الروض
الأنف ت السلامي
المجلد الخامس
أمر السيد والعاقب وذكر المباهلة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر السيد والعاقب وذكر المباهلة
معنى العاقب والسيد والأسقف:
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى
نجران، ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم في الأربعة عشر
منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب
مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد لهم
ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه: الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد
بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم إمامهم وصاحب مدراسهم
منزلة أبي حارثة عند ملوك الروم
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم فكانت
ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس
وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
ـــــــ
ذكر نصارى نجران وما أنزل الله فيهم
قد تقدم أن نجران عرفت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأما
أهلها فهم بنو الحارث بن كعب من مذحج.
(5/5)
السبب في إسلام
كوز بن علقمة
فلما <4> رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نجران ، جلس
أبو حارثة على بغلة له موجها، وإلى جنبه أخ له يقال له كوز بن علقمة -
قال ابن هشام: ويقال كرز - فعثرت بغلة أبي حارثة فقال كوز تعس الأبعد،
يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة بل أنت تعست
فقال ولم يا أخي؟ قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر فقال له كوز ما
يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا
وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافة فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر
عليها منه أخوه كوز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك. فهو كان يحدث عنه هذا
الحديث فيما بلغني.
رؤساء نجران وإسلام أحدهم
قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم. فكلما
مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع
الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي، فعثر فقال له ابنه تعس الأبعد يريد
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له أبوه لا تفعل فإنه نبي، واسمه في
الوضائع يعني الكتب فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم
فوجد فيها ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فحسن إسلامه وحج وهو
الذي يقول
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
ـــــــ
تأويل كن فيكون
<4> ذكر فيه قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم من أبوه يا محمد يعنون
عيسى، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} إلى
قوله {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 59] وفيها نكتة فإن ظاهر الكلام أن
يقول خلقه من تراب ثم قال له كن فكان فيعطف بلفظ الماضي على الماضي،
والجواب أن الفاء تعطي التعقيب والتسبيب فلو قال
(5/6)
قال ابن هشام:
الوضين الحزام حزام الناقة. وقال هشام بن عروة: وزاد فيه أهل العراق:
معترضا في بطنها جنينها
فأما أبو عبيدة فأنشدناه فيه.
صلاتهم إلى المشرق:
قال ابن إسحاق <5> وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال لما قدموا على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى
العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
قال يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ما
رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يصلون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "دعوهم فصلوا
إلى المشرق" .
أسماء الوفد ومعتقدهم ومناقشتهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: فكانت تسمية الأربعة عشر الذين يئول إليهم أمرهم العاقب
وهو عبد المسيح والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن
وائل، وأوس والحارث وزيد وقيس، ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو، وخالد وعبد
الله ويحنس في ستين راكبا، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم
أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح والأيهم السيد - وهم من
النصرانية على دين
ـــــــ
فكان لم تدل الفاء إلا على التسبيب وأن القول سبب للكون فلما جاء بلفظ
الحال دل مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر من غير مهل وأن <5> الأمر
بين الكاف والنون قال له كن فإذا هو كائن واقتضى لفظ فعل الحال كونه في
الحال فإن قيل وهي مسألة أخرى: إن آدم مكث دهرا طويلا، وهو طين
(5/7)
الملك مع
اختلاف من أمرهم يقولون هو الله ويقولون هو ولد الله ويقولون هو ثالث
ثلاثة. وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام
ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا،
وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}
[مريم: 21] ويحتجون في قولهم " إنه ولد الله " بأنهم يقولون لم يكن له
أب يعلم وقد تكلم في المهد وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
<6> ويحتجون في قولهم " إنه ثالث ثلاثة " بقول الله فعلنا، وأمرنا،
وخلقنا، وقضينا، فيقولون لو كان واحدا ما قال إلا فعلت، وقضيت، وأمرت،
وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن -
فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلما" ،
قالا: قد أسلمنا، قال "إنكما لم تسلما" ، فأسلما، قالا: بلى، قد أسلمنا
قبلك. قال "كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا"،
ـــــــ
صلصال وقوله للشيء كن فيكون يقتضي التعقيب وقد خلق السموات والأرض في
ستة أيام وهي ستة آلاف سنة فأين قوله كن فيكون من هذا؟
<6> فالجواب ما قال أهل العلم في هذه المسألة وهو أن قول الباري سبحانه
كن يتوجه إلى المخلوق مطلقا ومقيدا، فإذا كان مطلقا كان كما أراد لحينه
وإذا كان مقيدا بصفة أو بزمان كان كما أراد على حسب ذلك الزمان الذي
تقيد الأمر به فإن قال له كن في ألف سنة كان في ألف سنة وإن قال له كن
فيما دون اللحظة كان كذلك.
