السيرة
النبوية لابن كثير ذِكْرُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْقُرْحِ
وَالْجِرَاحِ،
فِي أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ، إِرْهَابًا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ حَتَّى
بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ
الْمَدِينَةِ قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ وَقْعَةَ
أُحُدٍ، وَذِكْرِهِ رُجُوعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ:
وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنَ أَهْلِ مَكَّة عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ
فَقَالَ: نازلتهم فَسَمِعتهمْ يتلاومون وَيَقُول بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَمْ
تَصْنَعُوا شَيْئًا، أَصَبْتُمْ شَوْكَةَ الْقَوْمِ وَحْدَهُمْ ثُمَّ
تَرَكْتُمُوهُمْ وَلَمْ تَبْتُرُوهُمْ، فَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ
يَجْمَعُونَ لَكُمْ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِمْ
أَشَدُّ الْقَرْحِ - بِطَلَبِ الْعَدُوِّ لِيَسْمَعُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ:
لَا يَنْطَلِقَنَّ مَعِي إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَنَا رَاكِبٌ مَعَكَ.
فَقَالَ: لَا.
فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَى الَّذِي بِهِمْ مِنَ
الْبَلَاءِ.
فَانْطَلَقُوا.
فَقَالَ الله فِي كِتَابه: " الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ،
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيم " (1) .
قَالَ: وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لجَابِر، حِينَ ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ فِي
الْمَدِينَة على أخواته.
__________
(1) سُورَة آل عمرَان (*)
(3/97)
قَالَ: وَطَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدُوَّ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ، سَوَاءً.
* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مَغَازِيهِ: وَكَانَ يَوْمُ
أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفَ مِنْ شَوَّالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ،
أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ: أَلَّا يَخْرُجَنَّ
أَحَدٌ إِلَّا مَنْ حضر بومنا؟ بِالْأَمْسِ.
فَكَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَذِنَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ ليبلغهم أَنَّهُ خَرَجَ فِي
طَلَبِهِمْ، لِيَظُنُّوا بِهِ قُوَّةً، وَأَن الذى أَصَابَهُم لَو
يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوِّهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى
عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
قَالَ: شَهِدْتُ أُحُدًا أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ،
فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ قُلْتُ لِأَخِي وَقَالَ لِي:
أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ ! وَالله مالنا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا وَمَا مَنَّا إِلَّا
جَرِيحٌ ثَقِيلٌ.
فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ، فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ
عُقْبَةً وَمَشَى عُقْبَةً (1) ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى
إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ
الْأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ،
فَأَقَامَ بِهَا الْاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ كَانَ اسْتَعْمَلَ على الْمَدِينَة ابْن أم
مَكْتُوم.
__________
(1) الْعقبَة: النّوبَة.
(*)
(3/98)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ [أَنَّ] مَعْبَدَ بْنَ أَبِي مَعْبَدٍ الخزاعى،
وَكَانَت خُزَاعَة مسلمهم وكافرهم عَيْبَة (1) رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بتهامة، صفقتهم (2) مَعَهُ لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا
كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا
أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ الله عافاك فيهم.
ثمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ ابْن
حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ،
وَقَالُوا: أَصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ
ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ؟ ! لَنَكُرَّنَّ عَلَى
بَقِيَّتِهِمْ فَلْنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا
مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي
جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا،
قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ
وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فيهم من الحنق عَلَيْكُم شئ لَمْ أَرَ
مِثْلَهُ قَطُّ.
قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ
حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
لِنَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ.
قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا
رَأَيْتُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ.
قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَادَتْ تُهِدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ
رَاحِلَتِي * إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ (3)
تَرْدَى (4) بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ * عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا
مِيلٍ مَعَازِيلِ فَظَلْتُ عَدُوًّا أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً * لَمَّا
سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
__________
(1) ابْن هِشَام: عَيْبَة نصح لرَسُول الله.
والعيبة: مَوضِع السِّرّ.
(2) صفقتهم: حلفهم.
(3) الجرد: عتاق الْخَيل.
والابابيل: الْجَمَاعَات.
(4) تردى: تسرع.
(*)
(3/99)
فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ
لِقَائِكُمْ * إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ (1) إِنِّي
نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ (2) ضَاحِيَةً * لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ
وَمَعْقُولِ مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لَا وَخْشٍ (3) قَنَابِلُهُ * وَلَيْسَ
يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ
وَمَنْ مَعَهُ.
وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟
قَالُوا: الْمَدِينَةَ.
قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا نُرِيدُ الْمِيرَةَ.
قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً
أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ وَأُحَمِّلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا
زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا
السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ.
فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ، فَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أُرَاهُ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي
الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ،
وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا:
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا: حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل.
تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " الَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أجر عَظِيم " قَالَت لعروة: يَابْنَ أختى
كَانَ أَبَوَاك
__________
(1) تغطمطت: اهتزت.
والجيل: الصَّفّ من النَّاس.
(2) أهل البسل: قُرَيْش.
(3) الوخش: الردئ.
وفى ابْن هِشَام: تنابلة.
والقنابل: جمع قنبلة الطَّائِفَة من النَّاس وَالْخَيْل.
(*)
(3/100)
مِنْهُمُ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لما أصَاب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ
الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَذْهَبُ فِي
إِثْرِهِمْ؟ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ
وَالزُّبَيْرُ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسلم مُخْتَصرا من وَجه عَنْ هِشَامٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ جَمِيعًا عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ.
، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْركه من طَرِيق أَبى سعيد عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيث السدى عَنْ عُرْوَةَ، وَقَالَ
فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: صَحِيحٌ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
كَذَا قَالَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ أَصْحَابِ
الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كُلُّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا،
وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَبَقِيَ الْبَاقُونَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَذَفَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ
الرُّعْبَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى
مَكَّةَ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ التُّجَّارُ
يَقْدَمُونَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ الْمَدِينَةَ فَيَنْزِلُونَ بِبَدْرٍ
الصُّغْرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ
وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الْقَرْحُ وَاشْتَكَوْا
ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب النَّاس لِيَنْطَلِقُوا بهم ويتبعوا
مَا كَانُوا متبعين وَقَالَ لنا: ترتحلون الْآن
فَتَأْتُونَ الْحَجَّ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامَ
قَابِلٍ.
فَجَاءَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ.
فَأَبَى عَلَيْهِ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فَقَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ
وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْنِي أَحَدٌ.
فَانْتَدَبَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ
وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن
(3/101)
عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، فَسَارُوا فِي طَلَبِ أَبِي
سُفْيَانَ حَتَّى بَلَغُوا الصَّفْرَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
للَّذين أَحْسنُوا مِنْهُم وَاتَّقوا أجر عَظِيم ".
وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، أَنَّ أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ لَمَّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرَادَ الرُّجُوعَ
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لَا
تَفْعَلُوا، فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ
يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرَ الَّذِي كَانَ، فَارْجِعُوا.
فَرَجَعُوا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ
الْأَسَدِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ هَمُّوا بِالرَّجْعَةِ: " وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بِهَا
لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ! ".
قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
وَجْهِهِ ذَلِكَ قَبْلَ رُجُوعِهِ الْمَدِينَة، مُعَاوِيَة ابْن
الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ،
جَدَّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لِأُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ
مُعَاوِيَةَ، وَأَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرَهُ بِبَدْرٍ ثُمَّ مَنَّ
عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ
لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا
مَرَّتَيْنِ.
اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ.
فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ حجر مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا
عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ " فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ اسْتَأْمَنَ لَهُ عُثْمَان على أَلا يُقيم بعد ثَلَاث، فَبُعِثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَقَالَ: سَتَجِدَانِهِ فِي مَكَانِ
كَذَا وَكَذَا فَاقْتُلَاهُ.
فَفَعَلَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
* * *
(3/102)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ كَمَا حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يُنْكَرُ لَهُ
شَرَفًا فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَكَانَ فيهم شَرِيفًا، إِذَا جَلَسَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا رَسُولُ
اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَعَزَّكُمْ
بِهِ، فَانْصُرُوهُ وَعَزِّرُوهُ وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
ثُمَّ يَجْلِسُ..حَتَّى إِذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا صَنَعَ وَرَجَعَ
النَّاسُ قَامَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَأَخَذَ
الْمُسْلِمُونَ بِثِيَابِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ وَقَالُوا: اجْلِسْ أَيْ
عَدُوَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَسْتَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ وَقَدْ صَنَعْتَ مَا
صَنَعْتَ.
فَخَرَجَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ
لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بُجْرًا (1) أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ!
فَلَقِيَهُ رِجَالٌ من الانصار بِبَاب الْمَسْجِد فَقَالُوا: وَيلك مَالك؟
قَالَ: قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ فَوَثَبَ إِلَيَّ رِجَالٌ من أَصْحَابه
يجبذوننى وَيُعَنِّفُونَنِي، لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بُجْرًا أَنْ قُمْتُ
أُشَدِّدُ أَمْرَهُ.
قَالُوا: وَيْلَكَ ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: وَاللَّهِ مَا أبغى أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي.
* * * ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي
قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ
" وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ وَالله سميع عليم ".
قَالَ: إِلَى تَمَامِ سِتِّينَ آيَةً.
وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ
بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
__________
(1) البجر: الشَّرّ والامر الْعَظِيم.
(*)
(3/103)
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذِكْرِ
شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَتَعْدَادِهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ
عَلَى قَبَائِلِهِمْ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ.
فَذَكَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَرْبَعَةً: حَمْزَةَ وَمُصْعَبَ بْنَ
عُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جحش وشماس ابْن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا.
وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَام خَمْسَة أُخْرَى فَصَارُوا سَبْعِينَ
عَلَى قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ.
ثُمَّ سَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ
اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا عَلَى قَبَائِلِهِمْ أَيْضًا.
قُلْتُ: وَلَمْ يُؤْسَرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى أَبِي عَزَّةَ
الْجُمَحِيِّ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَتَلَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بَيْنَ
يَدَيْهِ، أَمَرَ الزُّبَيْرَ، وَيُقَالُ: عَاصِمَ بْنَ ثَابت ابْن أَبى
الافلح، فَضرب عُنُقه.
(3/104)
فَصْلٌ فِيمَا تَقَاوَلَ بِهِ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْأَشْعَارِ
وَإِنَّمَا نُورِدُ شِعْرَ الْكُفَّارِ لِنَذْكُرَ جَوَابَهَا مِنْ شِعْرِ
الْإِسْلَامِ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي وَقْعِهَا مِنَ الْأَسْمَاعِ
وَالْأَفْهَامِ، وَأَقْطَعَ لِشُبْهَةِ الْكَفَرَةِ الطَّغَامِ.
قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ
مِمَّا قِيلَ مِنَ الشّعْر يَوْم أحد قَول هُبَيْرَة ابْن أَبِي وَهْبٍ
الْمَخْزُومِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ من قُرَيْش، فَقَالَ:
مَا بَالُ هَمٍّ عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي * بِالْوُدِّ مِنْ هِنْدَ إِذْ
تَعْدُو عَوَادِيهَا بَاتَتْ تُعَاتِبُنِي هِنْدٌ وَتَعْذِلُنِي *
وَالْحَرْبُ قَدْ شُغِلَتْ عَنِّي مَوَالِيهَا مَهْلًا فَلَا تَعْذِلِينِي
إِنَّ مِنْ خُلُقِي * مَا قَدْ عَلِمْتِ وَمَا إِنْ لَسْتُ أُخْفِيهَا
مُسَاعِفٌ لِبَنِي كَعْبٍ بِمَا كَلِفُوا * حَمَّالُ عِبْءٍ وَأَثْقَالٍ
أُعَانِيهَا وَقَدْ حَمَلْتُ سِلَاحِي فَوْقَ مُشْتَرَفٍ * سَاطٍ سبوح إِذا
تجرى يُبَارِيهَا (1) كَأَنَّهُ إِذْ جَرَى عَيْرٌ بِفَدْفَدَةٍ *
مُكَدَّمٌ لَاحِقٌ بِالْعُونِ يَحْمِيهَا (2) مِنْ آلِ أَعْوَجَ يَرْتَاحُ
النَّدَيُّ لَهُ * كَجِذْعِ شَعْرَاءَ مُسْتَعْلٍ مَرَاقِيهَا أَعْدَدْتُهُ
وَرُقَاقَ الْحَدِّ مُنْتَخَلًا * وَمَارِنًا لِخُطُوبٍ قَدْ أُلَاقِيهَا
(4) هَذَا وبيضاء مثل النهى محكمَة * لظت عَلَيَّ فَمَا تَبْدُو
مَسَاوِيهَا (4) سُقْنَا كِنَانَةَ مِنْ أَطْرَافِ ذِي يَمَنٍ * عُرْضَ
الْبِلَادِ عَلَى مَا كَانَ يُزْجِيهَا قَالَتْ كِنَانَةُ أَنَّى
تَذْهَبُونَ بِنَا * قُلْنَا النخيل فأموها وَمن فِيهَا (5)
__________
(1) مشترف: مشرف.
والساطى: الْفرس الْبعيد الخطو.
والسبوح: الذى يسبح فِي جريه.
(2) العير: حمَار الْوَحْش.
والفدفدة: الفلاة.
والمكدم المعضض.
والعون: جمع عانة وَهُوَ القطيع من حمر الْوَحْش.
(3) رقاق الْحَد: السيوف.
ومنتخلا: متخيرا والمارن: الرمْح الصلب اللدن.
(4) الْبَيْضَاء: يُرِيد بهَا الدرْع.
والمنهى: الغزير؟ ؟ لظت: لصقت.
(5) النخيل: عين قرب الْمَدِينَة.
(*)
(3/105)
نَحْنُ الْفَوَارِسُ يَوْمَ الْجَرِّ (1)
مِنْ أُحُدٍ * هَابَتْ مَعَدٌّ فَقُلْنَا نَحْنُ نَأْتِيهَا هَابُوا
ضِرَابًا وَطَعْنًا صَادِقًا خَذِمًا * مِمَّا يَرَوْنَ وَقَدْ ضُمَّتْ
قَوَاصِيهَا (2) ثُمَّتَ رُحْنَا كَأَنَّا عَارِضٌ بَرِدٌ * وَقَامَ هَامُ
بَنِي النَّجَّارِ يَبْكِيهَا (3) كَأَنَّ هَامَهُمُ عِنْدَ الْوَغَى
فِلَقٌ * مِنْ قَيْضِ رُبْدٍ نَفَتْهُ عَنْ أَدَاحِيهَا (4) أَوْ حَنْظَلٌ
ذَعْذَعَتْهُ الرِّيحُ فِي غُصُنٍ * بَالٍ تَعَاوَرُهُ مِنْهَا سَوَافِيهَا
(5) قَدْ نَبْذُلُ الْمَالَ سَحًّا لَا حِسَابَ لَهُ * وَنَطْعُنُ
الْخَيْلَ شَزْرًا فِي مَآقِيهَا (6)
وَلَيْلَةٍ يَصْطَلِي بِالْفَرْثِ جَازِرُهَا * يَخْتَصُّ بِالنَّقَرَى
الْمُثْرِينَ دَاعِيهَا (7) وَلَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ *
جربا جُمَادِيَّةٍ قَدْ بَتُّ أَسَرِيهَا (8) لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ
فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ * مِنَ الْقَرِيسِ وَلَا تَسْرِي أَفَاعِيهَا (9)
أَوْقَدْتُ فِيهَا لِذِي الضَّرَّاءِ جَاحِمَةً * كَالْبَرْقِ ذاكية
الاركان أحميها (10) أورثني ذالكم عَمْرو ووالده * من قبله كَانَ بالمشتى
يُغَالِيهَا (11) كَانُوا يُبَارُونَ أَنْوَاءَ النُّجُومِ فَمَا * دَنَّتْ
عَنِ السُّورَةِ الْعُلْيَا مَسَاعِيهَا * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِكَعْبِ بْنِ مَالك وَغَيره.
قُلْتُ: وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَشْهُرُ وَأَكْثَرُ وَاللَّهُ أعلم:
__________
(1) الْجَرّ: أصل الْجَبَل.
(2) الخذم: الْقَاطِع.
(3) الْعَارِض: السَّحَاب.
وَبرد: بِهِ برد، وَهُوَ حب الْغَمَام.
(4) القيض: القشرة الْعليا الْيَابِسَة من الْبيض.
والربد: النعام.
والاداحي: جمع أدحى وَهُوَ مبيض النعام.
(5) ذعذعته: حركته.
وتعاوره: تتداوله.
والسوافى: الرِّيَاح الشَّدِيدَة.
(6) سَحا: صبا.
والشزر فِي الطعْن: أَن يكون من نَاحيَة غير مُسْتَقِيمَة.
(7) يصطلى: يستدفئ.
والنقرى: الدعْوَة الْخَاصَّة، أَي يخْتَص الاغنياء طلبا لمكافأتهم، يصف
شدَّة الزَّمَان.
(8) أندية: جمع ندى على غير قِيَاس، وَقيل: إِنَّه جمع الْجمع، والجرباء:
المقحطة.
(9) القريس: الْبرد الشَّديد.
(10) الجاحمة: الملتهية.
(11) ابْن هِشَام: بالمثنى.
وَمَا هُنَا أوضح.
(*)
(3/106)
سُقْتُمْ كِنَانَةَ جَهْلًا مِنْ
سَفَاهَتِكُمْ * إِلَى الرَّسُولِ فَجُنْدُ اللَّهِ مُخْزِيهَا
أَوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ الْمَوْتِ ضَاحِيَةً * فَالنَّارُ مَوْعِدُهَا
وَالْقَتْلُ لَاقِيهَا جَمَعْتُمُوهُمْ أَحَابِيشًا بِلَا حَسَبٍ *
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ غَرَّتْكُمْ طَوَاغِيهَا
أَلَا اعْتَبَرْتُمْ بِخَيْلِ اللَّهِ إِذْ قَتَلَتْ * أَهْلَ الْقَلِيبِ
وَمَنْ أَلْقَيْنَهُ فِيهَا كَمْ مِنْ أَسِيرٍ فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَنٍ *
وَجَزِّ نَاصِيَةٍ كُنَّا مَوَالِيهَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ هُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّ
أَيْضًا: أَلَا هَلْ أَتَى غَسَّانَ عَنَّا وَدُونَهُمْ * مِنَ الْأَرْضِ
خَرْقٌ سيره متنعنع (1) صحارى وَأَعْلَامٌ كَأَنَّ قَتَامَهَا * مِنَ
الْبُعْدِ نَقْعٌ هَامِدٌ متقطع (2) تظل بِهِ البزل العراميس رزحا * ويحلو
بِهِ غَيْثُ السِّنِينَ فَيُمْرِعُ (3) بِهِ جِيَفُ الْحَسْرَى يَلُوحُ
صَلِيبُهَا * كَمَا لَاحَ كَتَّانُ التِّجَارِ الْمُوَضَّعُ (4) بِهِ
الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً * وَبَيْضُ نَعَامٍ قيضه يتقلع
(5) مُجَالِدُنَا عَنْ دِينِنَا كُلُّ فَخْمَةٍ * مُذَرَّبَةٍ فِيهَا
الْقَوَانِسُ تَلْمَعُ (6) وَكُلُّ صَمُوتٍ فِي الصِّوَانِ كَأَنَّهَا *
إِذَا لُبِسَتْ نِهْيٌ مِنَ الْمَاءِ مُتْرَعُ (7) وَلَكِنْ بِبَدْرٍ
سَائِلُوا مَنْ لَقِيتُمُ * مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْبَاءِ بِالْغَيْبِ
تَنْفَعُ وَإِنَّا بِأَرْضِ الْخَوْفِ لَوْ كَانَ أَهْلُهَا * سِوَانَا
لَقَدْ أَجْلَوْا بِلَيْلٍ فَأَقْشَعُوا إِذَا جَاءَ مِنَّا رَاكِبٌ كَانَ
قَوْلُهُ * أَعِدُّوا لِمَا يزجى ابْن حَرْب وَيجمع
__________
(1) المتنعنع: المضطرب.
