السيرة
النبوية وأخبار الخلفاء السنة السادسة من
الهجرة
أخبرنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر «1» بحران «2» ثنا سلمة بن
شبيب ثنا عبد الرزاق أنا عبد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن
ثمامة «3» بن أثال الحنفي أسر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده يقول:
«ما عندك يا ثمامة» ؟
فيقول: إن تقتل تقتل لا تمن، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال تعط «4»
، قال: فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء «5» ويقولون: ما
نصنع بقتل هذا؟ فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يغتسل
فاغتسل وصلى ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«حسن إسلام صاحبكم» .
قال: في أول هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى
القرطاء «6» فأخذ «7» ثمامة بن أثال الحنفي فأمر به، فربط بسارية من سواري
المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة» ؟
فقال: عندي يا محمد خير؛ إن تقتلني «8» تقتل «9» ذا دم، وإن تنعم [تنعم]
«10» على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط «11» منه ما شئت، فتركه رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد، ثم قال: «ما عندك يا ثمامة» ؟ قال
له مثل ذلك، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال له: «ما
عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «أطلقوا ثمامة» ،
__________
(1) في الأصل «معسر» كذا.
(2) في الأصل «نجران» .
(3) له ترجمة في الإصابة 1/ 211 فراجعه.
(4) في ف «تعطا» كذا.
(5) من السيرة 2/ 365، وفي الأصل «الفراء» خطأ.
(6) القرطاء بطن من بني بكر- راجع المواهب اللدنية 2/ 173.
(7) في ف «فأخذه» كذا.
(8) هكذا في الصحيح للبخاري 2/ 627، وفي السيرة «تقتل» .
(9) في الأصل «بقتل» .
(10) زيد من صحيح البخاري.
(11) ليس في الصحيح.
(1/268)
فأطلق فانطلق إلى نخل قريب من المسجد
فاغتسل «1» ثم دخل المسجد فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، يا
محمد «2» ! ما كان على الأرض وجه «3» أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب
الوجوه كلها إليّ، والله! ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فقد أصبح دينك
أحب الدين كله «4» إليّ، والله! ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فقد أصبح
اليوم «5» بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما «6»
ترى؟ فبشره «7» رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة
قال له قائل: صبوت، قال: لا ولكني «8» أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم «9» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن الأسدي سرية «10» الغمر
فنذر «11» به القوم فهربوا، فنزل على مياههم وبعث الطلائع، فأصابوا عينا
فدلهم على ماشيتهم، فساقوا مائتي بعير إلى المدينة.
ثم كسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وقال: «إن
الشمس
__________
(1) في ف «فاغتسل» خطأ.
(2) زيد في الصحيح «والله» .
(3) من الصحيح، وفي ف «على وجه الأرض» .
(4) ليس في الصحيح.
(5) ليس في الصحيح.
(6) زيد في الصحيح «ذا» .
(7) من الصحيح، وفي ف «فسيره» .
(8) في الصحيح «ولكن» .
(9) زيد في الصحيح «ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها
النبي صلى الله عليه وسلم» . ورواه ابن هشام عن أبي هريرة باختلاف يسير.
(10) وفي الطبري «قال الواقدي: في هذه السنة في شهر ربيع الآخر منها بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا الغمر فيهم
ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب فأغذّ السير ونذر القوم به فهربوا فنزل على
مياههم وبعث الطلائع فأصابوا عينا فدلهم على بعض ماشيتهم فوجدوا مائتي بعير
فحدروها إلى المدينة» ، وراجع المغازي 2/ 550.
(11) من المغازي، وفي ف «ندر» كذا.
(1/269)
والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته،
فإذا رأيتموهما فصلوا» .
وبعث «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي [القصة]
«2» وهي بلاد بني ثعلبة وأنمار- فصلوا المغرب، وخرج أبو عبيدة في أربعين
رجلا فساروا ليلتهم حتى أتوا ذا القصة «3» عند الصبح، فأغاروا عليهم وهربوا
في الجبال ثم قدموا المدينة، فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة
وقسم ما بقي على أصحابه.
ثم بعث «4» رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة «5» إلى ذي القصة
في عشرة أنفس، فخرج مائة من المشركين فكمنوا، فلما نام المسلمون خرجوا
عليهم فقتلوهم، وانفلت «6» محمد بن مسلمة جريحا وحده.
«7» ثم بعث «7» رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني سليم
«8» بالجموم «9» فأصاب نعما «10» وشاء وأسراء «10» ، ثم سبق رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين الخيل فكان أول سباق بالمدينة، ثم سبق في الخف فكانت
العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له
__________
(1) زيد في الطبري 3/ 83 «في شهر ربيع الآخر، وفي السيرة «غزوة أبي عبيدة
بن الجراح إلى سيف البحر» .
(2) من الطبري، وقد سقط من ف.
(3) من الطبري، وفي ف «الفضة» كذا.
(4) وفي الطبري 3/ 82 «وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن
مسلمة في عشرة نفر في ربيع الأول منها فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه
فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت محمد جريحا (قال
الواقدي) وفيها أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أبي عبيدة بن
الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر في أربعين رجلا فساروا ليلتهم مشاة
ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح فأغاروا عليهم ... » .
(5) في الأصل بياض بقدر كلمة، ولم يكن البياض في الطبري فلم نهتم به.
(6) في الطبري «وأفلت» .
(7- 7) ما بين الرقمين بياض في الأصل.
(8) من الطبري، وفي الأصل «سالم» .
(9) أرض لبني سليم- راجع معجم البلدان.
(10- 10) من الطبري، وفي الأصل «شاة وآمنوا» - كذا.