(5/8)
وعبادتكما
الصليب وأكلكما الخنزير قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم - فلم يجبهما
ما نزل من آل عمران فيهم
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران
إلى بضع وثمانين آية منها، فقال جل وعز {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1-2] فافتتح السورة بتنزيه نفسه
عما قالوا، وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه ردا عليهم ما
ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد واحتجاجا بقولهم عليهم في
صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
ليس معه غيره شريك في أمره {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الحي الذي لا يموت
وقد مات عيسى وصلب في قولهم. والقيوم القائم على مكانه من سلطانه في
خلقه لا يزول وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلى
غيره {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي <7> بالصدق فيما
اختلفوا فيه {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
ـــــــ
تأويل آيات محكمات
فصل وذكر صدر سورة آل عمران، وفسر منه كثيرا، فمنه قوله سبحانه {مِنْهُ
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وهو ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا،
وهو عندي من أحكمت الفرس بحكمته أي منعته من العدول عن طريقه كما قال
حسان
ونحكم بالقوافي من هجانا
<7> أي نلجمه فنمنعه وكذلك الآية المحكمة لا تتصرف بقارئها التأويلات
ولا تتعارض عليه الاحتمالات وليس من لفظ الحكمة لأن القرآن كله حكمة
وعلم. والمتشابه يميل بالناظر فيه إلى وجوه مختلفة وطرق متبايعة وقوله
سبحانه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] هذا من الحكمة ومن
الإحكام الذي
(5/9)
والإنجيل}
التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله
{وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} والإنجيل أي الفصل بين الحق والباطل فيما
اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقَامٍ} أي إن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها، ومعرفته
بما جاء منه فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما
يضاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه إلها وربا، وعندهم من علمه غير ذلك
غرة بالله وكفرا به {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ
كَيْفَ يَشَاءُ} أي قد كان عيسى ممن صور في الأرحام لا يدفعون ذلك ولا
ينكرونه كما صور غيره من ولد آدم فكيف يكون إلها، وقد كان بذلك المنزل؟
ثم قال تعالى إنزاها لنفسه وتوحيدا لها مما جعلوا معه {لا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا
شاء الحكيم في حجته وعذره إلى عباده {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فيهن
حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف
عما وضعن عليه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل ابتلى الله
فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا
يحرفن عن الحق. يقول عز وجل {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ} أي ميل عن الهدى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي ما
تصرف منه ليصدقوا به ما ابتدعوا
ـــــــ
هو الإتقان فالقرآن كله محكم على هذا، وهو كله من هذا الوجه متشابه
أيضا، لأن بعضه يشبه بعضا في براعة اللفظ وإعجاز النظم وجزالة المعنى،
وبدائع الحكمة فكله متشابه وكله محكم وعلى المعنى الأول {مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ} {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فأهل الزيغ
يعطفون المتشابه على أهوائهم ويجادلون به عن آرائهم والراسخون في العلم
يردون المتشابه إلى المحكم أيضا بقول الله تعالى: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
[النساء:59] وعلما بأن الكل من عند الله فلا يخالف بعضه بعضا. روت
عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ
(5/10)
وأحدثوا، لتكون
لهم حجة ولهم على ما قالوا شبهة {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي اللبس
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ذلك على ما ركبوا <8> من الضلالة في قولهم
خلقنا وقضينا يقول {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أي الذي به أرادوا ما
أرادوا {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد من
رب واحد؟ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي
لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد واتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه
بعضا، فنفذت به الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودمغ به الكفر يقول
الله تعالى في مثل هذا: {وَمَا يَذَّكَّرُ}
ـــــــ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] قال إذا رأيتم
الذين يجادلون فيه فهم أولئك فاحذروهم <8> وللسلف في معنى المحكم ومعنى
المتشابه أقوال متقاربة إلا أن معهم من يرى الوقف على قوله {وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ويرونه تمام الكلام
ويحتجون بقراءة ابن عباس ويقول الراسخون في العلم وهو قول عمر بن عبد
العزيز أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل وإن علموا التفسير