(2) الاعلام: الْجبَال.
والقتام الْغُبَار.
وَالنَّقْع: الْغُبَار أَيْضا.
(3) البزل: جمع بازل.
وهى النَّاقة الَّتِى تبلغ التَّاسِعَة.
والعراميس: الصلبة.
والرزح: المعيبة.
(4) الصَّلِيب: ودك الْعِظَام.
والموضع: الْمَبْسُوط.
(5) الْعين: بقر الْوَحْش والآرام.
وخلفة: قِطْعَة وَرَاء قِطْعَة.
والقيض: قشور الْبيض.
ويتقلع: يتشقق (6) مذربة: محددة.
والقوانس: جمع قونس وهى بَيْضَة السِّلَاح.
(7) كل صموت: أَرَادَ بِهِ الدرْع.
جعلهَا صموتا لشدَّة نسجها وإحكام صنعتها.
والنهى: الغدير.
والمترع: الملئ.
(*)
(3/107)
فَمَهْمَا يُهِمُّ النَّاسَ مِمَّا
يَكِيدُنَا * فَنَحْنُ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ أَوْسَعُ
فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تكيده الْبَريَّة قَدْ أَعْطَوْا يَدًا
وَتَوَزَّعُوا نُجَالِدُ لَا تَبْقَى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ * مِنَ النَّاسِ
إِلَّا أَنْ يَهَابُوا وَيُفْظَعُوا وَلَمَّا ابْتَنَوْا بِالْعِرْضِ
قَالَتْ سَرَاتُنَا * عَلَامَ إِذًا لَمْ نَمْنَعِ الْعِرْضَ نَزْرَعُ (1)
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ نَتْبَعُ أَمْرَهُ * إِذَا قَالَ فِينَا
الْقَوْلَ لَا نتظلع (2) تَدَلَّى عَلَيْهِ الرُّوحُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ *
يُنَزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ وَيَرْفَعُ نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ
وَقَصَرْنَا (3) * إِذَا مَا اشْتَهَى أَنَّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا بَدَوْا لَنَا * ذَرُوا عَنْكُمُ هَوْلَ
الْمَنِيَّاتِ وَاطْمَعُوا وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الْحَيَاةَ تَقَرُّبًا
* إِلَى مَلِكٍ يُحْيَا لَدَيْهِ وَيُرْجَعُ وَلَكِنْ خُذُوا أَسْيَافَكُمْ
وَتَوَكَّلُوا * عَلَى اللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ أَجْمَعُ فَسِرْنَا
إِلَيْهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالِهِمْ * ضُحِيًّا عَلَيْنَا الْبَيْضُ لَا
نَتَخَشَّعُ بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السَّنَوَّرُ وَالْقَنَا * إِذَا
ضَرَبُوا أَقْدَامَهَا لَا تَوَرَّعُ (4) فَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ
الْبَحْرِ وَسْطَهُ * أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ ثَلَاثَةُ
آلَافٍ وَنَحْنُ نصية * ثَلَاث مئين إِن كَثرْنَا فأربع (5) نُغَاوِرُهُمْ
تَجْرِي الْمَنِيَّةُ بَيْنَنَا * نُشَارِعُهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا
وَنَشْرَعُ تَهَادَى قِسِيُّ النَّبْعِ فِينَا وَفِيهِمُ * وَمَا هُوَ
إِلَّا الْيَثْرِبِيُّ الْمُقَطَّعُ (6) وَمَنْجُوفَةٌ حَرْمِيَّةٌ
صَاعِدِيَّةٌ * يذر عَلَيْهَا السم سَاعَة تصنع (7)
__________
(1) الْعرض: سفح الْجَبَل.
وَهُوَ جبل أحد.
(2) لَا نتظلع: لَا نَمِيل عَنهُ (3) قَصرنَا: غايتنا.
(4) الملمومة: الكتيبة.
والسنور: السِّلَاح.
لَا تورع: لَا تكف.
(5) النصية: الْخِيَار من الْقَوْم.
(6) النبع: شجر للقسى والسهام ينْبت فِي قلَّة الْجَبَل.
واليثربى: الْوتر الْمَنْسُوب إِلَى يثرب.
(7) المنجوفة: السِّهَام.
والحرمية: المنسوبة إِلَى الْحرم.
والصاعدية: منسوبة إِلَى صاعد، كَانَ يصنعها (*)
(3/108)
تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرِّجَالِ وَتَارَةً
* تَمُرُّ بِأَعْرَاضِ الْبِصَارِ تَقَعْقَعُ (1) وَخَيْلٌ تَرَاهَا
بِالْفَضَاءِ كَأَنَّهَا * جَرَادُ صَبًا فِي قُرَّةٍ يَتَرَيَّعُ (2)
فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَدَارَتْ بِنَا الرَّحَا * وَلَيْسَ لِأَمْرٍ
حَمَّهُ اللَّهُ مَدْفَعُ ضَرَبْنَاهُمْ حَتَّى تَرَكْنَا سَرَاتَهُمْ *
كَأَنَّهُمْ بِالْقَاعِ خُشْبٌ مُصَرَّعُ لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى
اسْتَفَقْنَا عَشِيَّةً * كَأَنَّ ذَكَانَا حَرُّ نَارٍ تَلَفَّعُ (3)
وَرَاحُوا سِرَاعًا مُوجَعِينَ (4) كَأَنَّهُمْ * جَهَامٌ هَرَاقَتْ
مَاءَهُ الرِّيحُ مُقْلِعُ (5) وَرُحْنَا وَأُخْرَانَا بطاء كأننا * أسود
على لحم ببيشة ضلع (6) فَنِلْنَا وَنَالَ الْقَوْمُ مِنَّا وَرُبَّمَا *
فَعَلْنَا وَلَكِنْ مَا لَدَى اللَّهِ أَوْسَعُ وَدَارَتْ رَحَانَا
وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمُ * وَقَدْ جَعَلُوا كُلٌّ مِنَ الشَّرِّ يَشْبَعُ
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً * عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْمِي
الذِّمَارَ وَيَمْنَعُ جِلَادٌ عَلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ لَا نَرَى *
عَلَى هَالِكٍ عَيْنًا لَنَا الدَّهْرُ تَدْمَعُ بَنُو الْحَرْبِ لَا
نَعْيَا بشئ نَقُولُهُ * وَلَا نَحْنُ مِمَّا جَرَّتِ الْحَرْبُ نَجْزَعُ
بَنُو الْحَرْبِ إِنْ نَظْفَرْ فَلَسْنَا بِفُحَّشٍ * وَلَا نَحن من
أظفارنا نَتَوَجَّعُ وَكُنَّا شِهَابًا يَتَّقِي النَّاسُ حَرَّهُ *
وَيَفْرُجُ عَنْهُ مَنْ يَلِيهِ وَيَسْفَعُ (7) فَخَرَّتْ عَلَى ابْنِ
الزِّبَعْرَى وَقَدْ سَرَى * لَكُمْ طَلَبٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ مُتْبَعُ
فَسَلْ عَنْكَ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ وَغَيْرِهَا * مِنَ النَّاسِ مَنْ
أَخْزَى مَقَامًا وَأَشْنَعُ
__________
(1) قَالَ السُّهيْلي: " يَقُول: تشق أبدان الرِّجَال حَتَّى تبلغ البصار
فتقعقع فِيهَا، وهى جمع بصرة، وهى حِجَارَة لينَة.
وَيجوز أَن يكون أَرَادَ جمع بَصِيرَة، مثل كَرِيمَة وكرام.
والبصيرة: الدرْع، وَقيل: الترس ".
(2) الصِّبَا: ريح شرقية.
والقرة: اللَّيْلَة الْبَارِدَة.
يتريع: يذهب ويجئ.
(3) ذكانا: حرارتنا فِي الْحَرْب.
(4) ابْن هِشَام: موجفين.
(5) الجهام: السَّحَاب الرَّقِيق.
(6) بيشة: مَوضِع كثير الاسود.
وفى ابْن هِشَام: ظلع.
(7) يفرح عَنهُ: ينْكَشف.
ويسفع: يلفح.
(*)
(3/109)
وَمَنْ هُوَ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ الْحَرْبُ
مَفْخَرًا * وَمَنْ خَدُّهُ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَضْرَعُ شَدَدْنَا
بِحَوَلِ اللَّهِ وَالنَّصْرِ شَدَّةً * عَلَيْكُمْ وَأَطْرَافُ
الْأَسِنَّةِ شُرَّعُ تكر القنا فِيكُم كَأَن فروعها * عَزَالِي مَزَادٍ
مَاؤُهَا يَتَهَزَّعُ (1) عَمَدْنَا إِلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ وَمَنْ يَطِرْ
* بِذِكْرِ اللِّوَاءِ فَهُوَ فِي الْحَمد أسْرع فحانوا وَقَدْ أَعْطَوْا
يَدًا وَتَخَاذَلُوا * أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَمَرَهُ وَهُوَ أَصْنَعُ * *
* قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى فِي
يَوْمِ أُحُدٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ بَعْدُ: يَا غُرَابَ الْبَيْنِ
أَسْمَعْتَ فَقُلْ * إِنَّمَا تَنْطِقُ شَيْئًا قَدْ فُعِلْ إِنَّ
لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى * وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ (2)
وَالْعَطِيَّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَهُمْ * وَسَوَاءٌ قَبْرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ
كُلُّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِلٌ * وَبَنَاتُ الدَّهْرِ يلعبن بِكُل أبلغنا
حَسَّانَ عَنِّي آيَةً * فَقَرِيضُ الشِّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ كَمْ
تَرَى بِالْجَرِّ مِنْ جُمْجُمَةٍ * وَأَكُفٍّ قَدْ أُتِرَّتْ وَرَجَلْ (3)
وَسَرَابِيلَ حِسَانٍ سُرِيَتْ * عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي
الْمُنْتَزَلْ كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدٍ * مَاجِدِ الْجَدَّيْنِ
مِقْدَامٍ بَطَلْ صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارِعٍ * غَيْرِ مُلْتَاثٍ
لَدَى وَقْعِ الْأَسَلْ فَسَلِ الْمِهْرَاسَ مَا سَاكِنُهُ * بَيْنَ
أَقْحَافٍ وَهَامٍ كَالْحَجَلْ (4) لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا *
جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقع الاسل
__________
(1) العزالى: جمع عزلي، وهى مصب المَاء من الراوية.
والمزاد: جمع مزادة وهى الراوية.
ويتهزع: يتقطع.
(2) الْقبل: العيان والمواجهة.
(3) الْجَرّ: أصل الْجَبَل.
وأترت: قطعت.
(4) المهراس: مَاء بِأحد.
وفى ابْن هِشَام: من ساكنه.
والاقحاف: جمع قحف.
والهام: الرؤوس.
والحجل: الذّكر من القبج.
(*)
(3/110)
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بَرْكَهَا (1) *
وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ ثُمَّ خَفُّوا عِنْدَ ذَاكُمْ
رُقَّصًا * رَقْصَ الْحَفَّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ (2) فَقَتَلْنَا
الضِّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ * وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ لَا
أَلُومُ النَّفْسَ إِلَّا أَنَّنَا * لَوْ كَرَّرْنَا لَفَعَلْنَا
الْمُفْتَعَلْ بِسُيُوفِ الْهِنْدِ تَعْلُو هَامَهُمْ * عِلَلًا
تَعْلُوهُمْ بَعْدَ نَهَلْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَهَبَتْ بِابْنِ الزِّبَعْرَى
وَقْعَةٌ * كَانَ مِنَّا الْفَضْلُ فِيهَا لَوْ عدل وَلَقَد نلتم ونلنا
مِنْكُم * وكذك الْحَرْبُ أَحْيَانًا دُوَلْ نَضَعُ الْأَسْيَافَ فِي
أَكْتَافِكُمْ * حَيْثُ نَهْوَى عِلَلًا بَعْدَ نَهَلْ نُخْرِجُ
الْأَصْبَحَ مِنْ أَسْتَاهِكُمْ * كَسُلَاحِ النِّيبِ يَأْكُلْنَ الْعَصَلْ
(3) إِذْ تُوَلُّونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ * هَرَبًا فِي الشِّعْبِ
أَشْبَاهَ الرَّسَلْ (4) إِذْ شَدَّدْنَا شَدَّةً صَادِقَةً *
فَأَجَأْنَاكُمُ إِلَى سفح الْجَبَل بخناطيل كأشداق الْمَلَا * مَنْ
يُلَاقُوهُ مِنَ النَّاسِ يُهَلْ (5) ضَاقَ عَنَّا الشِّعْبُ إِذْ
نَجْزَعُهُ * وَمَلَأْنَا الْفَرْطَ مِنْهُ وَالرِّجَلْ (6) بِرِجَالٍ
لَسْتُمُ أَمْثَالَهُمْ * أُيِّدُوا جِبْرِيلَ نَصْرًا فَنزل (7)
__________
(1) البرك: الصَّدْر.
وَعبد الاشل: هم بَنو عبد الاشهل.
(2) الرقص: الخبب فِي السّير، وَهُوَ الاسراع.
والحفان: فراخ النعام.
(3) الاصبح: وصف للبن الممذوق الْمخْرج من بطونهم، كَمَا قَالَ السُّهيْلي
2 / 158 وتروى: الاضياح.
وَهُوَ اللَّبن الممزوج بِالْمَاءِ.
والنيب: النوق المسنة.
والعصل: نَبَات يصلح الابل إِذا أَكلته.
(4) الرُّسُل: الْغنم إِذا أرسلها الراعى، وَالرسل: القطيع من كل شئ.
(5) الخناطيل: الْجَمَاعَات.
والاشداق: جمع شدق، وَهُوَ من الْوَادي عرضاه وناحيتاه.
والملا: الفلاة ذَات حر وسراب.
ويهل: يفزع.
(6) نجزعه: نقطعه عرضا.
والفرط: الْمُرْتَفع من الارض.
وَالرجل: المطمئن مِنْهَا.
(7) أيدوا جِبْرِيل: أَرَادَ: أيدوا بِجِبْرِيل.
(*)
(3/111)
وَعَلَوْنَا يَوْمَ بِدْرٍ بِالتُّقَى *
طَاعَةِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلْ وَقَتَلْنَا كُلَّ رَأْسٍ مِنْهُمُ
* وَقَتَلْنَا كُلَّ جحجاح رِفَلٍّ (1) وَتَرَكْنَا فِي قُرَيْشٍ عَوْرَةً
* يَوْمَ بَدْرٍ وَأَحَادِيثَ الْمَثَلْ وَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا شَاهِدًا
* يَوْمَ بِدْرٍ وَالتَّنَابِيلُ الْهُبُلْ (2) فِي قُرَيْشٍ مِنْ جُمُوعٍ
جُمِّعُوا * مِثْلَ مَا يُجْمَعُ فِي الْخِصْبِ الْهَمَلْ (3) نَحْنُ لَا
أَمْثَالُكُمْ وُلْدَ اسْتِهَا * نَحْضُرُ الْبَأْسَ إِذَا الْبَأْسُ
نَزَلْ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ يَبْكِي حَمْزَةَ
وَمَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ: نَشَجَتْ وَهَلْ لَك من منشج * وَكنت مَتى تدكر تَلْجَجِ
تَذَكُّرَ قَوْمٍ أَتَانِي لَهُمْ * أَحَادِيثُ فِي الزَّمَنِ الْأَعْوَجِ
فَقَلْبُكَ مِنْ ذِكْرِهِمْ خَافِقٌ * مِنَ الشَّوْقِ وَالْحُزْنِ
الْمُنْضِجِ وَقَتْلَاهُمْ فِي جِنَانِ النَّعِيمِ * كِرَامُ الْمَدَاخِلِ
وَالْمَخْرَجِ بِمَا صَبَرُوا تَحْتَ ظِلِّ اللِّوَاءِ * لِوَاءِ
الرَّسُولِ بِذِي الْأَضْوُجِ (4) غَدَاةَ أَجَابَتْ بِأَسْيَافِهَا *
جَمِيعًا بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَأَشْيَاعُ أَحْمَدَ إِذْ
شَايَعُوا * عَلَى الْحَقِّ ذِي النُّورِ وَالْمَنْهَجِ
فَمَا بَرِحُوا يَضْرِبُونَ الْكُمَاةَ * وَيَمْضُونَ فِي الْقَسْطَلِ
المرهج (5)
__________
(1) الجحجاح: السَّيِّد.
والرفل: الذى يجر ثَوْبه خُيَلَاء.
(2) التنابيل: الْقصار.
والهبل: الَّذين ثقلوا لِكَثْرَة اللَّحْم عَلَيْهِم.
(3) الهمل: الابل الْمُهْملَة الَّتِى تركت دون رَاع.
(4) الاضوج: جمع ضوج، وَهُوَ منعطف الْوَادي.
(5) القسطل: الْغُبَار.
(*)
(3/112)
كَذَلِكَ حَتَّى دَعَاهُمْ مَلِيكٌ * إِلَى
جَنَّةٍ دَوْحَةِ المولج (1) وَكلهمْ مَاتَ جر الْبَلَاءِ * عَلَى مِلَّةِ
اللَّهِ لَمْ يَحْرَجِ كَحَمْزَةَ لَمَّا وَفَى صَادِقًا * بِذِي هِبَّةٍ
صَارِمٍ سَلْجَجِ (2) فَلَاقَاهُ عَبْدُ بَنِي نَوْفَلٍ * يُبَرْبِرُ
كَالْجَمَلِ الْأَدْعَجِ (3) فَأَوْجَرَهُ حَرْبَةً كَالشِّهَابِ *
تَلَهَّبُ فِي اللَّهَبِ الْمُوَهَجِ وَنُعْمَانُ أَوْفَى بِمِيثَاقِهِ *
وَحَنْظَلَةُ الْخَيْرِ لَمْ يُحْنَجِ (4) عَنِ الْحَقِّ حَتَّى غَدَتْ
رُوحُهُ * إِلَى مَنْزِلٍ فَاخِرِ الزِّبْرِجِ (5) أُولَئِكَ لَا مَنْ
ثَوَى مِنْكُمُ * مِنَ النَّارِ فِي الدَّرَكِ الْمُرْتَجِ * * * قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي حَمْزَةَ وَمَنْ
أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهِيَ عَلَى رَوِيِّ
قَصِيدَةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مَنْ يُنْكِرُ
هَذِه لحسان.
وَالله أعلم: يامى قومِي فاندبي * بسحيرة شجو النوائح كالحاملات الوقر
بالثقل الْمُلِحَّاتِ الدَّوَالِحْ (6) الْمُعْوِلَاتِ الْخَامِشَا * تِ
وُجُوهَ حُرَّاتٍ صحائح
وَكَأن سيل دموعها الانصاب تُخْضَبُ بِالذَّبَائِحْ يَنْقُضْنَ أَشْعَارًا
لَهُنَّ * هُنَاكَ بَادِيَةَ الْمَسَائِحْ (7) وَكَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْ
* - لٍ بِالضُّحَى شُمْسٍ روامح
__________
(1) الدوحة: الْكَثِيرَة الاغصان.
والمولج: الْمدْخل (2) السلجج: المرهف.
(3) عبد بنى نَوْفَل: وحشى قَاتل حَمْزَة.
ويبربر: يَصِيح.
والادعج: الاسود.
(4) لم يحنج: لم يمل.
(5) الزبرج: الوشى.
(6) الدوالح: الْحَامِلَات الثّقل.
(7) المسائح: ذوائب الشّعْر.
