الروض
الأنف ت السلامي
ذكر من اعتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
مرض أبي بكر وعامر وبلال وحديث عائشة عنهم
<24> قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، وعمر بن عبد الله بن عروة عن
عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت لما قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب
أصحابه منها بلاء وسقم فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم
قالت فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة، وبلال موليا أبي بكر مع أبي بكر في
بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا
الحجاب وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت
له كيف تجدك يا أبت؟ فقال
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعليه
قالت فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول. قالت ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة
فقلت له كيف تجدك يا عامر؟ فقال
ـــــــ
وعك أبي بكر وبلال وعامر
<24> فصل وذكر حديث عائشة حين وعك أبو بكر وبلال وعامر بن فهير وما
أجابوها به من الرجز فيذكر أن قول عامر
(5/30)
لقد وجدت الموت
قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه
<25> يريد بطاقته فيما قال ابن هشام: قالت فقلت: والله ما يدري عامر ما
يقول قالت وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت. ثم رفع عقيرته
فقال
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
ـــــــ
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
<25> إنه لعمرو بن مامة وفي هذا الخبر وما ذكر فيه من حنينهم إلى مكة
ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه وقد جاء في حديث أصيل
الغفاري ويقال فيه الهدلي أنه قدم من مكة، فسألته عائشة كيف تركت مكة
يا أصيل؟ فقال تركتها حين ابيضت أباطحها، وأحجن ثمامها، وأغدق إذخرها،
وأمشر سلمها، فاغرورقت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال "
لا تشوفنا يا أصيل "، ويروى أنه قال له " دع القلوب تقر "، وقد قال
الأول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي الخزامى حيث ربتني أهلي
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
وأما قول بلال
بفج وحولي إذخر وجليل
(5/31)
قال ابن هشام:
شامة وطفيل جبلان بمكة.
ـــــــ
ففج موضع خارج مكة به مويه يقول فيه الشاعر
ماذا بفج من الإشراق والطيب ... ومن جوار نقيات رعابيب
وبفج اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم والإذخر من نبات
مكة. قال أحمد بن داود وهو أبو حنيفة الدينوري صاحب كتاب النبات الإذخر
فيما حكي عن الأعراب الأول له أصل مندفق وقضبان دقاق وهو ذفر الريح وهو
مثل الأصل أصل الكولان إلا أنه أعرض كعوبا، وله ثمرة كأنها مكاسح القصب
إلا أنها أرق وأصغر. قال أبو زياد الإذخر يشبه في نباته بنبات الأسل
الذي تعمل منه الحصر، ويشبه نباته الغرز والغرز ضرب من الثمام واحدته
غرزة ويتخذ من الغرز الغرابيل والإذخر أرق منه والإذخر يطحن فيدخل <26>
في الطيب وقال أبو عمرو: وهو من الجنبة وقلما تنبت الإذخرة متفردة وقال
في الجليل عن أبي نصر إن أهل الحجاز يسمون الثمام الجليل، ومعنى الجنبة
التي ذكر أبو عمرو: وهو كل نبات له أصول ثابتة لا تذهب بذهاب فزعه في
الغيط وتلقح في الخريف وليست كالشجر الذي يبقى أصله وفرعه في الغيط ولا
كالنجم الذي يذهب فرعه وأصله فلا يعود إلا زريعته جانب النجم والشجر
فسمي جنبة ويقال للجنبة أيضا: الطريفة قاله أبو حنيفة. ومجنة سوق من
أسواق العرب بين عكاظ وفي المجاز وكلها، أسواق قد تقدم ذكرها. ومجنة
يجوز أن تكون مفعلة وفعلة فقد قال سيبويه: في المجن إن ميمه أصلية وأنه
فعل وخالفه في ذلك العباس وجعلوه مفعلا، من جن إذا ستر ومن أسواقهم
أيضا حباشة وهي أبعد من هذه وأما شامة وطفيل فقال الخطابي في كتاب
الأعلام في شرح البخاري:
(5/32)
دعاء الرسول
صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة
قالت عائشة رضي الله عنها: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما
سمعت منهم فقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى. قالت فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة
، أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة" ومهيعة :
الجحفة .
ما جهد المسلمين من الوباء
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم
حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله
عليه وسلم حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود
ـــــــ
كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما، ووقفت عليهما فإذا هما عينان من ماء
ويقوي قول الخطابي إنهما عينان قول كثير
وما أنس م الأشياء لا أنس موقفا ... لنا، ولها بالخبت خبت طفيل
والخبت منخفض الأرض.
وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت
إلينا مكة ، وبارك لنا في مدها وصاعها يعني الطعام الذي يكال بالصاع
ولذلك قال في حديث آخر كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه وشكا إليه قوم سرعة
فناء طعامهم فقال "أتهيلون أم تكيلون" ؟ فقالوا: بل نهيل فقال "كيلوا
ولا تهيلوا" ومن رواه "قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه" فمعناه عندهم تصغير
الأرغفة وهكذا رواه البزار من طريق أبي الدرداء وذكر في تفسيره ما
قلناه وذكر <27> أبو عبيد: المد في كتاب
(5/33)
قال فخرج عليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم "اعلموا أن صلاة
القاعد على النصف من صلاة القائم" قال فتجشم المسلمون القيام على ما
بهم من الضعف والسقم التماس الفضل.
ـــــــ
الأموال أعني مد المدينة فقال هو رطل وثلث والرطل مائة وثمانية وعشرون
درهما، والدرهم خمسون حبة وخمسان.
وقوله صلى الله عليه وسلم "وانقل حماها، واجعلها بمهيعة" وهي الجحفة ،
كأنه عليه السلام لم يرد إبعاد الحمى عن جميع أرض الإسلام ولو أراد ذلك
لقال انقل حماها، ولم يخص موضعا، أو كان يخص بلاد الكفر وذلك - والله
أعلم - لأنه قد نهى عن سب الحمى ولعنها في حديث أم المسيب وأخبر أنها
طهور وأنها حظ كل مؤمن من النار فجمع بين الرفق بأصحابه فدعا لهم
بالشفاء منها، وبين أن لا يحرموا أيضا الأجر فيما يصيبوا منها، فلم
يبعدها كل البعد.
وأما مهيعة ، فقد اشتد الوباء فيها بسبب هذه الدعوة حتى قيل إن الطائر
يمر بغدير خم فيسقم وغدير خم فيها، ويقال إنها، ما ولد فيها مولود فبلغ
الحلم وهي أرض بجعة لا تسكن ولا يقام فيها إقامة دائمة فيما بلغني
والله أعلم.
وذكر تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وفي غير هذه
الرواية عن ابن إسحاق عن شرحبيل بن سعد قال كنت أصطاد في حرم المدينة
بالوقاقيص وهي شباك الطير فاصطدت نهسا، فأخذه زيد بن ثابت، وصك في قفاي
ثم أرسله.
وذكر حديث عبد الله بن عمرو، وقوله عليه السلام "صلاة القاعد على النصف
من صلاة القائم" حين رآهم يصفون قعودا من الوعك قال فتجشم الناس
(5/34)
بدء قتال
المشركين
<28> قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه
قام فيما أمره الله من جهاد عدوه وقتال من أمره الله به ممن يليه من
المشركين مشركي العرب، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة.
ـــــــ
القيام على ما بهم من السقم وهذا الحديث بهذا اللفظ يقوي ما تأوله
الخطابي في صلاة القاعد أنها على <28> النصف من صلاة القائم ثم قال
الخطابي: إنما ذلك للضعيف الذي يستطيع القيام بكلفة وإن كان عاجزا عن
القيام البتة فصلاته مثل صلاة القائم وهذا كله في الفريضة والنافلة
وخالف أبو عبيد في تخصيصه هذا الحديث بصلاة النافلة في حال الصحة واحتج
الخطابي بحديث عمران بن حصين وفيه وصلاته قائما على النصف من صلاته
قاعدا، قال وقد أجمعت الأمة أن لا يصلي أحد مضطجعا إلا من مرض فدل على
أنه لم يرد بهذا الحديث كله إلا المريض الذي يقدر على القيام بكلفة أو
على القعود بمشقة ونسب بعض الناس النسوي إلى التصحيف في هذا الحديث
وقالوا: إنما هو وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا، فتوهمه النسوي
قائما، أي مضطجعا، فترجم عليه في كتابه باب صلاة النائم وليس كما
قالوا، فإن في الرواية الثانية وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد
ومثل هذا لا يتصحف وقول الخطابي: أجمعت الأمة على أن المضطجع لا يصلي
في حال الصحة نافلة ولا غيرها، وافقه أبو عمر على ادعاء الإجماع في هذه
المسألة وليست بمسألة إجماع كما زعما، بل كان من الله من يجيز للصحيح
أن يتنفل مضطجعا، معهم الحسن البصري، ذكر ذلك أبو عيسى الترمذي في
"مصنفه".
(5/35)
|