السيرة النبوية وأخبار الخلفاء

السّيرة النّبويّة
للإمام الحافظ أبي حاتم محمّد بن أحمد التميمي البستي المتوفى سنة 354 هـ صحّحه، وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك وجماعة من العلماء

(1/19)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* «1» صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما «1» .
«2» قال أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي «2» :
الحمد لله الذي «3» ليس له حد محدود فيتوى «4» ، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان، ولا يشتمل عليه تواتر الزمان، «5» ولا يدرك نعمته بالشواهد والحواس، ولا يقاس صفات ذاته بالناس «5» ، تعاظم قدره عن مبالغ نعت الواصفين، وجل وصفه عن إدراك غاية الناطقين، وكل دون وصف صفاته تحبير «6» ، اللغات، وضل عن بلوغ قصده تصريف الصفات، وجاز في ملكوته
__________
(*) رموز النسخ التي استعملناها في تصحيح هذا الكتاب كما يليه: ف: رمز نسخة المكتبة الآصفية بحيدر آباد الدكن (الهند) وهي الأساس لتصحيح هذا الكتاب، وتاريخ كتابتها: ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين ومائتين بعد الألف من الهجرة- كتبه مسكين أحمد. م: رمز نسخة مكتبة السلطان محمود (استانبول) وتاريخ كتابتها: شعبان سنة سبع وثمانين وثمانمائة- كتبه محمد بن أبي بكر. س: رمز نسخة المكتبة السعيدية بحيدر آباد وتاريخ كتابتها يوافق تاريخ كتابة النسخة الآصفية.
(1- 1) زيد من م، وليس في ف وس.
(2- 2) ليس في م، وزيد في ف: رضي الله تعالى عنه.
(3) العبارة من هنا إلى «فينفي و» سقطت من م.
(4) في ف وس «فيتوا» .
(5- 5) سقطت من م.
(6) التصحيح من م، وفي ف وس «تحيير» خطأ.

(1/21)


غامضات أنواع التدبير، وانقطع عن دون بلوغه عميقات جوامع التفكير، «1» وانعقدت دون «1» «2» استبقاء حمده ألسن «3» المجتهدين، وانقطعت إليه جوامع أفكار آمال المنكرين، إذ لا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، وأشهد أن لا إله إلا الله أحصى «1» كل شيء عددا، وضرب لكل امرىء لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
«1» «4» ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور الساطع، والضياء اللامع، فبلّغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا «5» إليه الدلالة، «1» فكان في اتباع سنته لزوم الهدى، وفي قبول ما أتى به وجود السنا، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين «1» .
«6» أما بعد! فإن الله اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من عباده، واستخلصه لنفسه من بلاده، فبعثه إلى خلقه بالحق بشيرا، ومن النار «7» لمن زاغ عن سبيله نذيرا، ليدعو [الخلق] «8» من عباده إلى عبادته، ومن اتباع السبيل «9» إلى لزوم طاعته، ثم لم يجعل الفزع عند وقوع حادثة، ولا الهرب «10» عند وجود كل نازلة، إلا إلى الذي أنزل عليه التنزيل، وتفضل على عباده بولايته التأويل، فسنته الفاصلة بين المتنازعين، وآثاره القاطعة بين «11» الخصمين.
فلما رأيت معرفة السنن من أعظم أركان الدين، وأن حفظها يجب على أكثر
__________
(1- 1) سقطت من م.
(2) العبارة من هنا إلى «المنكرين» سقطت من م.
(3) وقع في ف وس «السنن» خطأ.
(4) سورة 8 آية 42.
(5) في ف وس «دعى» كذا.
(6) هذه العبارة من هنا إلى آخر السطر الثاني من الصفحة التالية «ما كانوا عليه من الحالات،» سقطت من م.
(7) وقع في ف وم وس «الناس» خطأ، والتصحيح من الأنساب للسمعاني 1/ 1.
(8) بياض في ف وم وس، والتصحيح من الأنساب للسمعاني 1/ 1.
(9) في الأنساب «السبل» .
(10) في ف وس «للهرب» خطأ.
(11) من الأنساب، وفي ف وس «لأحد» كذا.