(1/270)
فسبقه، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «حق «1» على الله «1» أن لا يرتفع «2» شيء في
الدنيا إلا وضعه» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة سرية إلى الطّرف إلى بني
ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فتحسس «3» الأعراب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم «4» سار إليهم «4»
فانهزموا، وأصاب المسلمون عشرين «5» بعيرا من نعمهم ورجعوا إلى المدينة «6»
.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا زيد بن حارثة إلى العيص «7» ،
فأسر جماعة منهم أبو العاص بن الربيع، فاستجار بزينب بنت النبي صلى الله
عليه وسلم، فأجارته «8» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا أيضا إلى حسمى «9» ، فرجع منها
بنعم وسبي.
ثم تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح «10» وهي أخت عاصم بن
ثابت بن أبي الأقلح «10» ، فولد له منها عاصم بن عمر فطلقها عمر، فتزوج بها
بعده زيد بن حارثة، فولد له عبد الرحمن بن زيد، فهو أخو عاصم بن عمر لأمه.
__________
(1- 1) من صحيح البخاري 1/ 402، وفي ف «لك لله» .
(2) من الصحيح، وفي ف «يرفع» .
(3) في ف «فحسس» كذا.
(4- 4) من الطبري، وفي ف «سائرا لهم» .
(5) من الطبري، وفي ف «عشرون» .
(6) وفي الطبري «فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من
محال بني سليم، فأصابوا بها نعما وشاء وأسراء، وكان في أولئك الأسراء زوج
حليمة، فلما قفل بما أصاب وهب رسول الله للمزينة زوجها ونفسها» .
(7) كذا، وفي الطبري 3/ 83 «وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في
جمادى الأولى منها، وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع،
فاستجار بزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأجارته» .
(8) من الطبري، وفي ف «فأجرته» خطأ.
(9) زيد في الطبري «في جمادى الآخرة» .
(10) من الطبري، وفي ف «الأفلح» .
(1/271)
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه
إلى فدك «1» في مائة رجل إلى حي من بني سعد بن بكر.
ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل «2» فعممه «3» النبي صلى
الله عليه وسلم بيده وقال: «إن أطاعوا الله «4» فتزوج ابنة ملكهم، فأسلم
القوم، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ «5» ، وكان أبوها ملكهم.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف في ثلاثة أنفس
لينظر إلى خيبر وما عليها أهلها، فمضى وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالخبر.
ثم أجدب الناس جدبا شديدا في أول شهر رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم يستسقي بهم، فصلى ركعتين وجهر بالقراءة، ثم استقبل القبلة وحول رداءه.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة سرية إلى أم قرفة فسبى
سلمة «6» بن الأكوع [وزيد بن] «7» حارثة بنت مالك بن «8» حذيفة وجدها «9»
في بيت من بيوتهم، وأمها أم قرفة وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر «10» .
__________
(1) من الطبري، وفي ف «فرك» خطأ.
(2) زيد في الطبري «في شعبان» .
(3) من السيرة 2/ 363، وفي الأصل «فعمم» .
(4) في الطبري «أطاعوك» .
(5) من الطبري، وفي ف «الأصبع» ولها ترجمة في الإصابة 8/ 33.
(6) وفي الطبري «وأما الرواية الأخرى عن سلمة بن الأكوع في هذه السرية أن
أميرها كان أبا بكر بن أبي قحافة» .
(7) زيد من الطبري.
(8) من الطبري، وفي الأصل «بني» .
(9) في الأصل «وحدمها» كذا.
(10) من الطبري، وفي الأصل «زيد» وفي الطبري: وأسر أم قرفة وهي فاطمة بنت
ربيعة بن بدر وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر عجوزا كبيرة وبنتا لها ...
فأمر زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة فقتلها قتلا عنيفا ... ثم قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة ... وكانت ابنة أم قرفة لسلمة
بن عمرو بن الأكوع كان هو الذي أصابها وكانت في بيت شرف من قومها- إلخ.
(1/272)
ثم خرج «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بني لحيان حتى بلغ أمج «2» وبين أمج وعسفان بلد لهم يقال له ساية «3»
فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قد أخطأهم خرج في مائتي راكب من المسلمين وهو صائم وهم صوام حتى
بلغ عسفان وبلغ كراع الغميم «4» فأفطر وأفطر المسلمون معه ثم رجع ولم ير
كيدا، وجعل يقول في رجوعه: آيبون تائبون عابدون ولربنا حامدون، أعوذ بالله
من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل
والمال والولد.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأقام أياما أغار عيينة بن
حصن «5» بن بدر الفزاري في «6» خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالغابة وفيها رجل من بني غفار «7» وامرأة، فقتلوا الرجل
واحتملوا المرأة واللقاح «8» ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم
حتى بلغ ذا قرد، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وتلاحق به الناس، وأقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد يوما وليلة وصلى بهم صلاة الخوف. ثم
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم «9» قافلا إلى المدينة، وانقلب عيينة بمن
معه، وكانت سرح «10» المسلمين بالمدينة بذي قرد «11» ، فقدم ثمانية نفر من
عرينة فأسلموا، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) وفي الطبري «قال أبو جعفر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى
الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة» .
(2) هو بلد من أعراض المدينة- راجع معجم البلدان 1/ 330.
(3) من الطبري، وفي ف «سائقة» كذا.
(4) من الطبري، وفي ف «العميم» .
(5) من الطبري 3/ 60، وفي ف «حصين» .
(6) من الطبري، وفي الأصل «على» .
(7) من الطبري، وفي ف «عقار» خطأ.
(8) في الطبري «في اللقاح» .
(9) هكذا في الطبري والسيرة، وزيد في ف «بقية السرج» كذا.
(10) من الطبري، وفي ف «سرج» .
(11) في الأصل «الجرد» .
