4/269)
وشمويل بن زيد،
لعبد الله بن سلام حين أسلم: ما تكون النبوة في العرب ولكن صاحبك ملك.
ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم
ما جاءه من الله تعالى فيه مما كان قص على قريش، وهم كانوا ممن أمر
قريشا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه حين بعثوا إليهم
النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط.
تهجمهم على ذات الله وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك:
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال أتى رهط من يهود إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن
خلق الله ؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه ثم
ساورهم غضبا لربه. قال فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه فقال خفض عليك يا
محمد وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ )وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 1-4] قال فلما تلاها عليهم قالوا: صف لنا يا
محمد كيف خلقه ؟ كيف ذراعه ؟ كيف عضده ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أشد من غضبه الأول وساورهم. فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له مثل
ما قال له أول مرة وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه. يقول الله
تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر 67].
قال ابن إسحاق: وحدثني عتبة بن مسلم مولى بني تيم عن أبي سلمة بن
ـــــــ
يكنى أبا مالك والمعروف غياث بن الغوث بن هبيرة بن الصلت، وسمي الأخطل
لقوله:
لعمرك إنني وابني جعيل ... وأمهما لاستار لئيم
كل أربعة إستار قيل إن كعب بن جعيل قال له في خبر جرى بينهما،
(4/270)
عبد الرحمن، عن
أبي هريرة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يوشك الناس أن
يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟
فإذا قالوا ذلك فقولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
[الاخلاص: 1-4]. ثم ليتفل الرجل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من
الشيطان الرجيم".
تفسير ابن هشام لبعض الغريب:
قال ابن هشام: الصمد الذي يصمد إليه ويفزع إليه قالت هند بنت معبد بن
نضلة تبكي عمرو بن مسعود وخالد بن نضلة عميها الأسديين وهما اللذان قتل
النعمان بن المنذر اللخمي، وبني الغريين اللذين بالكوفة عليهما:
ألا بكر الناعي بخيرى بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد.
ـــــــ
والأخطل يومئذ غلام يقرزم أي كما يبتدي يقول:
قبح ذاك الوجه غب الحمه
فقال الأخطل ولم يكن
وفعل كعب بن جعيل أمه
فقال جعيل إنك لأخطل.
تم بحمد الله الجزء الرابع.
ويليه الجزء الخامس وأوله ذكر نصاري نجران وما أنزل الله فيهم.
(4/271)
|