(8 - السِّيرَة - 3) (*)
(3/113)
مِنْ بَيْنِ مَشْرُورٍ وَمَجْ * زُوْرٍ
يُذَعْذَعُ بِالْبَوَارِحْ (1) يبْكين شجوا مسلبات * كَدَّحَتْهُنَّ
الْكَوَادِحْ وَلَقَدْ أَصَابَ قُلُوبَهَا * مَجْلٌ لَهُ جُلَبٌ قَوَارِحْ
(2) إِذْ أَقْصَدَ الْحِدْثَانُ مَنْ * كُنَّا نُرَجِّي إِذْ نُشَايِحْ (3)
أَصْحَابَ أُحْدٍ غَالَهُمْ * دَهْرٌ أَلَمَّ لَهُ جَوَارِحْ مَنْ كَانَ
فَارِسَنَا وَحَا * مِينَا إِذَا بُعِثَ الْمَسَالِحْ (4) يَا حَمْزَ لَا
وَالله لَا * أنساك ماصر اللَّقَائِحْ لِمُنَاخِ أَيْتَامٍ وَأَضْ * -
يَافٍ وَأَرْمَلَةٍ تُلَامِحْ (5) وَلَمَّا يَنُوبُ الدَّهْرُ فِي * حَرْبٍ
لِحَرْبٍ وَهْيَ لاقح يَا فَارِسًا يامدرها * يَا حَمْزَ قَدْ كُنْتَ
الْمُصَامِحْ (6) عَنَّا شَدِيدَاتِ الْخُطُو * بِ إِذَا يَنُوبُ لَهُنَّ
فَادِحْ ذَكَّرْتَنِي أَسَدَ الرَّسُو * لِ وَذَاكَ مِدْرَهُنَا
الْمُنَافِحْ عَنَّا وَكَانَ يُعَدُّ إِذْ * عُدَّ الشَّرِيفُونَ
الْجَحَاجِحْ يَعْلُو الْقَمَاقِمَ جَهْرَةً * سَبْطَ الْيَدَيْنِ أَغَرَّ
وَاضِحْ
لَا طَائِشٌ رَعِشٌ وَلَا * ذُو عِلَّةٍ بِالْحِمْلِ آنِحْ (7) بَحر
فَلَيْسَ يغب جَا * رًا مِنْهُ سَيْبٌ أَوْ مَنَادِحْ أَوْدَى شَبَابُ
أُولِي الْحَفَا * ئِظِ وَالثَّقِيلُونَ الْمَرَاجِحْ الْمُطْعِمُونَ إِذا
المشا * تى مَا يصفقهن نَاضِح
__________
(1) المشرور: الذى وضع لَحْمه على خصفة ليجف.
ويذعذع: يغرق.
والبوارح: الرِّيَاح الشَّدِيدَة.
(2) المجل: أَن يكون بَين الْجلد وَاللَّحم مَاء.
والجلب: جمع جلبة وَهُوَ قشرة تعلو الْجرْح عِنْد الْبُرْء.
(3) نشايح: تحذر.
(4) اللقائح: جمع لقحة وهى النَّاقة ذَات اللَّبن.
(5) تلامح: تنظر لمحة ثمَّ تغض بصرها.
(6) المصامح: المدافع القوى.
(7) آنح: ضَعِيف واهن.
يُقَال أنح الْبَعِير: إِذا حمل الثّقل أخرج من صَدره صَوت المعتصر.
(*)
(3/114)
لَحْمَ الْجِلَادِ وَفَوْقَهُ * مِنْ
شَحْمِهِ شُطَبٌ شَرَائِحْ ليدافعوا عَن جارهم * مارام ذُو الضِّغْنِ
الْمُكَاشِحْ لَهَفِي لِشُبَّانٍ رُزِئْ * نَاهُمْ كَأَنَّهُمُ
الْمَصَابِحْ شُمٍّ بَطَارِقَةٍ غَطَا * رِفَةٍ خَضَارِمَةٍ مسامح (1)
المشترون الْحَمد بالاموال إِنَّ الْحَمْدَ رَابِحْ وَالْجَامِزُونَ
بِلُجْمِهِمْ يَوْمًا * إِذَا مَا صَاحَ صَائِحْ (2) مَنْ كَانَ يُرْمَى
بِالنَّوَا * قِرِ (3) مِنْ زَمَانٍ غَيْرِ صَالِحْ مَا إِنْ تَزَالُ
رِكَابُهُ * يَرْسِمْنَ فِي غُبْرٍ صَحَاصِحْ (4) رَاحَتْ تُبَارَى وَهْوَ
فِي * رَكْبٍ صُدُورُهُمُ رَوَاشِحْ حَتَّى تَئُوبَ لَهُ الْمَعَا * لِي
لَيْسَ مِنْ فَوْزِ السفائح (5) يَا حَمْزَة قد أوحدتني * كالعود شَذَّ
بِهِ الكوافح (6) أَشْكُو إِلَيْك وفوقك الترب المكور والصفائح
من جندل يلقيه فَوْقك * إِذْ أَجَادَ الضَّرْحَ ضَارِحْ (7) فِي وَاسِعٍ
يَحْشُونَهُ * بِالتُّرْبِ سَوَّتْهُ الْمَمَاسِحْ فَعَزَاؤُنَا أَنَّا
نَقُو * لُ وَقَوْلُنَا بَرْحٌ بَوَارِحْ (8) مَنْ كَانَ أَمْسَى وَهْوَ
عَمَّا أوقع الْحدثَان جانح فليأتنا فلتبك عَيناهُ لهلكانا النوافح (9)
__________
(1) البطارقة: الرؤساء، والغطارفة: السَّادة.
والخضارفة: المكثرون من الْعَطاء.
والمسامح: الْكِرَام.
(2) الجامزون: الواثبون.
واللجم: جمع لجام.
(3) النواقر: الدَّوَاهِي والمصائب.
(4) يرسمن: يسرن الرَّسْم، وَهُوَ نوع من سير الابل.
والغبر: جمع غبراء وهى الارض: والصحاصح: الارض المستوية: (5) السفائح: جمع
سفيح وَهُوَ من قداح الميسر.
(6) الكوافح: الَّذين يتناولونه بِالْقطعِ.
(7) الضرح: الْحفر للْمَيت.
(8) برح: صَعب.
(9) النوافح: من ينفحون بالعطاء وَالْخَيْر.
(*)
(3/115)
الْقَائِلين الفاعلين * ذَوِي السَّمَاحَةِ
وَالْمَمَادِحْ مَنْ لَا يَزَالُ نَدَى يَدَيْهِ لَهُ طوال الدَّهْر مأخ
(1) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ
يُنْكِرُهَا لِحَسَّانَ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَبْكِي
حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهَ: طَرَقَتْ هُمُومُكَ فَالرُّقَادُ مُسَهَّدُ *
وَجَزِعْتَ أَنْ سُلِخَ الشَّبَابُ الْأَغْيَدُ وَدَعَتْ فُؤَادَكَ
لِلْهَوَى ضَمْرِيَّةٌ * فَهَوَاكَ غَوْرِيٌّ وَصَحْوُكَ مُنْجِدُ فَدَعِ
التَّمَادِيَ فِي الْغَوَايَةِ سَادِرًا * قَدْ كُنْتَ فِي طَلَبِ
الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ (2) وَلَقَدْ أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا *
أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نهاك المرشد
ولفد هُدِدْتَ لِفَقْدِ حَمْزَةَ هَدَّةً * ظَلَّتْ بَنَاتُ الْجَوْفِ
مِنْهَا تُرْعِدُ وَلَوِ انَّهُ فُجِعَتْ حِرَاءُ بِمِثْلِهِ * لَرَأَيْتَ
رَاسِيَ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ قَرْمٌ تَمَكَّنَ فِي ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ *
حَيْثُ النُّبُوَّةُ وَالنَّدَى وَالسُّؤْدُدُ وَالْعَاقِرُ الْكَوْمَ
الْجِلَادَ إِذَا غَدَتْ * رِيحٌ يَكَادُ الْمَاءُ مِنْهَا يَجْمُدُ
وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَّلًا * يَوْمَ الْكَرِيهَةِ
وَالْقَنَا يَتَقَصَّدُ وَتَرَاهُ يَرْفُلُ فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُ * ذُو
لِبْدَةٍ شَثْنُ الْبَرَاثِنِ أَرْبَدُ (3) عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
وَصَفِيُّهُ * وَرَدَ الْحِمَامَ فَطَابَ ذَاكَ الْمَوْرِدُ وَأَتَى
الْمَنِيَّةَ مُعْلِمًا فِي أُسْرَةٍ * نَصَرُوا النَّبِيَّ وَمِنْهُمُ
الْمُسْتَشْهِدُ وَلَقَدْ إِخَالُ بِذَاكَ هِنْدًا بُشِّرَتْ * لَتُمِيتَ
دَاخِلَ غُصَّةٍ لَا تَبْرُدُ مِمَّا صَبَحْنَا بِالْعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا
* يَوْمًا تَغَيَّبَ فِيهِ عَنْهَا الاسعد
__________
(1) مائح: طَالب مبتغ.
(2) تفند: تعذل وتلام.
(3) ذُو لبدة: يُرِيد أسدا.
والشثن: الغليظ.
والبراثن للاسد كالاصابع للانسان.
والاربد: المغبر.
(*)
(3/116)
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ
وُجُوهَهُمْ * جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ حَتَّى رَأَيْتُ
لَدَى النَّبِيِّ سَرَاتَهُمْ * قسمَيْنِ نقْتل من نشَاء ونطرد فَأَقَامَ
بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمُ * سَبْعُونَ عُتْبَةُ مِنْهُمُ
وَالْأَسْوَدُ وَابْنُ الْمُغِيرَةِ قَدْ ضَرَبْنَا ضَرْبَةً * فَوْقَ
الْوَرِيدِ لَهَا رَشَاشٌ مُزْبِدُ وَأُمَيَّةُ الْجُمَحِيُّ قَوَّمَ
مَيْلَهُ * عَضْبٌ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُهَنَّدُ فَأَتَاكَ فَلُّ
الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُمْ * وَالْخَيْلُ تُثْفِنُهُمْ (1) نَعَامٌ
شُرَّدُ شَتَّانَ مَنْ هُوَ فِي جَهَنَّمَ ثَاوِيًا * أَبَدًا وَمَنْ هُوَ
فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدُ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَبْكِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابه يَوْم أحد.
قَالَ ابْن
هِشَام: وأنشدينها أَبُو زَيْدٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ: بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا * وَمَا
يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ عَلَى أَسَدِ الْإِلَهِ غَدَاةَ
قَالُوا * أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ
بِهِ جَمِيعًا * هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ أَبَا يَعْلَى
لَكَ الْأَرْكَانُ هُدَّتْ * وَأَنْتَ الْمَاجِدُ الْبَرُّ الْوُصُولُ
عَلَيْكَ سَلَامُ رَبِّكَ فِي جَنَانٍ * مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لَا يَزُولُ
أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا * فَكُلُّ فِعَالِكُمْ حَسَنٌ
جَمِيلُ رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمٌ * بِأَمْرِ اللَّهِ يَنْطِقُ
إِذْ يَقُولُ أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا * فَبَعْدَ الْيَوْمِ
دَائِلَةٌ تَدُولُ وَقُبَلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا *
وَقَائِعَنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ نَسِيتُمْ ضَرْبَنَا بقليب بدر *
غَدَاة أَتَاكُم الْمَوْت العجيل
__________
(1) تثفنهم: تطردهم.
(*)
(3/117)
غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا *
عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرَّا
جَمِيعًا * وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ وَمَتْرَكُنَا
أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا * وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ (1) وَهَامَ
بَنِي رَبِيعَةَ سَائِلُوهَا * فَفِي أَسْيَافِنَا مِنْهَا فُلُولُ أَلَّا
يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي * فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَى
الْهَبُولُ أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا * بِحَمْزَةَ إِنَّ
عِزَّكُمُ ذَلِيلُ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَتْ صَفِيَّةُ
بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَخَاهَا حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:
أَسَائِلَةٌ أَصْحَابَ أُحْدٍ مَخَافَةً * بَنَاتُ أَبِي مِنْ أَعْجَمٍ
وَخَبِيرِ فَقَالَ الْخَبِيرُ إِنَّ حَمْزَةَ قَدْ ثَوَى * وَزِيرُ رَسُولِ
اللَّهِ خَيْرُ وَزِيرِ دَعَاهُ إِلَهُ الْحَقِّ ذُو الْعَرْشِ دَعْوَةً *
إِلَى جَنَّةٍ يَحْيَا بِهَا وَسُرُورِ فَذَلِكَ مَا كُنَّا نُرَجِّي
وَنَرْتَجِي * لِحَمْزَةَ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ مَصِيرِ فَوَاللَّهِ لَا
أَنْسَاكَ مَا هَبَّتِ الصَّبَا * بُكَاءً وَحُزْنًا مَحْضَرِي وَمَسِيرِي
عَلَى أَسَدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ مِدْرَهَا (2) * يَذُودُ عَنِ
الْإِسْلَامِ كُلَّ كفور فياليت شِلْوِي (3) عِنْدَ ذَاكَ وَأَعْظُمِي *
لَدَى أَضْبُعٍ تَعْتَادُنِي وَنُسُورِ أَقُولُ وَقَدْ أَعْلَى النَّعِيُّ
عَشِيرَتِي * جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مِنْ أَخٍ وَنَصِيرِ قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَقَالَتْ نُعْمُ، امْرَأَةُ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ، تبكى
زَوجهَا وَالله أعلم وَللَّه الْحَمد والْمنَّة:
__________
(1) مجلعبا: ممتدا على الارض.
والحيزوم: مَا اكتنف الْحُلْقُوم من جَانب الصَّدْر.
واللدن: اللين من الرماح.
(2) المدره: المدافع المحامي.
(3) الشلو: الْعُضْو.
(*)
(3/118)
يَا عَيْنُ جُودِي بِفَيْضٍ غَيْرَ
إِبْسَاسٍ * عَلَى كِرِيمٍ مِنَ الْفِتْيَانِ لَبَّاسِ صَعْبِ الْبَدِيهَةِ
مَيْمُونٍ نَقِيبَتُهُ * حَمَّالِ أَلْوِيَةٍ رَكَّابِ أَفْرَاسِ أَقُولُ
لَمَّا أَتَى النَّاعِي لَهُ جَزَعًا * أَوْدَى الْجَوَادُ وَأَوْدَى
الْمُطْعِمُ الْكَاسِي وَقُلْتُ لَمَّا خَلَتْ مِنْهُ مَجَالِسُهُ * لَا
يُبْعِدُ اللَّهُ مِنَّا قُرْبَ شَمَّاسِ قَالَ: فَأَجَابَهَا أَخُوهَا
الْحَكَمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ يُعَزِّيهَا فَقَالَ: اقْنَيْ
حَيَاءَكِ فِي سِتْرٍ وَفِي كَرَمٍ * فَإِنَّمَا كَانَ شَمَّاسٌ مِنَ
النَّاسِ لَا تَقْتُلِي النَّفْسَ إِذْ حَانَتْ مَنِيَّتُهُ * فِي طَاعَةِ
اللَّهِ يَوْمَ الرَّوْعِ وَالِبَاسِ قَدْ كَانَ حَمْزَةُ لَيْثُ اللَّهِ
فَاصْطَبِرِي * فَذَاقَ يَوْمَئِذٍ مِنْ كَأْسِ شَمَّاسِ
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ
رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ: رَجَعْتُ وَفِي نَفْسِي بَلَابِلُ جَمَّةٌ * وَقَدْ
فَاتَنِي بَعْضُ الَّذِي كَانَ مَطْلَبِي مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ * بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمْ وَمِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ
وَلَكِنَّنِي قَدْ نِلْتُ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ * كَمَا كُنْتُ أَرْجُو
فِي مَسِيرِي وَمَرْكَبِي * * * وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذَا
أَشْعَارًا كَثِيرَةً تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنْهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ
وَخَوْفَ الْمَلَالَةِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْأَمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ أَكْثَرَ
مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ، وَلَا سِيَّمَا
هَاهُنَا.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابت أَنَّهُ قَالَ فِي
غَزْوَةِ أُحُدٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ: طَاوَعُوا الشَّيْطَانَ إِذْ أَخْزَاهُمُ *
فَاسْتَبَانَ الْخِزْيُ فِيهِمْ وَالْفَشَلْ حِينَ صَاحُوا صَيْحَةً
وَاحِدَةً * مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَالُوا اعْلُ هُبَلْ فَأَجَبْنَاهُمْ
جَمِيعًا كُلُّنَا * رَبنَا الرَّحْمَن أَعلَى وَأجل
(3/119)
اثبتوا تستعملوها مُرَّةً * مِنْ حِيَاضِ
الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ نَهَلْ وَاعْلَمُوا أَنا إِذا مَا نضحت * عَن خيال
الْمَوْتِ قِدْرٌ تَشْتَعِلْ وَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ قِطْعَةٌ مِنْ
جَوَابِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
" آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ " فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ مَا
وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ
وَالْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا، وَمِنْ أَشْهَرِهَا وقْعَة أحد كَانَت فِي
النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِيهَا فِي أُحُدٍ تُوفِّيَ شَهِيدًا أَبُو يَعْلَى، وَيُقَالُ أَبُو
عُمَارَةَ أَيْضًا، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلَقَّبُ
بِأَسَدِ اللَّهِ وَأَسَدِ رَسُولِهِ، وَكَانَ رَضِيعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ،
أَرْضَعَتْهُمْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ
فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ مِنَ السِّنِينَ يَوْم
قتل رضى الله عَنْهُم، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ
وَمِنَ الصَّدِّيقَيْنِ الْكِبَارِ، وَقُتِلَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ تَمَامُ
السَّبْعِينَ.
رَضِيَ الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وَفِيهَا عَقَدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى أُمِّ كُلْثُوم بِنْتُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ
أُخْتِهَا رُقْيَةَ، وَكَانَ عَقْدُهُ عَلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْهَا، وَبَنَى بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا.
كَمَا تقدم فِيهَا.
ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَفِيهَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وُلِدَ لِفَاطِمَةَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحسن بن على ابْن أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: وَفِيهَا عَلِقَتْ بِالْحُسَيْنِ رَضِيَ الله عَنْهُم.
(3/120)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم رب يسر سنة
أَربع من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ
سَرِيَّةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَى طُلَيْحَةَ
الْأَسَدِيِّ، فَانْتَهَى إِلَى مَا يُقَالُ لَهُ قَطَنٌ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْيَرْبُوعي، عَن سَلمَة ابْن عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو
سَلَمَةَ أُحُدًا فَجُرِحَ جُرْحًا عَلَى عَضُدِهِ، فَأَقَامَ شَهْرًا
يُدَاوَى، فَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ
شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ فَقَدِ
اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَيْهَا.
وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ
فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ، وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ
وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا.
وَخَرَجَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ.
فَانْتَهَى إِلَى أَدْنَى قَطَنٍ، وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَكَانَ
هُنَاكَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ ابْنَا خُوَيْلِدٍ،
وَقَدْ جَمَعَا حُلَفَاءَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ لِيَقْصِدُوا حَرْبَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا تمالاوا
عَلَيْهِ فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا سَلَمَةَ فِي سَرِيَّتِهِ هَذِهِ.
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَرْضِهِمْ تَفَرَّقُوا وَتَرَكُوا نَعَمًا
كَثِيرًا لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ كُلَّهُ
أَبُو سَلَمَةَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ مَعَهُ ثَلَاثَةَ مَمَالِيكَ، وَأَقْبَلَ
رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَعْطَى ذَلِك الرجل
(3/121)
الاسدي الذى دلهم نَصِيبا وافرا من
الْمغنم، وَأَخْرَجَ صَفِيَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، عَبْدًا وَخَمَّسَ الْغَنِيمَةَ، وَقَسَّمَهَا بَيْنَ
أَصْحَابِهِ.
ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ: فَحَدَّثَنِي عبد الْملك بن عبيد، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ الَّذِي جُرِحَ أَبِي أَبُو أُسَامَةَ الْجُشْمِيُّ،
فَمَكَثَ شهرا يداويه فبرأ، فَلَمَّا برأَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ، يَعْنِي مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ، إِلَى قَطَنٍ، فَغَابَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَلَمَّا
دَخَلَ الْمَدِينَةَ انْتَقَضَ بِهِ جُرْحُهُ فَمَاتَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى.
قَالَ عُمَرُ: وَاعْتَدَّتْ أُمِّي حَتَّى خلت أَرْبَعَة أشهر وَعشر، ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ
بِهَا فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَانَتْ أُمِّي تَقُولُ: مَا
بَأْسٌ بِالنِّكَاحِ فِي شَوَّال وَالدُّخُول فِيهِ، قد تَزَوَّجَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّال وَبنى
فِيهِ.
قَالَ: وَمَاتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قُلْتُ: سَنَذْكُرُ فِي أَوَاخِرَ هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالِهَا تزيج
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ، وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ وِلَايَةِ الِابْنِ أُمَّهُ فِي النِّكَاحِ،
وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَبِهِ الثِّقَةُ.
(3/122)
غَزْوَةُ الرَّجِيعِ قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ.
بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أهل
مَكَّة ليجيزوه.
قَالَ: والرجيع على ثَمَانِيَة أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بُعِثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا،
وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ (1) بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا
لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ، فَتَبِعُوهُمْ
بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى أَتَوْا
مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ
الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ.
فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ.
فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابه لجأوا إِلَى فَدْفَدٍ (2) ، وَجَاءَ
الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَقَالُوا: لَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ
إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا أَلَّا نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا.
فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ،
اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا رَسُولَكَ.
فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ.
وَبَقِيَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ
وَالْمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ والميثاق
__________
(1) قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم: غلط عبد الرَّزَّاق وَابْن عبد الْبر
فَقَالَا فِي عَاصِم هَذَا: هُوَ جد عَاصِم بن عمر
ابْن الْخطاب، وَذَلِكَ وهم، وَإِنَّمَا هُوَ خَال عَاصِم، لَان أم عَاصِم
بن عمر جميلَة بنت ثَابت، وَعَاصِم هُوَ أَخُو جميلَة، ذكر ذَلِك الزبير
القاضى وَعَمه مُصعب.
إرشاد السارى 6 / 312.
(2) فدفد: رابية مشرفة.
(*)
(3/123)
نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا
اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ
بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ
الْغَدْرِ! فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ.
فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ،
فَقَتَلُوهُ.
وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ،
فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ،
وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَكَثَ
عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسًى
مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ (1) الْحَارِثِ يستحد بِهَا فَأَعَارَتْهُ.
قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ
فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ
ذَلِكَ مِنِّي، وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ
أَقْتُلَهُ؟ مَا كنت لافعل ذَلِك إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ،
لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قَطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ
مِنْ ثَمَرِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا كَانَ إِلَّا
رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ.
فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ: دَعَونِي أُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَرَوْا
أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا * عَلَى أَيِّ
شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مصرعي وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ *
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ (2) قَالَ: ثُمَّ قَامَ
إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَتْ قُرَيْش إِلَى
عَاصِم ليؤتوا بشئ
مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا من عظمائهم
(3) يَوْم بدر، فَبعث الله
__________
(1) اسْمهَا زَيْنَب بنت الْحَارِث: أُخْت عقبَة بن الْحَارِث الذى قتل
خبيبا.
(2) أوصال: جمع وصل وَهُوَ الْعُضْو.
والشلو: الْجَسَد والعضو.
(3) قيل: هُوَ عقبَة بن أَبى معيط.
(*)
(3/124)
عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ
(1) فَحَمَتْهُ مِنْ رسلهم فَلم يقدروا مِنْهُ على شئ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: الَّذِي قَتَلَ خُبَيْبًا هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ.
قُلْتُ: وَاسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَلَهُ حَدِيثٌ فِي الرَّضَاعِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا
سِرْوَعَةَ وَعُقْبَةَ أَخَوَانِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * هَكَذَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي كتاب المغازى من صَحِيحه قصَّة
الرَّجِيعِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْجِهَادِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبى سُفْيَان وَأسد ابْن حَارِثَة الثقفى
جليف بَنِي زُهْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
وَالْمَشْهُورُ عَمْرٌو.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بن ثَابت بن أَبى الاقلح.
وسَاق بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ.
وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ ابْنِ إِسْحَاقَ لِيُعَرَفَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ
التَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِمَام فِي
هَذَا الشَّأْن غير مُدَافَعٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ! قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فِينَا
إِسْلَامًا فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا
فِي الدّين ويقرئوننا الْقُرْآن ويعلموننا شرائع الاسلام.
__________
(1) الظلة: السحابة.
والدبر: ذُكُور النَّحْل.
(*)
(3/125)
فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ
مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ.
وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَعَاصِمُ
بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ،
وَخَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ
عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ.
هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّةً، وَكَذَا ذَكَرَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَسَمَّاهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً، وَعِنْدَهُ أَنَّ
كَبِيرَهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا (1) مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا
كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ مِنْ
صُدُورِ الْهَدْأَةِ (2) غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ
هُذَيْلًا، فَلَمْ يَرُعِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إِلَّا
الرِّجَالُ بِأَيْدِيهِمِ السُّيُوفُ قَدْ غَشُوهُمْ، فَأَخَذُوا
أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوا الْقَوْمَ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ
مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكُنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وميثاقه أَلا نَقْتُلَكُمْ.
فَأَمَّا مَرْثَدٌ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ
فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا عَقْدًا
أَبَدًا، وَقَالَ عَاصِمُ بن ثَابت.
وَللَّه أَعْلَمُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ:
مَا عِلَّتِي وَأَنَا جلد نابل * والقوس فِيهَا وتر عنابل (3)
__________
(1) ابْن هِشَام: فَخرج.
(2) الهدأة: مَوضِع بَين عسفان وَمَكَّة، على سَبْعَة أَمْيَال من عسفان.
(3) النابل: صَاحب النبل.
والعنابل: الغليظ.
(*)
(3/126)
تَزِلُّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ (1)
* الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلُ وَكُلُّ مَا حَمَّ الْإِلَهُ
نَازِلُ * بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ إِلَيْهِ آيِلُ إِنْ لَمْ أُقَاتِلْكُمْ
فَأُمِّي هَابِلُ وَقَالَ عَاصِمٌ أَيْضًا: أَبُو سُلَيْمَانَ وَرِيشُ
الْمُقْعَدِ * وَضَالَةٌ مِثْلُ الْجَحِيمِ الْمُوقَدِ (2) إِذَا
النَّوَاحِي افْتُرِشَتْ لَمْ أُرْعَدِ * وَمُجْنَأٌ مِنْ جِلْدِ ثَوْرٍ
أَجْرَدِ (3) وَمُؤْمِنٌ بِمَا عَلَى مُحَمَّدِ وَقَالَ أَيْضًا: أُبُو
سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى * وَكَانَ قَوْمِي مَعْشَرًا كِرَامَا قَالَ:
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَقُتِلَ صَاحِبَاهُ.
فَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ لِيَبِيعُوهُ
مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُهَيْل، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ
أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ: لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ
لَتَشْرَبَنَّ فِي قحفه الْخمر.
فمنعته الدبر، فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَالُوا: دَعُوهُ
حَتَّى يمسى فَيذْهب عَنْهُ فَنَأْخُذَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ
فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى الله عهدا أَلا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ
وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا.
تَنَجُّسًا.
فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الدَّبْرَ
مَنَعَتْهُ: يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ!
__________
(1) المعابل: جمع معبلة وَهُوَ نصل عريض طَوِيل.
(2) المقعد: رجل كَانَ يريش السِّهَام.
والضالة: السِّلَاح، أَو السِّهَام.
(3) المجنأ: الترس لَا حَدِيد فِيهِ.
والاجرد: الاملس.
(*)
(3/127)
كَانَ عَاصِم نذر أَلا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ
وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ
وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ! * * * قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَأَمَّا خبيب وَزيد الدَّثِنَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
طَارِقٍ، فَلَانُوا وَرَقُّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ وَأَعْطَوْا
بِأَيْدِيهِمْ، فَأَسَرُوهُمْ ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ
لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا.
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ
عَنْهُ الْقَوْمُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ
بِالظَّهْرَانِ.
وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَزَيْدُ بن الدثنة، فقدموا بهما مَكَّة،
فَبَاعُوهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَا
بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَابْتَاعَ خُبَيْبًا حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ
التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ أَبُو إِهَابٍ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ
عَامِرٍ لِأُمِّهِ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ.
قَالَ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ
أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، فَبَعَثَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ
لَهُ نِسْطَاسٌ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ
لِيَقْتُلَهُ، وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ ليقْتل: أنْشدك
بِاللَّه يَا زيد، أَتُحِبُّ أَن مُحَمَّدًا الْآن عندنَا مَكَانَكَ
نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ
أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ
شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَإِنِّي
جَالِسٌ فِي أَهْلِي.
قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا
يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا!
(3/128)
قَالَ: ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ.
قَالَ: وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ مَاوِيَّةَ مَوْلَاةِ حُجَيْرِ بْنِ
أَبِي إِهَابٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ، قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي خبيب
حُبِسَ فِي بَيْتِي، فَلَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا وَإِنَّ فِي
يَدِهِ لَقَطْفًا مِنْ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ،
وَمَا أَعْلَمُ فِي أَرْضِ اللَّهِ عِنَبًا يُؤْكَلُ! قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ
اللَّهُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُمَا قَالَا: قَالَتْ: قَالَ لِي حِينَ
حَضَرَهُ الْقَتْلُ: ابْعَثِي إِلَيَّ بِحَدِيدَةٍ أَتَطَهَّرُ بِهَا
لِلْقَتْلِ.
قَالَتْ: فَأَعْطَيْتُ غُلَامًا مِنَ الْحَيِّ الْمُوسَى، فَقُلْتُ لَهُ:
ادْخُلْ بِهَا على هَذَا الرجل الْبَيْت.
فَقَالَت: فَوَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّى الْغُلَامُ بِهَا
إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَاذَا صَنَعْتُ؟ ! أَصَابَ وَاللَّهِ الرجل ثَأْره،
يقتل هَذَا الْغُلَامِ فَيَكُونُ رَجُلًا بِرَجُلٍ.
فَلَمَّا نَاوَلَهُ الْحَدِيدَةَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ ثُمَّ قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا خَافَتْ أُمُّكَ غَدْرِي حِينَ بَعَثَتْكَ بِهَذِهِ
الْحَدِيدَةِ إِلَيَّ! ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ عَاصِمٌ: ثُمَّ خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ حَتَّى
جَاءُوا بِهِ إِلَى التَّنْعِيمِ لِيَصْلُبُوهُ.
وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَدَعُونِي حَتَّى أَرْكَعَ
رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا، قَالُوا: دُونَكَ فَارْكَعْ.
فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
الْقَوْمِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي
إِنَّمَا طَوَّلْتُ جَزَعًا مِنَ الْقَتْلِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الصَّلَاةِ.
قَالَ: فَكَانَ خُبَيْبٌ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ
عِنْد الْقَتْل للْمُسلمين (1) .
__________
(1) فِي هَامِش الاصل: " حَاشِيَة بِخَط المُصَنّف.
قَالَ السُّهيْلي: وَإِنَّمَا صَارَت سنة لانها فعلت فِي زَمَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُحْسِنَتْ مِنْ صَنِيعِهِ، قَالَ:
وَقَدْ صَلَّاهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
= (9 - السِّيرَة 3) (*)
(3/129)
قَالَ: ثُمَّ رَفَعُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ
فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا قَدْ بَلَّغْنَا رِسَالَةَ
رَسُولِكَ، فَبِلِّغْهُ الْغَدَاةَ مَا يُصْنَعُ بِنَا، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ احْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا وَلَا تُغَادِرْ
مِنْهُمْ أَحَدًا.
ثُمَّ قَتَلُوهُ.
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ
فِيمَنْ حَضَرَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُلْقِينِي
إِلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ:
إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَاضْطَجَعَ لِجَنْبِهِ زلت عَنهُ.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: أَنَّ خُبَيْبًا وَزَيْدَ بْنَ
الدَّثِنَةِ قُتِلَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِعَ يَوْمَ قُتِلَا وَهُوَ يَقُولُ:
وَعَلَيْكُمَا أَوْ عَلَيْكَ السَّلَامُ.
خُبَيْبٌ قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ! وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا صَلَبُوا زَيْدَ
بْنَ الدَّثِنَةِ رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ لِيَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ، فَمَا
زَادَهُ إِلَّا إِيمَانًا وتسليما.
__________
= ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيِقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ زَيْدَ
بْنَ حَارِثَةَ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَغْلًا من الطَّائِف وَاشْترط
عَلَيْهِ الْكرَى أَنْ يُنْزِلَهُ حَيْثُ شَاءَ، فَمَالَ بِهِ إِلَى
خَرِبَةٍ فَإِذَا بِهَا قَتْلَى كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ
قَالَ لَهُ زَيْدٌ: دَعْنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.
فَقَالَ: صل رَكْعَتَيْنِ، فطالما صَلَّى هَؤُلَاءِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ
صَلَاتُهُمْ شَيْئًا! قَالَ: فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي
فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَإِذَا صَارِخٌ يَقُولُ: لَا
تَقْتُلْهُ.
فَهَابَ وَذَهَبَ يَنْظُرُ
فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ.
فَسَمِعَ أَيْضًا الصَّوْتَ يَقُولُ لَا تَقْتُلْهُ.
فَذَهَبَ لِيَنْظُرَ ثُمَّ جَاءَ، فَقُلْتُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ،
فَإِذَا أَنَا بِفَارِس على فرس فِي يَده حَرْبَة فِي رَأسهَا شعلة من نَار
فطعنه بهَا حَتَّى أنفذه فَوَقع مَيتا، ثمَّ قَالَ: لما دَعَوْت الله فِي
الْمرة الاولى كنت فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَلما دَعوته فِي الْمرة
الثَّانِيَة كنت فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَلما دَعوته فِي الثَّالِثَة
أَتَيْتُك.
قَالَ السُّهيْلي: وَقد صلاهَا حجر بن عدى بن الادبر حِين حمل إِلَى
مُعَاوِيَة من الْعرَاق وَمَعَهُ كتاب زِيَاد ابْن أَبِيه وَفِيه: أَنه خرج
عَلَيْهِ وَأَرَادَ خلعه، وفى الْكتاب شَهَادَة جمَاعَة من التَّابِعين
مِنْهُم الْحسن وَابْن سِيرِين، فَلَمَّا دخل على مُعَاوِيَة قَالَ:
السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ.
قَالَ: أَو أَنا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ وَأمر بقتْله.
فصلى رَكْعَتَيْنِ قبل قَتله ثمَّ قتل رَحمَه الله.
قَالَ: وَقد عاتبت عَائِشَة مُعَاوِيَة فِي قَتله فَقَالَ: إِنَّمَا قَتله
من شهد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: دعينى وحجرا فإنى سألقاه على الجادة يَوْم
الْقِيَامَة!.
قَالَت: فَأَيْنَ ذهب عَنْك حلم أَبى سُفْيَان؟ قَالَ: حِين غَابَ مثلك من
قومِي " اه.
(*)
(3/130)
وَذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
أَنَّهُمْ لَمَّا رَفَعُوا خُبَيْبًا عَلَى الْخَشَبَةِ نَادَوْهُ
يُنَاشِدُونَهُ: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَكَانَكَ؟ قَالَ: لَا
وَاللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَفْدِيَنِي بِشَوْكَةٍ يُشَاكَهَا
فِي قَدَمِهِ! فَضَحِكُوا مِنْهُ.
وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: زَعَمُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ دَفَنَ
خُبَيْبًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَنا قتلت خبيبا،
لانا كُنْتُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا مَيْسَرَةَ أَخَا بَنِي
عَبْدِ الدَّارِ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَجَعَلَهَا فِي يَدِي، ثُمَّ أَخَذَ
بِيَدِي وَبِالْحَرْبَةِ ثُمَّ طَعَنَهُ بِهَا حَتَّى قَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخطاب اسْتعْمل سعيد
ابْن عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيَّ عَلَى بَعْضِ الشَّامِ، فَكَانَتْ
تُصِيبُهُ غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنُ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ
لِعُمَرَ وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ مُصَابٌ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي
قَدْمَةٍ قَدِمَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا سَعِيدُ مَا هَذَا الَّذِي
يُصِيبُكَ؟ فَقَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا بى مَا بَأْسٍ،
وَلَكِنِّي كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ حِينَ قُتِلَ،
وَسَمِعْتُ دَعْوَتَهُ، فَوَاللَّهِ مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا
فِي مَجْلِسٍ قَطُّ إِلَّا غُشِيَ عَلَيَّ! فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ
خَيْرًا.
وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَى رَجُلٍ نَسِيجِ وَحْدِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ خُبَيْبٌ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى انْسَلَخَتِ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنِي جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَهُ عَيْنًا وَحْدَهُ قَالَ: جِئْتُ إِلَى
خَشَبَةِ خُبَيْبٍ فَرَقَيْتُ فِيهَا وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ،
فَأَطْلَقْتُهُ فَوَقَعَ إِلَى الارض
(3/131)
ثُمَّ اقْتَحَمْتُ فَانْتَبَذْتُ قَلِيلًا،
ثُمَّ الْتَفَّتُّ فَلَمْ أر شَيْئا، فَكَأَنَّمَا بلعته الْأَرْضُ، فَلَمْ
تُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ
سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ
أَصْحَابُ الرَّجِيعِ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ
هَؤُلَاءِ المفتونين الَّذين هَلَكُوا هَكَذَا، لاهم أَقَامُوا فِي أهلهم
ولاهم أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ.
فَأَنْزَلُ اللَّهُ فِيهِمْ: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ
وَهُوَ أَلد الْخِصَام (1) " وَمَا بَعْدَهَا.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَالله رءوف بالعباد (2) ".
* * *
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ قَوْلُ خُبَيْبٍ حِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُهَا لَهُ: لَقَدْ
جَمَّعَ الْأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَلَّبُوا * قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا
كُلَّ مَجْمَعِ وَكُلُّهُمْ مُبْدِي الْعَدَاوَةِ جَاهَدٌ * عَلَيَّ
لِأَنِّي فِي وِثَاقٍ بمضبع (3) وَقَدْ جَمَّعُوا أَبْنَاءَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ * وَقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنَّعِ إِلَى اللَّهِ
أَشْكُو غُرْبَتِي ثُمَّ كُرْبَتِي * وَمَا أَرْصَدَ الْأَعْدَاءُ (4) لِي
عِنْدَ مَصْرَعِي فَذَا الْعَرْشِ صَبِّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي *
فَقَدْ بَضَّعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَأِسَ مَطْمَعِي وَذَلِكَ فِي ذَات
الْإِلَه وَإِن يَشَأْ * يُبَارك على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وَقَدْ
خَيَّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتُ دُونَهُ * وَقَدْ هَمَلَتْ عَيْنَايَ
مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إِنِّي لِمَيِّتٌ *
وَلَكِنْ حذارى جحم نَار ملفع
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة 204.
(2) سُورَة الْبَقَرَة 207 (3) ابْن هِشَام: بمصيع.
(4) ابْن هِشَام: الاحزاب.