(1/273)
إلى السرح «1» فشربوا من ألبانها وأبوالها،
فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في
طلبهم «2» كرز بن جابر «2» الفهري سرية في شوال في عشرين راكبا معهم قائفا،
فأحدقوا بهم حتى أخذوهم، وجاءوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا قد
ارتدوا، وقطعوا أيدي الرعاة وأرجلهم، وسملوا أعينهم كما أمر به النبي صلى
الله عليه وسلم، وطرحوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، وذلك أنه بلغه أن
بني المصطلق تجمعوا «3» وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث،
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من
مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا،
فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونفل «4» رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبناءهم ونساءهم، وأموالهم، [لما] «5» قسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن
الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة «6» لا يراها
أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في «7»
كتابتها فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه
وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت «8» في سهم لثابت بن قيس بن
الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، قال «9»
: وهل لك في خير من ذلك؟
__________
(1) في ف «السرج» .
(2- 2) من الطبري 3/ 84، وفي الأصل «كرب بن خالد» خطأ.
(3) في الطبري «يجتمعون» .
(4) من الطبري، وفي ف «نقل» خطأ.
(5) زيد من الطبري.
(6) من الطبري، وفي ف «خلوة» خطأ.
(7) في الطبري «على» .
(8) من الطبري، وفي ف «فوقفت» .
(9) زيد في الطبري «لها» .
(1/274)
قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي
كتابتك «1» وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله! قال «2» : «فعلت» ، وخرج
الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث،
فقال الناس: أصهار رسول الله! فأرسلوا «3» ما بأيديهم، فلقد أعتق وأطلق
بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق؛ فما كانت امرأة أعظم بركة على
قومها منها.
ثم «4» أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد المدينة، وكانت عائشة تحمل
في هودج، فنزلوا منزلا، فمشت عائشة لحاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت
شأنها أقبلت إلى رحلها فإذا عقد لها من «5» جزع ظفار «5» قد انقطع، فرجعت
تلتمس عقدها وحبسها ابتغاؤه، فأذن بالرحيل وأقبل الرهط الذين كانوا
يرحلونها فاحتملوا هودجها على بعيرها الذي كانت تركب عليه وهم يحسبون أنها
فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا وساروا، فرجعت عائشة بعد ما رحل الجيش فجاء
منازلهم فإذا ليس بها داع «6» ولا مجيب، فأمت منزلها التي كانت فيه وعلمت
أنهم سيفقدونها فبينا هي جالسة إذ غلبت عينها عليها، وكان صفوان «7» بن
المعطل السلمي من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم،
فعرفها حين رآها وكان رآها قبل أن ينزل الحجاب، فاستيقظت عائشة باسترجاعه
«8» حين عرفها، فخمرت عائشة
__________
(1) التصحيح من الطبري، وفي ف «كتابك» .
(2) زيد في الطبري، «قد» .
(3) زيد في الأصل «إلى» ولم تكن الزيادة في الطبري فحذفناها.
(4) في الطبري 3/ 66 «ثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن
الزهري عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير وعن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة» الحديث.
(5- 5) التصحيح من الطبري، وفي ف «جدع أظفار» .
(6) في الأصل «داعي» كذا.
(7) وفي الطبري «قالت: فو الله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل
السلمي وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس في العسكر فلما
رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني ... » .
(8) كذا في ف، وفي الطبري «قال إنا لله وإنا إليه راجعون» .
(1/275)
وجهها بجلبابها، وما كلمها حتى أناخ راحلته
فوطىء على يدها، فقامت إليه فأركبها وانطلق يقود الراحلة حتى أتى الجيش
فوجدهم موغرين «1» في نحر «2» الظهيرة، فهلك «3» فيها من هلك «4» ، وكان
الذي كبره «5» عبد الله بن أبي بن سلول، فلما قدموا المدينة لبثت عائشة
شهرا والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك وهي لا تشعر بشيء من ذلك، فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأتيها فيسلم عليها ويقول: «كيف تيكم» ؟ وينصرف،
وكان تراها «6» ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت «7» ذات ليلة مع
أم مسطح قبل المناصع «8» وكانت متبرزهم قبل أن تتخذ الكنف، فلما فرغتا «9»
من شأنهما عثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقالت لها عائشة: بئس ما
تقولين! تسبين رجلا من أهل بدر! فقالت: أي هنتاه! ألم تسمعي «10» ما قال؟
قالت عائشة: لا، فأخبرتها بقول أهل الإفك فازدادت مرضا، فلما دخل عليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ائذن لي أن آتي إلى أبوي، أذن لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا أبتاه! ماذا يتحدث الناس؟ قال: يا
بنتي! هوني عليك، فو الله لقلّ «11» ما كانت امرأة قط
__________
(1) أوغر القوم: دخلوا في وقت الوغرة، والوغرة: شدة توقد الحر، يقال: لقيته
وفي وغرة الهاجرة، أي حين توسط الشمس السماء.
(2) نحر النهار أو الشهر: أوله.
(3) من صحيح البخاري، وفي الأصل «فهلط» .
(4) من صحيح البخاري، وفي الأصل «هلط» .
(5) أي كبر الإفك على عائشة رضي الله عنها.
(6) في ف «يريبها» كذا.
(7) وفي الطبري «قالت: وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي
تتخذها الأعاجم نعافها، ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة وإنما كان
النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن فخرجت ليلة- الحديث» .
(8) في معجم البلدان: المواضع التي تتخلى فيها النساء لبول ولحاجة» .
(9) في الأصل «فرغا» خطأ.
(10) في الأصل «تسمع» كذا.
(11) في الطبري «قل» .
(1/276)
عند رجل يحبها لها ضرائر «1» إلا أكثرن «2»
عليها، فبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، فلما
أصبح دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بن زيد حين استلبث
الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وقال: أهلك لا نعلم إلا خيرا، وأما على
فقال: يا رسول [الله] لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير «3» ، وسل
الجارية «4» تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي
بريرة! هل رأيت «5» من أهلي شيئا يريبك» ؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق!