(1/22)


المسلمين، وأنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح، ولا صحة إخراج الدليل من الصريح، إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين [و] «1» كيفية ما كانوا عليه من الحالات، «2» أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين، ومن «3» الفقهاء «4» من أهل الفضل والصالحين، ومن سلك سبيلهم من الماضين، بحذف الأسانيد والإكثار، ولزوم سلوك الاختصار، ليسهل على الفقهاء حفظها، ولا يصعب على الحفاظ وعيها، والله أسأل «5» التوفيق لما أوصانا، والعون على ما له قصدنا، وأسأله أن يبني «6» دار المقامة من نعمته، ومنتهى الغاية من كرامته، في أعلى درجة الأبرار المنتخبين «7» الأخيار، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

ذكر الحث على لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم
أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي «8» ثنا علي بن المديني ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن يزيد ثنا خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر
__________
(1) زيد من م، وقد سقط من ف وس.
(2) العبارة من «أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين» إلى «ذكر مولود المصطفى» ساقطة من م، ولكنها وقعت في م مختصرة ما نصها «أردت أن أذكر مولد المصطفى صلوات الله عليه ومبعثه وهجرته ومغازيه إلى أن قبضه الله إلى جنته، ثم أذكر بعده الخلفاء الراشدين المجتهدين وأيامهم إلى أن قتل علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين بحذف الأسانيد ولزوم سلوك الاختصار ليسهل حفظها ولا يصعب وعيها، والله الموفق لذلك والمتيسر له» وبعدها «ذكر مولود المصطفى» .
(3) بعده بياض في ف وس بقدر كلمة، وليس في م.
(4) التصحيح من م، وفي ف «الفقه» مصحفا.
(5) وقع في ف «أسيل» مصحفا.
(6) وقع في ف «يبا» مصحفا وبعده بياض بقدر كلمة، والصواب ما أثبتناه.
(7) وقع في ف وس «المخبتين» كذا.
(8) وقع في الأصل «البري» ؛ والتصحيح من تاريخ بغداد 5/ 170، وله ترجمة فيه ما نصه «أحمد بن مكرم بن خالد بن صالح أبو الحسن البرتي، حدث عن علي بن المديني، روى عنه عبد العزيز بن جعفر الخرفي ومحمد ابن إبراهيم بن نيطرا ومحمد بن إسماعيل الوراق ومحمد بن المظفر أحاديث مستقيمة. حدثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم بن خالد البرتي حدثنا علي بن المديني- إلخ» .

(1/23)


ابن حجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ «1» فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كان هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا مجدعا، فإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا! فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين «2» فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة «3» ضلالة. قال الوليد: فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن العلاء بن زبر؟ فقال: نعم، حدثني بنحو من هذا الحديث «4» .
قال أبو حاتم: إن الله جلّ وعلا اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم من بين خلقه، وبعثه بالحق بشيرا ونذيرا، وافترض «5» على خلقه «6» طاعته ومذكوره «7» وحدثنا فقال
__________
(1) سورة 9 آية 92.
(2) التصحيح من حم والترمذي، وفي ف «المهتدين» .
(3) وقال بهامش ابن ماجه: وقوله «كل بدعة» هذا اللفظ لا يستقيم إلا على رأي من لم ير البدعة حسنة، وأما من يقول بالبدعة الحسنة فعنده هذا عام مخصوص منه البعض- إنجاح» .
(4) رواه ابن ماجه ص 5 في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين «عن عبد الله بن أحمد بن بشر ابن ذكوان الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن العلاء يعني ابن زبر حدثني يحيى بن أبي المطاع قال سمعت العرباض بن سارية» الحديث؛ والترمذي علم 16، أبو داوود سنة: 5، حم 4، 126- 127.
(5) في ف «أفرض» كذا، وقال الشافعي: وفرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله فقال في كتابه «لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة» قال الشافعي: وذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة، سمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» ذكره البيهقي في دلائل النبوة في مقدمته.
(6) كذا في ف وس، وقع في الأصلين «خلد» وبعده بياض، ولعله تصحف من «خلقه» والصواب ما أثبتناه.
(7) كذا في ف وس.

(1/24)


يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» وقال وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً «2» الآية فأمر الله بطاعة رسوله مع طاعته، وعند التنازع بالرجوع إلى سنته، إذ هو المفزع الذي لا منازعة لأحد من الخلق فيه، فمن تنازع في شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب ردّ أمره إلى قضاء الله ثم إلى قضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن طاعة رسوله طاعته، قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ «3» الآية، وقال مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» ، فقد أعلمهم «5» جل وعلا أن اتباعهم رسوله اتباعه، وأن طاعتهم له [طاعته] «6» ، ثم ضمن الجنة لمن أطاع رسوله واتبع ما أجابه، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «7» الآية، ثم أعلمنا «8» جلّ وعلا أنه «9» لم يجعل الحكم بينه وبين خلقه إلا رسوله، ونفى «10» الإيمان عن من لم يحكمه فيما شجر بينهم، قال فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية، ثم أعلمنا جل وعلا أن دعاهم إلى رسوله ليحكم بينهم إنما دعاهم إلى حكم الله، لا أن الحاكم بينهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم متى ما سلموا الحكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد سلموه بفرض الله، قال الله عز وجل إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلى قوله فَأُولئِكَ هُمُ
__________
(1) سورة 4 آية 59.
(2) سورة 33 آية 36.
(3) سورة 48 آية 10.
(4) سورة 4 آية 80.
(5) كذا في ف وس، وسيأتي «أعلمنا» .
(6) سقط من الأصول.
(7) سورة 4 آية 69.
(8) في ف «علمنا» كذا.
(9) زيد في ف «لم» مكررا خطأ.
(10) في ف «نقي» خطأ.

(1/25)


الْفائِزُونَ «1» ، ذا حكم الله فرضه «2» بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته، ثم أعلمنا أن الفرض على رسوله اتباع أمره، فقال اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «3» ، وقال جل وعلا ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ «4» الآية، وقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ إلى قوله خَبِيراً «5» ثم شهد الله جل وعلا لرسوله باتباع أمره واستمساك بأمره لما سبق في علمه من إسعاده بعصمته وتوفيقه للهدى مع هداية من اتبعه، فقال وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
«6» الآية، ثم أمره الله جل وعلا بتبليغ ما أنزل إليه مع الشهادة له بالعصمة من بين الناس.
فقال يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [مِنْ رَبِّكَ] «7» وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «8» ، ثم أعلمنا أن الذي يهدي إليه رسوله هو الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه فقال وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ إلى قوله وَما فِي الْأَرْضِ «9» ففي هذه الآية التي طولناها ما أقام بها الحجة «10» على خلقه «11» بالتسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع
__________
(1) سورة 24 آية 51.
(2) وذكر البيهقي في دلائل النبوة ما نصه «قال: الشافعي رحمه الله: وكان فرضه جل ثناؤه على من عاين رسوله صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة واحدا من أن على كل طاعته ولم يكن أحد غاب عن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالخبر عنه» .
(3) سورة 6 آية 106.
(4) سورة 45 آية 18.
(5) سورة 33 آية 1.
(6) سورة 4 آية 113.
(7) سقط من الأصل.
(8) سورة 5 آية 67.
(9) سورة 42 آية 52.
(10) في ف وس «الجنة» خطأ، لعله تصحف من «الحجة» كما أثبتناه.
(11) زيد في ف وس «با» مكررا، خطأ.

(1/26)


أمره، فكل ما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه ووجب علينا اتباعه، وفي العنود عن اتباعه معصية، إذ لا حكم بين الله وبين خلقه إلا الذي وصفه الله جل وعلا موضع الإبانة لخلقه عنه.
فالواجب على كل من انتحل العلم أو نسب إليه حفظ سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم والتفقه فيها، ولا حيلة لأحد في السبيل إلى حفظها إلا بمعرفة «1» تاريخ المحدثين، ومعرفة الضعفاء منهم من الثقات، لأنه متى لم يعرف ذاك لم يحسن تمييز الصحيح من السقيم، ولا عرف المسند من المرسل، ولا الموقوف من المنقطع، فإذا وقف على أسمائهم وأنسابهم وعرف- أعني بعضهم بعضا- وميز العدول من الضعفاء، وجب عليه حينئذ التفقه فيها، والعمل بها، ثم إصلاح النية في نشرها إلى من بعده رجاء استكمال الثواب «2» في العقبى بفعله ذلك، إذ العلم من أفضل ما يخلف المرء بعده، نسأل الله الفوز على ما يقربنا إليه ويزلفنا لديه.

ذكر الحث على نشر العلم
إذ هو من خير ما يخلف المرء بعده.
أخبرنا الفضل «3» بن الحباب ثنا موسى بن إسماعيل ثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة «4» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات
__________
(1) وقال صاحب كشف الظنون 1/ 521 أن «علم الثقات والضعفاء» وهو من أجل نوع وأفخمه من أنواع علم الأسماء والرجال فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه، وإلى الاحتياط في أمور الدين وتمييز مواقع الغلط في بدء الأصل الأعظم الذي عليه مبنى الإسلام وأساس الشريعة، وللحفاظ فيه تصانيف كثيرة منها ما أفرد في الثقات ككتاب الثقات للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354» .
(2) كذا، وهو الصواب، وفي ف «الصواب» مصحفا.
(3) وله ترجمة في تذكرة الحفاظ 2/ 670 وفيه: الإمام الثقة محدث البصرة الفضل بن الحباب الجمحي البصري، مات في جمادى الأول سنة خمس وثلاثمائة.
(4) وروى ابن ماجه ص 22 «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما يلحق المؤمن من عمله

(1/27)


الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له «1» .