(*)
(3/132)
فَوَاللَّهِ مَا أَرْجُو إِذَا مُتُّ
مُسْلِمًا * عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَضْجَعِي فَلَسْتُ
بِمُبْدٍ لِلْعَدُوِّ تَخَشُّعًا * وَلَا جَزَعًا إِنِّي إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعِي وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بَيْتَانِ مِنْ
هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَهُمَا قَوْلُهُ: فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ
مُسْلِمًا * عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي
ذَاتِ الْإِلَه وَإِن يَشَأْ * يُبَارك على أوصال شلو ممزع * * * وَقَالَ
حسان بن ثَابت يرثى خُبَيْبًا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَا بَالُ
عَيْنِكَ لَا تَرْقَا مَدَامِعُهَا * سَحًّا عَلَى الصَّدْرِ مِثْلَ
اللُّؤْلُؤِ الْقَلِقِ (1) عَلَى خُبَيْبٍ فَتَى الْفِتْيَانِ قَدْ
عَلِمُوا * لَا فَشِلٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَلَا نَزِقِ فَاذْهَبْ خُبَيْبُ
جَزَاكَ اللَّهُ طَيِّبَةً * وَجَنَّةَ الْخُلْدِ عِنْدَ الْحُورِ فِي
الرُّفُقِ
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ * حِينَ الْمَلَائِكَةُ
الْأَبْرَارُ فِي الْأُفُقِ فِيمَ قَتَلْتُمْ شَهِيدَ اللَّهِ فِي رَجُلٍ *
طَاغٍ قَدَ اوْعَثَ فِي الْبُلْدَانِ وَالرُّفَقِ (2) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
تَرَكْنَا بَعْضَهَا لِأَنَّهُ أَقْذَعَ فِيهَا.
وَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو الَّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ مِنْ
بَنِي لِحْيَانَ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاق وَالله أعلم وَللَّه
الْحَمد والْمنَّة والتوفيق والعصمة: إِنْ سَرَّكَ الْغَدْرُ صِرْفًا لَا
مِزَاجَ لَهُ * فَأْتِ الرَّجِيعَ فَسَلْ عَنْ دَارِ لِحْيَانِ قَوْمٌ
تَوَاصَوْا بِأَكْلِ الْجَارِ بَيْنَهُمُ * فَالْكَلْبُ وَالْقِرْدُ
وَالْإِنْسَانُ مِثْلَانِ لَوْ يَنْطِقُ التَّيْسُ يَوْمًا قَامَ
يَخْطُبُهُمْ * وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ وَذَا شَانِ وَقَالَ حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، يَهْجُو هُذَيْلًا وَبَنِي لِحْيَانَ عَلَى
غَدْرِهِمْ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ: لَعَمْرِي لَقَدْ شَانَتْ هُذَيْلَ بْنَ مدرك * أَحَادِيث
كَانَت فِي خبيب وَعَاصِم
__________
(1) القلق: المتحرك المتساقط.
والاصل: الفلق.
وَمن أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(2) الرِّفْق: جمع رفْقَة.
(*)
(3/133)
أَحَادِيثُ لِحْيَانٍ صَلَوْا بِقَبِيحِهَا
* وَلِحْيَانُ جَرَّامُونَ شَرَّ الْجَرَائِمِ أُنَاسٌ هُمُ مِنْ
قَوْمِهِمْ فِي صَمِيمِهِمْ * بِمَنْزِلَةِ الزَّمْعَانِ دُبْرَ
الْقَوَادِمِ (1) هَمُ غَدَرُوا يَوْمَ الرَّجِيعِ وَأَسْلَمَتْ *
أَمَانَتُهُمْ ذَا عِفَّةٍ وَمَكَارِمِ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ غَدْرًا
وَلَمْ تَكُنْ * هُذَيْلٌ تَوَقَّى مُنْكِرَاتِ الْمَحَارِمِ فَسَوْفَ
يَرَوْنَ النَّصْرَ يَوْمًا عَلَيْهِمُ * بِقَتْلِ الَّذِي تَحْمِيهِ دُونَ
الْحَرَائِمِ أَبَابِيلُ دَبْرٍ شمس دون لَحْمه * حمت لحم شهاد عَظِيم
الْمَلَاحِمِ (2) لَعَلَّ هُذَيْلًا أَنْ يَرَوْا بِمُصَابِهِ * مَصَارِعَ
قَتْلَى أَوْ مَقَامًا لِمَأْتَمِ وَنُوقِعُ فِيهَا وَقْعَةً ذَاتَ
صَوْلَةٍ * يُوَافِي بِهَا الرُّكْبَانُ أَهْلَ الْمَوَاسِمِ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ رَسُولَهُ * رَأَى رَأْيَ ذِي حَزْمٍ
بِلِحْيَانَ عَالِمِ قُبَيِّلَةٌ لَيْسَ الْوَفَاءُ يُهِمُّهُمْ * وَإِنْ
ظُلِمُوا لَمْ يَدْفَعُوا كَفَّ ظَالِمِ إِذَا النَّاسُ حَلُّوا
بِالْفَضَاءِ رَأَيْتَهُمْ * بِمَجْرَى مَسِيلِ الْمَاءِ بَيْنَ
الْمَخَارِمِ (3) مَحَلُّهُمُ دَارُ الْبَوَارِ وَرَأْيُهُمْ * إِذَا
نَابَهُمْ أَمْرٌ كَرَأْيِ الْبَهَائِمِ * * * وَقَالَ حَسَّانُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا يَمْدَحُ أَصْحَابَ الرَّجِيعِ ويسميهم بِشعرِهِ،
كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: صَلَّى
الْإِلَهُ عَلَى الَّذِينَ تَتَابَعُوا * يَوْمَ الرَّجِيعِ فَأُكْرِمُوا
وَأُثِيبُوا رَأْسُ السَّرِيَّةِ مَرْثَدٌ وَأَمِيرُهُمْ * وَابْنُ
الْبُكَيْرِ أَمَامَهُمْ وَخُبَيْبُ وَابْنٌ لِطَارِقَ وَابْنُ دَثْنَةَ
مِنْهُمُ * وَافَاهُ ثَمَّ حِمَامُهُ الْمَكْتُوبُ وَالْعَاصِمُ
الْمَقْتُولُ عِنْدَ رَجِيعِهِمْ * كَسَبَ الْمَعَالِيَ إِنَّهُ لَكَسُوبُ
مَنَعَ الْمَقَادَةَ أَنْ يَنَالُوا ظَهْرَهُ * حَتَّى يُجَالِدَ إِنَّهُ
لَنَجِيبُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ
ينكرها لحسان.
__________
(1) الزمعة: هنة زَائِدَة وَرَاء الظلْف أَو شبه أظفار الْغنم فِي الرسغ
وَأَرَادَ بالقوادم: الايدى.
(2) الابابيل: الْجَمَاعَات.
والدبر: ذُكُور النّخل.
وَالشَّمْس: الحامية.
والملاحم: الحروب.
وفى ابْن هِشَام: عِظَام الْمَلَاحِم.
(3) المخارم: مسايل المَاء.
(*)
(3/134)
سَرِيَّة عَمْرو بن أُميَّة الضمرى عَلَى
إِثْرِ مَقْتَلِ خُبَيْبٍ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ
بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ [الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ (1) ] عَمْرِو بْنِ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ أَبى عَوْف، وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا:
كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ قَدْ
قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: مَا أَحَدٌ يَغْتَالُ مُحَمَّدًا
فَإِنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَنُدْرِكُ ثَأْرَنَا؟ فَأَتَاهُ
رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ وَقَالَ لَهُ: إِن
أَنْت وفيتنى خَرَجْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَغْتَالَهُ، فَإِنِّي هَادٍ
بِالطَّرِيقِ خِرِّيتٌ، مَعِي خِنْجَرٌ مِثْلُ خَافِيَةِ النَّسْرِ.
قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُنَا.
وَأَعْطَاهُ بَعِيرًا وَنَفَقَةً وَقَالَ: اطْوِ أَمْرَكَ فَإِنِّي لَا
آمَنُ أَنْ يَسْمَعَ هَذَا أَحَدٌ فَيَنْمِيَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ.
قَالَ: قَالَ الْعَرَبِيُّ: لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ.
فَخَرَجَ لَيْلًا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَسَار خمْسا وصبح ظهر الحى يَوْم
سَادِسَةٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: قَدْ
تَوَجَّهَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ.
فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُودُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلُ يَؤُمُّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ يحدث فِي مَسْجده.
فَلَمَّا دخل وَرَآهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُرِيدُ غَدْرًا وَاللَّهُ
حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ.
فَوَقَفَ وَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا ابْنُ عبد
الْمطلب.
فَذهب ينحنى على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
__________
(1) هَذِه الزِّيَادَة وَمَا بعْدهَا من أَمْثَالهَا منقولة عَن
الطَّبَرِيّ 3: 32.
(*)
(3/135)
وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يُسَارُّهُ فَجَبَذَهُ
أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَالَ: تَنَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجذب بداخل إِزَارِهِ، فَإِذَا الْخِنْجَرُ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غَادِرٌ.
فَأُسْقِطَ فِي يَدِ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ: دمى دمى يَا مُحَمَّد.
وأخده أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يُلَبِّبُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْدُقْنِي مَا أَنْتَ وَمَا أَقْدَمَكَ،
فَإِنْ صَدَقْتَنِي نَفَعَكَ الصِّدْقُ، وَإِنْ كَذَبْتَنِي فَقَدْ
أُطْلِعْتُ عَلَى مَا هَمَمْتَ بِهِ.
قَالَ الْعَرَبِيّ: فَأَنا آمن؟ قَالَ: وَأَنت آمِنٌ.
فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَا جَعَلَ لَهُ.
فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ عِنْدَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، ثُمَّ دَعَا بِهِ
مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: قَدْ آمَّنْتُكَ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، أَوْ
خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ أَنْتَ
رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ مَا كُنْتُ أَفْرَقُ مِنَ
الرِّجَالِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُكَ فَذَهَبَ عَقْلِي
وَضَعُفْتُ ثُمَّ اطَّلَعْتَ عَلَى مَا هَمَمْتُ بِهِ، فَمَا سَبَقْتُ بِهِ
الرُّكْبَانَ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَعَرَفْتُ أَنَّكَ
مَمْنُوعٌ، وَأَنَّكَ عَلَى حَقٍّ، وَأَنَّ حِزْبَ أَبِي سُفْيَانَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ.
وَأَقَامَ أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ وَلِسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بن حريس (2) : اخْرُجَا
حَتَّى تَأْتِيَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَإِنْ أَصَبْتُمَا مِنْهُ
غِرَّةً فَاقْتُلَاهُ.
قَالَ عَمْرٌو: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ
يَأْجَجَ، فَقَيَّدْنَا بِعِيرَنَا وَقَالَ لِي صَاحِبِي: يَا عَمْرُو هَلْ
لَكَ فِي أَنْ نَأْتِيَ مَكَّةَ فَنَطُوفَ بِالْبَيْتِ سبعا وَنُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ فَقلت: [أَنا أعلم بِأَهْل مَكَّة مِنْك إِنَّهُم إِذا أظلموا
رشوا أفنيتهم ثمَّ جَلَسُوا بهَا و (1) ] إنى أعرف
__________
(1) من تَارِيخ الطَّبَرِيّ: 3 / 32.
(2) الاصل: حريش.
وَهُوَ تَحْرِيف وَمَا أثْبته عَن شرح الْمَوَاهِب 2 / 178.
(*)
(3/136)
بِمَكَّة من الْفرس الابلق.
فَأَبَى عَلَيَّ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا مَكَّةَ فَطُفْنَا أُسْبُوعًا
(1) وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ لَقِيَنِي مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَعَرَفَنِي وَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ،
واحزناه.
فَنَذِرَ بِنَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَالُوا: مَا جَاءَ عَمْرٌو فِي خَيْرٍ.
وَكَانَ عَمْرٌو فَاتِكًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَحَشَدَ أَهْلُ مَكَّةَ وَتَجَمَّعُوا، وَهَرَبَ عَمْرٌو وَسَلَمَةُ
وَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمَا وَاشْتَدُّوا فِي الْجَبَلِ.
قَالَ عَمْرو: فَدخلت فِي غَار فَتَغَيَّبْتُ عَنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحْتُ،
وَبَاتُوا يَطْلُبُونَنَا فِي الْجَبَلِ وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ
طَرِيقَ الْمَدِينَةِ أَنْ يهتدوا لَهُ، فَلَمَّا كَانَ ضحوة الْغَد أقبل
عُثْمَان بن مَالك بن عبيد الله
التَّيْمِيُّ يَخْتَلِي لِفَرَسِهِ حَشِيشًا فَقُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ
أَسْلَمَ: إِذَا أَبْصَرَنَا أَشْعَرَ بِنَا أَهْلَ مَكَّةَ وَقَدِ
انْفَضُّوا عَنَّا.
فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْ بَاب الْغَار حَتَّى أشرف علينا، فَقَالَ:
فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ طَعْنَةً تَحْتَ الثَّدْيِ بِخِنْجَرِي،
فَسقط وَصَاح فَاجْتمع أهل مَكَّة فَأَقْبَلُوا بعد تفرقهم [وَرجعت إِلَى
مَكَاني فَدخلت فِيهِ] وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: لَا تَتَحَرَّكْ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَتَوْهُ وَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: عَمْرُو
بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِخَيْرٍ.
وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَكَانِنَا، فَإِنَّهُ كَانَ
بِآخِرِ رَمَقٍ فَمَاتَ، وَشُغِلُوا عَنْ طَلَبِنَا بِصَاحِبِهِمْ
فَحَمَلُوهُ، فَمَكَثْنَا لَيْلَتَيْنِ فِي مَكَاننَا حَتَّى [سكن عَنَّا
الطّلب ثمَّ] خرجنَا [إِلَى التَّنْعِيم] فَقَالَ صَاحِبِي: يَا عَمْرُو
بْنَ أُمَيَّةَ، هَلْ لَك فِي خبيب بن عدى تنزله؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ
هُوَ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ مَصْلُوبٌ حَوْلَهُ الْحَرَسُ.
فَقُلْتُ: أَمْهِلْنِي وَتَنَحَّ عَنِّي فَإِنْ خَشِيتَ شَيْئًا فَانْحُ
إِلَى بَعِيرِكَ فَاقْعُدْ عَلَيْهِ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ وَدَعْنِي فَإِنِّي عَالِمٌ
بِالْمَدِينَةِ.
ثمَّ استدرت عَلَيْهِ حَتَّى وَجَدْتُهُ فَحَمَلْتُهُ عَلَى ظَهْرِي فَمَا
مَشَيْتُ بِهِ إِلَّا عِشْرِينَ ذِرَاعًا حَتَّى اسْتَيْقَظُوا فَخَرَجُوا
فِي أَثَرِي فَطَرَحْتُ الْخَشَبَةَ فَمَا أَنْسَى وجيبها، يَعْنِي
صَوْتَهَا، ثُمَّ أَهَلْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ بِرِجْلِي، فَأَخَذْتُ
طَرِيقَ الصَّفْرَاءِ فَأَعْيَوْا وَرَجَعُوا، وَكُنْتُ لَا أدرى مَعَ
بَقَاء نَفسِي، فَانْطَلَقَ صَاحِبِي إِلَى الْبَعِيرِ فَرَكِبَهُ، وَأَتَى
النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ،
__________
(1) أسبوعا: سبعا.
(*)
(3/137)
وَأَقْبَلت حَتَّى أشرفت على الغليل غليل
ضَجَنَانَ، فَدَخَلْتُ فِي غَارٍ مَعِي قَوْسِي وَأَسْهُمِي وَخِنْجَرِي،
فَبَيْنَمَا أَنَا فِيهِ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ من بنى الديل بن بكر
أَعْوَرُ طَوِيلٌ يَسُوقُ غَنَمًا وَمِعْزَى، فَدَخَلَ الْغَارَ وَقَالَ:
مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ.
فَقَالَ: وَأَنَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ.
ثُمَّ اتَّكَأَ وَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ: فَلَسْتُ
بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَقْتُلَكَ.
فَلَمَّا نَامَ قُمْتُ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ شَرَّ قتلة
قَتلهَا أحد قَطُّ.
ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى هَبَطْتُ، فَلَمَّا أَسْهَلْتُ فِي الطَّرِيق إِذا
رجلَانِ بعثهما قُرَيْشٌ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَقُلْتُ:
اسْتَأْسَرَا فَأَبَى أَحَدُهُمَا فَرَمَيْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ الْآخَرُ اسْتَأْسَرَ فَشَدَدْتُهُ وَثَاقًا، ثُمَّ
أَقْبَلْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَتَى صبيان الانصار وَهُمْ يَلْعَبُونَ،
وَسَمِعُوا أَشْيَاخَهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا عَمْرٌو.
فَاشْتَدَّ الصِّبْيَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، وأتيته بِالرجلِ قد ربطت إبهامه بِوَتَرِ
قَوْسِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يَضْحَكُ! ثُمَّ دَعَا لِي بِخَيْرٍ.
وَكَانَ قُدُومُ سَلَمَةَ قَبْلَ قُدُومِ عَمْرٍو بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَمْرًا لَمَّا أَهْبَطَ خُبَيْبًا لَمْ يَرَ لَهُ
رِمَّةً وَلَا جَسَدًا، فَلَعَلَّهُ دُفِنَ مَكَانَ سُقُوطِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ السَّرِيَّةُ إِنَّمَا اسْتَدْرَكَهَا ابْنُ هِشَامٍ عَلَى ابْنِ
إِسْحَاقَ، وَسَاقَهَا بِنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ الْوَاقِدِيِّ لَهَا، لَكِنْ
عِنْدَهُ أَنَّ رَفِيقَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ
جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
(3/138)
سَرِيَّةُ بِئْرِ مَعُونَةَ وَقَدْ كَانَتْ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
وَأَغْرَبَ مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ
بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ.
فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: رِعْلٌ وَذَكْوَانَ، عِنْدَ
بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ،
فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ
مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَتَلُوهُمْ.
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا
فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَذَاكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ،
عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي
لِحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، كُنَّا
نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ
بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبِئْرِ
مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى
أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ: عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي
لِحْيَانَ، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا، ثُمَّ إِنَّ
ذَلِكَ رُفِعَ " بَلِّغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا لقد لَقِينَا رَبَّنَا
فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ".
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَن إِسْحَاق بن عبد الله ابْن أَبِي طَلْحَةَ،
حَدَّثَنِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ حَرَامًا،
(3/139)
أَخًا لِأُمِّ سُلَيْمٍ، فِي سَبْعِينَ
رَاكِبًا، وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ
خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ثَلَاثِ
خِصَالٍ فَقَالَ: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ،
أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ
وَأَلْفٍ.
فَطُعِنَ عَامِرٌ فِي بَيْتِ أُمِّ فُلَانٍ (1) فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ
الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلَانٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي،
فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ.
فَانْطَلَقَ حَرَامٌ أَخُو أُمِّ سُلَيْمٍ، وَهُوَ رَجُلٌ أَعْرَجُ،
وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: كُونَا قَرِيبًا حَتَّى آتِيهِمْ،
فَإِنْ آمَنُونِي كُنْتُمْ قَرِيبًا وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ
أَصْحَابَكُمْ.
فَقَالَ: أَتُؤَمِّنُونِي
حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَجَعَلَ يُحَدِّثهُمْ وأومأوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ
فَطَعَنَهُ.
قَالَ همام: أَحْسبهُ حَتَّى أَنْفَذَهُ بِالرُّمْحِ.
فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَلَحِقَ
الرَّجُلُ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ الْأَعْرَجِ، وَكَانَ فِي رَأْسِ
جَبَلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ علينا ثمَّ كَانَ من الْمَنْسُوخ: " إِنَّا لقد
لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ".
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا
عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لِحْيَانَ وَعُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، حَدَّثَنَا عبد الله،
أَخْبرنِي معمر، حَدَّثَنى ثُمَامَة ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ
مِلْحَانَ - وَكَانَ خَالَهُ - يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ بِالدَّمِ
هَكَذَا، فنضحه على وَجهه وَرَأسه، وَقَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا
قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ
الضَّمْرِيُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: مَنْ هَذَا؟ وَأَشَارَ
إِلَى قَتِيلٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: هَذَا عَامر بن
فهَيْرَة قَالَ:
__________
(1) طعن: أَصَابَهُ الطَّاعُون.