ما رأيت عليها شيئا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن
عجين فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه
واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول وهو على المنبر فقال «6» : «يا معشر
المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله! ما علمت على
أهلي إلا خيرا! ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي
إلا معي» ، فقال «7» أسيد بن حضير «7» : [يا] رسول الله! أنا أعذر منه! فإن
كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك
«8» ! وكاد
__________
(1) من الطبري، وفي ف «ضريرا» كذا.
(2) في الطبري «كثرن وكثر الناس» .
(3) وفي الطبري «قال: يا رسول الله! إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن
تستخلف» .
(4) زيد في الطبري «فإنها» .
(5) في الأصل «رأيتي» كذا.
(6) وفي الطبري «وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم ولا
أعلم بذلك ثم قال: «أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن
غير الحق! والله ما علمت منهن إلا خيرا» ... » .
(7- 7) التصحيح من الطبري، وفي ف «سعد بن معاذ» .
(8) وزيد بعدها في الطبري 4/ 1522 «فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى
رجلا صالحا فقال: كذبت لعمر الله! لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه
المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج! ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.
قال أسيد: كذبت لعمر الله! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين» .
(1/277)
أن يكون بين الأوس والخزرج قتال «1» بهذه
الكلمة، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وبكت
عائشة يومها ذلك كله، «2» فبين أبواها جالسين عندها وهي تبكي إذا استأذنت
عليها «2» امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معها؛ ثم دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ثم تشهد حين جلس ثم قال: «أما بعد! يا
عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك «3» الله، «4» وإن
كنت ألممت بذنب «4» فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب
تاب الله عليه» ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص «5»
دمعي حتى [ما] «6» أحسست «7» منها بقطرة وقالت لأبيها: أجب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما قال، فقال أبو بكر: والله! ما أدري ما أقول! فقالت
لأمها: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت: والله! ما
أدري ما أقول! فقالت عائشة! إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى
استقر في نفوسكم وصدقتم! فلو قلت لكم: إني بريئة «8» ، لا تصدقوني بذلك،
وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لا تصدقوني، والله! ما أجد
لي ولكم مثلا
__________
(1) في الأصل: فقال.
(2- 2) كذا في ف، ولعله: فبينما؛ وفي الطبري 3/ 79 «عندي أبوي وعندي» ولفظه
كما يلي «ثم دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبوي وعندي امرأة
من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي معي فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا
عائشة! إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قارفت سوءا
مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده» ، قالت: فو
الله ما هو إلا أن قال ذلك تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا وانتظرت أبوي أن
يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما، قالت: وأيم الله! لأنا كنت
أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في
المساجد ويصلى به ولكني أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا
يكذب الله به عني ما يعلم من براءتي أو يخبر خبرا» .
(3) في الأصل «فسيريك» كذا.
(4- 4) وفي الطبري «وإن كنت قارفت سوءا» .
(5) في الطبري «تقلص» .
(6) زيد من الطبري.
(7) في ف «أحسب» كذا، وفي الطبري «حتى ما أحس منه شيئا» .
(8) من الطبري، وفي ف «برية» .
(1/278)
إلا ما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ «1» ثم تحولت عائشة واضطجعت على
فراشها فما راح «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من البيت حتى
أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من الرحضاء حتى أنه ينحدر «3» منه
العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، فسرى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال
لها: «يا عائشة! أما والله! فقد برأك» ! فقالت لها أمها: قومي إليه، فقالت
«4» : لا والله! ما أقوم، وإني لا أحمد إلا الله، وأنزل الله إِنَّ
الَّذِينَ «5» جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ «6» إلى تمام العشر الآيات، فلما
أنزل الله هذه الآيات قال أبو بكر: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته
منه وفقره: والله! لا أنفق على مسطح شيئا بعد الذي قال لعائشة! «7» فأنزل
الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا
أُولِي الْقُرْبى «8» - الآية، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! والله
إني لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه وقال:
لا أنتزعها منه أبدا؛ وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حد أصحاب الإفك
الذين رموا عائشة فيما رواه «9» .
__________
(1) سورة 12 آية 18.
(2) في الأصل «رام» كذا.
(3) وفي الطبري «فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح
العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة! فقد أنزل الله براءتك» .
(4) وفي الطبري «قالت فقلت: بحمد الله وذمكم» .
(5) في ف «الذي» خطأ.
(6) سورة 24 آية 11.
(7) زيد في الطبري «وذلك حسان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ثم قال
الله عز وجل لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً الآية أي كما قال أبو أيوب وصاحبته
ثم قال إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ الآية.
(8) سورة 24 آية 22.
(9) كذا في الأصل، ولعله «روي» أو «روته» .
(1/279)
ثم كانت غزوة
الحديبية
«1» خرج «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وثمانمائة «3» رجل
وسبعون بدنة، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من ذي الحليفة،
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وساق أبو بكر بدنا وطلحة بدنا وسعد بن
عبادة بدنا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير عسفان [ذات] «4»
الأشطاط لقيه بسر «5» بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله! هذه قريش سمعت
بك وخرجت قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها «6» عليهم أبدا،
وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها «7» إلى كراع الغميم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو
خلوا بيني وبين سائر العرب! فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله
عليهم دخلوا في الإسلام وآووني، والله لا أزال أجاهد على الذين بعثني الله
عليه حتى يظهرني الله» ! ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين «8» ظهري
الحمض «8» «9» على طريق يخرجه «9»
__________
(1) وفي الطبري «قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة من سنة 6 معتمرا» .
(2) وفي الطبري «عن ابن إسحاق قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا في
ذي القعدة لا يريد حربا وقد استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من
الأعراب أن يخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا به أن يعرضوا له بحرب
أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار ... » .
(3) وفي الطبري «وكان الناس سبعمائة رجل ... وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال:
قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ونحن أربع عشرة مائة» .
