السيرة النبوية لابن كثير

ذِكْرُ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قَبَّحَهُ اللَّهُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا عَرَفَ فِيهِ الْمَوْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ.
" فَقَالَ: قَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَهْ؟ وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّال، وَمَات فِي ذى الْقعدَة
__________
(1) لية: جبل بِالطَّائِف.
المراصد.
(*)

(4/64)


وَكَانَ مَرَضُهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعُودُهُ فِيهَا.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: " قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ " فَقَالَ: قَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ
فَمَا نَفَعَهُ؟ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ هُوَ الْمَوْت، فَاحْضُرْ غُسْلِي وَأَعْطِنِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ فَكَفِّنِّي فِيهِ وَصَلِّ عَلَيَّ وَاسْتَغْفِرْ لِي.
فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بن أَبى بن سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُول الله: " إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي فَقَالَ: " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم.
" وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ ".
فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَأنْزل الله عزوجل: " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُوله " فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ: نَعَمْ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ.

(4/65)


وفى رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَغَيره قَالَ عمر: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي يَوْمِ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِي يَوْمِ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ: " دَعْنِي يَا عُمَرُ فَإِنِّي بَيْنَ خَيْرَتَيْنِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ
لزدت ": ثمَّ صلى عَلَيْهِ.
فَأنْزل الله عزوجل " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تقم على قَبره " الْآيَة.
قَالَ عمر: فعجبت مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالله وسوله أَعْلَمُ.
وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبر عبد الله بن أَبى بعد مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ - أَوْ فَخِذَيْهِ - وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَلْبَسَهُ قَمِيصه مُكَافَأَة لما كَانَ كسا الْعَبَّاس قَمِيصًا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا قِصَّةَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، وَكَيْفَ افْتُتِنَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَمَنْعِهِ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ حَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضله (1) " الْآيَة.
فصل قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَدِّدُ أَيَّامَ الْأَنْصَارِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة 75.
(*)

(4/66)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَذْكُرُ مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي أَيَّامِ غَزْوِهِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ: أَلَسْتُ خَيْرَ مَعَدٍّ كُلِّهَا نَفَرًا * وَمَعْشَرًا إِنْ هُمُ عُمُّوا وَإِنْ حُصِلُوا (1) قَوْمٌ هُمُ شَهِدُوا بَدُرًا بِأَجْمَعِهِمْ * مَعَ الرَّسُولِ فَمَا أَلَوْا وَمَا خَذَلُوا (2)
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أحد * مِنْهُم وَلم يَك فِي إيمَانه (3) دَخَلُ وَيَوْمَ صَبَّحَهُمْ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ * ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرِّ النَّارِ مُشْتَعِلُ وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ * عَلَى الْجِيَادِ فَمَا خانوا وَمَا نَكَلُوا (4) وَذَا الْعَشِيرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمُ * مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهَا الْبِيضُ وَالْأَسَلُ وَيَوْمَ وَدَّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا * بِالْخَيْلِ حَتَّى نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوَّهُمُ * لِلَّهِ وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ * فِيهَا يَعُلُّهُمُ فِي الْحَرْب إِذْ نَهِلُوا وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثَمَّ كَانَ لَهُمْ * مَعَ الرَّسُولِ بِهَا الْأَسْلَابُ وَالنَّفَلُ وَغَزْوَةَ القاع فرقنا الْعَدو بِهِ * كَمَا يفرق دُونَ الْمَشْرَبِ الرَّسَلُ وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ * عَلَى الْجِلَادِ فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيَّتِهِ * مُرَابِطِينَ فَمَا طَاشُوا وَمَا عَجِلُوا وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ * يَمْشُونَ كُلُّهُمُ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ بِالْبِيضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِية * تعوج بِالضَّرْبِ أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ مُحتَسِبًا * إِلَى تَبُوكَ وَهُمْ رَايَاتُهُ الْأُوَلُ وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إِنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمُ * حَتَّى بَدَا لَهُمُ الاقبال والقفل أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النَّبِيِّ وَهُمْ * قَوْمِي أَصِيرُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَتَّصِلُ مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ عُهُودُهُمُ * وَقَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ قُتِلُوا
__________
(1) حصلوا: جمعُوا.
(2) ألوا: قصروا (3) ابْن هِشَام: فِي إِيمَانهم.
(4) ابْن هِشَام: فَمَا خاموا.
(*)

(4/67)