والتأويل عند هؤلاء غير التفسير إنما هو عندهم في معنى قوله سبحانه
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } وطائفة يرون أن قوله {وَالرَّاسِخُونَ}
معطوف على ما قبله وأنهم عالمون بالتأويل ويحتجون بما يطول ذكره من أثر
ونظر والذي أرتضيه من ذلك مذهب ثالث وهو الذي قاله ابن إسحاق في هذا
الكتاب ومعناه كله أن الكلام قد تم في قوله {وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ لكن
لا نقول إنهم لا يعلمون تأويله. كما قالت الطائفة الأولى، ولكن نقول
إنهم يعلمونه برد المتشابه إلى المحكم وبالاستدلال على الخفي
(5/11)
في مثل هذا
{إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنَا} أي لا تمل قلوبنا، وإن ملنا بأحداثنا {وَهَبْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران1 - 8]
ثم قال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ} بخلاف ما قالوا: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} أي بالعدل
فيما يريد {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} أي ما أنت عليه يا محمد التوحيد <9> للرب
والتصديق للرسل. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي الذي جاءك، أي أن الله الواحد
الذي ليس له شريك. {بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ
اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ} أي بما
يأتون به من الباطل من قولهم خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هي شبهة باطل
قد عرفوا ما فيها من الحق {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} أي
وحده {وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]
ـــــــ
بالجلي وعلى المختلف فيه بالمتفق عليه فتنفذ بذلك الحجة ويزاح الباطل
وتعظم درجة العالم عند الله تعالى، لأنه يقول آمنت به كل من عند ربي
فكيف يختلف؟ ولما كان العلمان مختلفين علم الله وعلم الراسخين في العلم
لم يجز عطف :{الرَّاسِخُونَ} النساء:162] على ما قبله فالله يعلم
تأويله العلم القديم. <9> لا بتذكر ولا بتفكر ولا بتدقيق نظر ولا بفحص
عن دليل فلا يعلم تأويله هكذا إلا الله والراسخون في العلم يعلمون
تأويله بالفحص عن الدليل وبتدقيق النظر وتسديد العبر، فهم كما قال الله
تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
وهذا معنى كلام ابن إسحاق في الآية.
(5/12)
ما نزل من
القرآن فيما أحدث اليهود والنصارى:
ثم جمع أهل الكتابين جميعا، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا، من اليهود
والنصارى، فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله {قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ} أي رب العباد والملك الذي لا يقضي فيهم غيره
{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي
لا إله غيرك {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يقدر على هذا
غيرك بسلطانك وقدرتك {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} بتلك القدرة {وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] لا يقدر على ذلك غيرك، ولا
يصنعه إلا أنت أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه
إله من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام والخلق للطير من الطين والإخبار
عن الغيوب لأجعله به آية للناس وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى
قومه فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمن النبوة ووضعها
حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وإخراج الحي من
الميت وإخراج الميت من الحي ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب فكل
ذلك لم أسلط عيسى عليه ولم أملكه إياه أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة
أن لو كان إلها كان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك وينتقل
منهم في البلاد من بلد إلى بلد.
ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنين
<10> ثم وعظ المؤمنين وحذرهم ثم قال {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ} أي إن كان هذا من قولكم حقا، حبا لله وتعظيما له
{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
أي ما مضى من كفركم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ} فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي
على كفركم {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل
عمران:31-32]
(5/13)
ما نزل من
القرآن في خلق عيسى
ثم استقبل لهم أمر عيسى: عليه السلام وكيف كان بدء ما أراد الله به
فقال {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم ذكر أمر امرأة عمران وقولها: { إِذْ
قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً} أي نذرته فجعلته عتيقا، تعبده لله لا ينتفع به
لشيء من الدنيا: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا
أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثَى} أي ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محررا لك نذيرة
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} يقول الله تبارك
وتعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 33-37] بعد
أبيها وأمها.