وَأم فلَان: هِيَ سلول بنت شَيبَان، امْرَأَة أَخِيه.
(*)
(3/140)
لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ
رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ ثُمَّ وُضِعَ.
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ
فَنَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ
قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا
بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ
أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ فَسُمِّيَ عُرْوَةُ بِهِ، وَمُنْذِرُ بْنُ
عَمْرٍو وَسُمِّيَ بِهِ مُنْذِرٌ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يحيى بن سعيد بن أَبِي
أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، فَسَاقَ مِنْ
حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، وَأَدْرَجَ فِي آخِرِهِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
هَاهُنَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبى الاسود وَعَن
عُرْوَةَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَشَأْنَ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ
وَإِخْبَارَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ،
وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكِلَابِيُّ.
قَالَ: وَلَمَّا طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
ثُمَّ سَأَلَ جَبَّارٌ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فُزْتُ؟
قَالُوا: يَعْنِي بِالْجَنَّةِ.
فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ.
ثُمَّ أَسْلَمَ جَبَّارٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِذَلِكَ! وَفِي مَغَازِي مُوسَى
بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُوجَدْ جَسَدُ عَامِرِ
بْنِ فُهَيْرَةَ، يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْهُ.
* * * وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي بَعْدَ أُحُدٍ، بَقِيَّةَ
شَوَّالٍ وَذَا الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، ثُمَّ بَعَثَ
أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
مِنْ أُحُدٍ.
فَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ،
(3/141)
وَعبد الرَّحْمَن بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
قَالُوا: قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ
مَلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ
إِلَيْهِ فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ
بَعَثْتَ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أهل نجد فدعوهم إِلَى أَمْرِكَ
رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ
أَهْلَ نَجْدٍ.
فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ.
فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ
بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ، الْمُعْنِقَ لِيَمُوتَ، فِي
أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ،
فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُو بَنِي
عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ
السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ،
وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ خِيَارِ
الْمُسْلِمِينَ.
فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ وَهِيَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي
عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا نَزَلُوا بَعَثُوا حَرَامَ
بْنَ مِلْحَانَ بِكَتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ
فِي الْكِتَابِ حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ
اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى مَا
دَعَاهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ نُخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ
عَقْدًا وَجِوَارًا.
فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، عُصَيَّةَ
وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَالْقَارَةَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ،
فَخَرَجُوا حَتَّى غَشُوا الْقَوْمَ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ،
فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ ثُمَّ قَاتَلُوا الْقَوْمَ
حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي
دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ بِهِ رَمَقٌ، فَارْتُثَّ
مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ
وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَلَمْ
يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ الْقَوْمِ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ حَوْلَ
الْعَسْكَرِ فَقَالَا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ
(3/142)
لَشَأْنًا، فَأَقْبَلَا لِيَنْظُرَا،
فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي
أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِعَمْرِو بْنِ
أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ
مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لِأُخْبِرَ
عَنْهُ الرِّجَالَ.
فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُخِذَ عَمْرٌو أَسِيرًا، فَلَمَّا
أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ أُطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ
وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ
فِيمَا زَعَمَ!
قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ
بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةَ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي
عَامِرٍ حَتَّى نَزَلَا فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ
الْعَامِرِيَّيْنِ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ
سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلَا: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ بَنِي
عَامِرٍ.
فَأَمْهَلَهُمَا حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا وَقَتَلَهُمَا
وَهُوَ يَرَى أَنْ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثَأْرًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ فِيمَا
أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ
لَأَدِيَنَّهُمَا " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا
مُتَخَوِّفًا ".
فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَرَاءٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ
إِيَّاه، وَمَا أصَاب أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِسَبَبِهِ وَجِوَارِهِ.
فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إخفار عمار أَبَا بَرَاءٍ وَيُحَرِّضُ
بَنِي أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرٍ: بَنِي أَمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ
يَرُعْكُمْ * وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدِ تَهَكُّمُ عَامِرٍ
بِأَبِي بَرَاءٍ * لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ أَلَا أَبْلِغْ
ربيعَة ذَا المساعى فَم * اأحدثت فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي أَبُوكَ أَبُو
الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ * وَخَالُكُ مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ
(3/143)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ الْبَنِينَ
أُمُّ أَبِي بَرَاءٍ، وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
قَالَ: فَحَمَلَ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ
الطُّفَيْلِ فَطَعَنَهُ فِي فَخِذِهِ فَأَشْوَاهُ (1) وَوَقَعَ عَنْ
فَرَسِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، إِنْ أَمُتْ فَدَمِيَ
لِعَمِّي فَلَا يُتْبَعَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رَأْيِي.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَ سِيَاقِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ مُوسَى: وَكَانَ
أَمِيرُ الْقَوْمِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو وَقِيلَ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي
مَرْثَدٍ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، فِيمَا
ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَلَى قَتْلَى مَعُونَةَ فَاسْتَهِلِّي * بِدَمْعِ الْعَيْنِ سَحًّا غَيْرَ
نَزْرِ عَلَى خَيْلِ الرَّسُولِ غَدَاةَ لَاقَوْا * وَلَاقَتْهُمْ
مَنَايَاهُمْ بِقَدْرِ أَصَابَهُمُ الْفَنَاءُ بِعقد قوم * تخون عقد حبلهم
بغدر فيالهفى لِمُنْذِرِ إِذْ تَوَلَّى * وَأَعْنَقَ فِي مَنِيَّتِهِ
بِصَبْرِ وَكَائِنُ قَدْ أُصِيبَ غَدَاةَ ذَاكُمْ * مِنَ ابْيَضَ ماجد من
سر عَمْرو
__________
(1) أشواه: لم يصب مقاتله.
(*)
(3/144)
غَزْوَة بنى النَّضِير وهى الَّتِى أنزل
الله تَعَالَى فِيهَا سُورَةَ الْحَشْرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهَا سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ.
وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ أُحُدٍ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ
مَازِنٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ
غَزْوَةَ بَدْرٍ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سنة ثِنْتَيْنِ.
قَالَ: ثُمَّ غَزَا بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ غَزَا أُحُدًا فِي شَوَّالٍ
سَنَةَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: هِيَ قَبْلَ
أُحُدٍ.
قَالَ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا بَعْدَهَا، وَبَعْدَ بِئْرِ
مَعُونَةَ أَيْضًا.
قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ بَعْدَ
ذِكْرِهِ بِئْر مَعُونَة وَرُجُوع عَمْرو ابْن أُمَيَّةَ وَقَتْلَهُ
ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِعَهْدِهِمَا
الَّذِي مَعْهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَقَدْ قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ
ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا
عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، لِلْعَهْدِ الَّذِي كَانَ صَلَّى الله (10
السِّيرَة 3)
(3/145)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمَا، وَكَانَ
بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ عَهْدٌ وَحِلْفٌ، فَلَّمَا
أَتَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ.
ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا
الرَّجُلَ عَلَى مُثُلِ حَالِهِ هَذِهِ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ
مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ.
فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً
وَيُرِيحَنَا مِنْهُ.
فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَنَا
لِذَلِكَ.
فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ الْخَبَرُ مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى
الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ
الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا
الْمَدِينَةَ.
فَأَقْبَلَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ
يَهُودُ أَرَادَتْ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ
جِوَارِهِ وَبَلَدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ النِّفَاقِ
يُثَبِّتُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْمَقَامِ وَيَعِدُونَهُمُ
النَّصْرَ، فَقَوِيَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نُفُوسُهُمْ، وَحَمِيَ حُيَيُّ بْنُ
أَخْطَبَ، وَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ، وَنَابَذُوهُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَاصَرُوهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَحَاصَرَهُمْ سِتَّ
لَيَالٍ، وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ
(3/146)
حِينَئِذٍ، وتحصنوا فِي الْحُصُونِ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ
النَّخِيلِ وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ
كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفساد وتعيب مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ
النَّخِيلِ وَتَحْرِيقِهَا.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ وَوَدِيعَةُ وَمَالِكٌ وَسُوِيدٌ وَدَاعِسٌ
قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا،
فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، إِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ وَإِنْ
أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ.
فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ
وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ
مِنْ أَمْوَالهم إِلَّا الْحلقَة.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَعْطَى كُلَّ ثَلَاثَة
بَعِيرًا يعتقبونه [و] وسْقا (1) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّد، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مْسَلَمَةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعثه إِلَى
بَنِي النَّضِيرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثَ
لَيَالٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُم دُيُون
مُؤَجّلَة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا.
وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ
بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ
نِجَافِ (2) بَابِهِ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ،
فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ
مِنْ أَشْرَافِ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي
الْحَقِيقِ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَحُيَيُّ
بْنُ أَخْطَبَ، فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ لَهُم أَهلهَا.
__________
(1) الوسق: حمل الْبَعِير.
(2) النجاف: أُسْكُفَّة الْبَاب.
(*)
(3/147)
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّهُمُ اسْتُقْبِلُوا بِالنِّسَاءِ
وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالْمَزَامِيرُ
وَالْقِيَانُ يَعْزِفْنَ خَلْفَهُمْ بِزُهَاءٍ وَفَخْرٍ، مَا رؤى مِثْلُهُ
لِحَيٍّ مِنَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ.
قَالَ: وَخَلَّوُا الْأَمْوَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَعْنِي النَّخِيلَ وَالْمَزَارِعَ، فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً
يَضَعهَا حَيْثُ شَاءَ، فَقَسَّمَهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ
دُونَ الْأَنْصَارِ، إِلَّا أَن سهل ابْن حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ
ذَكَرَا فَقْرًا فَأَعْطَاهُمَا، وَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِمَا
الْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ.
حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا
رَجُلَانِ وَهَمَا يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ ابْنُ عَمِّ عَمْرِو
بْنِ جَحَّاشٍ وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ، فَأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ليامين: ألم تَرَ
مَا لقِيت مِنِ ابْنِ عَمِّكَ وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ شَأْنِي؟ فَجَعَلَ
يَامِينُ لِرَجُلٍ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جَحَّاشٍ،
فَقَتَلَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ.
* * *
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُورَةَ الْحَشْرِ
بِكَمَالِهَا، يِذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ وَمَا
سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ.
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ يُفَسِّرُهَا.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِطُولِهَا مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِنَا
التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ،
مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤمنِينَ، فأعتبروا يَا أولى الْأَبْصَارِ،
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار.
ذَلِك
(3/148)
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى
أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وليخزى الْفَاسِقين ".
سبح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفسه الْكَرِيمَة، وَأخْبر أَنه يسبح لَهُ
جَمِيع مخلوقاته العلوية والسفلية وَأَنه الْعَزِيز، وَهُوَ منيع الجناب
فَلَا ترام عَظمته وكبرياؤه، وَأَنه الْحَكِيم فِي جَمِيع مَا خلق وَجَمِيع
مَا قدر وَشرع، فَمن ذَلِك تَقْدِيره وتدبيره وتيسيره لرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وعباده الْمُؤمنِينَ فِي ظفرهم بأعدائهم الْيَهُود
الَّذين شاقوا الله وَرَسُوله وجانبوا رَسُوله وشرعه، وَمَا كَانَ من
السَّبَب المفضى لقتالهم كَمَا تقدم، حَتَّى حَاصَرَهُمْ الْمُؤَيد
بِالرُّعْبِ والرهب مسيرَة شهر، وَمَعَ هَذَا فأسرهم بالمحاصرة بجُنُوده
وَنَفسه الشَّرِيفَة سِتّ لَيَال، فَذهب بهم الرعب كل مَذْهَب حَتَّى
صانعوا وصالحوا على حقن دِمَائِهِمْ وَأَن يَأْخُذُوا من أَمْوَالهم مَا
اسْتَقَلت بِهِ رِكَابهمْ، على أَنهم لَا يصحبون شَيْئا من السِّلَاح إهانة
لَهُم واحتقارا، فَجعلُوا يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي
الْمُؤمنِينَ، فاعتبروا يَا أولى الابصار.
ثمَّ ذكر تَعَالَى أَنه لَو لم يصبهم الْجلاء وَهُوَ التسيير والنفى من
جوَار الرَّسُول من الْمَدِينَة لاصابهم مَا هُوَ أَشد مِنْهُ من الْعَذَاب
الدنيوي وَهُوَ الْقَتْل، مَعَ مَا ادخر لَهُم فِي الْآخِرَة من الْعَذَاب
الاليم الْمُقدر لَهُم.
ثمَّ ذكر تَعَالَى حِكْمَة مَا وَقع من تحريق نَخْلهمْ وَترك مَا بقى
لَهُم، وَأَن ذَلِك كُله سَائِغ فَقَالَ: " مَا قطعْتُمْ من لينَة " وَهُوَ
جَيِّدُ التَّمْرِ " أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولهَا فبإذن
الله " إِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُذِنَ فِيهِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَلَا
حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَنِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ
هُوَ بِفَسَادٍ كَمَا قَالَهُ شِرَارُ الْعِبَادِ، إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ
لِلْقُوَّةِ وَإِخْزَاءٌ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرق نخل بني النَّضِير وَقطع، وهى البويرة،
فَأنْزل
(3/149)
الله: " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولهَا فبإذن الله وليخزى الْفَاسِقين ".
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرق نخل بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ
الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: وَهَانَ عَلَى
سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ * حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ فَأَجَابَهُ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ
صَنِيعٍ * وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ سَتَعْلَمُ أَيُّنَا
مِنْهَا بستر * وَتعلم أَي أرضينا نضير * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ
كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَقَدْ خَزِيَتْ
بَغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ (1) * كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ * عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرُ
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا * وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ
النَّذِيرُ نَذِيرٌ صَادِقٌ أَدَّى كِتَابًا * وَآيَاتٍ مُبَيِّنَةً
تُنِيرُ فَقَالُوا مَا أَتَيْتَ بِأَمْرِ صِدْقٍ * وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ
مِنَّا جَدِيرُ فَقَالَ بَلَى لَقَدْ أَدَّيْتُ حَقَّا * يُصَدِّقُنِي بِهِ
الْفَهِمُ الْخَبِيرُ فَمَنْ يَتْبَعْهُ يهد لكل رشد * وَمن يكفر بِهِ يخز
الْكَفُورُ فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا * وَجَدَّ بِهِمْ عَنِ
الْحَقِّ النُّفُورُ أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ * وَكَانَ
اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ فَأَيَّدَهُ وسلطه عَلَيْهِم * وَكَانَ نصيره
نعم النصير
__________
(1) الحبور: جمع حبر، وهم عُلَمَاء الْيَهُود.
(*)
(3/150)
فغودر مِنْهُم كَعْب صَرِيعًا * فذلت بعد
مصرعه النَّضِيرُ عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ * بِأَيْدِينَا
مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلًا * إِلَى كَعْب
أَخا كَعْب يسير فَمَا كره فَأَنْزَلَهُ بِمَكْرٍ * وَمَحْمُودٌ أَخُو
ثِقَةٍ جَسُورُ فَتِلْكَ بَنُو النَّضِيرِ بَدَارِ سُوءٍ * أَبَارَهُمُ
بِمَا اجْتَرَمُوا الْمُبِيرُ (1) غَدَاةَ أَتَاهُمُ فِي الزَّحْفِ رَهْوًا
(2) * رَسُولُ اللَّهِ وَهْوَ بِهِمْ بَصِيرُ وَغَسَّانُ الْحُمَاةُ
مُؤَازِرُوهُ * عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ لَهُمْ وَزِيرُ فَقَالَ
السِّلْمُ وَيْحَكُمُ فَصَدُّوا * وَخَالَفَ أَمْرَهُمُ كَذِبٌ وَزُورُ
فَذَاقُوا غِبَّ أَمْرِهِمُ وَبَالًا * لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرُ
وَأُجْلُوا عَامِدِينَ لِقَيْنُقَاعٍ * وَغُودِرَ مِنْهُمُ نَخْلٌ وَدُورُ
وَقد ذكر ابْن إِسْحَاق جوابها لسمال الْيَهُودِيِّ، فَتَرَكْنَاهَا
قَصْدًا.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ
قَوْلُ ابْنِ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيِّ، وَيُقَالُ: قَالَهَا قَيْسُ بْنُ
بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ الْأَشْجَعِيِّ: أَهْلِي فِدَاءٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ
هَالِكٍ * أَحَلَّ الْيَهُودَ بِالْحَسِيِّ الْمُزَنَّمِ (3) يَقِيلُونَ
فِي جمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بِالْوَدِيِّ الْمُكَمَّمِ (4) فَإِنْ
يَكُ ظَنِّي صَادِقًا بِمُحَمَّدٍ * تَرَوْا خَيْلَهُ بَيْنَ الصَّلَا
وَيَرَمْرَمِ (5) يَؤُمُّ بِهَا عَمْرَو بْنَ بُهْثَةَ إِنَّهُمْ * عَدُوٌّ
وَمَا حَيٌّ صَدِيقٌ كَمُجْرِمِ عَلَيْهِنَّ أَبْطَالٌ مَسَاعِيرُ فِي
الْوَغَى * يهزون أَطْرَاف الوشيج الْمُقَوّم (6)
__________
(1) أبارهم: أهلكهم.
(2) رهوا: سيرا سهلا.
(3) الحسى: مَا يحسى من الطَّعَام والمزنم الرجل يكون فِي الْقَوْم لَيْسَ
مِنْهُم.
يُرِيد: أحلّهُم بِأَرْض غربَة فِي غير عَشَائِرهمْ.
وَانْظُر الرَّوْض الانف؟ ؟ 2 / 177.
(4) جمر: الاصل خمر.
وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام.
والعضاه: شجر.
وأهيضب مَكَان مُرْتَفع.
والودى: صغَار النّخل.
والمكمم: الذى خرج كمامه.
(5) الصلا: مَوضِع.
ويرمرم جبل.
(6) الوشيج: شجر الرماح.