ذكر الخبر الدال على استحباب حفظ تاريخ المحدثين
أخبرنا محمد بن محمد الهمداني ثنا محمد بن عبد الأعلى «2» الصنعاني ثنا بشر ابن المفضل ثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة «3» ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقف على بعيره وأمسك إنسان بخطامه- أو قال:
بزمامه- فقال: أيّ يوم هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال:
«أليس بيوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فأي شهر هذا؟» فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال: «أليس بذي» [الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟
فسكتنا] «4» حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: «أليس البلد الحرام؟» قلنا:
بلى، فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا؛ ألا! ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من أوعى له منه» .
__________
وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجه من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته.
(1) قوله: ولد صالح يدعو له، إنما ذكر دعاءه تحريضا للولد على الدعاء لأبيه حتى قيل يحصل للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعا لأبيه أم لا، كما أن من غرس شجرة يجعل للغارس ثواب يأكل ثمرتها سواء دعا له الآكل أم لا، وقوله: وصدقة، فيدوم أجرها كالوقف في وجوه الخير، وفي الأزهار: قال أكثرهم: هي الوقف وأشبهه مما يدوم أجره، وقال بعضهم: هي القناة والعين الجارية المسيلة- مرقاة.
(2) وله ترجمة في تهذيب التهذيب 9/ 289 وفي آخر ترجمته «قال النسائي في أسماء شيوخه كتبنا عنه، وأثنى عليه خيرا» .
(3) ذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه 2/ 632 بروايته وفيه: «عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم- الحديث» .
(4) ما بين المربعين كان بياضا في الأصل، وأثبتناه من صحيح البخاري ومسند أحمد 5، 410، وراجع الصحيح لتقف على باقي الاختلاف.

(1/28)


قال أبو حاتم في قوله صلى الله عليه وسلم: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، كالدليل على استحباب حفظ تاريخ المحدثين، الوقوف على معرفة الثقات منهم من الضعفاء، إذ لا يتهيأ للمرء أن يبلغ الغائب ما شهد إلا بعد المعرفة بصحة ما يؤدي إلى من بعده، وأنه إذا أدى إلى من بعده ما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه لم يؤد عنه صلى الله عليه وسلم شيئا، ولا سبب له إلى معرفة صحة الأخبار وسقيمها إلا بمعرفة تاريخ من ذكر اسمه من المحدثين. وكتابا أبين فيه الضعفاء والمتروكين «1» ، وأبدأ منهما بالثقات. فنذكر «2» ما كانوا عليه في الحالات، فأول ما أبدأ في كتابنا هذا ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم ومولده ومبعثه، وهجرته إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته، ثم نذكر بعده الخلفاء الراشدين المهديين بأيامهم «3» إلى أن قتل علي رحمة الله عليه، ثم نذكر صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا واحدا على المعجم، إذ هم خير الناس قرنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نذكر بعدهم التابعين الذين شافهوا «4» أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقاليم كلها على المعجم، إذ هم خير الناس بعد الصحابة قرنا، ثم نذكر القرن الثالث الذين رأوا التابعين، فأذكرهم على نحو ما ذكرنا الطبقتين الأوليين «5» ، ثم نذكر القرن الرابع الذين هم أتباع التابعين على سبيل من قبلهم «6» ، وهذا القرن ينتهي إلى زماننا هذا.
ولا أذكر في هذا الكتاب الأول إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم «7» ، وأقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب «التاريخ الكبير» الذي
__________
(1) في الأصلين «المتركين» خطأ.
(2) وقع في الأصلين «فذكر» خطأ.
(3) التصحيح من م، ووقع في ف وس «بآبائهم» .
(4) التصحيح من م، وفي س وف «هو هو» مصحفا.
(5) وقع في ف وس «الأولتين» خطأ.
(6) وقع في الأصلين «قباهم» خطأ.
(7) في م «بأخبارهم» .