قال ابن هشام: كفلها: ضمها
ـــــــ
احتجاج القسيسين للتثليث
<10> فصل وذكر احتجاج الأحبار والقسيسين من أهل نجران بقوله عز وجل
خلقنا وأمرنا وأشباه ذلك وقالوا: هذا يدل على أنه ثالث ثلاثة تعالى
الله عن قولهم وهذا من الزيغ بالمتشابه دون رده إلى المحكم نحو قوله
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} [الاخلاص:1] والعجب من ضعف عقولهم كيف احتجوا على محمد بما
أنزل على محمد وهو أعلم بمعنى ما أنزل عليه لأن هذا اللفظ الذي احتجوا
به مجاز عربي، وليس هو لفظ التوراة والإنجيل، وأصل هذا المجاز في
العربية أن الكتاب إذا صدر عن حضرة ملك كانت العبارة فيه عن الملك بلفظ
الجمع دلالة على أنه كلام ملك متبوع على أمره وقوله فلما خاطبهم الله
تعالى بهذا الكتاب العزيز أنزله على مذاهبهم في الكلام وجاء اللفظ فيه
على أسلوب الكلام الصادر عن حضرة الملك وليس هذا في غير اللسان العربي
ولا يتطرق هذا المجاز في حكم العقل إلى الكلام القديم
(5/14)
خبر زكريا
ومريم
<11> قال ابن إسحاق: فذكرها باليتم ثم قص خبرها وخبر زكريا، وما دعا به
وما أعطاه إذ وهب له يحيى ثم ذكر مريم، وقول الملائكة لها: {يَا
مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي ما
كنت معهم {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }
[آل عمران:44]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: أقلامهم سهامهم يعني قداحهم التي استهموا بها عليها،
فخرج قدح زكريا فضمها، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البصري.
دعوى كفالة جريج الراهب لمريم
قال ابن إسحاق: كفلها هاهنا جريج الراهب رجل من بني إسرائيل نجار خرج
السهم عليه بحملها، فحملها، وكان زكريا قد كفلها قبل ذلك فأصابت بني
إسرائيل أزمة شديدة فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها أيهم يكفلها،
فخرج السهم على جريج الراهب بكفولها فكفلها. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي ما
ـــــــ
إنما هو في اللفظ المنزل ولذلك نجده إذا أخبر عن قول قاله لنبي قبلنا،
أو خاطب به غيرنا نحو قوله {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ} : [ص:75] ولم يقل خلقنا بأيدينا، كما قال {مما عملته
أيدينا} ، وقال حكاية عن وحيه لموسى: <11> {{وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي} [طه: 39] ولم يقل كما قال في الآية الأخرى: {تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] لأنه أخبر عن قول قاله لم ينزله بهذا اللسان
العربي ولم يحك لفظا أنزله وإنما أخبر عن المعنى، وليس المجاز في
المعنى، وكذلك لا يجوز لعبد أن يقول رب اغفروا، ولا ارحموني، ولا عليكم
توكلت، ولا إليكم أنبت، ولا قالها نبي قط في مناجاته ولا نبي في دعائه
لوجهين أحدهما: أنه واجب على العبد أن يشعر قلبه التوحيد حتى يشاكل
لفظه عقده الثاني: ما قدمناه من سير هذا المجاز وأن سببه صدور الكلام
عن حضرة
(5/15)
كنت معهم إذ
يختصمون فيها. يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم لتحقيق نبوته
والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه.
<12> ثم قال {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ} أي هكذا كان أمره لا كما تقولون فيه {وَجِيهاً فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي عند الله {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}
يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم
صغارا وكبارا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفا
للعباد بمواقع قدرته. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي
يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر {إِذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} مما يشاء وكيف يشاء {فَيَكُونُ} [آل
عمران:44-47] كما أراد.
ـــــــ
الملك موافقة للعرب في هذا الأسلوب من كلامها، واختصاصها بعادة ملوكها
وأشرافها، ولا ننظر لقول من قال في هذه المسألة وبذلك روجعوا، يعني:
بلفظ الجمع واحتج بقوله سبحانه خبرا عمن حضره الموت من الكفار إذ يقول
{رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] فيقال له هذا خبر عمن حضرته الشياطين
ألا <12> ترى قبله {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
[المؤمنون:99] فلما جاء هذا حكاية عمن حضرته الشياطين وحضرته زبانية
العذاب وجرى على لسانه في الموت ما كان يعتاده في الحياة من رد الأمر
إلى المخلوقين فلذلك خلط فقال رب ثم قال ارجعون وإلا فأنت أيها الرجل
المجيز لهذا اللفظ في مخاطبة الرب سبحانه هل قلت قط في دعائك: ارحمون
يا رب وارزقون؟ بل لو سمعت غيرك يقولها لسطوت به وأما قول مالك وغيره
من الفقهاء الأمر عندنا، أو رأينا كذا، أو نرى كذا، فإنما ذلك لأنه قول
لم ينفرد به ولو انفرد به لكان بدعة ولم يقصد به تعظيما لنفسه لا هو
ولا غيره من أهل الدين والدعة.
