الروض الأنف ت السلامي

حديث بئر معونة في صفر سنة أربع
بعث بئر معونة:
قال ابن إسحاق:
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون - والمحرم ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد.
سبب إرساله:
<379> وكان من حديثهم كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن مسلم وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيره من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم
ـــــــ
خبر بئر معونة
<379> قال ابن إسحاق: وكانوا أربعين رجلا، والصحيح أنهم كانوا سبعين كذا وقع في صحيح البخاري ومسلم.
ملاعب الأسنة وإخوته ومعوذ الحكماء
وذكر أبا براء ملاعب الأسنة وأنه أجار أصحاب بئر معونة من أهل نجد، وهو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة سمي ملاعب الأسنة في يوم سوبان وهو يوم كانت فيه وقيعة في أيام جبلة، وهي أيام حرب كانت بين قيس وتميم وجبلة اسم لهضبة عالية وقد تقدم طرف من هذا

(6/147)


إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخشى عليهم أهل نجد . قال أبو براء أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
رجال البعث
فبعث <380> رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة
ـــــــ
الحديث في أول الكتاب وكان سبب تسميته في يوم سوبان ملاعب الأسنة أن أخاه الذي يقال له فارس قرزل، وهو طفيل بن مالك وقد ذكرنا في أول الكتاب معنى قرزل، كان أسلمه في ذلك اليوم وفر فقال شاعر
فررت وأسلمت ابن أمك عامرا ... يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
فسمي ملاعب الأسنة وملاعب الرماح. قال لبيد
وإنني ملاعب الرماح ... ومدره الكتيبة الرداح
<380> وهو عم لبيد بن ربيعة، وكانوا إخوة خمسة طفيل فارس قرزل، وعامر ملاعب الأسنة وربيعة المقترين وهو والد لبيد وعبيدة الوضاح ومعاوية معوذ الحكماء وهو الذي يقول
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وفي هذا الشعر يقول
يعوذ مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الأمر في الحدثان نابا
وبهذا البيت سمي معوذ الحكماء.

(6/148)


وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق في رجال مسمين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
عامر يقتل صحابيا
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى عدو الله عامر بن الطفيل. فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم <381> ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم يرحمهم الله إلا
ـــــــ
شعر لبيد عن ملاعب وإخوته أمام النعمان
وإياهم عنى لبيد حين قال بين يدي النعمان بن المنذر:
نحن بني أم البنين الأربعة ... المطمعون الجفنة المدعدعه
والضاربون الهام تحت الخيضعه ... يا رب هيجا هي خير من دعه
ثم ذكر الربيع بن زياد [العبسي] فقال
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه
<381> إلى آخر الرجز في خبر طويل إنما قال الأربعة وهم خمسة لأن أباه ربيعة قد كان مات قبل ذلك لا كما قال بعض الناس وهو قول يعزى إلى الفراء أنه قال إنما قال أربعة ولم يقل خمسة من أجل القوافي، فيقال له لا يجوز

(6/149)


كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا، رحمه الله.
ابن أمية والمنذر وموقفهما من القوم بعد علمهما بمقتل أصحابهما
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحاق:
فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ما ترى؟ قال أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكن ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا
ـــــــ
للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن وأعجب من هذا أنه استشهد به على تأويل فاسد تأوله في قوله سبحانه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال أراد جنة واحدة وجاء بلفظ التثنية لتتفق رءوس الآي أو كلاما هذا معناه فصمي صمام ما أشنع هذا الكلام وأبعده عن العلم وفهم القرآن وأقل هيبة قائله من أن يتبوأ مقعده من النار فحذار منه حذار. ومما يدلك أنهم كانوا أربعة حين قال لبيد هذه المقالة إن في الخبر ذكر يتم لبيد وصغر سنه وأن أعمامه الأربعة استصغروه أن يدخلوه معهم على النعمان حين همهم ما قاولهم به الربيع بن زياد فسمعهم لبيد يتحدثون بذلك ويهتمون له فسألهم أن

(6/150)


عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجر ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه .
قتل العامريين
<382> فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر.
قال ابن هشام: ثم من بني كلاب وذكر أبو عمرو المدني أنهما من بني سليم.
قال ابن إسحاق:
حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية وقد سألهما حين نزلا، من أنتما؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثورة من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد قتلت قتيلين لأدينهما"
حزن الرسول من عمل أبي براء:
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا" . فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة
ـــــــ
يدخلوه معهم على النعمان وزعم أنه سيفحمه فتهاونوا بقوله حتى اختبروه بأشياء مذكورة في الخبر، فبان بهذا كله أنهم كانوا أربعة ولو سكت الجاهل لقل الخلاف والحمد لله.

(6/151)


ابن فهيرة بعد مقتله:
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول من رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة
سبب إسلام ابن سلمى
<383> قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض بني جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، قال - وكان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر ثم أسلم - "قال" فكان يقول إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول فزت والله فقلت في نفسي: ما فاز ألست قد قتلت الرجل قال حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا: للشهادة فقلت: فاز لعمرو الله.
شعر حسان في تحريض بني أبي براء على عامر
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:
ـــــــ
مصير ابن فهيرة
<382> وذكر ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل قال يومئذ من رجل لما طعنته رفع حتى رأيت السماء من دونه. هذه رواية البكائي عن ابن إسحاق، وروى يونس بن بكير عنه بهذا الإسناد أن عامر بن الطفيل قدم المدينة بعد ذلك وقال للنبي عليه السلام من رجل يا محمد لما طعنته رفع إلى السماء؟ فقال "هو عامر بن فهيرة" وروى <383> عبد الرزاق وابن المبارك أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ ففقد فيرون أن الملائكة رفعته أو دفنته.