(1/29)


خرجناه لعلمنا «1» بصعوبة «2» حفظ كل ما فيه من الأسانيد والطرق والحكايات، ولأن ما نمليه في هذين الكتابين أن يسر الله ذلك وسهله من توصيف «3» الأسماء بقصد «4» ما يحتاج إليه يكون أسهل على المتعلم إذا قصد الحفظ، وأنشط له في وعيه إذا أراد العلم من التكلف بحفظ ما لو أغضى «5» عنه في البداية لم يخرج في فعله من التكلف لحفظ ذلك، فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس، فإذا وجد خبر منكر «6» عن واحد ممن أذكره «7» في كتابي هذا فإن ذلك الخبر لا ينفك «8» من إحدى خمس خصال: إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف «9» لا يحتج بخبره، أو يكون دونه رجل واه «10» لا يجوز الاحتجاج بروايته، والخبر يكون مرسلا لا يلزمنا به الحجة، أو يكون منقطعا لا يقوم بمثله الحجة، أو يكون في الإسناد رجل مدلس لم يبين «11» سماعه في الخبر من الذي سمعه منه، فإن المدلس ما لم يبين «12» سماع خبره عمن كتب عنه لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر، لأنه «13» لا يدري لعله «13» سمعه من إنسان ضعيف يبطل «14» الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف
__________
(1) وقع في ف وس «لعلمين» مصحفا عن «لعلمنا» ، ووقع في م «لعلمي» .
(2) في ف وس «ضعيف» خطأ.
(3) كذا في ف وس، وفي م «تصريف» .
(4) في م «لقصد» .
(5) من م، وفي ف وس. أغضا» .
(6) التصحيح من م، ووقع في ف وس «منكم مصحفا.
(7) هكذا في ف وس، وفي م «ذكرته.
(8) التصحيح من م، ووقع في ف وس «لا ينقط» مصحفا.
(9) في ف «ضعيف» خطأ.
(10) في ف وس «واهي» .
(11) في ف وس «لم تبين» .
(12) في ف وس «لم تبين» كذا.
(13- 13) التصحيح من م، ووقع في ف وس «لا يدرا لعله» مصحفا.
(14) التصحيح من م، ووقع في ف وس «يبكل» مصحفا.

(1/30)


الخبر به، فما لم يقل المدلس في خبره وإن كان ثقة «1» : سمعت أو: حدثني، فلا يجوز الاحتجاج بخبره؛ فذكرت هذه المسألة بكمالها بالعلل والشواهد والحكايات في «كتاب شرائط الأخبار» «2» ، فأغنى «3» ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب، وإنما «4» أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ وقد ضعفه بعض أئمتنا «5» ، ووثقه «6» بعضهم، فمن صح عندي منهم أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب «الفصل «7» بين النقلة» «8» أدخلته في هذا الكتاب لأنه يجوز الاحتجاج بخبره، ومن صح عندي منهم أنه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب «الفصل بين النقلة» لم أذكره في هذا الكتاب، لكني أدخلته في «كتاب الضعفاء بالعلل» «9» ، لأنه لا يجوز الاحتجاج بخبره «10» ، فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى «11» خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره، لأن العدل من لم يعرف منه الجرح «12» ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح «13» فهو عدل إذا لم يبين
__________
(1) في الأصلين «نقة» كذا.
(2) كذا؛ ولم يذكره صاحب كشف الظنون، وذكر صاحب الأعلام في ترجمته: له «غرائب الأخبار» .
(3) هكذا في م، وفي ف وس «فاغنا» .
(4) في م «ربما» .
(5) من م، وفي ف وس «المشايخ» .
(6) من م، وفي ف وس «وقفه» خطأ.
(7) في ف وس الفضل خطأ.
(8) وما ذكر صاحب كشف الظنون هذا الكتاب ولا غيره.
(9) زيد في الاعلام ومن مؤلفات ابن حبان أن «له معرفة المجروحين من المحدثين» . وقد يطبع في حيدر آباد باسم «كتاب المجروحين» لابن حبان هذه نسخة نادرة من مكتبة آيا صوفية تحت رقم 496 (استانبول) وعليه تعليق أبي الحسن الدارقطني رحمه الله وغيره.
(10) في الأصلين «بخبر» .
(11) من م، وفي الأصلين «تفدي» .
(12) في الأصلين «الحرج» كذا.
(13) في ف وس «بجرج» كذا.

(1/31)


ضده، إذ لم يكلف «1» الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم «2» ! وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم؛ جعلنا الله ممن أسبل عليه جلاليب الستر في الدنيا واتصل «3» ذلك بالعفو عن جناياته في العقبى! إنه الفعال لما يريد.
__________
(1) من م، وفي ف وس «يكن» .
(2) في م «عليه» .
(3) التصحيح من م، ووقع في ف وس «انقل» خطأ.

(1/32)