(4) من المغازي 2/ 580، ولفظه «فلقيه بغدير ذات الأشطاط من عسفان» .
(5) من المغازي، وفي الأصل «بشر» .
(6) في الأصل «لا يدخلها» والتصحيح من الطبري ولفظه «فقال له: يا رسول
الله! هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود
النمور وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن
الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. قال أبو جعفر: وقد كان بعضهم
يقول: إن خالد بن الوليد كان يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما»
.
(7) من الطبري، وفي الأصل «قدموه» .
(8- 8) من الطبري، وفي ف «ظهر الحيض» خطأ.
(9- 9) كذا، وفي الطبري «في طريق تخرجه» .
(1/280)
على ثنية المرار مهبط الحديبية «1» ، فلما
بلغ صلى الله عليه وسلم ثنية المرار بركت ناقته، فقالوا:
خلأت «2» القصواء! فقال: «ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس
الفيل عن مكة، والله! لا يدعوني «3» قريش اليوم [إلى] خطة يسألوني فيها صلة
الرحم «4» إلا أعطيتهم «4» إياها» ! ثم قال للناس: «انزلوا» ، فقالوا: يا
رسول الله! ما بالوادي ما ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب
فغرزه في جوفه، فجاش «5» بالرواء «6» حتى ضرب الناس «7» بعطن، فلما اطمأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش
فقالوا: يا معشر قريش! إنكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال، إنما
جاء زائرا لهذا البيت، فقالوا: وإن جاء لذلك فلا والله لا يدخلها علينا
عنوة ولا تتحدث بذلك العرب! ثم بعثوا مكرز بن حفص بن الأحنف أحد بني عامر
ابن لؤي، فلما «8» رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا رجل غادر» ،
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه
وسلم لنحو ما كلم به أصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم بذلك، فبعثوا إليه
الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش «9» ، فلما رآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه،
فلما رأى الهدي
__________
(1) في الطبري «على مهبط الحديبية من أسفل مكة» .
(2) من الطبري، وفي ف «خلاة» .
(3) وفي الطبري «لا تدعوني» .
(4- 4) من الطبري، وفي الأصل «لأعطيتهم» .
(5) زيد في الطبري «الماء» .
(6) في الطبري «بالري» .
(7) زيد في الطبري «عليه» .
(8) في الأصل «فقلما» كذا.
(9) الأحابيش: أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا.
والتحبس: التجمع، وقيل: حالفوا قريشا تحت جبل بأسفل مكة يسمى حبشا فسموا
به- راجع مجمع بحار الأنوار.
(1/281)
يسير عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل
«1» أوباره «2» من طول الحبس رجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش! قد رأيت ما
لا يحل صد «3» الهدي في قلائده «4» قد أكل أوباره «5» من طول الحبس عن محله
«6» ، فقالوا: اجلس، لا «7» علم لك، وبعث «8» رسول الله صلى الله عليه وسلم
خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما دخل مكة
أراد قريش قتله فمنعه الأحابيش، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعث إلى مكة، فقال: يا
رسول الله! إني أخاف قريشا على نفسي وليس لي بها من [بني] «9» عدي بن كعب
أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي «10» عليها ولكن «11» أدلك
على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعثه إلى قريش ليخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما
[لحرمته] «12» ، فخرج عثمان بن عفان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن
العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وانطلق حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف
__________
(1) من الطبري، وفي ف «أوكلت» كذا.
(2) من الطبري، وفي ف «أوبارها» .
(3) من الطبري 3/ 75، وفي الأصل «مرة» كذا.
(4) من الطبري، وفي ف «قلائدها» .
(5) من الطبري، وفي ف «أكلت أو بارها» .
(6) من الطبري، وفي الأصل، «محلها» .
(7) في الأصل «ألا» خطأ، وفي الطبري «قالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي
لا علم لك» .
(8) وفي الطبري «عن محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش مكة وحمله على
جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(9) زيد من الطبري، وقد سقط من ف.
(10) من الطبري، وفي ف «غلظى» .
(11) كذا في ف، وفي الطبري «ولكني» .
(12) زيد من الطبري.
(1/282)
[به] «1» ، فقال عثمان: ما كنت لأفعل «2»
حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم «3» رجع عثمان.
وبعث قريش سهيل بن عمرو أحد «4» بني عامر بن لؤي وقالوا: ائت محمدا وصالحه،
ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه «5» هذا، فو الله لا تتحدث العرب
أنه دخلها علينا عنوة أبدا! فأتى سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي صلى الله
عليه وسلم قال:
«قد أراد القوم الصلح حتى بعثوا هذا الرجل» ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح فلما التأم
الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر «6» فقال: يا رسول الله «7» ! ألست برسول
الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» ، قال: فلم نعطي
الدنية في ديننا «8» ؟ قال: «أنا عبد
__________
(1) زيد من الطبري.
(2) من الطبري، وفي ف «ما كنت أفعل» .
(3) زيد في الطبري 4/ 1543 «فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين بلغه أن عثمان قد قتل قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ! ودعا الناس إلى
البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. عن إياس بن سلمة قال: قال سلمة بن
الأكوع: بينما نحن قافلون من الحديبية نادى منادي النبي صلى الله عليه
وسلم: أيها الناس! البيعة البيعة! نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، قال: فبايعناه، قال: وذلك قول الله
تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... عن عامر قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان رجلا من
بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب» .
(4) في ف «واحد» .
(5) في ف «عامة» كذا.
(6) بهامش ف «اعتراض عمر على صلح الحديبية» .
(7) وفي الطبري «وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس
برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا
بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا
عمر! الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله! قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول
الله! قال: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ... » .
(8) زيد في ف «عبد الله» مكررا.