(6/152)


بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
نسب حكم وأم البنين
قال ابن هشام:
حكم بن سعد من القين بن جسر، وأم البنين بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهي أم أبي براء.
طعن ربيعة لعامر
<384> قال ابن إسحاق:
فحمل ربيعة "بن عامر" بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح فوقع
ـــــــ
أم البنين الأربعة
وذكر قول حسان
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم في ذوائب أهل نجد
وهذه أم البنين التي ذكر لبيد في قوله:
نحن بني أم البنين الأربعة
واسمها: ليلى بنت عامر - فيما ذكروا وقد ذكر ابن هشام نسبها، ولم يذكر اسمها.

(6/153)


في فخذه فأشواه ووقع عن فرسه فقال هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي، فلا يتبعن به وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتي إلي.
مقتل ابن ورقاء ورثاء ابن رواحة له
وقال أنس بن عباس السلمي، وكان خال طعيمة بن عدي بن نوفل وقتل يومئذ نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي:
تركت ابن ورقاء الخزاعي ثاويا ... بمعترك تسفي عليه الأعاصر
ذكرت أبا الريان لما رأيته ... وأيقنت أني عند ذلك ثائر
وأبو الريان طعيمة بن عدي. وقال عبد الله بن رواحة يبكي نافع بن بديل بن ورقاء:
رحم الله نافع بن بديل ... رحمة المبتغي ثواب الجهاد
صابر صادق وفي إذا ما ... أكثر القوم قال قول السداد
شعر حسان في بكاء قتلى بئر معونة:
وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة ، ويخص المنذر بن عمرو:
على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحا غير نزر
ـــــــ
وذكر قول أنس بن عباس السلمي
تركت ابن ورقاء الخزاعي ثاويا ... بمعترك تسفي عليه الأعاصر
ذكرت أبا الزبان لما رأيته ... وأيقنت أني عند ذلك ثائر
الزبان أو الريان
هكذا وقع في النسخة أبا الزبان وفي رواية إبراهيم بن سعد: أبا الريان

(6/154)


على خيل الرسول غداة لاقوا ... مناياهم ولاقتهم بقدر
أصابهم الفناء بعقد قوم ... نخون عقد حبلهم بغدر
فيا لهفي لمنذر إذ تولى ... وأعنق في منيته بصبر
وكائن قد أصيب غداة ذاكم ... من أبيض ماجد من سر عمرو
قال ابن هشام: أنشدني آخرها بيتا أبو زيد الأنصاري. <384>
شعر كعب في يوم بئر معونة
وأنشدني لكعب بن مالك في يوم بئر معونة، يعير بني جعفر بن كلاب
تركتم جاركم لبني سليم ... مخافة حربهم عجزا وهونا
فلو حبلا تناول من عقيل ... لمد بحبلها حبلا متينا
أو القرطاء ما إن أسلموه ... وقدما ما وفوا إذ لا تفونا
نسب القرطاء:
قال ابن هشام: القرطاء: قبيلة من هوازن، ويروى " من نفيل " مكان " من عقيل "، وهو الصحيح لأن القرطاء من نفيل قريب.
ـــــــ
بالراء المهملة وبالياء أخت الواو وهكذا ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف كما في رواية إبراهيم بن سعد.
القرطاء
<386> <385> وذكر شعر كعب وفيه
أو القرطاء ما إن أسلموه.
القرطاء: هم بنو قرط وقريط وقريط وهم أبطن من بني عامر ثم من بني كلاب.

(6/155)


شيء منسوخ
ولما قتل أصحاب بئر معونة نزل فيهم قرآن ثم رفع أن أبلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه فثبت هذا في الصحيح وليس عليه رونق الإعجاز فيقال إنه لم ينزل بهذا النظم ولكن بنظم معجز كنظم القرآن.
فإن قيل إنه خبر والخبر لا يدخله النسخ قلنا: لم ينسخ منه الخبر، وإنما نسخ منه الحكم فإن حكم القرآن أن يتلى في الصلاة وأن لا يمسه إلا طاهر وأن يكتب بين اللوحين وأن يكون تعلمه من فروض الكفاية فكل ما نسخ ورفعت منه هذه الأحكام وإن بقي محفوظا، فإنه منسوخ فإن تضمن حكما جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولا به وأنكرت ذلك المعتزلة، وإن تضمن خبرا بقي ذلك الخبر مصدقا به وأحكام التلاوة منسوخة <386> عنه كما قد نزل لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
ويروى: لا يملأ عيني ابن آدم وفم ابن آدم كل ذلك في الصحيح وكذلك روي واديا من مال أيضا، فهذا خبر حق، والخبر لا ينسخ ولكن نسخ منه أحكام التلاوة له وكانت هذه الآية أعني قوله لو أن لابن آدم في سورة يونس بعد قوله {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] كذلك قال ابن سلام، وأما الحكم الذي بقي وكان قرآنا يتلى: " فالشيخ والشيخة إذا زنيا،

(6/156)


فارجموهما البتة نكالا من الله ولا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم "، فهذا حكم كان نسخه جائزا حين نسخ حكم التلاوة وكان جائزا أن يبقى حكم التلاوة وينسخ هذا الحكم بخلاف هذا الخبر كما تقدم.

(6/157)