(5/16)
ما نزل من
القرآن في بيان آيات عيسى عليه السلام
ثم أخبرها بما يريد به فقال {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ } التي كانت فيهم من عهد موسى قبله {والإنجيل} كتابا
آخر أحدثه الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من
الأنبياء بعده ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أي
يحقق بها نبوتي، أني رسول معه إليكم {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي بعثني إليكم وهو ربي وربكم {وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} [آل عمران:48-49]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
<13> قال ابن هشام: الأكمه الذي يولد أعمى. قال رؤبة بن العجاج:
هرجت فارتد ارتداد الأكمه
"وجمعه: كمه" قال ابن هشام: هرجت: صحت بالأسد وجلبت عليه. وهذا البيت
في أرجوزة له.
{وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ} إني رسول الله من الله إليكم {إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ
ـــــــ
احتجاجهم لألوهية عيسى
وأما احتجاج القسيسين بأنه كان يحيي الموتى، ويخلق من الطين كهيئة
الطير فينفخ فيه فلو تفكروا لأبصروا أنها حجة عليهم لأن الله تعالى خصه
دون الأنبياء بمعجزات تبطل مقالة من كذبه وتبطل أيضا مقالة من زعم أنه
إله أو ابن الإله واستحال عنده أن يكون مخلوقا من غير أب فكان نفخه في
الطين فيكون طائرا حيا: تنبيها لهم لو عقلوه على أن مثله كمثل آدم خلق
من طين ثم نفخ فيه الروح فكان بشرا حيا، فنفخ الروح في الطائر <13>
الذي خلقه عيسى من طين ليس بأعجب من ذلك الكل فعل الله وكذلك إحياؤه
للموتى، وكلامه في المهد كل
(5/17)
مِنَ
التَّوْرَاةِ} أي لما سبقني عنها {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي أخبركم به أنه كان عليكم حراما فتركتموه ثم
أحله لكم تخفيفا عنكم فتصيبون يسره وتخرجوه من تباعاته {وَجِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أي تبريا من الذين يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم
{فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي قد حملتكم عليه
وجئتكم به {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والعدوان عليه
{قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ} هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل
من ربهم {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لا ما يقول هؤلاء الذين
يحاجونك {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:49-53] أي هكذا كان قولهم
وإيمانهم.
ـــــــ
ذلك يدل على أنه مخلوق من نفخة روح القدس في جيب أمه ولم يخلق من مني
الرجال فكان معنى الروح فيه - عليه السلام - أقوى منه في غيره فكانت
معجزاته روحانية دالة على قوة المناسبة بينه وبين روح الحياة ومن ذلك
بقاؤه حيا إلى قرب الساعة. وروي عن أبي بن كعب أن الروح الذي تمثل لها
بشرا هو الروح الذي حملت به وهو عيسى عليه السلام دخل من فيها إلى
جوفها. رواه الكشي بإسناد حسن يرفعه إلى أبي وخص بإبراء الأكمه والأبرص
وفي تخصيصه بإبراء هاتين الآفتين مشاكلة لمعناه - عليه السلام - وذلك
أن فرقة عميت بصائرهم فكذبوا نبوته وهم اليهود وطائفة غلوا في تعظيمه
بعدما ابيضت قلوبهم بالإيمان ثم أفسدوا إيمانهم بالغلو فمثلهم كمثل
الأبرص أبيض بياضا فاسدا، ومثل الآخرين مثل الأكمه الأعمى، وقد أعطاه
الله من الدلائل على <14> الفريقين ما يبطل المقالتين ودلائل الحدوث
تثبت له العبودية وتنفي عنه الربوبية وخصائص
(5/18)
ـــــــ
معجزاته تنفي عن أمه الريبة وتثبت له ولها النبوة والصديقية فكان في
مسيح الهدى من الآيات ما يشاكل حاله ومعناه حكمة من الله كما جعل في
الصورة الطاهرة من مسيح الضلالة وهو الأعور الدجال ما يشاكل حاله
ويناسب صورته الباطنة على نحو ما شرحنا وبينا في إملاء أمليناه على هذه
النكتة في غير هذا الكتاب والحمد لله.