(1/283)
الله «1» ورسوله» ، ثم دعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب «2» فقال: «اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ* فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب «باسمك اللهم» وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهم! هذا ما صالح «3» عليه محمد
رسول الله وسهيل بن عمرو» فقال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن
أكتب «محمد بن عبد الله» اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم «اكتب محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو» ، فكتب «4» : محمد بن عبد الله
«هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين
«5» ، يأمن بهذا الناس ويكف بعضهم عن بعض، على [أنه] من أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من أصحابهم بغير [إذن] «6» وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا
ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه «7» ، وأنه لا أسلال ولا
أغلال» «8» فلما فرغ من الكتاب
__________
(1) زيد في ف «عبد الله» مكررا.
(2) وفي الطبري «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ثم دعاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*» .
(3) من الطبري، وفي ف «صلح» .
(4) في ف «كتب» .
(5) وفي الطبري «اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين» .
(6) زيد من الطبري.
(7) وفي الطبري «لم ترده عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة» .
(8) زيد في الطبري «وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه،
ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في
عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم،
وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا
عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، وأن معك سلاح الراكب السيوف في
القرب، لا تدخلها بغير هذا؛ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب
الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف في الحديد
قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقد كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن
يهلكوا، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بلببه فقال: يا
محمد! قد لجت القضية
(1/284)
- «1» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل «1» - قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: «يا أيها الناس! انحروا واحلقوا» ، فما قام رجل من المسلمين، فدخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال: «يا أم سلمة! ما شأن
الناس؟» قال له: يا رسول الله! قد أحل بهم ما رأيت كأنهم كرهوا الصلح،
فاعمد «2» إلى هديك حيث كان وانحر واحلق، فإنك لو فعلت ذلك فعلوا، فخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم «3» أحدا حتى أتى هديه فنحرها ثم جلس
فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون، فحلق رجال منهم وقصر آخرون، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
«يرحم الله المحلقين» ! قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: «والمقصرين»
! قالوا «4» : ما بال المحلقين «5» يا رسول الله ذكرت لهم الترحم؟ قال:
«لأنهم لم يشكوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على الناس تحت
الشجرة هناك أن لا يفروا» ، فبايعه الناس كلهم غير الجد «6» بن قيس، اختبأ
تحت إبط بعيره، فذلك قول الله عز
__________
بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، قال: فجعل ينتره بلببه ويجره
ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أرد إلى
المشركين! يفتنوني في ديني، فزاد الناس ذلك شرا إلى ما بهم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل! احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا
وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدا، وإنا لا نغدر بهم» ، قال: فوثب عمر بن
الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم
المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، قال يقول عمر:
رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه. فلما فرغ من
الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين» .
(1- 1) ليست في الطبري ولا في المغازي، وأما «كان يصلي في الحرم» فمعناه:
كان يصلي في الإحرام، كما في حديث آخر «أطيبه صلى الله عليه وسلم لحله
وحرمه» راجع مجمع بحار الأنوار.
(2) وقع في الأصل «فاعمر (وبعلامة النسخة: فاغد) إلى هذيل حيث كان وانحر»
كذا مصحفا، وفي المغازي 2/ 613 «انطق أنت إلى هديك فانحره» .
(3) وفي الطبري «فلم يكلم أحدا منهم كلمة حتى فعل ذلك» .
(4) من الطبري، وفي الأصل «قال» كذا.
(5) وفي الطبري «فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين» .
(6) له ترجمة في الإصابة 1/ 238 وفيه «جد بن قيس بن صخر الأنصاري أبو عبد
الله ... » .
(1/285)
وجل إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
«1» وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل «2» النار أحد «3» شهد بدرا
والحديبية» .
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذ كان بين مكة والمدينة في وسط
الطريق نزلت عليه سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً- إلى آخر السورة
«4» ، فما فتح في الإسلام فتح «5» أعظم من نزول هذه السورة.
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكانت الهدنة «6» وضعت الحرب
أوزارها، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا واستفاضوا «7» ، ولا يكلم أحد
بالإسلام يعقل عنه»
إلا دخل فيه، حتى دخل فيه في تلك السنة «9» من المسلمين قريبا مما كان قبل
__________
(1) سورة 48 آية 18.
(2) في الأصل: لم يدخلن- كذا، والتصحيح من الجامع الصغير.
(3) في الجامع الصغير: رجل.
(4) سورة 48 آية 1- 29.
(5) زيد في الطبري: قبله كان.
(6) في الأصل: أهل المدينة، والتصحيح من الطبري ولفظه «فلما كانت الهدنة
ووضعت الحرب أوزارها» .
(7) وفي الطبري «فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة» .
(8) في الطبري «شيئا» .
(9) وفي الطبري «فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في
الإسلام قبل ذلك وأكثر ... فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
جاءه أبو بصير رجل من قريش، قال ابن إسحاق في حديثه: أبو بصير عتبة بن أسيد
بن جارية وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم على رسول الله كتب فيه
أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبعثا رجلا من بني عامر ابن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «يا أبا بصير! إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا
يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
ومخرجا» ، قال: فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار وجلس
معه صاحباه فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال:
انظر إليه؟ قال: إن شئت، فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله، وخرج المولى
سريعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه
رسول الله طالعا قال: «إن هذا رجل قد رأى فزعا» ، فلما انتهى
(1/286)
ذلك. وفي هذه العمرة أصاب كعب بن عجرة «1»
أذى في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق ويذبح شاة ويصوم
ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين مدين. وأهدى «2» الصعب بن جثامة
«2» إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش «3» فرده وقال: «لم
نرده ولكنا حرم» .
وفي هذه العمرة صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح في إثر «4»
سماء في الحديبية، فلما انصرف أقبل عليهم بوجهه فقال: أتدرون ما قال ربكم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «يقول: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي،
فأما من قال:
مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا
بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» «5» .