(*)
(3/151)
وَكُلَّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدٍ
* تُوُورِثْنَ مِنْ أَزْمَانِ عَادٍ وَجُرْهُمِ فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي
قُرَيْشًا رِسَالَةً * فَهَلْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَجْدِ مِنْ مُتَكَرِّمِ
بِأَنَّ أَخَاهُمْ فَاعْلَمُنَّ مُحَمَّدًا * تَلِيدُ النَّدَى بَيْنَ
الْحَجُونِ وَزَمْزَمِ فَدِينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمْ أُمُورُكُمْ *
وَتَسْمُو من الدُّنْيَا إِلَى كل مُعظم نبى تلافته مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ
* وَلَا تَسْأَلُوهُ أَمْرَ غَيْبٍ مُرَجَّمِ فَقَدْ كَانَ فِي بَدْرٍ
لَعَمْرِي عِبْرَةٌ * لكم يَا قُرَيْش وَالْقَلِيبِ الْمُلَمَّمِ غَدَاةَ
أَتَى فِي الْخَزْرَجِيَّةِ عَامِدًا * إِلَيْكُمْ مُطِيعًا لِلْعَظِيمِ
الْمُكَرَّمِ مُعَانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ يَنْكِي عَدُوَّهُ * رَسُولًا
مِنَ الرَّحْمَنِ حَقًّا بِمَعْلَمِ
رَسُولًا مِنَ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتَابَهُ * فَلَمَّا أَنَارَ الْحَقَّ
لَمْ يَتَلَعْثَمِ أَرَى أَمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ * عُلُوًّا
لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ مُحْكَمِ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالب، وَقَالَ ابْن هِشَام: قَالَهَا رجل م
الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْرِفُهَا لَعَلِيٍّ: عَرَفَتُ
وَمَنْ يَعْتَدِلْ يَعْرِفِ * وَأَيْقَنْتُ حَقًّا وَلَمْ أَصْدِفِ عَن
الْكَلم الْمُحكم اللاء مِنْ * لَدَى اللَّهِ ذِي الرَّأْفَةِ الْأَرْأَفِ
رَسَائِلُ تُدْرَسُ فِي الْمُؤْمِنِينَ * بِهِنَّ اصْطَفَى أَحْمَدَ
الْمُصْطَفِي فَأَصْبَحَ أَحْمَدُ فِينَا عَزِيزًا * عَزِيزَ الْمُقَامَةِ
وَالْمَوْقِفِ فَيَا أَيُّهَا الْمُوعِدُوهُ سَفَاهًا * وَلَمْ يَأْتِ
جَوْرًا وَلَمْ يَعْنُفِ أَلَسْتُمْ تَخَافُونَ أَدْنَى الْعَذَابِ * وَمَا
آمِنُ اللَّهِ كَالْأَخْوَفِ وَأَنْ تُصْرَعُوا تَحْتَ أَسْيَافِهِ *
كَمَصْرَعِ كَعْبٍ أَبِي الْأَشْرَفِ غَدَاةَ رَأَى اللَّهُ طُغْيَانَهُ *
وَأَعْرَضَ كَالْجَمَلِ الْأَجْنَفِ فَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ فِي قَتْلِهِ *
بِوَحْيٍ إِلَى عَبْدِهِ مُلْطَفِ
(3/152)
فَدَسَّ الرَّسُولُ رَسُولًا لَهُ *
بِأَبْيَضَ ذِي هَبَّةٍ مُرْهَفِ فَبَاتَتْ عُيُونٌ لَهُ مُعْوِلَاتٌ *
مَتَى يُنْعَ كَعْبٌ لَهَا تَذْرِفُ وَقُلْنَ لِأَحْمَدَ ذَرْنَا قَلِيلًا
* فَإِنَّا مِنَ النَّوْحِ لِمَ نَشْتَفِ فَخَلَّاهُمُ ثُمَّ قَالَ
اظْعَنُوا * دُحُورًا عَلَى رَغْمِ الْآنُفِ وَأَجْلَى النَّضِيرَ إِلَى
غُرْبَةٍ * وَكَانُوا بِدَارٍ ذَوِي زُخْرُفِ إِلَى أَذَرِعَاتٍ رِدَافًا
وَهُمْ * عَلَى كُلِّ ذِي دبر أعجف وَتَركنَا جوابها أَيْضا من سمال
الْيَهُودِيّ قصدا.
* * * ثمَّ ذكر تَعَالَى حكم الفئ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِأَمْوَالِ بَنِي
النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَلَّكَهَا لَهُ، فَوَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا
أَفَاءَ الله على رَسُوله مِمَّا لم يوجف الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ بخيل وَلَا
رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَاصَّةً، فَكَانَ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً ثُمَّ يَجْعَلُ مَا
بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيل الله عزوجل.
ثمَّ بَين تَعَالَى حكم الفئ وَأَنَّهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى منوا لَهُم وَطَرِيقَتِهِمْ: "
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ،
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ وَعَفَّانُ، قَالَا:
حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن لرجل
كَانَ يَجْعَلُ لَهُ مِنْ مَالِهِ النَّخْلَاتِ أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ،
حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، قَالَ: فَجَعَلَ
يَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ.
(3/153)
قَالَ: وَإِن أهلى أمروني أَن آتى نبى الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانَ أَهْلُهُ
أَعْطُوهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ: فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَعْطَانِيهِنَّ، فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي
عُنُقِي وَجَعَلَتْ تَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ لَا أعطيكهن وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ أَوْ كَمَا قَالَتْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِ كَذَا
وَكَذَا.
وَتَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ.
قَالَ: وَيَقُولُ لَكِ كَذَا وَكَذَا.
وَتَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ.
قَالَ: وَيَقُولُ لَكِ كَذَا وَكَذَا حَتَّى أَعْطَاهَا حَسِبْتُ أَنَّهُ
قَالَ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ قَالَ قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ
أَوْ كَمَا قَالَ.
أَخْرَجَاهُ بِنَحْوِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذاما لِلْمُنَافِقين الَّذين مالوا إِلَى بنى
النَّضِيرِ فِي الْبَاطِنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ فَلم
يكن من ذَلِك شئ، بَلْ خَذَلُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ،
وَغَرُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نافقو يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الادبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ ".
ثُمَّ ذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى جُبْنِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَخِفَّةِ
عَقْلِهِمُ النَّافِعِ، ثُمَّ ضُرِبَ لَهُمْ مَثَلًا قَبِيحًا شَنِيعًا
بِالشَّيْطَانِ حِينَ " قَالَ لِلْإِنْسَانِ: اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ: إِنِّي برِئ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ،
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين ".
(3/154)
قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ سُعْدَى الْقُرَظِيِّ
حِينَ مَرَّ عَلَى دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ صَارَتْ يَبَابًا
لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، وَقَدْ كَانَتْ بَنو النَّضِير أشرف منى
بَنِي قُرَيْظَةَ، حَتَّى حَدَاهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ
صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَقْبَلَ
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى فَأَطَافَ بِمَنَازِلِهِمْ، فَرَأَى خَرَابَهَا
وَفَكَّرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَوَجَدَهُمْ فِي
الْكَنِيسَةِ، فَنَفَخَ فِي بُوقِهِمْ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ الزُّبَيْرُ
بْنُ بَاطَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيْنَ كُنْتَ مُنْذُ الْيَوْم لم تزل.
وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْكَنِيسَةَ وَكَانَ يَتَأَلَّهُ فِي
الْيَهُودِيَّةِ.
قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ عِبَرًا قَدْ عُبِّرْنَا بِهَا، رَأَيْتُ
مَنَازِلَ إِخْوَانِنَا خَالِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْعِزِّ وَالْجَلَدِ
وَالشَّرَفِ الْفَاضِلِ وَالْعَقْلِ الْبَارِعِ، قَدْ تَرَكُوا
أَمْوَالَهُمْ وَمَلَكَهَا غَيْرُهُمْ وَخَرَجُوا خُرُوجَ ذُلٍّ، وَلَا
وَالتَّوْرَاةِ مَا سُلِّطَ هَذَا عَلَى قَوْمٍ قَطُّ لِلَّهِ بِهِمْ
حَاجَةٌ، وَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ بِابْنِ الْأَشْرَفِ
ذِي عِزِّهِمْ ثُمَّ بَيَّتَهُ فِي بَيْتِهِ آمِنًا، وَأَوْقَعَ بِابْنِ
سُنَيْنَةَ سَيِّدِهِمْ، وَأَوْقَعَ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَجْلَاهُمْ
وَهُمْ أَهْلُ جَدِّ يَهُودَ، وَكَانُوا أَهْلَ عُدَّةٍ وَسِلَاحٍ
وَنَجْدَةٍ، فَحَصَرَهُمْ فَلَمْ يُخْرِجْ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ
حَتَّى سَبَاهُمْ وَكُلِّمَ فِيهِمْ فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ
مِنْ يَثْرِبَ، يَا قَوْمِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُمْ فأطيعوني
وتعالوا نتبع مُحَمَّدًا، وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ
قَدْ بَشَّرَنَا بِهِ وَبِأَمْرِهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ أَبُو عُمَيْرٍ
وَابْنُ حِرَاشٍ، وهما أعلم يه؟ د جَاءَانَا يَتَوَكَّفَانِ قُدُومَهُ
وَأَمَرَانَا بِاتِّبَاعِهِ، جَاءَانَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَأَمَرَانَا أَنْ نُقْرِئَهُ مِنْهُمَا السَّلَامَ، ثُمَّ مَاتَا عَلَى
دِينِهِمَا وَدَفَنَّاهُمَا بِحَرَّتِنَا هَذِهِ.
فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْهُمْ مُتَكَلِّمٌ.
ثُمَّ أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ، وَخَوَّفَهُمْ بِالْحَرْبِ
وَالسِّبَاءِ وَالْجَلَاءِ.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: قَدْ وَالتَّوْرَاةِ قَرَأْتُ صِفَتَهُ
فِي كِتَابِ بَاطَا، التَّوْرَاةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى، لَيْسَ
فِي الْمَثَانِي الَّذِي أحدثنا.
(3/155)
قَالَ: فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ:
مَا يَمْنَعُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ اتِّبَاعِهِ؟ قَالَ
أَنْت يَا كَعْب.
قَالَ كَعْبٌ: فَلِمَ؟ وَالتَّوْرَاةِ مَا حُلْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
قَطُّ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: بَلْ أَنْتَ صَاحِبُ عَهْدِنَا وَعَقْدِنَا فَإِنِ
اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ وَإِنْ أَبَيْتَ أَبَيْنَا.
فَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى كَعْبٍ، فَذَكَرَ مَا تُقَاوَلَا
فِي ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ عَمْرو: مَا عِنْدِي فِي أَمْرِهِ إِلَّا مَا
قُلْتُ: مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أَصِيرَ تَابِعًا! رَوَاهُ البيهقى.
غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْف بعسفان
ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ
إِسْحَاق فِيمَا رَأَيْته من طَرِيق هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ عَنْهُ فِي
جُمَادَى الْأُولَى من سنة ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ
وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْجَبَّار وَغَيْرُهُ، قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَ خُبَيْبٌ
وَأَصْحَابُهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَالِبًا بِدِمَائِهِمْ لِيُصِيبَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ غِرَّةً، فَسَلَكَ
طَرِيقَ الشَّامِ لِيُرَيَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بَنِي لِحْيَانَ حَتَّى
نَزَلَ بِأَرْضِهِمْ فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنَّعُوا فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ لَرَأَتْ قُرَيْشٍ أَنَّا قَدْ جِئْنَا
مَكَّةَ ".
فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ عُسْفَانَ، ثُمَّ بَعَثَ
فَارِسَيْنِ حَتَّى جَاءَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ (1) ثُمَّ انْصَرَفَا.
فَذَكَرَ أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَّقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بعسفان صَلَاة الْخَوْف.
__________
(1) الغميم: ود أَمَام عسفان بثمالية أَمْيَال.
بضاف إِلَى كرَاع، جبل أسود بِطرف الْحرَّة ممتد إِلَيْهِ.
(*)
(3/156)
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْن عَيَّاشٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا
الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظَّهْرَ فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ
لَوْ أصبْنَا غرتهم.
ثمَّ قَالُوا: تأتى الْآن عَلَيْهِم صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ
وَالْعَصْرِ: " وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ".
قَالَ: فَحَضَرَتْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ
رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ
سَجَدَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ،
فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي
مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ
هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ.
قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ
فَرَكَعُوا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ فَرفعُوا جَمِيعًا، ثمَّ سجد الصَّفّ
الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسُوا
جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّتَيْنِ، مرّة بِأَرْض عسفان، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ
بِهِ، نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ
بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ مُحَمَّد بن الْمثنى، وأبندار،
عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا.
لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
(3/157)
قَالَ: غَزْونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنَ جُهَيْنَةَ، فَقَاتَلُوا
قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى الظَّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ:
لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لَاقْتَطَعْنَاهُمْ.
فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " وَقَالُوا: إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ
إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ مَا
تَقَدَّمَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ الظَّهْرَ
بِنَخْلٍ، فَهَمَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ قَالُوا: دَعُوهُمْ فَإِنَّ
لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ الصَّلَاةِ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ.
قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْعَصْر، فصفهم
صفّين بَين أَيْديهم رَسُول الله وَالْعَدُوُّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا
جَمِيعًا وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثمَّ سجد الَّذين يَلُونَهُمْ وَالْآخرُونَ
قيام، فَلَمَّا رفعوا رؤوسهم سَجَدَ الْآخَرُونَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ
هَؤُلَاءِ وَتَأَخَّرَ هَؤُلَاءِ، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا وَرَكَعُوا
جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ الَّذِينَ يلونه وَالْآخرُونَ قيام، فَلَمَّا رفعوا
رؤوسهم سَجَدَ الْآخَرُونَ.
وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِرِوَايَةِ هِشَامٍ
هَذِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُّ (1) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم نزل بَيْنَ ضَجَنَانَ وَعُسْفَانَ، فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاة هِيَ أحب إِلَيْهِم من أبنائهم
وأبكارهم وَهِيَ الْعَصْرُ، فَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً.
وَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأمره أَن يُقيم أَصْحَابه شطرين فيصلى
__________
(1) الهنائى: نِسْبَة إِلَى هناءة بن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس، بطن من
الازد.
اللّبَاب 3 / 294.
(*)
(3/158)
ببعضهم وَيقدم الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى
وَرَاءَهُمْ، وَلِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ثُمَّ تَأْتِي
الْأُخْرَى فَيُصَلُّونَ مَعَهُ، وَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ، لِيَكُونَ لَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ
رَكْعَتَانِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ
بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ شَهِدَ هَذَا فَهُوَ بَعْدَ خَيْبَرَ،
وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ مُرْسِلَاتِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَا عِنْدَ
أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ أَمْرُ عُسْفَانَ وَلَا خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ.
* * * بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ
أَوْ بَعْدَهَا؟ فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، مَنْ
يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ يَوْمِ
الْخَنْدَقِ، فَإِنَّهُمْ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ
يَوْمَئِذٍ عَنْ مِيقَاتِهَا لِعُذْرِ الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ
الْخَوْفِ مَشْرُوعَةً إِذْ ذَاكَ لَفَعَلُوهَا وَلَمْ يُؤَخِّرُوهَا،
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي: إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي
لِحْيَانَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ بُعُسْفَانَ كَانَتْ
بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ لَقِيَتْهُ بِعُسْفَانَ فَوَقَفْتُ بِإِزَائِهِ
وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظَّهْرَ أَمَامَنَا،
فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا،
فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهَمِّ بِهِ،
فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
قُلْتُ: وَعُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ
سِتٍّ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ
آيَةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ
(3/159)
الْغَزْوَةِ يَوْمَ عُسْفَانَ، فَاقْتَضَى
ذَلِكَ أَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ خَوْفٍ صَلَّاهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ
وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ
" إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
غَزْوَةُ ذَات الرّقاع قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ
بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضَ جُمَادَى، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا
يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطْفَانَ وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ غَزْوَةُ
ذَاتِ الرِّقَاعِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لِأَنَّهُمْ رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهُمْ،
وَيُقَالُ لِشَجَرَةٍ هُنَاكَ اسْمُهَا ذَاتُ الرِّقَاعِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بِجَبَلٍ فِيهِ بُقَعٌ حُمْرٌ وَسُودٌ وَبِيضٌ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا
يَرْبُطُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الْخِرَقِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ،
فَتَقَارَبَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ هَاهُنَا عَنْ
عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُّورِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ
عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
وَعَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،
(3/160)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ
فِي هَذِهِ الطُّرُقِ غَزْوَةَ نَجْدٍ وَلَا ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَلَمْ
يَتَعَرَّضْ لِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.
وَفِي كَوْنِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ الَّتِي كَانَتْ بِنَجْدٍ
لِقِتَالِ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ غَطَفَانَ قَبْلَ
الْخَنْدَقِ نَظَرٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خَيْبَرَ،
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ شَهِدَهَا،
كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدُومُهُ إِنَّمَا كَانَ لَيَالِيَ خَيْبَرَ صُحْبَةَ
جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ:
صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزْوَةِ نَجْدٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
إِنَّمَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْقِتَالِ أَوَّلَ مَا أَجَازَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَجْدٍ فَذَكَرَ صَلَاةَ
الْخَوْفِ.
وَقَوْلُ الْوَاقِدِيِّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ إِلَى ذَاتِ
الرِّقَاعِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَيُقَالُ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
سَنَةَ خَمْسٍ.
فِيهِ نَظَرٌ.
ثُمَّ لَا يَحْصُلُ بِهِ نَجَاةٌ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا
شُرِعَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي شَوَّالٍ
سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ،
فَتَحَصَّلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَخْلَصٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ فُلَا.
قِصَّةُ غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَن جَابر
ابْن عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ
غَوْرَثٌ قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطَفَانَ ومحارب: (11 - السِّيرَة - 3)
(3/161)
أَلَا أَقْتُلَ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟
قَالُوا: بَلَى، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْظُرُ إِلَى سَيْفك هَذَا؟ قَالَ: نعم.
فَأَخذه ثمَّ جعل يهزه ويهم، فكبته اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: لَا، مَا أَخَافُ
مِنْكَ؟ قَالَ: أَمَا تَخَافُنِي وَفِي يَدِي السَّيْفُ؟ قَالَ: لَا،
يَمْنَعُنِي اللَّهُ مِنْكَ.
ثُمَّ عَمَدَ إِلَى سَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَرده
عَلَيْهِ.
فَأنْزل الله عزوجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى
الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (1) ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، أَنَّهَا
إِنَّمَا أنزلت فِي عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ أَخِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَا
هَمَّ بِهِ.
* * * هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ غَوْرَثٍ هَذَا عَنْ عَمْرِو
بْنِ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيِّ رَأْسِ الْفِرْقَةِ
الضَّالَّةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لايتهم بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي
الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى عَنْهُ
لِبِدْعَتِهِ وَدُعَائِهِ إِلَيْهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا
الْوَجْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا طُرُقًا لِهَذَا
الْحَدِيثِ مِنْ عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ، أَبِي سِنَانٍ وَأَبِي
سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَة نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ
كَثِيرِ الْعِضَاهِ (2) ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ
بِالشَّجَرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَة فعلق بهَا سَيْفه.
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة.
(2) العضاه: شجر عَظِيم لَهُ شوك.
(*)
(3/162)
قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا
فَأَجَبْنَاهُ، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي
وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا (1) فَقَالَ:
مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ.
فَشَامَ السَّيْفَ وَجَلَسَ.
وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
عَنْ عَفَّانَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ،
وَكُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأخذ سيف رَسُول الله فَاخْتَرَطَهُ
وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَخَافُنِي؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ منى؟ قَالَ: الله يمنعنى مِنْك.
قَالَ: فهدده أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ.
قَالَ: وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى
رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ.
وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ عَنْ أَبَانٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ: مُسَدَّدٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، إِنَّ اسْمَ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بَين الْحَارِثِ.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَاتَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم محَارب وغَطَفَان بِنَخْلٍ،
فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ
لَهُ: غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ
مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ.
فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ.
فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْف
وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: كُنْ خَيْرَ
__________
(1) صَلتا: مُجَردا من غمده، بِمَعْنى مصلت.
(*)
(3/163)
آخِذٍ.
قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن
أعاهدك على أَلا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ.
فَخَلَّى سَبيله، فَأتى أَصْحَابه وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ
النَّاسِ.
ثُمَّ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ،
بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هُنَا طُرُقَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِذَاتِ
الرِّقَاعِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ
أَبِي حَثْمَةَ، وَحَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، فِي
صَلَاةِ الْخَوْفِ بِنَجْدٍ.
وَمَوْضِعُ ذَلِكَ كِتَابُ الاحكام.
وَالله أَعْلَمُ.
قِصَّةُ الَّذِي أُصِيبَتِ امْرَأَتُهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَمِّي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ
ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا، أَتَى زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا
أُخْبِرَ الْخَبَرَ حَلَفَ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُهَرِيقَ فِي أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ دَمًا.
فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْزِلًا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا؟ فَانْتَدَبَ
رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَكُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ
مِنَ الْوَادِي.
وَهُمَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَلَمَّا خَرَجَا
إِلَى فَمِ الشِّعْبِ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: أَيُّ
اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيَكَهُ أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ؟ قَالَ: بَلِ
اكْفِنِي أَوَّلَهُ.
فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي.