<14> <1وضعتها أنثى
<15> فصل وذكر في تفسير ما نزل فيهم قول حنة أم مريم، وهي بنت ماثان
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] قال بعض أهل
التأويل أشارت إلى معنى الحيض أن الأنثى تحيض فلا تخدم المسجد ولذلك
قال {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] لأن الذكر لا
يحيض فهو أبدا في خدمة المسجد وهذه إشارة حسنة. فإن قيل كان القياس في
الكلام أن يقال وليس الأنثى كالذكر لأنها دونه فما باله بدأ بالذكر؟
والجواب أن الأنثى إنما هي دون الذكر في نظر العبد لنفسه لأنه يهوى
ذكران البنين وهم مع الأموال زينة الحياة الدنيا وأقرب إلى فتنة العبد
ونظر الرب للعبد خير من نظره لنفسه فليس الذكر كالأنثى على هذا، بل
الأنثى أفضل في الموهبة ألا تراه يقول سبحانه {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
إِنَاثاً} [الشورى:49] فبدأ بذكرهن قبل الذكور <16> وفي الحديث ابدءوا
بالإناث يعني: في الرحمة وإدخال السرور على البنين وفي الحديث أيضا: من
عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين فترتب الكلام في التنزيل على
حسب الأفضل في نظر الله للعبد والله أعلم بما أراد.
(5/19)
رفع عيسى عليه
السلام
<16> ثم ذكر سبحانه وتعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله فقال
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ثم
أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه كيف رفعه وطهره منهم فقال
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ هموا منك بما هموا
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ثم القصة حتى انتهى إلى قوله {ذَلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ} يا محمد {مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} القاطع
الفاصل الحق الذي لا يخالطه الباطل من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه
من أمره فلا تقبلن خبرا غيره {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ}
فاستمع {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي ما جاءك من الخبر عن عيسى {فَلا
تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترين فيه
وإن قالوا: خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من
ـــــــ
المباهلة
فصل وذكر دعاءه عليه السلام أهل نجران إلى المباهلة وأنهم رضوا ببذل
الجزية والصغار وأن لا يلاعنوه وكذلك روي أن بعضهم قال لبعض إن
لاعنتموه ودعوتم باللعنة على الكاذب اضطرم الوادي عليكم نارا، وفي
تفسير الكشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد تدلى إليهم
العذاب والذي نفسي بيده لو باهلوني لاستؤصلوا من على جديد الأرض
نكتة في قوله {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران:61] بدأ بالأبناء والنساء قبل الأنفس والجواب
أن أهل التفسير قالوا أنفسنا وأنفسكم أي ليدع بعضنا بعضا، وهذا نحو
<17> قوله {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] في أحد القولين
أي يسلم بعضكم على بعض فبدأ بذكر الأولاد
(5/20)
تراب بتلك
القدرة من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لحما ودما، وشعرا وبشرا،
فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا .{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي من بعد ما قصصت عليك من خبره
وكيف كان أمره {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل
عمران: 53-61]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
<17> قال ابن هشام: قال أبو عبيدة نبتهل ندعو باللعنة قال أعشى بني قيس
بن ثعلبة:
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا ... نعوذ من شرها يوما ونبتهل
وهذا البيت في قصيدة له. يقول ندعو باللعنة. وتقول العرب: بهل الله
فلانا، أي لعنه وعليه بهلة الله قال ابن هشام: ويقال: بهلة الله أي
لعنة الله ونبتهل أيضا: نجتهد في الدعاء.
قال ابن إسحاق: {إِنَّ هَذَا}الذي جئت به من الخبر عن عيسى {لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ} من أمره {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:62-64] فدعاهم
إلى النصف وقطع عنهم الحجة.
إباؤهم الملاعنة
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه والفضل من
القضاء بينه وبينهم وأمر
ـــــــ
الذين هم فلذ الأكباد ثم بالنساء التي جعل بيننا وبينهم مودة ورحمة ثم
من وراءهم من دعاء بعضهم بعضا، لأن الإنسان لا يدعو نفسه وانتظم الكلام
على
(5/21)
بما أمر به من
ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا له يا أبا القاسم دعنا
ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه فانصرفوا
عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟
فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم
بالفضل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا
نبت صغيرهم وأنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف
دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم
انصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا
القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن
ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها
من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.
تولية أبي عبيدة أمورهم
<18> قال محمد بن جعفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائتوني
العشية أبعث معكم القوي الأمين" قال فكان عمر بن الخطاب يقول ما أحببت
الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر
مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن
يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى
أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما
اختلفوا فيه" قال عمر فذهب بها أبو عبيدة.
ـــــــ
الأسلوب المعتاد في إعجاز القرآن وفي حديث أهل نجران زيادة كثيرة عن
ابن إسحاق من غير رواية ابن هشام، <18> منها أن راهب نجران حين رجع
الوفد وأخبروه الخبر رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع معه وأهدى
إليه القضيب والقعب والبرد الذي هو الآن عند خلفاء بني العباس
يتوارثونه.
(5/22)
|