__________
إلى رسول الله قال: «ويلك! ما لك» ؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، فو الله ما برح
حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيال: يا رسول الله! وفت ذمتك وأدى عنك، أسلمتني ورددتني إليهم، ثم أنجاني
الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه» ! فسعر حرب ... لو
كان معه رجال، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، قال: فخرج أبو بصير حتى
نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش الذي كانوا
يأخذون إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: «ويل أمه» ! محش حرب لو كان معه رجال!
فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، وينفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي
بصير، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم، فكانوا قد ضيقوا على قريش، فو
الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لهم فقتلوهم وأخذوا
أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم
لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقدموا عليه المدينة» .
(1) من الإصابة 5/ 304: وفي الأصل «عجزة» خطأ.
(2- 2) من المغازي 2/ 576، وفي الأصل «الصعب حامه» كذا. وفي المغازي «عن
ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه حدثه أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالأبواء يومئذ بحمار وحشي فأهداه له فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال الصعب: فلما رآني وما بوجهي من كراهية رد هديتي قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إنا لم نرده إلا أنا حرم» .
(3- 3) وفي المغازي «بحمار وحشي» .
(4) من هامش الأصل والمغازي، وفي متن الأصل: أثرهما.
(5) راجع المغازي 2/ 588 وفيه الرواية عن زيد بن خالد الجهني.
(1/287)
وفي هذه العمرة أصاب الناس عطش شديد
فحبسوا، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فثار الماء مثل
العيون، فتوضئوا منها ورووا.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ذي
قرد «1»
خرج «2» سلمة بن الأكوع ومعه غلام له يقال له رباح مع الإبل، «3» فلما كان
بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل
راعيها «3» وجعل ينظر «4» في أناس معه في خيل، فقال سلمة لرباح: اركب هذا
الفرس واخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحه، ثم قام
سلمة على تل وجعل وجهه قبل المدينة ثم نادى ثلاث مرات- وكان صيتا: يا
صباحاه! ثم أتبع القوم ومعه سيفه ونبله، فجعل يرميهم «5» وذلك حين كثر
الشجر، فإذا كرّ عليه الفارس جلس له في أصل شجرة ثم رماه، ولا «6» يظفر
بفارس إلا عقر فرسه، فجعل يرمي ويقول:
__________
(1) وفي الطبري 3/ 60 «قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث أنه أول من نذر
بهم سلمة بن عمرو ابن الأكوع الأسلمي غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله
ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله، وأما الرواية عن سلمة بن الأكوع بهذه الغزوة
من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة منصرفا من مكة عام
الحديبية، فإن كان ذلك صحيحا فينبغي أن يكون ما روي عن سلمة بن الأكوع كانت
إما في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة وإما في أول سنة سبع وذلك أن انصراف
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عام الحديبية كان في ذي
الحجة من سنة ست من الهجرة وبين الوقت الذي وقته ابن إسحاق لغزوة ذي قرد
والوقت الذي روى عن سلمة بن الأكوع قريب من ستة أشهر» .
(2) في الأصل «حزم» خطأ، والتصحيح من هامش الأصل والطبري.
(3- 3) في الطبري «فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عيينة قد أغار على ظهر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه» وفي الأصل «عتبة»
مكان «عيينة» والتصحيح من الطبري.
(4) في الأصل «يطرنها» كذا، وفي الطبري «فنظر عيينة» .
(5) وفي الطبري 3/ 60 «قال: فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى
فارس منهم أتيت شجرة وقعدت في أصلها فرميته فعقرت به، وإذا تضايق الجبل
فدخلوا في متضايق علوت الجبل ثم أرديهم بالحجارة، فو الله ما زلت كذلك حتى
ما خلق الله بعيرا من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جعلته وراء
ظهري وخلوا بيني وبينه، وحتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وثلاثين بردة
يستخفون بها، لا يلقون شيئا إلا جعلت عليه آراما حتى يعرفه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه» .
(6) في الأصل «إلا» .
(1/288)
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
وإذا كان [كثر] «1» الشجر رشقهم بالنبل، فإذا تضايقت الشجرة «2» علا الجبل
ورماهم بالحجارة، فما زال ذلك دأبه ودأبهم ويرتجز حتى ما بقى من ظهر النبي
صلى الله عليه وسلم إلا استنقذه من أيديهم وخلفه وراء ظهره، ثم لم يزل
يرميهم حتى طرحوا أكثر من ثلاثين بردة «3» يستخفون بها، فكلما ألقوا شيئا
جمع عليه سلمة، فلما اشتد الضحى أتاهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ممدّا
«4» لهم وهم في ثنية ضيقة في علوة الجبل فقال لهم: ما هذا الذي أرى؟ قالوا:
لقد لقينا من هذا- يعنون سلمة، ما فارقنا منذ سحر حتى الآن، وأخذ كل شيء من
أيدينا وخلفه وراءه، فقال عيينة:
لولا أن هذا يرى وراءه طلبا لقد ترككم! فليقم إليه نفر منكم، فقام إليه نفر
منهم أربعة وصعدوا في الجبل فقال لهم سلمة: أتعرفوني؟ قال: ومن أنت؟ قال:
ابن الأكوع! والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم! لا يطلبني «5» رجل
منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني، فبينا سلمة يخاطبهم إذ نظر فرأى أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقوا يتخللون الشجر وإذا أولهم الأخرم «6»
الأسدي وعلى أثره أبو قتادة وعلى أثره المقداد «7» الكندي «8» ، فولى
المشركون «9» مدبرين «10» ، فنزل سلمة من الجبل وقال: يا أخرم!
__________
(1) ليست الزيادة في الأصل هنا وقد مضى آنفا.
(2) في الأصل «الشاة» ولعله تصحف عن «الشجرة» ، وفي الطبري «وإذا تضايق
الجبل فدخلوا في متضايق علوت الجبل ... » .
(3) من الطبري، وفي الأصل «برده» كذا.