قَالَ: وَأَتَى الرَّجُلُ فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ
رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ
(3/164)
فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَانْتَزَعَهُ
وَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا.
قَالَ: ثمَّ رمى بِسَهْم آخر فَوَضعه فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ
قَائِمًا.
قَالَ: ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ
فَوَضَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ فَقَالَ:
اجْلِسْ فَقَدْ أثبت.
قَالَ: فَوَثَبَ الرجل فَلَمَّا رآهما عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ نَذِرَا بِهِ،
فَهَرَبَ.
قَالَ: وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ
الدِّمَاءِ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَفَلَا أَهْبَبْتَنِي أَوَّلَ مَا
رَمَاكَ؟ ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ
أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ
رَكَعْتُ فَآذَنْتُكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا
أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ
لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا! هَكَذَا
ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَن أَبى تَوْبَة، عَن عبد الله ابْن
الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ
أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ خُوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِطُولِهِ.
قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَابَ فِي مَحَالِّهِمْ نِسْوَةً،
وَكَانَ فِي السَّبْيِ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا يُحِبُّهَا،
فَحَلَفَ لِيَطْلُبَنَّ مُحَمَّدًا وَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُصِيبَ دَمًا
أَوْ يُخَلِّصَ صَاحِبَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ السِّيَاقِ نَحْوَ مَا
أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:
بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا حَتَّى طَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيِ الَّذِي
أَخَذَ فَرْخَهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ
هَذَا الطَّائِرِ أَخَذْتُمْ فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً
لِفَرْخِهِ؟ فَوَاللَّهِ لَرَبُّكُمْ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا
الطَّائِرِ بفرخه! !
(3/165)
قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ
كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ
الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي
وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَالك يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا.
قَالَ: أَنِخْهُ.
قَالَ: فَأَنَخْتُهُ وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ أَوِ
اقْطَعْ عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ.
فَفَعَلْتُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ.
فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ
مُوَاهَقَةً (1) .
قَالَ: وَتَحَدَّثْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ قَالَ:
قُلْتُ: بَلْ أَهِبُهُ لَكَ.
قَالَ: لَا وَلَكِنْ بِعْنِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِيهِ، قَالَ: قَدْ
أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ، قَالَ: قُلْتُ: لَا إِذًا تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ! قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ، قَالَ: فَقلت: أفقد
رضيت؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ.
ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَجْتَ بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَثِيِّبًا أَمْ بِكْرًا؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ
ثِيِّبًا.
قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتَلَاعِبُكَ! قَالَ: قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ
سَبْعًا، فَنَكَحْتُ امْرَأَة جَامِعَة تجمع رؤوسهن فَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أما إِنَّا لَو جِئْنَا صِرَارًا (2)
أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ
وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا.
قَالَ: فَقلت: وَالله يَا رَسُول الله مالنا نَمَارِقَ.
قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فاعمل عملا كيسا.
__________
(1) المواهقة.
المباراة.
(2) صرار: مَوضِع على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة.
(*)
(3/166)
قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجزور فنحرت وأقمنا
عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا.
قَالَ: فَحَدَّثْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدُونَكَ فَسَمْعٌ
وَطَاعَةٌ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى
أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى الْجَمَلَ فَقَالَ: مَا
هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ،
قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ، فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي
خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ لَكَ.
قَالَ: وَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ
أُوقِيَّةً.
قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَزَادَنِي شَيْئًا
يَسِيرًا.
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدِي وَيرى مَكَانَهُ من بَيْننَا
حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لَنَا.
يَعْنِي يَوْم الْحرَّة.
وَقد أخرجه صَاحب الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
الْعُمَرِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ
أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا وَالِدَهُ وَكَلَّمَهُ فَقَالَ
لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِيدٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ " وَزَادَهُمْ
عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحسنى وَزِيَادَة "
ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ
أَرْوَاحَهُمُ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ فَقَالَ: " وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم
يرْزقُونَ " وَالرُّوحُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطِيَّةِ كَمَا
قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:
(3/167)
فَلِذَلِكَ اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ، وَهُوَ
مَطِيَّتُهُ، فَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَزَادَهُ مَعَ
ذَلِكَ.
قَالَ: فَفِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ.
وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ السُّهَيْلِيُّ هَاهُنَا إِشَارَةٌ غَرِيبَةٌ
وَتَخَيُّلٌ بَدِيعٌ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ " عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَة فَقَالَ:
بَاب مَا كَانَ ظَهَرَ فِي غَزَاتِهِ هَذِهِ مِنْ بَرَكَاتِهِ وَآيَاتِهِ
فِي جَمَلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ وَأَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ،
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي كِمِّيَّةِ ثَمَنِ الْجَمَلِ وَكَيْفِيَّةِ
مَا اشْتُرِطَ فِي الْبَيْعِ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ وَاسْتِقْصَاؤُهُ لَائِقٌ بِكِتَابِ الْبَيْعِ مِنَ
الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَجَاءَ تَقْيِيدُهُ
بِغَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَمُسْتَبْعَدٌ تَعْدَادُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/168)
غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ
وَهِيَ بَدْرٌ الْمَوْعِدُ الَّتِي تَوَاعَدُوا إِلَيْهَا مِنْ أُحُدٍ
كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ
أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَةِ
وَرَجَبًا، ثُمَّ خَرَجَ فِي شَعْبَانَ إِلَى بِدْرٍ لِمِيعَادِ أَبِي
سُفْيَانَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عبدا لله بن أَبى بن سَلُولَ.
قَالَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِيًا يَنْتَظِرُ أَبَا
سُفْيَانَ.
وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ مَجَنَّةَ مِنْ
نَاحِيَةِ الظَّهْرَانِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي
الرُّجُوعِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ لَا يُصْلِحُكُمْ
إِلَّا عَامٌ خَصِيبٌ تَرْعَوْنَ فِيهِ الشَّجَرَ وَتَشْرَبُونَ فِيهِ
اللَّبَنَ، فَإِنَّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَإِنِّي رَاجِعٌ
فَارْجِعُوا.
فَرَجَعَ النَّاسُ فَسَمَّاهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ
يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السَّوِيقَ.
قَالَ: وَأَتَى مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ وَقَدْ كَانَ وَادَعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ عَلَى
بَنِي ضَمْرَةَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى
هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ
رَدَدْنَا إِلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَجَالَدْنَاكَ حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.
قَالَ: لَا وَالله يَا مُحَمَّد مالنا بِذَلِكَ مِنْ حَاجَةٍ.
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
يَعْنِي فِي انْتِظَارِهِمْ أَبَا سُفْيَانَ وَرُجُوعِهِ بِقُرَيْشٍ
عَامَهُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ أَنْشَدَنِيهَا أَبُو زَيْدٍ لِكَعْبِ بن
مَالك:
(3/169)
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ
نَجِدْ * لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا فَأُقْسِمُ لَوْ
لَاقَيْتَنَا فَلَقِيَتَنَا * لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ
الْمَوَالِيَا
تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِهِ * وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ
تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ أُفٍّ لِدِينِكُمْ *
وَأَمْرِكُمُ السئ الَّذِي كَانَ غَاوِيَا فَإِنِّي وَإِنْ عَنَّفْتُمُونِي
لَقَائِلٌ * فِدًى لِرَسُولِ اللَّهِ أَهْلِي وَمَالِيَا أَطَعْنَاهُ لَمْ
نعد لَهُ فِينَا بِغَيْرِهِ * شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ
هَادِيَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي
ذَلِكَ: دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا * جِلَادٌ
كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ (1) بِأَيْدِي رجال هَاجرُوا نَحْو
رَبهم * وأنصاره حَقًا وأيدي الملائك إِذا سلكت للغور من بطن عالج *
فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطَّرِيقُ هُنَالِكِ أَقَمْنَا عَلَى الرَّسِّ
النَّزُوعِ ثَمَانِيًا * بِأَرْعَنَ جَرَّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ (2)
بِكُلِّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ نِصْفُ خَلْقِهِ * وَقُبٍّ طِوَالٍ مُشْرِفَاتِ
الْحَوَارِكِ (3) تَرَى الْعَرْفَجَ الْعَامِيَّ تَذْرِي أُصُولَهُ *
مَنَاسِمُ أَخْفَافِ الْمَطِيِّ الرَّوَاتِكِ (4) فَإِنْ تَلْقَ فِي
تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا * فُرَاتَ بْنَ حَيَّانٍ يَكُنْ رَهْنَ
هَالِكِ وَإِنْ تَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ * يُزَدْ
فِي سَوَادِ لَوْنِهِ لَوْنُ حَالِكِ فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي
رِسَالَةً * فَإِنَّكَ مِنْ غُرِّ الرِّجَالِ الصَّعَالِكِ قَالَ:
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَقَدْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ: أَحَسَّانُ إِنَّا يَا ابْنَ آكِلَة
الفغا * وَجدك نغتال الخروق كَذَلِك (5)
__________
(1) الفلجات: جمع فلج، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير.
والاوارك: الابل الَّتِى رعت الاراك.
(2) الرس: الْبِئْر.
والنزوع: الْقَرِيبَة القعر.
والارعن: الْجَيْش ذُو الفضول.
(3) الْكُمَيْت: الْفرس.
والجوز: الْوسط.
والقب: جمع أقب، وَهُوَ الْفرس الضامر الْبَطن والحوارك: جمع حارك وَهُوَ
أَعلَى الْكَاهِل.
(4) العرفج: شجر سهلى.
والعامي: الذى أَتَى عَلَيْهِ الْعَام.
والرواتك: المسرعة.
(5) الفغا: شئ كالتبن.
والخروق: القفار.
ونفتال: نقطع.
(*)
(3/170)
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرَ
بَيْنَنَا * وَلَوْ وَأَلَتْ مِنَّا بِشَدٍّ مُدَارِكِ (1) إِذَا مَا
انْبَعَثْنَا مِنْ مُنَاخٍ حَسِبْتَهُ * مُدَمَّنَ أَهْلِ الْمَوْسِمِ
الْمُتَعَارِكِ (2) أَقَمْتَ عَلَى الرَّسِّ النَّزُوعِ تُرِيدُنَا *
وَتَتْرُكُنَا فِي النَّخْلِ عِنْدَ الْمَدَارِكِ عَلَى الزَّرْعِ تَمْشِي
خَيْلُنَا وَرِكَابُنَا * فَمَا وَطِئَتْ أَلْصَقْنَهُ بِالدَّكَادِكِ (3)
أَقَمْنَا ثَلَاثًا بَيْنَ سَلْعٍ وَفَارِعٍ * بِجُرْدِ الْجِيَادِ
وَالْمَطِيِّ الرَّوَاتِكِ (4) حَسِبْتُمْ جِلَادَ الْقَوْمِ عِنْدَ
فِنَائِكُمْ (5) * كَمَأْخَذِكُمْ بِالْعَيْنِ أَرْطَالَ آنُكِ (6) فَلَا
تَبْعِثِ الْخَيْلَ الْجِيَادَ وَقُلْ لَهَا * عَلَى نَحْوِ قَوْلِ
الْمَعْصِمِ الْمُتَمَاسِكِ سَعِدْتُمْ بِهَا وَغَيْرُكُمْ كَانَ أَهْلَهَا
* فَوَارِسُ مِنْ أَبْنَاءِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ فَإِنَّكَ لَا فِي
هِجْرَةٍ إِنْ ذَكَرْتَهَا * وَلَا حُرُمَاتِ دِينِهَا أَنْتَ نَاسِكُ (7)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا أَبْيَاتًا لِاخْتِلَافِ
قَوَافِيهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ
لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ، وَانْبَعَثَ الْمُنَافِقُونَ فِي النَّاسِ
يُثَبِّطُونَهُمْ، فَسَلَّمَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ، وَخَرَجَ
الْمُسْلِمُونَ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَائِعَ وَقَالُوا: إِنْ
وَجَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ وَإِلَّا اشترينا من بضائع موسم بدر.
__________
(1) اليعافير: جمع يَعْفُور وَهُوَ ولد الظبية.
ووألت: احتمت.
والشد: الجرى.
(2) المدمن: الْموضع بِهِ آثَار النَّاس وَالدَّوَاب.
(3) الدكادك: جمع دكدك، مَا تكبس واستوى من الرمل، أَو أَرض فِيهَا غلظ.
(4) الرواتك: الَّتِى تقَارب فِي خطوها.
(5) ابْن هِشَام: عِنْد قبابهم.
وَرَوَاهَا ابْن سَلام فِي طَبَقَات الشُّعَرَاء: حول بُيُوتكُمْ.
(6) الْعين: المَال، وَالذَّهَب، وَالدِّينَار.
والآنك: الرصاص الابيض.
وَقد ذكر السُّهيْلي عَن ابْن
سَلام أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب قَالَ لابي سُفْيَان بن الْحَارِث:
يَابْنَ أخى لم جَعلتهَا آنك، إِن كَانَت الْفضة بَيْضَاء جَيِّدَة! (7)
وتروى: وَلَا حرمات الدّين أَنْت بناسك.
(*)
(3/171)
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ ابْنِ
إِسْحَاقَ فِي خُرُوجِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى مَجَنَّةَ، وَرُجُوعِهِ،
وَفِي مُقَاوَلَةِ الضَّمْرِيِّ، وَعَرْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم والمنابذة فَأَبَى ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ.
وَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ، يَعْنِي
سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَوَافَقَ قَوْلَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
أَنَّهَا فِي شَعْبَانَ، لَكِنْ قَالَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَهَذَا وَهْمٌ،
فَإِنَّ هَذِهِ توعدوا إِلَيْهَا من أحد وَكَانَت أُحُدٌ فِي شَوَّالٍ
سَنَةَ ثَلَاثٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَأَقَامُوا بِبَدْرٍ مُدَّةَ الْمَوْسِمِ الَّذِي
كَانَ يُعْقَدُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعُوا وَقَدْ رَبِحُوا
مِنَ الدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ.
وَقَالَ غَيره: فانقلبوا كَمَا قَالَ الله عزوجل: " فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (1) ".
فصل فِي جملَة مِنَ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بن عَفَّان رضى الله عَنهُ،
يعْنى مِنْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ وَالِدُهُ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَفِيهِ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، وَأُمُّهُ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَ رَضِيعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ارْتَضَعَا مِنْ ثُوَيْبَةَ مَوْلَاةِ أَبِي لَهب.
__________
(1) سُورَة آل عمرَان 174.
(*)
(3/172)
وَكَانَ إِسْلَامُ أَبِي سَلَمَةِ وَأَبِي
عُبَيْدَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي
الْأَرْقَمِ قَدِيمًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ هَاجَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ وُلِدَ لَهُمَا
بِالْحَبَشَةِ أَوْلَادٌ، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَتَبِعَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَمَاتَ مِنْ آثَارِ جُرْحٍ جُرِحَهُ
بِأُحُدٍ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، سَيَأْتِي
فِي سِيَاقِ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأُمِّ سَلَمَةَ قَرِيبًا.
* * * قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا
وُلِدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، الْهِلَالِيَّةَ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أُخْتَ مَيْمُونَةَ
بِنْتِ الْحَارِثِ.
ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.
وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا أُمُّ الْمَسَاكِينِ لِكَثْرَةِ صَدَقَاتِهَا
عَلَيْهِمْ وَبِرِّهَا لَهُمْ وَإِحْسَانِهَا إِلَيْهِمْ.
وَأَصْدَقَهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا (1) وَدَخَلَ بِهَا
فِي رَمَضَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ
فَطَلَّقَهَا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ: ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهَا أَخُوهُ
عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ: وَقِيلَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَقتل عَنْهَا يَوْم أحد.
__________
(1) النش: نصف أُوقِيَّة، وَهُوَ عشرُون درهما.
(*)
(3/173)
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا خِلَافَ
أَنَّهَا مَاتَتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةً حَتَّى تُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ
أَبِي أُمَيَّةَ.
* * * قُلْتُ: وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ زَوْجِهَا أَبِي أَوْلَادِهَا
أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الاسد، وَقد كَانَ شهد أحدا كَمَا تَقَدَّمَ،
وَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَاوَى جُرْحَهُ شهرا حَتَّى برِئ، ثُمَّ خَرَجَ
فِي سَرِيَّةٍ فَغَنِمَ مِنْهَا نَعَمًا وَمَغْنَمًا جَيِّدًا، ثُمَّ
أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ
جُرْحَهُ فَمَاتَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
فَلَمَّا حَلَّتْ فِي شَوَّالٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَفْسِهَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبَعَثَ
إِلَيْهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ذَلِك مرَارًا، فَتَذْكُرُ أَنَّهَا
امْرَأَةٌ غَيْرَى، أَيْ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ وَأَنَّهَا مُصْبِيَةٌ،
أَيْ لَهَا صِبْيَانٌ يَشْغَلُونَهَا عَنْهُ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى مُؤْنَةٍ
تَحْتَاجُ مَعَهَا أَنْ تَعْمَلَ لَهُمْ فِي قُوتِهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا
الصِّبْيَةُ فَإِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ.
أَيْ نَفَقَتُهُمْ لَيْسَ إِلَيْكِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَأَدْعُو
اللَّهَ فَيُذْهِبُهَا.
فَأَذِنَتْ فِي ذَلِكَ وَقَالَتْ لِعُمَرَ آخِرَ مَا قَالَتْ لَهُ: قُمْ
فَزَوِّجِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَعْنِي قَدْ رَضِيتُ وَأَذِنْتُ.
فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا تَقُولُ لِابْنِهَا عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ كَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَا يَلِي مَثَلُهُ
الْعَقْدَ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا بَيَّنْتُ فِيهِ
الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَنَّ الَّذِي وَلِيَ عَقْدَهَا عَلَيْهِ ابْنُهَا سَلَمَةُ بْنُ أَبِي
سَلَمَةَ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهَا.
وَسَاغَ هَذَا لِأَنَّ أَبَاهُ ابْنُ عَمِّهَا، فللا بن وِلَايَةُ أُمِّهِ
إِذَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ
بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ مُعْتِقًا أَوْ حَاكِمًا.
(3/174)
فَأَمَا مَحْضُ الْبُنُوَّةِ فَلَا يَلِي
بِهَا عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَحْدَهُ، وَخَالَفَهُ
الثَّلَاثَةُ: أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِيهِ، وَهُوَ كِتَابُ
النِّكَاحِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
* * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ،
يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ
بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَطَّلِبِ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ يَوْمًا مِنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَقَدْ
سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا
سررت بِهِ، قَالَ: " لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ
فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي
فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فُعِلَ بِهِ ".
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ
أجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا ثمَّ رجعت إِلَى
نَفسِي فَقلت: مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَلَمَّا
انْقَضَتْ عِدَّتِي اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي، فَغَسَلْتُ يَدِي مِنَ
الْقَرَظِ وَأَذِنْتُ لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أُدُمٍ حَشْوُهَا
لِيفٌ، فَقَعَدَ عَلَيْهَا فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ
مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِي أَنْ لَا تَكُونَ
بِكَ الرَّغْبَةُ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ بى غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخَافُ
أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ
قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ.
فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَيُذْهِبُهَا اللَّهُ
عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ السِّنِّ فَقَدْ
أَصَابَنِي مِثْلَ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ
الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي.
فَقَالَتْ: فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ
خَيْرًا مِنْهُ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3/175)
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنِ ابْنِ عمر بن أَبى
سَلمَة عَن أَبِيه.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُدَامَةَ الْجُمَحِيِّ
عَنْ أَبِيهِ، عَن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ.
* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ بِدْرٍ الْمَوْعِدِ - رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَضَى ذُو الْحِجَّةِ وَوَلِيَ
تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ.
قُلْتُ: فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْتُهُ فِي
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالله أعلم.
(3/176)
|