(4) من الطبري، وفي الأصل «ممرا» .
(5) كذا في ف، وفي الطبري 3/ 61 «لا أطلب أحدا منكم إلا أدركته ولا يطلبني
فيدركني، قال أحدهم: إن أظن، قال: فرجعوا فما برحت مكاني ذلك حتى نظرت إلى
فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر ... » .
(6) التصحيح من الطبري، وفي ف «الأحزم» خطأ.
(7) من الطبري، ووقع في ف «المقدار» مصحفا.
(8) وهو ابن أسود.
(9) في ف «المشركين» .
(10) في ف «مديرون» .
(1/289)
احذر القوم، فإني لا آمن أن يقتطعوك «1»
فاتئد «2» حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال «3» : يا
سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل
بيني وبين الشهادة، ثم «4» أرخى عنان فرسه ولحق بعبد الرحمن ابن عيينة
ويعطف عليه عبد الرحمن واختلف بينهما طعنتان فقتله عبد الرحمن وتحوّل عبد
الرحمن على فرس الأخرم، فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن واختلف بينهما طعنتان
فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم، ثم خرج
سلمة «5» يعدو في أثر القوم حتى ما يرى من غبار أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم شيئا فلم يقرب «6» غيبوبة الشمس، وقرب المشركون من شعب فيه ماء يقال
له: ذو قرد «7» ، فأرادوا أن يشربوا منه فالتفتوا فأبصروا سلمة وراءهم
فعطفوا عن الماء وشدوا في الثنية وغربت الشمس، فلحق سلمة رجل «8» منهم
فرماه بسهم، وقال: خذها:
وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع «9»
__________
(1) في ف «يقطعوك» . وفي الطبري «لا يقتطعوك» .
(2) وقع في ف «فايتر» كذا مصحفا.
(3) وفي الطبري 3/ 61 «فأخذت بعنان فرس الأخرم فقلت: يا أخرم! إن القوم
قليل فاحذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فقال ... » .
(4) في الطبري «قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فعقر الأخرم
بعبد الرحمن فرسه فطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول عبد الرحمن على فرسه ولحق
أبو قتادة عبد الرحمن فطعنه وقتله وعقر عبد الرحمن بأبي قتادة فرسه وتحول
أبو قتادة على فرس الأخرم فانطلقوا هاربين» .
(5) وفي الطبري «قال سلمة فو الذي كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلي حتى
ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا، قال:
ويعدلون قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، يشربون منه وهم
عطاش، فنظروا إلي أعدو في آثارهم» .
(6) في ف «فلما قرب» .
(7) من الطبري، وفي ف «ذو قردة» .
(8) في الأصل «وجل» وفي الطبري 3/ 61 «فحليتهم فما ذاقوا منه قطرة، قال:
ويسندون في ثنية ذي أسير ويعطف على واحد فأرشقه بسهم» .
(9) التصحيح من الطبري، وفي ف «الوضع» كذا.
(1/290)
قال «1» : يا ثكل أمياه! أكوع بكرة؟ قلت:
نعم أي عدو نفسه «2» ! وكان الذي رماه بكرة وأتبعه سهما آخر فأثبت فيه
سهمين وخلفوا فرسين فجاء بهما يسوقهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على
الماء الذي «3» خلفهم عند ذي قرد «3» وإذا بلال «4» قد نحر جزورا مما خلفه
بسهمه وهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فقال
سلمة: يا رسول الله! خلني فأنتخب «5» من أصحابك مائة رجل، وأتبع الكفار حتى
لا يبقى منهم مخبر «6» إلا قتلته، قال: «أكنت فاعلا ذلك» ؟ قال: نعم والذي
أكرم وجهك! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فجاء رجل من
غطفان فقال «7» : مر المشركون على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، ثم خرجوا
هرابا؛ فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إلى المدينة وجعل
يقول: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة! وخير رجالتنا «8» سلمة» ! فأعطى سلمة
ذلك اليوم سهم الراجل والفارس جميعا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه وراءه على العضباء فلما كان
بينهم وبين المدينة قريب «9» وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق فجعل
ينادي: هل من مسابق «10» !
__________
(1) وفي الطبري «فقال: أكوعي غدوة، قلت: نعم، يا عدو نفسه» .
(2) زيد في الطبري «وإذا فرسان على الثنية فجئت بهما أقودهما إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ... »
(3- 3) وفي الطبري «حليتهم عنه عند ذي قرد» .
(4) وفي الطبري «وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل التي
استنقذت من العدو وكل رمح وكل بردة وإذا بلال ... »
(5) في الطبري «فلأنتخب» .
(6) في ف «لا يبق منهم مخبرا» كذا، والتصحيح من الطبري، ولفظه «حتى لا يبقى
منهم عين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدا أو بانت نواجذه، ثم
قال: «أكنت فاعلا» ... »
(7) وفي الطبري «فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا عنها جلدها رأوا
غبارا فقالوا: أتيتم! فخرجوا هاربين ... » .
(8) من الطبري، وفي ف «رجالنا» .
(9) كذا، وفي الطبري «فبينما نحن نسير» .
(10) كذا في ف، وفي الطبري «فجعل يقول: ألا من سابق! فقال ذلك مرارا، فلما
سمعته قلت: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ فقال: لا، إلا أن يكون رسول
الله، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي! ائذن لي فلأسابق الرجل، قال: إن
شئت ... » .
(1/291)
ألا رجل يسابق «1» إلى المدينة! فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأ
سابق الرجل! قال: «إن شئت» : قلت، «2» اذهب إليك «2» . فطفر عن راحلته
وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين يعني استبقيت
نفسي ثم عدوت حتى لحقته فأصكه «3» بين كتفيه بيدي وقلت: سبقت والله! حتى
قدمنا المدينة. ثم توفيت أم رومان «4» امرأة أبي بكر الصديق أم عبد الرحمن
وعائشة في ذي الحجة. |